عمّار صالح
ماذا لو بحثَ الناسُ عن أسباب وقوع سواهم في الخطأ أو مخالفتهم لهم، في طبيعة بعض البشر بما جُبلوا عليه من نقص، لا بسبب إرادة الشرّ لديهم لو ملكوا حريّةَ الاختيار؟
ماذا لو أخذَ الناسُ بالقول المنسوب إلى عمرَ رضي الله عنه: ” أعقَلُ الناسِ أعذَرهم للناس “. ماذا لو بلغَ الناسُ هذا الأفقَ الإنساني النبيل، هل ستقومُ كلُّ هذه الحروب وتقع كل هذه المآسي وتُراقُ كل هذه الدماءُ، وتجري أنهارٌ من الدموع لو كان الناسُ أكثرَ تواداً وتسامحاً، بل لو كانوا أطوعَ لصوت العقل وقانون الأخلاق؟
هل هم طيّبونَ وصالحون أولئك الذين يجدون أفضلَ العملِ تأصيلَ العداءِ وتقنينه والدعوة إليه؟
من المؤكّد أنه يوجدُ في الناس من يقول إنّ الأخذَ بما تقدّمَ لا يعدو كونه نوعاً من الورع الأخلاقيّ أو الاجتماعي أو الديني، يجهلُ واقعَ الناس أو لا يتعامل معه، وقد يكون في هذا القول شيءٌ من الصحّة، أو ما يستحقّ أن يُوقفَ عنده أو يُنظرَ إليه، لولا أنّ تاريخَ البشر لم يُسفر عن شيءٍ في ديمومةٍ وإلحاح كما أسفرَ عن واقعٍ كشفَ أنّ أكبرَ العوامل التي حُصدت بسببه نفوسٌ وأُريقتْ دماءٌ وأزهقَت أرواحٌ، هو عاملُ الكراهية على مدى التاريخ، وأنّ فرسانَ الكراهية لم يجدوا وقوداً أفعلَ ولا سلاحاً أقتلَ من النار التي تشعلها الكراهيةُ وتتغذى بها، أو السلاح الذي تكونُ الكراهيةُ ذخيرته؟
أليست هي الوقودُ الذي اختاره نبوخذ نصر وتيتوس ونيرون وهولاكو وجنكيز خان وهتلر وستالين وبيريا وكاردافيتش وميلوسيفيتش، وسواهم من فرسان الكراهية على امتداد التاريخ؟
لقد كانت الكراهيةُ هي النارُ والوقود والسلاحُ والذخيرة التي فتكَ بها أو بسببها أعداءُ البشر بضحاياهم، وأبادوهم أو قهروهم أو سلبوا حقوقَهم. أقبلوا على ذلك وصنعوه بكلّ التلذّذ به والشهوة فيه والافتخار به والتسابق إليه، وليستِ الحروبُ الصليبيةُ وهمجيّة التتار وحروب الأعوام المائة ومحاكم التفتيش والحربان الكونيان الأولى والثانية، وجرائم الصرب في البوسنة، وما صنعه ميلوسيفيتش وقواته بالألبان في كوسوفا إلاّ أمثلةً لما تختزنه نفوسُ بعض البشر من شرورٍ وآثام أشعلتها الكراهيةُ بسبب العرقِ أو الدّين أو رفض الآخر الفناءَ والذوبانَ.
أسبابٌ أم أمراض؟:
ما أسبابُ الكره للآخر، هل هي أسبابٌ توجبها وتؤجّجها دوافعُ إنسانية أم عقلية أم أخلاقية أم دينية، أم أنها وسيلةٌ يوظّفها فردٌ أو أفرادٌ بسبب مطامحهم أو مطامعهم أو أمراضهم النفسية العاشقة للسيطرة والتفرّد والظهور، فتنتقلُ هذه الإصابةُ أو ينقلونها إلى مجتمعهم بما يُغمَرُ به هذا المجتمع في ديمومةٍ وضجيج وإلحاح دعوة إلى الكراهية وتشريعاً لها.
لقد اختلفت وسائلُ ووسائطُ النشر والنقل والاتصال لدى البشر على مرّ العصور، كما تغيّرَ نمطُ حياتهم ومستواهم المعرفي والحضاري، ولكن فئةً منهم أو فئات لا تزالُ تختزن في داخلها مخزوناً متوحشاً من ماضيها البعيد.
إذا كانت الكراهيةُ خبزاً عالمياً تقتاتُ به معظمُ الشعوب، مهما كانت ثقافتها أو معتقداتها، فإنّ درجةَ حدّة الكراهية وانتشارها، وما تحتله من مساحات في النفوس والوجدان تختلفُ من أمةٍ إلى أخرى، كما تختلفُ باختلاف الثقافات الموروثة الحاملة والحافظة لذاكرة التاريخ، واختلاف مكان الأمة أو المجتمع من حيث الضعف أو القوة والقدرة على مواجهة الأحداث أو العجز عن مواجهتها، إذ إنّ الكراهيةَ في أغلب حالاتها وبواعثها تكون الوسيلةَ التي يلجأ إليها الفردُ أو المجتمع عند العجز عن سواها من الوسائل التي هي أنفعُ وأنجعُ في المواجهة والمعالجة.
الحديث عن الكراهية من حيث هي غريزة في نفوس بعض البشر يستدعي مستوىً من التجريد يحوله من معالجة واقع إلى تحليق في فضاء، أو يستدعي من التعميم ما يتعارض مع خصوصية المشكلة التي من أغراض هذه الوقفة الداعية إلى التأمّل والمراجعة- معالجتها، وتحويل هذه من التجريد إلى الواقع ومن النظرية إلى التطبيق يستدعي: دراسة حالة، إذا أخذناها من واقع المسلمين لأنهم في الظاهرة المدروسة ليسوا استثناءً من الناس، وأنّ الانشغالَ بأمرهم أوجبُ من الانشغال بسواهم، فإننا نجدُ أنّ هذه الظاهرة الآنف ذكرها تتجلّى لدى بعض المسلمين على مستويين، أحدهما علاقة المسلم بمثله، والثاني علاقتهُ بالآخر. ولعلّ استعراضَ هذه العلاقة على المستويين يظهرُ ما في هذه العلاقة من خطأ أو صواب، هداية أو غواية. وما سيأتي في السطور التالية هو اجتهاد معايش لحال أمته، لا يستطيعُ أن يكفّ نفسه عن التألّم لألمها، كما لا يستطيعُ أن يفصلَ ذاته عن واقعها، على أن ينأى بنفسه عن أن يزعمَ الانفرادَ بسداد الرأي أو امتلاك كلّ الحقيقة.
التماس:
الحديثُ عن هذا الموضوع في موضوعية وتجرّد يحتاجُ إلى قدر من المبالغة لما أحبته النفوس لطول الألفة وما تشرّبته العقولُ لدوام التلقين، وما اعتاده السمع لكثرة ما يردّد.
ابتداءً ينبغي أن نعرفَ ذلك(الآخر) الذي نتحدّث عنه أو نشير إليه تعريفاً يحدّده، وأحسب أنه غني عن القول أنّ(الآخر) الذي يقفزُ إلى الذهن من مخزون الذاكرة والوجدان هو الغرب. فنحن– المسلمين- لا نشعرُ بنفس الشعور المشحون بالشكّ وسوء الظنّ والتوجّس تجاهَ الأمم الأخرى المخالفة لنا في عقيدتها أو نظامها السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي مثل الهند والصين واليابان وسواهم، أو لا نشعرُ بدرجة مساوية لما نشعر به تجاهَ الغرب، وذلك أمرٌ يمكن أن يُفهمَ في ضوء علاقة التَماس بين المسلمين والغرب، وهي علاقةٌ لم توجد مع سواه، هذه العلاقة ذات جذور تمتدّ في الماضي لا تدعو إلى الاطمئنان، كما أنّ لها نتوءاً في الحاضر يمنعُ من المُصافاة.
جذورُ الماضي هي الحروبُ الصليبية والاستعمار، والنتوءُ الحاضرُ هو موقفُ الغرب- والولايات المتحدة بشكلٍ أخصّ- من العرب وإسرائيل. هذه الينابيعُ الثلاثة تكفي لسقي بذرة الكراهية واستدامتها لو كانت الكراهيةُ وسيلةً ذكية وناجعة لحلّ المشاكل ومواجهة الظروف والأحداث، ولكنّ الكراهيةَ ليست كذلكَ، لأنّ( شرّ السلاح الأدمع) من ناحية، ومن ناحية أخرى، لأنّ إعادةَ النظر في ذلك التاريخ في حضور من ظروفه وملابساته وأسبابه قد تقودُ إلى نظرة هي غير ما ننظر، وتؤدي إلى موقف غير الموقف الذي نقف فيه.
وللحروب الصليبية في ذاكرة المسلمين، وفي ذاكرة الغرب- على درجة مماثلة أو مقاربة- مكانٌ مملوء بصورٍ مُفزعة، وقد تأصّلتْ هذه الصورُ واتّسعتْ المساحةُ المعطاة لها لطول الحقبة التي بقيت فيها كرة نارية متبادلة خلالَ قرونٍ وعلى عدّة جبهات من المواقع. ولكن هو مما يجب، بل هو مما يجوز أن تتحوّل هذه الذكرى إلى إرثٍ أبدي لا يبدّدهُ تعدّد الورَثة ولا تعاقب الأجيال. هل هو مما يجب، بل هل هو مما يجوز أن نبني مواقفَنا في الحاضر على ذاكرتنا عن الماضي.
هل مما ينفعنا أن نستعيدَ ذلك الماضي مجرّداً عن ظروفه ومفاهيمه وما أحاط به من مناخ. هل هو مما يجوز أن يكون موقفنا- الموروث- من الغرب الصليبي، عندما كانت تتنادى أممه لغزو المسلمين، وتملآ صدورَ أفراده بالكراهية لهم، وتغذّي عقولَهم بتشويه صورة الإسلام، ويبذلون كلّ ما يستطيعون لصدّ دعوته ومنع نشر رسالته. هل يجوز أن يكون ذلك الموقف هو موقفنا الآن من الغرب اليوم، وقد جعلَ أبوابه بلا مصاريعَ يدخلُ منها إلى بلاده آلافُ الدُعاة للإسلام يبلغون دعوته وينشرون رسالته، وأُقيمت على أرضه مئاتُ المنشآت الإسلامية من المساجد والمدارس والمراكز، ويستقبل من أعلام المسلمين ويحمي من تهددهم بلادُهم وتهدرُ دمَهم حكوماتُهم عدداً غير قليل، ودخلَ الإسلامَ من الغربيين آلاف، لا يعرف أنّ واحداً منهم هُدّد في حياته أو حوربَ في رزقه أو فُصل من عمله.
قد يكون مما يجلي الصورةَ أن نسألَ هذا السؤال: ” هل سيبقى أثرُ الحروب الصليبية في نفوسنا على ما هو عليه لو استحضرنا ذلك الماضي، أو تصوّرناه، بل وحاكمناه متذكّرين أن الحروبَ الصليبيةَ ليست حالةً شاذةً ولا حدثاً فريداً خصّت به العلاقة بين المسلمين والنصارى في تاريخ الشعوب والمجتمعات، وأنّ المنازعاتِ والاقتتالَ صفحاتٌ منقوشةٌ في تاريخ كلّ البشر؟
وإذا كان مما يجوزُ القول إنّ ما حدثَ من المسلمين هو ردُّ فعلٍ لاحقٍ وليس فعلاً بادئاً، فإنه مما يجبُ أن نتذكّرَ أنّ الحروبَ كانت طريقَ الأمجاد أو الاستشهاد لدى كلّ الأمم، وأنه ما جلّل البشر، أحداً بمطارف المجد كما جللوا أفراداً عرفوا باسم الفاتحين، من عهد الإسكندر المقدوني حتى مجيء نابليون بونابرت.
من هذا المنطلق والواقع جاءَ الاختلافُ والتباينُ بين الإيحاء والدلالة التي يشعرُ بها المسلمون في اللقب الذي خلعوه على السلطان العثماني محمد (الفاتح) وبين ما يشعر به تجاهَ هذا اللقب أهلُ باريسَ وروما واليونان.
هل سينظرُ الآخرون كما ننظرُ أو يحسنون بما نحسّ في قول أبي تمام:
تسعونَ ألفاً بحدّ السيفِ قد نضجتْ… جلودهم قبلَ نُضجِ التين والعنبِ
لقد حسمَ المتنبي هذا الاختلافَ بقوله:
كذا قضتِ الأيامُ ما بينَ أهلها… مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائدُ
والمتنبي صاحبُ هذا القول لم يجد شيئاً أعلى في سلّم مدحه لسيف الدولة من قوله:
أخو غزواتٍ ما تغبُّ جيوشهُ… بلادهم ألا وسيحان جامد
تظلُّ الحصون المشمخرات في الذرى… وخيلكَ في أعناقهنّ قلائدُ
فلم يبقَ إلاّ من حماها من الظبي… لمن شفتيها والثدي والنواهدُ
تبكي عليهنّ البطاريقُ في الدجى… وهنّ لدينا ملقياتٍ كواسدُ