الدوغمائية: الوهم الذي بات جزء من كينونتنا الفكرية و الوعي الكلي لحضارتنا أو بالاحرى قد بتنا جزءاً ضمن هالتها القاتمة التي تسير بنا نحو اللا شيء و تجعلنا نتقهقر دائماً إلى الخلف و كلنا غبطة و حبور لذلك!
الدوغمائية السم الذي يتغلغل في كل مساماتنا، و المتفشية في كل خلية من خلايا الدولة النتنة و المجتمع الذكوري المتسلط… و المؤسسات الدينية و حتى الفكرية و العلمية. حتى بات كل شيء كمعمل ينتج ادوات و نتاجات جديدة لتقوية الدوغمائية. انها تعمينا عن رؤية الحقائق بعيداً عن التوهم؛ ايّ وهمٍ كان!
فالدوغمائية التي سلبت منا كل إرادة تفكير حرة، قد زرعت في وعينا(اللاوعي)وهم امتلاك الحقيقة التامة و المطلقة و المصداقية المقدسة و الاحقية في سيرورة حياتنا على ما هي عليها الآن أو كما كانت قبل مئات السنين. الوهم الذي تقتلنا و نحن فرحين و تكاد النشوة تقتلع نياط قلوبنا.
دون ان ندرك، بتنا نعبد اصناماً صنعتها ايدينا و نصدق اكاذيباً لفقناها. و كل ما كنا قد ابدعناه من افكار و مبادئ(لسعادة الانسان)فيما مضى، باتت عبئاً ثقيلاً على حياتنا جميعاً و ننحر على مذابحها كل من يتمادى على خرقها. و باتت السبب الرئيس في تعاسة الانسان و تخلف المجتمع و تدني المستوى المدني و تراجع الحضارة الانسانية و دنونا اكثر و اكثر من دهاجير الموت و الفناء و الحروب التي لا ترحم…
للدوغمائيات العديد من التعاريف و الاشكال و الاسباب و المنابع و الروافد و لكن يمكن تلخيصها جميعاً في جملة (الدوغمائية مقبرة للفكر!) و بكلمة اخرى؛ التابوت الذي نصنعه و نسد غطاءه كي نحتمي من الريح فنبقى دون هواء و نموت خنقاً ضمنها!
و ليكن بالعلم ان الدوغمائية او الجمود الفكري و العقائدي و تقديس النصوص الحرفية دون معرفة سياقها التاريخي و ظروف المكان، كلها ليست ناتجة عن القصور العقلي فحسب، إنما تنتج كثيراً عن تقديس و تأليه العقل يضاً.
لأننا نقدس العقل المجر و نجعله إله، فاننا لا نشكُ به و لا يتسلل الى قلوبنا الشك و الريبة في بعض نقاط ما انتجه ذلك العقل… فكل ما قال و كل ما كتبه أو فعله ذلك العقل يبقى اقدس من كل المقدسات الانسانية الحقيقية… و الويل كل الويل لمن يشك او يعارض ذلك العقل حتى و لو مرّ الف عام او كل الدهر عليه.
تزداد العقول و تختلف مقالاتها و مذاهبها و اوامرها و نواهيها و مفارزها للخير و الشر. تبدأ هذه العقول بالصراع و تنتهي بشكلٍ دموي دون ان تنتهي معها الدوغمائية. لإن العقل البشري الصغير يعتبر كل ما قاله الكبار و الآباء و عظام الامة مقدساً و ذو فاعلية حتى و لو تغيرت كل الظروف…
الرجل يبقى العاقل الصحيح و الكامل عقلياً و مقابله تبقى المرأة الناقصة حسب منطق الرجل-الكامل. لذا نرى الرجل البسيط اكثر دوغمائية من الجميع دون إجراء اية محاكمة وجدانية لذلك، لذا نسمى هذه الحادثة بالدوغمائية المبتذلة.
و الاكثر فظاعة هي الدوغمائية العلمية أو لنقل الميكانيكية و القطعية التي لا تقبل الجدال و هي تضع صيرورة لمسيرة التاريخ. الايديولوجيات الاشتراكية والماركسية ايضاً لم تتخلص من الدوغمائية الميكانيكية و الاحكام القطعية للتاريخ… لذا فإنها لم تقدر على ان تكون البديل التاريخي للرأسمالية الوحشية.
ولا يمكن التنبؤ بما سيؤول إليه الحالة العالمية و بالاخص كيفية خروج المنطقة من حالة الازمة المتعمقة؟ و الحالة كهذه، فإن التفكير الميكانيكي الديكارتي لن يفيدنا في التنبؤ و رسم سيناروهات محتملة و الاطروحات الفكرية و المنظوماتية التي ستساعدنا للبقاء بعد إنقضاء الازمة العالمية.
ألاحظ كثيراً طغيان دوغمائية عمياء في الاطروحات التي تتبناها كل طرف على حدى في المنطقة، معتبرةً نفسها مركزاً للعالم و أن اطروحتها الحل الامثل و الانسب و الازوفر حظاً في النجاح… و سنكون عميان أن لم نلتمس هذه الحالة كل يوم في وسائل الاعلام و النشر العالمية و الاقليمية.
نحن في الشرق الاوسط الديمقراطي نطرح افكاراً و نبيّن اطروحات و اطروحات مضادة احياناً، دون ان نتعصب لها او التطرف في تقديس الافكار المطروحة. الافكار ليست مقدسة، بل هي معتبرة! لأنني متأكد بأن فكرة احادية او نظرة واحدة فقط ليس بإمكانها ان تكون الوصفة الحقيقة و الكاملة للازمة. فالازمة هي نتيجة صارخة على فشل الدوغمائية بكل اشكالها، و ليس من المعقول بمكان اللجوء إلى دوغمائيات اخرى لحل ما خلفتها اخواتها.
انطلقنا و سنواظب على مداولة ما حملناها على كاهلنا من قضايا، بلغة عصرية هادفة للحل و ليس للدعاية الرخيصة لهذا او ذاك الطرف. منذ البداية حاولت و احاول ابقاء هذا المنتدى بعيداً عن التطرف و الاحادية الفكرية؛ و إن اخفقت فأنني سانجح في الحفاظ على ما أؤمن به بعيداً.
هيئة التحرير