رامان آزاد
تمرُّ منطقةُ الشرقِ الأوسط بأسوأ مراحلِ تاريخها حيث يستمرُّ الصراعُ المسلّحُ وقتلُ الناسِ على الهويةِ والعقيدةِ والانتماءِ، ومازال السؤال نفسه معلّقاً من غير إجابة: ما الذي استوجبَ اندلاع الحرب وهذه الموجة الخطيرة من الصراع المسلّح؟
تعدُّ منطقةُ الشرقِ الأوسطِ اليوم مثالَ الفوضى مع غيابِ قوةٍ عالميّة تضبطُ الأداءَ الدوليّ بعد اختلالِ موازين القوى والإرهاصاتِ الأولى لظهورِ أقطابٍ جديدةٍ، والانتقالِ من حربِ الجيوشِ النظاميّةِ إلى حربِ الوكالةِ وعالمِ الميليشياتِ والعصاباتِ المسلّحة، وتفشّي طاعونِ العصرِ “الإرهاب”، وتفاقمِ مشكلاتِ الهجرةِ غير المشروعةِ وتغيّرِ أحوالِ المناخِ وعجزِ النُّظمِ الديمقراطيّةِ.
الطائفيّةُ طُعمٌ بلعته الشعوبُ باسمِ الحريّةِ
من الثابتِ أنّ المنطقةَ معقّدة بتركيبتِها العرقيّةِ واللغويّةِ والدينيّةِ والمذهبيّةِ، وبدلَ أنّ تستمدَّ أسبابَ الحياة من هذا التنوّع، راحت تشتقُّ منه أسبابَ الصراعِ، فالمنطقة تختزنُ في ذاكرتِها كلَّ أسبابِ الاختلافِ التاريخيّةِ، وعاشت حتى مرحلةٍ قريبةٍ حالة تبريدٍ لخلافاتِها، في ظلِّ أنظمةٍ سياسيّةٍ تقومُ على الغلبةِ بالقوةِ والعددِ، بعيدةً عن الديمقراطيّةِ والتوافقِ.
بدأتِ الأزمةُ بالمنطقةِ مع ارتفاعِ الأصواتِ المطالبة ِبمزيدٍ من الحقوقِ والحرياتِ، ولكنها سرعان ما انقلبت إلى صراعٍ مسلّحٍ متعددِ الأطرافِ بين الجماعات والدول، ومازالت مآلات هذا الصراعِ وحدودِه الزمنيّةِ مجهولةً، والحديثُ عن الأسبابِ والدوافعِ وراء موجةِ الفوضى والعنفِ ينفتحُ على عوامل متداخلةٍ متنوعةٍ، متفاوتةِ التأثيرِ والأهميّةِ، واللافتُ بينها هو العاملُ الدوليّ، ورغم أنّ كلّ بلدٍ استوفى شروطَ التغيير ويمثّلُ حالةً خاصّةً في ظروفه وأوضاعه العامة إلا أنّ الحراكَ الشعبيّ للتغييرِ لم يبدأ وفقَ التوقيت المحليّ.
صحيحٌ أنّ الصراعَ من أجل الهيمنة ونهبِ الثرواتِ والتحكّم بالموقع الاستراتيجي، تميّز دائماً بإثارة الفوضى والحروبِ القائمةِ على الفتنِ بين شعوبِ المنطقةِ التي تُعدُّ مركزَ الحضاراتِ القديمةِ وموطنَ الأديانِ السماويّة، لكنَّ الصحيحَ أيضاً أنّ الراياتِ التي رُفعت ليسيرَ خلفها العامة في الصراعِ تمحورت غالباً حول أفكارٍ خلافيّةٍ عرقيّةٍ أو طائفيّةٍ أو مذهبيّةٍ مختزنةٍ بالوعي واللاوعي الجمعيّ ولها جذورٌ تاريخيّةٌ واجتماعيّةٌ وما على المخططين، إلا نبشُ التاريخِ واستحضارُ الأحداثِ وإسقاطِها على الواقعِ لتفخيخه وتفجيرِه وإشاعة الفوضى وإشعالَ الحرائقِ.
ما يحدثُ اليوم من فتنٍ وصراعاتٍ دمويّة مذهبيّةٍ وطائفيّة لا يختلفُ عمّا عاشته شعوبُ هذه المنطقة على مدار أربعة عشر قرناً الماضية، والفارقُ اختلافُ أساليبِ الصراع المسلّح، فيما القاسمُ المشتركُ بينها هو نفسه بدونِ تغييرٍ وأداتُه الشحنُ إلى حدِّ الانفجار، وتدميرُ الذاتِ الجمعيّة بكلِّ عناصرها النفسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والحضاريّةِ لتعودَ شعوبُ وكياناتُ المنطقة بنهايةِ كلّ جولةِ صراعٍ تاريخيّة مستغرقةً في مزيدٍ من الانقسام والانغلاق وتكريسِ حالةِ الرفضِ لبعضِها البعض، وأسيرةَ شعورِ الهزيمةِ في عمقِ مشاعرِها فلا تملكُ أملَ النهوضِ والتقاربِ فيما بينها وترسّخ ثالوثَ التخلفِ (الجهل والفقر والمرض) وليصبحَ الحديثُ عن ردمِ الهوة الحضاريّة بين شعوبِ المنطقة والشعوبِ المتقدمة مدعاةَ السخريةِ وأقربَ للمُحالِ.
هذه هي دورة الحياةِ والموتِ المُبرمجةِ بدقّةٍ، وكأنّ شعوبَ المنطقة تعيشُ مخططاً مسبقاً وهي أداةُ تدميرِ نفسِها ذاتيّاً فاقدةَ الإرادة، عاجزةً عن مواجهةِ التحدّياتِ، غارقةً في خلافاتها، تائهةً عن مصيرها وهويتها، من جهة أخرى التهمت حرائقُ الفتنةِ الطائفيّةِ المذهبيّةِ كاملَ المنطقةِ ووُظّفت بدقّةٍ لصالح تثبيتِ وتعزيزِ خرائطَ أعدّها مهندسون من خارج المنطقة وعُنونت بأسماءَ برّاقة كالحرية والخلاص والاستقلال الوطنيّ والتحرّرِ من الاستبدادِ، وتنطوي الخرائطُ على إعادةِ صياغةِ المنطقةِ بعد قرنٍ من اتفاقِ سايكس بيكو التقسيميّ، ويبدو مع استمرارِ حالةِ الصراع أنّ لا مصلحةَ لشعوبِ المنطقةِ فيما يقع على الأرضِ إلا أنّ تكون قرابين مجانيةً ولتُنسفَ وشائجُ العلاقاتِ المتبقيةِ بين أبناءِ المنطقة، وتُحرَّضَ عواملُ المذهبيّةِ والعرقيّةِ عدائيّاً لدرجةٍ تضمنُ ضعفَ الشعوبِ وعجزَها وتُفقِدُها بوصلةَ التقدم نحو المستقبل وتنشغلُ بالاقتتالِ الداخليّ.
يفتقدُ الصراعُ للمعايير الإنسانيّةِ والأخلاقيّة ويرسّخُ الفتنة والقتل على الهوية الطائفيّة والمذهبيّة بمنتهى الوحشيّةِ، ولنتأكدَ أنّ شعوبَ المنطقة بلعتِ الطُّعمَ الذي وُضع في طريقها بخبثٍ، وما يجري في دولِ المنطقة ومنها سوريا دليلٌ ذلك، ورغم اتضاحِ الصورةِ وسقوطِ الأقنعةِ والشعاراتِ، إلا أنّ كثيرين على مستوى الحكوماتِ والأفراد مستمرون بالصراعِ لارتباطِ مصيرهم به، ويصرّون على المضي بهذا المنحى إلى حيث المصير الرهيب، والأنكى من كلّ ذلك أنّ مروّجي الفتنة الطائفيّة يعاندون ويستمرّون بخداعِ المجتمعات، والقولِ إنّ كلّ ما يجري بالمنطقة دفاعٌ عن الدينِ وأصولِه وأنّهم يعملون على تنقيته من الفتنةِ والفسادِ وتسويقِ فكرةِ الثورةِ والحربِ المقدّسةِ.
إنّ محصلةَ ما يجري تحتَ عنوان “الربيع العربيّ” يصبُّ في مسارٍ واحدٍ هو تفجيرُ الصراعاتِ وغيابِ العدالةِ الاجتماعيّةِ وسلب كرامةِ المواطنِ وإشاعةِ العنفِ والفوضى وتدمير الإنسان وكيانِه على مستوى الأسرةِ والمجتمع.
عواملُ الصراع بالمنطقةِ
خلال العقدين الأخيرين اجتاحتِ العالمَ موجةُ العولمةِ، ولم تستثنِ منطقتنا، وبدأ السعي جاداً لتذويبِ ودمجِ الثقافاتِ والهوياتِ القوميّةِ والوطنيّةِ لكلِّ شعوبِ ومجتمعاتِ العالمِ ضمن نموذجٍ واحدٍ. أي أنّها كانت عمليةُ تنميطٍ مغايرةٍ للعالمِ، وسُخِّرت للعمليةِ الأدواتُ اللازمةُ من إعلامٍ ووسائلَ اتصالٍ وأدواتٍ سياسيّةٍ ومراكزَ دراساتٍ وأبحاثٍ. وأثارتِ العولمةَ مخاوفَ عميقةً لدى الشعوبِ والمجموعاتِ القوميّةِ والعرقيّةِ والدينيّةِ على هوياتها وانتماءاتها الأوليّةِ، ما دعاها في ردِّ فعلٍ طبيعيّ للتمسّكِ بها والعودة إليها بصورةٍ مختلفةٍ والمبالغةِ بحمايتها بعدما أصبحت في دائرةِ الاستهدافِ، وترافقتِ العودةُ للهوياتِ والانتماءاتِ بنزاعٍ أو مواجهاتٍ مسلّحة.
لم تستطع منطقةُ الشرق الأوسط الحفاظَ على البيئةِ الآمنةِ في ظلِّ انعدامِ عواملِ المناعةِ ووجودِ حكوماتٍ مستبدّةٍ وواقعِ فسادِ المؤسساتِ وقمعِ الحرياتِ وغيابِ الديمقراطيّةِ، ولم يكن بإمكان المجتمعات والأفراد الصمودُ أمام موجاتِ العولمةِ العاتية وبخاصةٍ بالجانبِ الثقافيّ والاجتماعيّ لأنّها لم تحسم خياراتِها بين تحديثِ الدين وأسلمةِ الحداثة، والقضايا المتعلقةِ بتاريخيّةِ النصِّ وإمكانيّةِ الاجتهادِ.
من العواملِ البارزةِ في أزمةِ شعوبِ المنطقةِ الحضورُ الطاغي للعاملِ التاريخيّ بكلّ تفاصيله الخلافيّة، فقد تبنّتِ الجماعاتُ المتصارعةُ قيمَها وعقائدَها من التاريخ، واشتقّت منه شعاراتِها وصاغت أهدافَها، وصولاً للدعوة لدولةِ الخلافةِ، إلا أنّ هذه الدولة مستحيلةٌ، لأنّها ستكونُ دولةَ المذهبِ والدينِ الواحدِ وستعجزُ عن استيعابِ التنوعِ المذهبيّ والتعددِ العرقيّ، وبخاصةٍ مع تبنيها المذهبَ الأكثر تطرّفاً ولغةً واحدةً واعتمادَها الترهيبَ والترويعَ بالممارسةِ ولغةِ الخطابِ، وظهرت جماعاتٌ نادت بالإمارةِ الإسلاميّةِ ولم تختلف سلوكاً عن الخلافةِ المزعومةِ.
في هذه البيئة اُنتزعتِ الحوادثُ من سياقها المعاصرِ باستحضارِ أسوأ أمثلةِ التاريخِ والمطابقة بينها، وإعادةِ إنتاجِها وإحيائها لتبريرِ وتغذية وتصعيدِ النزاعِ المسلّح، وفي تأكيدٍ لحجمِ الاتكالِ على التاريخ اتخذتِ الجماعاتُ المسلّحةُ لنفسها أسماءً تاريخيّة وجعلت نفسَها وصيةً على التاريخِ وراحت تطالبُ بالثأرِ من الحاضرِ على ذمةِ الماضي، والإشكالُ هنا خطيرٌ جداً لأنَّ مسارَ التاريخِ مترعٌ بالدمِ، ووصل معظمُ الولاة للحكمِ بعدَ معركةٍ أو اغتيالٍ.
يُرجِعُ آخرون طبيعةَ الصراعِ إلى عواملَ داخليّة متعلقة بحداثةُ الدولةِ الوطنيّةِ الجامعةِ بالمنطقةِ وفشلِ دمجِ الجماعاتِ المختلفةِ عَقديّاً بالحياةِ العامةِ وممارسةِ الإقصاءِ والتهميشِ بحقّها ما أدّى لشحنِها بعواملِ الحقدِ والكراهيّةِ، ونُظِر للنظامِ القائمِ بمنظورٍ مذهبيّ، واتكأت هذه الدول على القوةِ والمؤسساتِ الأمنيّةِ وفشلت بإنتاجِ هويةٍ وطنيّةٍ واحدةٍ قوامُها التوافقُ، ليكونَ الانتماءُ للوطنِ أولوية الانتماءاتِ، وتأتي بَعدَها الهوياتُ الفرعيّةُ بدون تناقضٍ مع الانتماءِ الأشملِ والأعمقِ (الوطنيّ)، وصُنّفتِ الجماعاتُ الدينيّةُ والعرقيّةُ بأنّها ذاتُ أهدافٍ سياسيّةٍ ووُصِمت بالانفصالِ والتمرّدِ على كيانِ الدولةِ. ومن المؤكدِ أنّ فشلَ الدولةِ الوطنيّةِ لا يعود لعواملَ داخليّةٍ ذاتيّةٍ فقط، بل لعبَ العاملُ الخارجيّ دوراً مهماً خلال العقودِ التي تلتِ الاستقلالَ الوطنيّ لهذه الدول، حيث اختلفت في ارتباطاتِها وتحالفاتِها السياسيّة، وعكست علاقاتُها البينيّة خلافاتِ الحلفاءِ أنفسهم، فزادت عواملُ الانقسامِ والاختلافِ ووصلت درجةَ العداوةِ والحربِ. وكانت محاولةُ تغييرِ النظامِ تساوي نظريّاً عمليةَ إقصاءٍ مذهبيّةٍ مقابلةٍ.
من العوامل الداخليّة أيضاً التنافسُ بين القوى السياسيّة والمجتمعيّة ومراكز النفوذ على السلطة، أي بين قوىً متسلطةٍ حاكمةٍ وعناصرَ طالها التغييبُ والإقصاءُ عقوداً طويلة، وأنّها نهضت لتصدعَ بمطالبِها وتؤكّد حضورَها، ورُبَّ قائل أنّها تأتي في سياقِ مطالبِ التغيير الطبيعيّ لأنظمة تآكلت عبر الزمن ونخرها الفساد وقيّدتها البيروقراطيّة وانتهت صلاحيّتها الزمنيّة لقيادةِ المجتمعاتِ فلم تعد مؤهلةً بعدما تجاوزها الزمنُ، وفيما يتصل بإطالةِ أمدِ الصراع فيرجعونها إلى استمرارِ المواجهات بين الثورة والثورة المضادّة، بينما التسميةُ على الضفة المقابلة هي صراعٌ بين متمردين خارجين على القانون وسلطات شرعيّة.
لا يمكن القطع بالصحّة المطلقة لأيّ من تلك الفرضيات، ويمكن القولُ بنسبيّةِ كلّ تلك العواملِ، فكلٌّ منها يصحّ على نحوٍ جزئيّ، وبكلّ الأحوال ثمّة مشتركاتٍ تنتهي إليها هذه النظريات، وهي أنّ الثوراتِ أو الانقلاباتِ على الأنظمة ما زالت غير ناجزة لتأتي أُكلها، وأنّها تحظى بدعمٍ خارجيّ مناسبٍ يكفلُ استمرارَها ميدانيّاً طرفاً حاضراً، فيما المشكلة تكمنُ في آليّة تنظيمِ طاولةِ المفاوضات ممثلاً لقوى الثورة والتغيير لإيجادِ حلٍّ سياسيّ للأزمة، بسببِ تعدّدِ الأطراف التي تُسمّى بالمعارضة كما في الحالة السوريّة وعدم توافقها مع نفسها وتبنيها برنامج عملٍ وطنيّ وتغييبِ أطرافٍ فاعلة كالكردِ، وفي الطرف الآخر أنظمةُ تلقى المساندة من حلفائها ولا تسمح بسقوطها، خشية ضياع مصالحها وإنجاز صيغٍ جديدةٍ تتجاهلها، وإذا كانت الحالتان التونسيّة والمصريّة قد تجاوزتا نسبيّاً الانزلاقَ إلى الحرب الأهليّة أو الصراع الدمويّ، إلا أنّ أحداثَ سوريا والعراق واليمن وليبيا تأكيدٌ للفرضياتِ. كما لا يمكنُ إنكارُ خصوصيّة كلّ بلدٍ من حيث التنوعِ الأثنيّ والدينيّ المذهبيّ والموقعِ والجوارِ الجغرافيّ، إضافةً لعواملِ التاريخِ وطبيعةِ العلاقاتِ والتموضعِ السياسيّ للأنظمةِ ضمن التحالفاتِ الإقليميّة والدوليّة.
ظهرت موجةُ الصراعِ المذهبيّ بوضوحٍ بعد سقوط نظامِ صدام حسين والاحتلالِ الأمريكيّ للعراق، إذ فشلت واشنطن في ترتيبِ التحالفات الداخليّة بالعراق حيث كانت مختلفُ الانتماءاتِ المذهبيّةِ والطائفيّةِ والعِرقيّةِ تنتظرُ فضاءاتٍ أوسعَ للحريّةِ والديمقراطيّةِ، إلا أنّ الأحزابَ دخلت دوامةَ التنافسِ السلطويّ غير المبرّر، وتكاثرت كالباراميسيوم واختلفت في علاقاتها الخارجيّة وفقاً لانتماءاتها المذهبيّة، فالأحزابُ الشيعيّةُ انفتحت على طهران التي انتهزتِ الفرصةَ لتوسيعِ نفوذها بالعراق، وانفتحتِ الأحزابُ السنيّةُ على دولِ الخليجِ، وبذلك اُستدرِجت عواملُ الخلافِ الخليجيّ-الإيرانيّ، فيما واصل الكردُ اختلافَهم أيضاً ممثلين بالحزبين الرئيسيين وبقية الأحزابِ وبعضُها ذو توجّهٍ دينيّ. هذه الاختلافاتُ ألقت بظلالها لدى كلِّ استحقاقٍ انتخابيّ وتشكيل ِالحكومة والمحاصصةِ السياسيّة.
كان الملكُ الأردنيّ عبد الله أولَ من دعا لمواجهةِ ما سمّاه “بالهلالِ الشيعيّ”، والذي أصبحَ شعاراً ومضمونَ التناقضِ ورافعةَ تشكيلِ التحالفِ بالمنطقةِ في سياقِ ما سُمّي “البدر السنيّ”، فالحالةُ التي وصل إليها العراقُ والفوضى الأمنيّة كانت أسوأ مرحلةٍ سياسيّةٍ في تاريخِه الحديثِ، وانقلبت لحربٍ أهليّةٍ أغرقت البلاد في دوامةِ العنفِ الطائفيّ، ليكونَ البؤرةَ الأوليّةَ لانتقالِ العدوى الخبيثةِ إلى باقي دولِ المنطقةِ.
عام 2004 ظهر في العراق تنظيمات جهادية بايعت تنظيم القاعدة لتؤسس فيما بعد ما يسمّى “تنظيم الدولةِ الإسلاميّةِ في العراق”، بقيادةِ أبي مصعبِ الزرقاويّ الذي استهدفَ الشيعةَ وعتباتِهم المقدّسة، ومن أجل ربط الميدانِ العراقيّ بالسوريّ بعد بدءِ الأزمةِ السوريّةِ كان الانتقالُ إلى عنوانٍ جديدٍ سُمّي “تنظيم الدولةِ الإسلاميّةِ في العراقِ والشامِ ــ داعش” فأُزيلت السواترُ الترابيّةُ على الحدودِ العراقية السوريّة، وتمَّ اجتياحُ المدنِ والبلداتِ وممارسةُ أقسى درجاتِ التوحّشِ وارتكابُ المجازرِ الجماعيّةِ بالاحتجاجِ بالاختلافِ الدينيّ والمذهبيّ، كما اُستهدفَ الكردُ مباشرةً في مأساةِ شنكال، واجتياحِ كوباني واُرتكبتِ المجازرُ المروّعةُ وخُطفت آلافُ النساءِ والأطفالِ واُفتتحت أسواقُ النخاسةِ والاتجارِ بالإنسانِ، ولم تسلم مدنُ منبج والطبقة والرقة من شرورِ المرتزقةِ المهووسين بالدمِ.
صراعُ نفوذٍ بأدوات طائفيّةٍ
مع نهايةِ عام 2010 بدأت موجةُ “الربيعِ العربيّ” على شكلِ حراكٍ شعبيّ انطلقَ في تونس وانتقل من بلدٍ لآخر، وليظهرَ فيما بعد أنّ الثوراتِ قد سُرقت بعد سقوطِ الأنظمة وأنّ الهدفَ إيصالُ نموذجٍ محددٍ من الإسلامِ السياسيّ للحكمِ، ولعلَّ النموذجَ المغربيّ كان الأكثر هدوءاً، إذ حصد حزبُ العدالةِ والتنميةِ وهو امتدادٌ مباشرٌ للإخوانِ المسلمين غالبيةِ المقاعدِ النيابيّةِ، فيما تطلبَ الأمرُ تظاهراتٍ واحتجاجاتٍ في شوارع تونس والقاهرة، ولتكونَ سوريا عقدةَ المنشارِ في مجملِ المشروعِ. وقد حذّر المنظّر الأمريكيّ ريتشارد هاس مبكّراً من خطرِ الإسلامِ السياسيّ والذي سيسدُّ الفراغَ الثقافيَّ والسياسيّ بالعالمِ العربيّ وقال: “إنّ القوميّةَ العربيّة والاشتراكيّة أصبحتا من الماضي”، كما أنّه دقَّ ناقوس الخطر من الفوضى العالميّة.
تسوناميّ الحريّة بدأ هبوبَه على منطقة الشرق الأوسط، من جسدِ المواطنِ البوعزيزي الذي التهمته النار، فامتدت النارُ فيما بعد لتنتشرَ على مساحة تونس، وتجلّت مظاهرُه بموجةِ مظاهراتٍ ضدَّ النظامِ سرعان ما تبنّت شعارَ “الشعبُ يريدُ إسقاط النظام”، ثمّ انتقلت عدوى التظاهرِ من بلدٍ إلى بلدٍ، فكانت مصرُ المحطة التالية، وأضحى الشعارُ وصفةً سحريّةُ، يكفي رفعُه لإسقاطِ النظامِ، ذلك لأنّ المدةَ الزمنيّةَ التي استغرقها الحِراكُ الشعبيّ المناهضُ للنظامِ كانت قياسيّة. كان ذلك بمقامِ خلقِ النموذجِ الذي يُفترضُ به عبورَ الحدودِ، يُنزِلُ الناسَ إلى الشوارعِ ثم يُسقِط الأنظمةَ. ولكن المسألةَ لم تستمر بهذه البساطة، فكان الاستعصاءُ في ليبيا، وتحوّلتِ اليمنُ إلى ساحةِ حربٍ لقواتِ التحالفِ العربيّ، وأضافَت لوناً مذهبيّاً آخر على الصّراعِ السّياسيّ، والهدفُ قطعُ علاقةِ اليمنِ بإيران عبر إقصاءُ الطائفةِ الزيديّة، ودخلَ درعُ الجزيرةِ إلى البحرين، فيما كانت سوريا عقدةَ المنشارِ في مسارِ الربيعِ العربيّ. فانقلبت نسائمُ الحريّة إلى رياح حربٍ عاتيةٍ تعدّدت أسماؤها وتصنيفها، واختلف الخبراءُ والمحللون السياسيّون في تقييمِ ما يدورُ بمنطقة الشرق الأوسط من أحداث سياسيّة وصراعات دمويّة معقّدة.
يعتبرُ البعضُ أنّ المنطقة تعيش حروباً وصراعاتٍ مذهبيّة “سنيّة – شيعية” ويشيرون إلى أنّ كلَّ عوامل التناقض والاختلاف تستندُ لمرتكزات تاريخيّة، وأنّها تراكمت عبر الزمن ولما تنتهِ صلاحيّتها، إذ كان بالإمكان في أيّ وقتٍ استعارةُ هذه العوامل لتأجيجِ الحربِ بأيّ مكان بالتركيز على حساسيّة العامل الدينيّ واستثماره. والواقع أنّ الصراعاتِ أخذت طابعَ الحرب الطائفيّة في المذهب الواحد، ذلك لأنّ الصراع في كثير من تفاصيله رفع شعاراتٍ صريحة وتمّ استهدافُ طوائف لشبهةِ الاختلافِ العقائديّ، والمفارقة أنّ كلَّ طرفٍ استندَ إلى نصوصٍ مقدّسةٍ وساقها على أنّها صحيحةُ لا إمكانَ لدحضها، ولا سبيلَ للاجتهادِ معها، وحتّى النصوص المتفق حولها كانت المشكلة باحتكارها، والاختلاف في تأويلها وفهمها، فكلّ طرفٍ افترضَ نفسه الفرقة الناجية.
نماذج تاريخيّة من الحروب بالمنطقة
تاريخيّاً لم تشهد المنطقةُ حروباً لأجلِ أسبابٍ مذهبيّةٍ وطائفيّةٍ صرفة، بل كانت حروباً سياسيّةً سببُها التنازعُ على السلطةِ، وكلّ المَقاتِل الكبرى كانت متصلةً بالسياسةِ، ذلك لأنّ أصحابَ توجّهٍ سياسيّ كانوا بنفسِ الوقت أتباع ذاتِ المنهج أو المرجعِ الدينيّ، إلا أنّ التوصيف الدينيّ والمذهبيّ كان غالباً على السياسيّ. فثلاثيّة (الجَمل، صِفّين، النهروان) كانت أولى المعارك الإسلاميّة قبل التمذهبِ، ولكنها مفصليّة إذ أسست للاختلافِ السياسيّ، فكانتِ الجملُ وصفين محاولةً من جانبِ الارستقراطيّةِ العربيّةِ لاستعادةِ السيادة على العربِ، فانتصرت لروحِ القبيلةِ والمالِ، أما سياسيّاً فتجسّدت بفريقِ الخليفةِ علي وأنصاره، والخارجين عليه وسُمّوا بالناكثين في الجمل، والقاسطين في صفين والمارقين في النهروان، فيما كانت الصورة القَبليّة مواجهةً بين بني هاشم وبني أمية. وأما في واقعها الظرفيّ فلا تخرجُ عن كونِها حرباً دينيّة، لأنّ طرفي الصراعِ تمسكوا بشعاراتِ الدينِ. وشكّلتِ الحروبُ الثلاثُ الأساسَ لحروبٍ كثيرةٍ تاليةٍ، والأساسَ العقائديّ للتنوّعِ المذهبيّ، وما الاختلافُ الذي استمرّ حتى يومنا هذا إلا لاختلافِ القراءةِ للحادثةِ التاريخيّة، اعتباراً من تقييمِ الخلافةِ الراشدةِ وأحقيّةِ علي بن أبي طالب بالخلافة الأولى، وأضحى هذا التقييمُ ميراثاً عقائديّاً، ثمَّ كان التحوّلُ من الخلافةِ إلى المَلكيّة مع دولة العائلة الأمويّة، وتولّي بني العباس الحكم من بعدهم، فالقائلون بصحّةِ الخلافةِ الأولى كانوا فريقَ السلطةِ وأتباعها، فيما شكّل أبناءُ علي وأنصاره من بعده فريقَ المعارضةِ. وفي سياقِ هذا التمسّك بالسلطة كانت واقعةُ كربلاء الهامّة واستهداف أنصار السلطة وأمير الكوفة عبيد الله بن زياد وقتل الحسين بن علي وصحبه والتمثيل بجسده لرفضه بيعة يزيد بن معاوية، ثم كانت معركتا عين الوردة وحروراء.
واستهلَّ مروان بن الحكم أمرَه باستعادةِ الشام التي بايع معظم أقاليمها بايع ابن الزبير، فهزم أنصار ابن الزبير في معركة مرج راهط نهاية عام (64هـ،683م)، وقتل قائدهم الضحّاك بن قيس وبعد سنة استولى على مصر وولّى عليها ابنه عبد العزيز، ثم واصل الزحف نحو العراق. وبهذا فإنّ جوهرَ الخلافِ يتصلُ بمقامِ الخلافةِ على أنّها مقعَدُ السلطةِ، وكانت ظاهرةُ عبد الله بن الزبير الذي نُودي به خليفةً أيضاً أحد تجليات التنافس على السلطة، فأقام دولته في مكة وتوسّع شمالاً حتى بلاد الشام وأنفذَ أخاه مصعب لحربِ المختار الثقفيّ وقتله بالكوفة، وقتل 7 آلاف مقاتلٍ بعد منحهم الأمان. ولعلّ قولَ المأمون العباسيّ: “المُلك عقيمٌ” يؤكّد طبيعة الصراع، فقد وجّه حملة إلى بغداد فقتلت أخاه الأمين وقِبل العزاء فيه، ثم دخل بغداد فأخضع أبناء عمومته قسراً وترهيباً.
العثمانيون فرضوا المذهبَ الحَنفيّ السنيّ على الناس، وارتكبوا مجازرَ مروّعةً بحقّ الشيعةِ أولها المقتلةَ العظيمةَ التي أقدم عليها الجيشَ العثمانيّ بقيادة السلطان الأول لدى مقدمه إلى مدينةِ حلب عام 1516 وذُبحَ عشراتِ الآلاف من الأهالي وجُمعت رؤوسهم تلالاً كبيرة بمنطقة تُعرف اليومَ باسمِ حي التلل.
وبسبب النزاع الصَفويّ-العثمانيّ، كانتِ الحروبُ السياسيّة على مناطق النفوذ تأخذ طابعاً مذهبيّاً بين الصَفويين الشيعة والعثمانيين السنّة. وكان سكانُ العراق من الطائفتين ضحاياها. وحين دخل السلطان مراد الرابع بغداد عام ١٦٣٨ قام بمذبحة فظيعة راح ضحيّتها عشرون ألفاً فيما ذكر المؤرّخ البريطاني إدوارد كريسي أنّ العددَ هو ثلاثين ألفاً.
وتطوّرتِ الصِراعات المذهبيّة بين الدولتين الصفويّة والعثمانيّة والآثار الناجمة عنها وسعى نادر شاه لاحتلال بغداد واسترجاعها من العثمانيين. ورغم فشل نادر شاه مرتين إلا أنَّ الحِصار الذي فرضه على بغداد لمدة سبعة أشهر أدّى لموت عشرات الآلاف وانتشار الأوبئة والأمراض بسكّان بغداد. وتسبب بمجاعة جعلتِ الناسَ تأكلُ لحومَ القططِ والكلابِ والجِيَفَ.
وبانتهاء الاحتلالِ العثمانيّ عام 1916 اُبتليت المنطقةُ بالاستعمارِ الغربيّ حيث تمّ تقاسم المنطقة بين فرنسا وانكلترا، لتُنجزَ خلال حقبةِ الانتدابِ الاستعماريّ أولى حلقات التقسيمِ وتظهر دولٌ وكياناتٌ سياسيّةٌ بموجبِ اتفاقيات بينهما.
تحالفُ القوميين والعسكرِ ضدَّ حركاتِ الإسلامِ السلفيّ
يمكنُ اعتبارُ القرنِ العشرين حقبةَ الدولِ القوميّة، وقد سادَ تنافسٌ حادٌ بين القوميين متحالفين مع العسكرِ لإقامةِ أنظمةٍ ادّعت أنّها تمثلُ حالةَ النهضةِ القوميّةِ وساندهم في ذلك تيارات يساريّة أرادت أن توجد لنفسها فجمعت بين توجهها الاشتراكيّ وانتمائها القوميّ، وبدأ ذلك بعد اتفاقاتِ التقسيم سايكس بيكو بشعاراتٍ قوميّةٍ ويساريّةٍ، وقيامُ ما أطلق عليه القوميون العرب “الثورة العربية الكبرى”، وانطلاقُ بناءِ النخبِ العسكريّة ودورها المركزيّ في قيادةِ الدولِ الجديدة، انطلاقاً من تركيا التي أسقط فيها كمال أتاتورك الخلافةَ الإسلاميّةَ واستند إلى الجيش، لتظهرَ لاحقاً في دولِ المنطقةِ حالة الانقلابات العسكريّة في الأقطارِ الإسلامية، وترفعَ شعارَ القومّيةِ وتدعوَ إلى الحداثةِ. وتمَّ إقصاءُ كلّ توجّهٍ إسلاميّ من الحياةِ السياسيّةِ، بحجّةِ معاداةِ قيمِ العصرِ، فوصلتِ الأحزابُ لقيادةِ دولٍ مثل سوريا ومصر والعراق وباكستان. وبالتالي تميّزَ القرنُ الماضي العشرين بالصراعِ بين النزعة العسكريّة بالسلطة والحكم، مدعومين بقوميين ويساريين وأنظمةٍ مستبدةٍ منغلقةٍ، وعلى الجهة الثانية سياسيون سعَوا لاستعادةِ مكانتهم بقيادةِ الدولة.
مع اقتراب القرن الحالي تأكدتِ الشعوبُ من فشلِ الدولِ القوميّة في الوفاءِ بتعهداتها، فدخلتِ المنطقة زمناً سياسيّاً جديداً، ارتفعت فيه أصواتُ دعاةِ أسلمةِ الدولةِ، والسيرِ على نهجِ السلفِ، وفقاً لمعتقدهم، في إطار ما عُرف بالصحوة الإسلاميّةِ.
ثمّة حوادث ساهمت بعودةِ الشعاراتِ الإسلاميّةِ ومنها الحروبُ العربيّةُ الإسرائيليّة وتحديداً نكسةُ حزيران 1967 وظاهرة المقاومةِ الإسلاميّة “حزب الله” اللبنانيّ و”حركة حماس” الفلسطينية، والانقلابُ على حكمِ الشاه محمد رضا بهلويّ بإيران، ومما لا شكَّ فيه، أنّ انتصار ثورة إيران الإسلامّية على أحد أقوى أنظمة الاستبداد بالعالم الإسلاميّ جدّدَ الأملَ بقيام دولٍ على أساسِ الإسلام. وبخاصة أنّ الشيعةَ الإماميّة في إيران تجاوزوا معضلةَ الإمامِ الغائبِ بابتكارِ نظامِ “ولاية الفقيه” وهو المرشدُ الأعلى للثورة الإسلاميّة.
وفي إعادةٍ لإنتاجِ فصولِ التاريخِ السابقة شنَّ صدّام حسين حرباً ضد إيران باسم (قادسية صدّام) وهي أول حربٍ معاصرةٍ بطابعٍ شوفينيّ وطائفيّ ووصف الإيرانيين بالمجوس ليسبغَ الحربَ بالطابعِ الدينيّ الطائفيّ، وأعطاها توصيفاً قوميّاً باعتبارها حرباً ضدَّ الفُرس وساق مئات الآلاف من الشبابِ العراقيّ إلى أتون الحرب، فتجاوزتِ الحرب معنى الاستنزافِ لتكونَ تطهيريّة كلّفت العراق تدميراً بنيويّاً عميقاً ما زالت آثاره الاجتماعيّة باقية حتى اليوم. وفي حملةٍ عسكريّةٍ باسم “الأنفال” شنّ حرباً على المناطقِ الكرديّة بلغ عددُ ضحاياها أكثر من 180 ألف شه يد.
وبعد نحو عقد ونصف من الزمن من تلك الثورة، نجحَ المذهبُ السنيّ في اختراق جدارِ القوميّة بتركيا، فشكّلَ “حزب الرفاه” التركيّ، أولَ حكومة إسلاميّة في تركيا القوميّة العلمانيّة. غير أنّ العسكرَ بمساندةِ أحزابٍ قوميّةٍ ويساريّةٍ، انقلبوا على تلك التجربة سنة 1997. ولكن بعد خمس سنوات تمكّن “حزب العدالة والتنمية، من الوصول منفرداً ليعتلي سدةِ الحكم ديمقراطيّاً، الشيء الذي أحدث قفزة نوعيّة بنقل تركيا إلى دولة صاعدة، احتلتِ التصنيف 11 بين الدول المتقدمة اقتصاديّاً بالعالم، بعدما كانت تصنّف دولةً شرق أوسطيّة فاشلة. واستمرت حكومة العدالة والتنمية 14 سنة بممارسة السلطة. ورغم طموحاته الدينيّة بإحياء الميراث العثمانيّ لم يلتزم قادةُ العدالة والتنمية بالإفتاءِ الدينيّ، بل التزموا بقواعدِ اللعبة السياسيّة، وبالتدريج تمّ تقليمُ أظافرِ المؤسسةِ العسكريّة وترويضها. ولم يتمكّن الخصومُ السياسيون إسقاطَ الحكومةِ بقواعد اللعبةِ نفسها، فتحرّك الجيشُ ليمارس عادته القديمة بالانقلاب الفاشل الذي استثمرَ أردوغان نتائجه ليُنزلَ الضربةَ القاضيةَ بخصومِه السياسيين.
الأديانُ حالاتٌ ثقافيّةٌ قابلةٌ للتعايش
الحديثُ عن حصرِ الصّراعِ في إطارِ عواملِ الاختلافِ الدينيّ المذهبيّ يجافي الحقيقةَ ويناقضُ معطياتِ التاريخِ، فكلُّ حالاتِ التنوّعِ المذهبيّ متأصلةٌ عبرَت قروناً طويلة ووصلت إلى الحاضرِ باعتبارها ميراثاً ثقافيّاً، ولا حالةَ مذهبيّةً طارئةً على المنطقةِ، ويعتبرُ المفكّر فراس سوّاح الدّينَ ظاهرةً ثقافيّةً، وكلُّ دينٍ ينشأ في حاضنةٍ ثقافيّةٍ معينة تطبعُه بطابعِها. وتنوّعُ الأديانِ يماثلُ تنوّعَ الثقافاتِ. وإذا كان فرضُ أو سيادةُ ثقافةٍ معينةٍ مرفوضاً، فكذلك حالُ الدينِ الواحدِ. ويقول: “لا يوجد برأيي أديانٌ حقيقيّةٌ وأخرى زائفة، فكلُّها طرقٌ تؤدّي إلى الله، وأشكالٌ متنوعةٌ تقودُ إلى معرفته”.
وبصرفِ النظرِ عن بعض الاحتكاكاتِ المذهبيّةِ من حين لآخر بين أتباع المذاهب هناك وهناك، فالتاريخُ يشهدُ على أنّ العلاقاتِ بين شعوبِ المنطقة قامت على القبولِ النسبيّ، ويمكن حصرُ الاحتكاكاتِ غالباً في إطار بعضِ النّخبِ الفقهيّةِ، والنخبِ السياسيّة ذاتِ المرجعيّاتِ المذهبيّةِ، والتي كانت توظّف الانتماء المذهبيّ لغايات سلطويّة ومصالح سياسيّة. فيما سَاقَ الحاكمُ المستبدُّ أو الاحتلال الأجنبيّ الناسَ كلهم بعصا واحدةٍ، دون تفرقةٍ واضحةٍ، وبالتالي تشاطرت الشعوب آلام الإقصاء والتغييب حتى في الحالاتِ الخاصة كأنّ يكونَ للطائفةِ التي ينتمي إليها الحاكم نصيبٌ من المظلوميّةِ أيضاً.
باستثناءِ الحالةِ الخليجيّةِ وتحديداً السعوديّة، حيثُ يسودُ المذهبُ الوهابيّ بحكمِ كونه مذهبَ العائلةِ الحاكمةِ والمؤسسة الدينيّة تابعة مباشرةً للسلطة، ولكنها تسير اليوم باتجاه حالة من التجديد، فالبيئةَ الاجتماعيّةَ كانت مستقرّةً في مجملِ المنطقةِ، والغريبُ أن ينبثقَ الحديثُ بشراهة عن مظلوميّة دينيّة في سوريا مثلاً إذ لم تعدِ المشكلةُ الأساسيّةُ إجمالاً مذهبيّة، اعتباراً بعد انتهاء الحقبة العثمانيّة، وتحديداً بالنسبةِ للأغلبيّةِ السنيّة، فقد تمّ تبنّي المذهبِ السنيّ للإفتاءِ والتعليمِ، وتُفاخرُ دمشقُ بأنّها عاصمة الأمويّين وتمجّد العباسيّين، ونشيدها الوطنيّ يذكرُ الوليدَ والرشيدَ. واللافتُ أنّ السوريين من مختلفِ الخلفيّاتِ العرقيّةِ والدينيّةِ والمذهبيّةِ تشاركوا بثورةِ التحرّرِ الوطنيّ وإجلاءِ المستعمر الفرنسيّ عن سوريا، فكان الكردُ بالشمال والعلويون بالساحل والدروز بالجنوب والسنة فيما تبقى من مناطق. ولا يختلفُ الوضعُ في العراق حيثُ التعدديّة العِرقيّة والدينيّة إلا أنّ النسبَ العدديّة مختلفة، وفي اليمن يعتبرُ الفقهاء والمؤرخون أتباعَ المذهبَ الزيديّ “سُنةَ الشيعةِ”، لقُربِهم من المذهب السنيّ، علاوةً على أنّ المذهبَ الشافعيّ يُعرفُ بالوسطيّةِ والاعتدال، وفي لبنان نموذجٌ فريدُ قياساً لحجمِ الدولة وعدد السكان فهو تنوّعٌ دينيّ مذهبيّ طائفيّ متعايشٌ لدرجةٍ ما، بعد تجاوزِ الحربِ الأهليّةِ في السبعيناتِ، ورغم أنّه لا مشكلةَ كبيرةً في الانتماءِ العرقيّ أو الدينيّ، ولا كانت سبباً للصراع المسلح، فإنّه لا ينكر اتباع الحكومات سياسات التغييب والإقصاء وصولاً للتغيير الديمغرافيّ.
الحالة الأفغانيّة عقيدة وهابيّة بدعمٍ أمريكيّ
دخل الاتحاد السوفييتي عام 1975 إلى أفغانستان محتلاً، لدعمِ الحزبِ الشيوعيّ الأفغانيّ، وتستندُ العلاقة بينهما إلى جذورٍ تاريخيّة تعودُ للقرن 19، ورأى الأمريكيون التدخّلَ الشيوعيّ خطراً على مصالحهم، وبنهاية الثمانينات قرّروا دعمَ المعارضةِ الإسلاميّةِ، ونفّذت وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA عملية “إعصار” وهي أكبرُ عمليةٍ استخباراتيّةٍ سريّة، وقادها عضو الكونغرس الأمريكيّ شارلي ويلسون، مع رجل الاستخبارات غوستاف افراكوتس والعملية موثّقة بكتابٍ يتحدثٍ عن قيام الولايات المتحدة بقيادة ورعاية التنظيماتِ الإسلاميّةِ المسلحةِ “المجاهدين الأفغان” ومساهمتها بصعودِ هذه التنظيماتِ، ويُذكرُ أنّ المقاتلين الأفغان استخدموا صواريخ ميلان الأمريكيّة الحديثةِ المضادةِ للدبابات. وفي تلك الفترة طلب البيت الأبيض تصويتاً للموافقةِ على تمويلِ ودعمِ ما سمّته “المحاربين الأحرار” وجمع 70-100 مليون دولار لجلبِ الأسلحةِ وإثباتِ أنّ الليبراليين جادّون بدعمِ سياستهم، وبالفعلِ قامت الطائراتُ الأمريكيّةُ بإلقاءِ الأسلحةِ من الجو على حلفائها على الأرض.
بذلك فإنَّ بروزَ ظاهرةِ الإرهابِ كان من رحمِ الفكرِ التكفيريّ، وكانت نواتُه الأولى في أفغانستان وظهورِ ما سُمّي “الأفغان العرب” بتمويلٍ سعوديّ واحتضانٍ استخباراتيّ أمريكيّ لمواجهة الجيشِ الأحمر السوفييتيّ المحتل حينها للبلاد في سبعيناتِ القرن الماضي، وتمّ تعهّد هذه الحالة بالرعايةِ في إطارِ تنظيمِ القاعدةِ ولتتحوّلَ إلى حركةٍ عسكريّةٍ ـ سياسيّةٍ في العقد الأول من هذا القرن.
وعلى هذا الأساس فإنّ لواشنطن تجربةً سابقةً مثبتةً بدعمِ التنظيماتِ الإسلاميّةِ. وتحدثت تقاريرٌ مسرّبةٌ عن تدريب البيت الأبيض مقاتلين أضحوا قادة وعناصر في تنظيم “داعش” بالإضافة لإمدادهم بالأسلحة والعتاد أي أنّها تعيدُ ما سبق أن فعلته. وذلك يتوافق مع تصريحات المسؤولين الأمريكيين وتبنيهم لمشروعِ التغييرِ الشاملِ بالشرق الأوسط.
ويسلي كلارك جنرال متقاعد من الجيش الأمريكيّ عمل البنتاغون وحلف الناتو، قال: عام 1991 سألت الرئيس الأمريكيّ تبدو سعيداً من أداء جنودنا في عاصفة الصحراء، فأجاب نعم، ولكن ليس بالدرجة الكافية، فالحقيقةُ هي أننا كان يجب أنّ نتخلص من نظام صدام حسين ولكننا لم نفعل. وأضاف ولكننا بالمقابل تعلمنا شيئاً واحداً وهو أنّنا يجب أن نستخدمَ قوتنا العسكريّة بمنطقةِ الشرق الأوسط، والسوفييت لن يقدروا على إيقافنا ولكن مدة زمنيّة 5-10 سنوات كافية لإزاحة الأنظمة السياسيّة التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتيّ (سوريا، العراق، ليبيا) وإيران فهي التي تعمل على زعزعةِ استقرارِ الشرق الأوسط، سنقومُ بذلك ونقلب الوضع رأساً على عقب ونجعله تحت سيطرتنا.
اعتباراً من عام 1991 ونهاية حرب تحرير الكويت (عاصفة الصحراء) والمتزامنة مع نهاية المنظومة الشيوعيّة العالميّة وتفككِ الاتحاد السوفييتيّ، والإدارة الأمريكيّة تعملُ حثيثاً بالتعاونِ مع حلفائها الدوليين والإقليميين لإنجازِ التغييراتِ التي تصبو إليها بالمنطقة.
يؤكّد بريجنسكي مستشار الأمن القوميّ للرئيس كارتر وحتى الرئيس أوباما أنّ كان العراقُ هدفاً أساسيّاً وليست أفغانستان وحرب القاعدة والإرهاب. ومعروفٌ مدى أهميّة الموقع الاستراتيجيّ البلدين (العراق وأفغانستان)، ويقول بريجنسكي في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى The Grand Chessbroad: “الهيمنة والسيطرة قديمة قدم البشريّة”. أي أنّ العملَ كان مخططاً تماماً، ولم يكن انتقاماً أو لمحاسبةِ الإرهاب، ولكن العقلَ الأمريكيّ يعملُ بطريقةٍ قد لا يسعنا فهمُها فهي وفقاً لاتساعِ المصالحِ الأمريكيّةِ وحجمِ التناقضاتِ الأمريكيّةِ والرغبةِ بمحاصرةِ إيران انطلاقاً من أفغانستان الخاصرة الرخوة من الشرق، فيما كان العراق الهدف التالي مباشرة والحجّة فضفاضة هي محاربة الإرهاب.
ويقول بريجنسكي: “لقد هاجمنا أفغانستان وكنت سعيداً وهذا ما يجب أن أكون. وذهبت للبنتاغون بعد 6 أسابيع وقلت لماذا لم نهاجم العراق؟ لقد قلتم سنهاجم العراقَ فقال: “سيدي إنَّ الأمر أسوأ من ذلك، لقد أحضرت هذه المذكرة، وهي أنّنا سنضرب العراق وسنطيح بحكومات سبع دول في خمس سنوات، سنبدأ بالعراق وسننتقل إلى سوريا، لبنان، ليبيا، الصومال، السودان، وإيران”.
إعادة ترسيم المنطقة
بدأت الولايات المتحدة الأمريكيّة من العراق فاحتلته في 7 نيسان 2003 وبصرف النظر عن تقييم نظام صدام حسين الذي أحكم سيطرته على البلاد وأذاقها مراراتِ القمع والاستبداد، إلا أنّ العراقَ تحوّلَ لبؤرة للتنظيماتِ الإسلاميّة المتطرفة ونفذت أعمال بدت للوهلة الأولى أنّها عمليات انتقام من عناصر النظام إلا أنّها تحوّلت سريعاً إلى حربٍ طائفيّة تمثلت بتفجيرات وعمليات انتحاريّة وتدمير للعتبات المقدّسة واستهداف للمرجعيّات والشخصيات الدينيّة، وبذلك تمّ تأسيس النواة الأساسيّة للفوضى الخلاقة ولم يبقَ إلا نقلها إلى دول الجوار وأولها سوريا لم تتطلب المسألة كثيرَ جهدٍ إلا تغيير اسم “تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق” ليظهرَ اسمٌ أكثر خطورةً هو “الدولة الإسلاميّة في سوريا والعراق -داعش“. وبذلك تمّ ربط الميدان العراقيّ بالسوريّ مباشرةً. والواقع أنّه لم يكن من الممكن أنّ يتم احتلالُ سوريا العربيّة وتكرارُ سيناريو العراق التي استندت الحربُ عليها إلى حجة حيازةِ أسلحةِ الدمار الشامل الكيميائيّة والبيولوجيّة والصواريخ وعلاقته مع تنظيم القاعدة المصنّف إرهابيّاً.
وقالت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكيّة في خطاب في مؤسسة AIPAC (منظمة العلاقات الأمريكيّة الإسرائيليّة -اللوبيّ اليهوديّ): “لدينا سياسة جديدة استراتيجيّة تعترف بأنّ أفضل طريقةٍ لهزيمةِ الأفكارِ المتطرفة التي تستخدمُ الإرهابَ سلاحاً هي عن طريقِ نشرِ الحريّةِ والديمقراطيّةِ، فمصيرُ الشرق الأوسط يقومُ على الانتشارِ العالميّ للحريّة والمنطقة عصية على الديمقراطيّة. وكان حديثُ رايس يسبق الربيع العربيّ بنحو خمس سنوات تعلنُ فيه تحريرَ شعوبِ الشرق الأوسط. والاستباقُ الأمريكيّ للحدث لم يكن مجرّد نبوءةَ عرّافٍ فقد سبق أنّ أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن خطة أويد يونين لتقسيمِ الشرق الأوسط من مراكز دراسات استراتيجية أيام الرئيس الإسرائيليّ مناحيم بيغن وبالتالي يُطرحُ السؤالُ عن حجمِ الدورِ الإسرائيليّ وتحديداً في المفصلِ السوريّ. فرغم أنّ عناصرَ الانقلابِ بالمنطقة إسلاميّة في ظاهر توجّهاتها وخطابها وتتطلع إلى “دولةِ الإسلام الرشيدة” إلا أنّها لم تستهدف إسرائيلَ برصاصةٍ واحدةٍ، رغم الانتشار المباشر لمرتزقة النصرة على خطوطِ التماسِ مع إسرائيل.
المدير السابق للاستخبارات الأمريكيّة جميس وولسي قال: “المشكلة لا تكمنُ بالإسلامِ بل المشكلة هي بالاستبدادِ وإذا أقنعنا المسلمين اللطفاء اللائقون حول العالم بأنّنا نقف إلى جانبهم سنجعلُ نظام حسني مبارك في مصر متوتراً وإذا نجحنا بتحرير العراق ثم اتجهنا إلى سوريا وليبيا والدول الأخرى المارقة وأجبرناهم على التغيير ستأتي إلينا العائلة في السعودية وكذلك نظام حسني مبارك وهم متوترون للغاية وردُّ فعلنا يجب أن يكون جيداً، ونقول لهم نحن لا نريدكم متوترين، أي أنّ الحكّام سيكونون في غاية الضيق بسبب خشيتهم من السقوط. وتظهر الصور لقاءً بين جون ماكين وعبدالحكيم بلحاج الذي يقود تنظيم داعش في ليبيا، كما تمَّ تداول صور لهيلاري كلينتون مع جماعات كانت تقاتل معمر القذافي في ليبيا، وسمحتِ الولاياتُ المتحدة الأمريكيّة للإخوانِ المسلمين بالسيطرة على المركز الإسلاميّ في ميونيخ والوصول إلى الولايات المتحدة.
الأزمة السوريّة وحرب اليمن مذهبيّة-طائفيّة أم سياسيّة؟
انكفأ الحديثُ عن الاختلافِ الدينيّ والمذهبيّ عقوداً من الزمن يمكنُ وصفُها بتقاسمٍ غير معلنٍ للأدوارِ، حيث كان هرمُ السلطةِ السياسيّةِ والعسكريّةِ بيدِ الأقليّة العلويين، بينما انصرفت أغلبيّة السُّنة إلى مجالاتِ التجارةِ والمالِ والأعمالِ، لكنّهم كانوا متواجدين بشكلٍ كبيرٍ في الجهازِ البيروقراطيّ للدولة ـ بحكم نيلهم نصيباً وافراً من التعليم والثقافة والخبرة وتعدادهم الكبيرِ ووصفهم بالأغلبيّة ـ ولم يتحدث أحدٌ عن صراعٍ مذهبيّ، وإنّما عن “مظلوميةِ” السنة رغم أنّهم أكثريّة عدديّة في البلادِ ومن خلفيات قوميّة مختلفة.
يرجّح البعضُ نظريّة المؤامرة ويربط الأحداثَ بعواملَ خارجيّة معتبراً كلَّ ما يحدث عبارة عن مسرحٍ للدمى تتحرك شخوصُه على مسرح المنطقة، فيما تتولى قوىً خارجيّة التحكّم بالخيوط وتحريك الدمى، ولذلك فإنَّ أمرَ الأزمة والحلّ بيدها، ولكنّها تعطّل فرص الحلّ، فالقضية بالنسبة لها صراعُ مصالح تتصلُ أسبابُه بجيوسياسة المنطقة والثروات الباطنيّة وبخاصّة بعد اكتشافِ كميات هائلة من الغاز والبترول على الساحلِ الشرقي للمتوسط، والحربُ استمرارٌ للسيطرةِ على مصادر الطاقة، والحربُ السوريّة هي أولى حروب الغاز، بعدما انتهت حروب النفط بالتوازي مع انخفاض احتياطاته والحديث عن إمكانية نضوبه خلال العقدين القادمين.
بدأ المشهدُ يتغيّر وبرزت ملامحُ صراعٍ كان بالأساس صراعاً داخل الطائفة الواحدة فبرز بشكلِ تنافسٍ، لكن طبيعته لم تكن مذهبيّة أو دينيّة وإنّما سياسية بالدرجة الأولى، تغذّيها عوامل خارجيّة مثل الدعم الإيرانيّ لقوات النظام وتدخّلِ حزب الله والدعم التركيّ والخليجيّ للمعارضة والمجاميع الإرهابيّة، ويُصنّفون بالإخوان المسلمين أو المحسوبين على الوهابيّة (القاعدة) وهدفهم “الانقلاب على النظام السياسيّ والعودة بالبلاد قروناً طويلة إلى الوراء، والحقيقة أنّ سوريا عانت من نماذج سلوكهم بداية الثمانينات ويشار لها بأحداث الاخوان في حماه وحلب، وبعض الحوادث الأمنيّة وتفجير خط البترول من قبل بعثيين موالين لصدام حسين.
الحربُ باليمنِ اليوم نتيجةُ “صراعات إقليميّة، وقد تحوّل بعض من أتباع الزيديّة إلى “الاثنا عشريّة”، ومن الشافعيّة إلى “السلفيّة الوهابيّة”. ولكنَّ عواملَ محليّة مرتبطة بالتنافسِ على السلطةِ والثروةِ أجّجتِ الاستقطابَ المذهبيّ. وبالمجملِ هي “حرب سياسيّة”، وصراعٌ بين مراكز القوى الرئيسيّة. ويُستبعد عنه التوصيف الطائفيّ فمن يقودون المعارضة بالخارج هم خصوم الحركة الحوثيّة ينتمون للمذهب الزيديّ”، وغيرهم كثير. ولعبت وسائلُ الإعلامِ دوراً خطيراً بالترويج لصراعٍ طائفيّ بهدفِ التحشيدِ والتعبئة، وغذّى طرفا الصراعِ هذه الفكرةِ وحاولا استثمارها بطرقٍ مختلفةٍ.
الصراعُ في اليمنِ سياسيّ، ولكنه وُظّف بأدوات طائفيّة”. وفشلت تجربة الدولة الوطنيّة، والتسوية السياسيّة في حلّ مشاكل اليمنِ فتجاوزتِ الحربُ الدائرة في اليمن الطائفيّةَ والصراعَ المذهبيّ إلى الصراع حول النفوذ والأمن في الإقليم، لعدة أسباب، منها: سيطرة المذهب الوهابيّ على الدولة، وإقصاء المذاهب الأخرى، وإثارةُ الفتنة التكفيريّة، لتكونَ مبررَ إباحةِ الدماءِ والسبب الثاني فيتمثل بسياسةِ القمع، والتهميش، والإقصاء، وعدم القبول بالآخر، وسيطرة طرف معيّن على مؤسسات الدولة، ورفض اتفاقية السلم والشراكة الوطنيّة لتسوية الأزمة بين الحوثيين والمكوّنات السياسيّة، فالحوثيون عانوا الكثير من الظلم، والقهر والحرمان لسنوات طويلة.
الحروبُ لا تُنهي الأديان والمذاهب
حملتِ الحربُ في المنطقة مضامين مذهبيّة، ومناطقيّة، وعرقيّة، واستخدم جميع أطراف الحرب والصراع السياسي وأتباعهم أحد هذه المضامين في عملية الحشد لمشروعهم. فالربيع العربيّ وغرق المنطقة في أول الفوضى الخلاقة لم يكن بالصدفة.
لا يريد مُخطّطو الحروب الطائفيّة ومُشعلوها ومُنفّذوها أن يفهموا أنَّ شعاراتِ الحربِ بالدفاع عن طائفتهم تدعم بنفسِ الوقتِ شعاراتِ الدفاعِ للطائفة الأخرى. فغاراتُ الوهّابية مثلاً مطلع القرن التاسع عشر حتى عشرينات القرن العشرين لم تقضِ على الشيعة (الروافض) بل شحنتهم بالحماسةِ للتمسّك برفضهم. فالرّفضُ السياسيّ بُنيت عليه عقيدةٌ تاريخيّةٌ ودينيّة، ولا يمكنُ افتراضُ خيانة محدودة، مع نسيان كلّ العوامل الواقعيّة الأخرى، أن يُلغي الحقيقة التي تتمثّل بأنّ إعادةِ الحروب واستعادتها لا تبحث عن الحقيقة وإنّما عن تكريس الافتراض والوهم بهدف القيام بعمليات تطهيريّة تتميّز بالبشاعة والبربريّة والانتقام، إذ تُضفى القُدسية عليها وتصبح عملاً تطهيريّاً.
تبدو الحروبُ الدينيّةُ وكأنّها شغفٌ بالتاريخ إذ تتم استعادته على المسرح بديكوراته وملابسه وأدواته وخطاباته، لكنَّ حروبَ الجماعات والطوائف ليست شغفاً بالتاريخ بقدر ما هي بحثٌ عن مُبرّرات تقفزُ على الواقع، فتُحالُ واقعيّتها إلى التاريخ. بَيدَ أن هذا مُرتبطٌ أيضاً بإعادةِ خرائط ما بعد الحرب العالميّة الأولى التي وضعها سايكس وبيكو لضمانِ عدم بقاء أو ظهور دولٍ قويةٍ قادرةٍ على الحفاظِ على استقلالها واتّخاذ مواقفَ وقراراتٍ سياديّة. وبدلاً من أن تخوض دول “سايكس بيكو” حروباً جديدة فإنّها تدفعُ دولاً عربيّة وجماعاتٍ إسلاميّةً وأحزاباً وقوى طائفيّة وجيوشاً باسم الحريّة وتلاعبت بمصطلحات كالشرعيّةِ والتهميشِ وحقوقِ الأقليّاتِ لإدامةِ هذه الحروبِ المُدمّرة التي كان هدفها وما يزالُ اقتصاديّاً وثقافيّاً عبر الهيمنة السياسيّة. فداعش كانت عملية استثمار في سوقِ الحربِ مباشرةً سواء عن طريق تهريب النفط أو بيع البشر أو إنعاش تجارة السلاح والمعدّات، وتعويم العملات الوطنيّة واستباحةِ الحدودِ الاقتصاديّة والسياسيّة للدول كما في العراق وسوريا واليمن وليبيا، وخَلق الظروف المُلائمة للقضاءِ على ثقافاتٍ حضاريّةٍ عريقةٍ وإحلالِ ثقافة التوحّش والهمجيّة محلها. ولأنّ الغربَ لا يؤمنُ بإمكانيّة قيام ديمقراطيّة في دول الشرق الأوسط على الطِراز الأوروبيّ فإنّ خياره هو إحلالُ الحروبِ والفوضى بدل الديمقراطيّة. فالغربُ يؤمنُ أنّ خيارَ العربِ والمسلمين هو الإسلام ولذلك فإنَّ الحروبَ الدينيّةَ وسيلةٌ فعّالةٌ للسيطرةِ على المنطقة وتدميرها باسم الإسلام نفسه.
قد لا يكفي كل تاريخ الحروب الطائفيّة للعبرة وتجنّب إعادة تلك الحروب، وإذا كانت أوروبا قد تركت وراءها النِزاعات والحروب الدينيّة والسياسيّة، وتوحّدت في اتحاد أوروبيّ وعِملة واحدة ودستور واحد تقريباً ولوائح حقوق إنسان واحدة وحقوق مواطنة واحدة، وتحلّت بالتسامُح والاعتراف بالتعدّديّة والإيمان بها إيماناً سلوكيّاً مضموناً بالقوانين فإننا يمكن أن نُعيدها كلها من دون أن نكترث للتجربة التاريخيّة للعالم المحيط بنا، والنتائج المأساويّة والكارثيّة المريرة التي تمخّضت عنها.
يمكن القول إنّه من الثقة المتبادلة تنطلقُ إمكاناتُ التسامحِ والتعايشِ، للقضاءِ على التطرّف المذهبيّ، والطائفيّ، والمناطقيّ، والفئويّ” حتى تمضي سفينة الديمقراطيّة، والسلم والتعايش، والتسامح في سلوكنا الفرديّ، والشخصيّ مع وجودنا في مجتمع يطمح لطمأنة الاستقرار القائم على السلم الأهليّ، وإزاحة مشهد العنف والانتقام، ودوامة الثأر، وبناءِ دولةٍ مدنيّةٍ، مؤسساتيّة، دولة مواطنة متساوية بالحقوق والواجبات بدون تمييز وتفرقةٍ بين كلّ فئات، وطوائف، ومكوّنات الوطن، دولة النظام والقانون، تكونُ ثمرةَ لحوارٍ وطنيّ، ونتيجة لتوافقٍ على حلٍّ عادلٍ للأزمةِ الدامية، والمصالحةِ الوطنيّةِ، والعدالةِ الاجتماعيّةِ.