زاخو زاغروس
لدى بلوغ عالمنا الى قمة الانحطاط الاخلاقي، تتعرض الانسانية في ذات المراة والمجتمعات الى المجازر والابادات على يد الحداثة الرأسمالية. وبما ان قيم المجتمع الانساني تتعرض لهجمات سافرة في كل لحظة، فلا بد لنا من تشخيص قضية الدفاع الذاتي تشخيصاً سليماً واعادة تعريفها بذهنية جديدة. في الوقت الذي تتسلح القوى العالمية الامبريالية والدول باسلحة دمار جديدة وتهدد البشرية بالفناء في كل فرصة لقمع ارادة ومطالب المجتمعات والشعوب من جانب، تسعى الى عزل كافة فئات وشرائح المجتمع وعلى رأسها المراة من حق الدفاع المشروع تحت ذرائع لا مكان لها من الصحة في القاموس الانساني جانب اخر، لتتحول القوى المناهضة للحداثة مع الزمن إلى قوى مروضة، مستسلمة وعبدة. الجدير بالذكر ان النظام الراسمالي مدرك تماما بأن تعبيد المجتمع يتطلب عزل المراة وأسرها اولاً، لذا نرى بانها من أكثر العناصر الاجتماعية المعرضة لهجمات النظام عبر شرعنة سياسة عزلها من جميع انواع المقاومة بألف حيلة وحيلة، حتى تتحول الى شخصية هزيلة لا حول لها ولا قوة. وإذا ما اصيبت المراة بهذا المرض فسيؤثر بدوره على المجتمع مباشرة لانها الخلية الام، وبه سيتحول الخوف والخنوع والاستسلام أمرا لابد منه في سائد حياتنا، الى جانب الابتعاد لحظة بلحظة عن قيم المجتمع الديمقراطي والأخلاقي الحر. كما سيتحول المجتمع إلى قطيع يتحكم به أصحاب السلطة والمال. انطلاقا من ذلك، ان تحري تاريخ هذه السياسة الذكورية الذي يتعرض له المجتمع في ذات المراة من الضروريات الاولية لمعرفة مبادئ الدفاع الذاتي وترسيخ هذا المبدأ الذي لا يمكن الاستغناء عنه في هذه المرحلة. حتى نتمكن من اعادة ما فقدته المراة وبالتالي جميع فئات المجتمع وحتى الانسانية من قيم ينبغي اولا معرفة مكان وزمان ضياعه حُسن المعرفة، وإلا فإن بحثنا عن الحقيقة سيبقى ناقصاً وحلولنا سطحية مؤقتة.
لقد أثبتت جميع الأبحاث الأركولوجية بأن المجتمعية الاولى في التاريخ تشكلت باطراف المراة، ومن أجل أن يحمي الانسان نفسه ضد الكوارث الطبيعية وظروفها الصعبة، كانت المجتمعية قوة لا تستهان بها، وليس هذا لوحده فحسب، بل من اجل حياة وعمل مشترك على خلاف الكائنات الطبيعية الاخرى. ان خاصية المجتمعية لدى الانسان جعلته مبدعا ومبتكرا وقويا في مواجهة الصعاب مهما كان نوعه. بقدر ما يحمل الانسان تجارب وعبر تاريخية تضاهي تاريخ الكون، فانه يضيف الى المجتمعية تجارب وخبر جديدة عبر ذكائه العاطفي والتحليلي. لذا فان
المجتمعية قوة دفاع وحماية واستمرار المجتمع في مواجهة جميع أنواع الأخطار والمهالك.
كان طابع تفكير المجتمع المتشكل باطراف المراة طابعاً روحياً، اي كان الانسان يؤمن بحيوية كل شيء. لذا نرى بان المجتمع كان يعتبر كل ما هو قريب منه وعلى علاقة مباشرة معه حي ومقدس وجزء لا يتجزأ منه، فاعتبر الطوطم رابطا مشتركا لجميع اعضائه، وهذا بدوره ادى الى حماية اعضاء الكلان لبعضهم البعض والعيش ضمن اجواء من الاحترام المتبادل. ان هذه القوة المعنوية لمت شمل الكلان ووحدته ليتصدى لكل الهجمات الخارجية. هذا يعني إن الهوية الاجتماعية المشتركة في الكلان والمتمثلة في الطوطم كانت قواها الحامية من جميع انواع المهالك، لأن الهوية المشتركة منحت القوة المعنوية والثقة لاعضاء الكلان ليتحدى كل ما يتعرض له من أخطار. كما لو تحرينا تلك المرحلة بقليل من الدقة سنلاحظ بان هدف القوانين الاخلاقية التي وضعتها المراة في تلك المرحلة هو حماية المجتمع وضمان استمرار وجوده. حيث وجدت قوانين وقواعد متعلقة بشكل الحياة الجنسية بين الرجل والمراة، وكانت المراة هي صاحبة القرار في انجاب الاطفال وحمايتهم مادياً ومعنوياً. وكذلك وجدت قوانين طبيعية لضمان التغذية وحماية الانسان من الجوع، وتم حماية الحيوانات والنباتات المفيدة للانسان، ومنع قتل صغار الحيوانات اوقطف الثمار الغير ناضجة. كان الهدف من كل هذه القواعد حماية المجتمع من الانقراض. هذا ومن أجل أن يتمكن الانسان من إدامة حياته ابتكرت الكثير من الالآت التي تمكنه من مواجهة المخاطر الطبيعية وتأمين الغذاء والمأوى. لذا لا نبالغ إذا قلنا بأننا لا نصادف حرية الفكر التي كانت موجودة في تلك الفترة في اي عصر لاحق، لانها فتحت السبيل امام ثورات عظيمة، ومنها ثورة الزراعة، اكتشاف النار، ثورة اللغة والكتابة التي تعتبر من أعظم إبداعات البشرية.
كان هذا التاريخ الاجتماعي والذي استمر آلاف السنين بمثابة الخلية الأولى لتشكيل ذهنية انسانية حية. وما يعيشه الانسان في راهننا يعود الى ميراث تلك الحقبة. لقد كشفت الاثار والحفريات والاساطير عن آثار مرحلة المجتمع الامومي الذي يعود الى 12000 قبل الميلاد، رغم مساعي الرهبان السومريين في انكار تلك الحقبة الزمنية التي شكلت المهد للبشرية بكل قيمها المشاعية.
بعد استيلاء بعض الحرفيين والرهبان على وسائل وفائض الانتاج، حاولت هذ الفئة الاستيلاء على جميع القيم المادية والمعنوية التابعة للمجتمع الامومي. واول ميدان استعمرته هذه الفئة هو الميدان الذهني وذلك عبر الاساطير واعلان الرهبان انفسهم كرسل بين الالهة والبشر، وفرض كل شيء باسم الاله. لقد كان ذلك اول خطوة في تحطيم ارادة الانسان وقوة مقاومته. في الحقيقة يمكن القول بأن الاحتلال الذهني الذي تعرضت له البشرية أدى بالانسان إلى قبول العبودية كأمر إلهي ومصير محتوم لابد منه. هذا ويمكن القول بأن الانفصال بين الذكاء التحليلي والعاطفي يعود إلى تلك الفترة، حيث تحول المجتمع الى طبقة اسياد وعبيد، وبمعنى اخر تحول البعض الى روح والبعض الاخر الى مادة جامدة ميتة، اي تم الفصل بين الشيء والجوهر. هذا ومن أجل الحصول على سلطة وقيمة زائدة تطورت أفظع اساليب الحيل والدسائس وخوض أخطر الحروب الدموية في تاريخ الانسانية. ان الحروب التي تروى في الأساطير السومرية والبابلية واليونانية، توضح جلياً مستوى العنف المطبق بحق المراة. إن الصراع بين الإله أنكي والآلهة إينانا على قيم المجتمع الطبيعي يؤكد على مدى مقاومة النساء ضد الهجمات التي تعرضن لها من قبل النظام الرجولي منذ تاسيسه. سرق أنكي _الذي يعتبر اول إله شن الحرب ضد الالهات_ ماءات 104 للالهة اينانا ونقلها الى مدينة اريدو برغبة من جميع الرجال الالهة، ولكن بعد اعادة ماءاتها طُردت من مجلس الالهة. هذا وبالاضافة إلى إن اسطورة بابل والصراع بين الإله ماردوك وأمه الإلهة تيامات أيضا مثير للدهشة، حيث يهاجمها ويطعن قلبها بالخنجر حتى يحصل على كل النايشين الذي تعبر عن ميراث وقيم المجتمع الطبيعي المتمحور حول الام. في الحقيقة لم يكن سهلاً قبول المجتمع الجنسوي او فرض العبودية على البشرية في ذات المراة، إلا إنه وللأسف لم تكتفي مقاومة النساء والرجال الذين كانوا يحملون طابع المجتمع الطبيعي الام لسد الطريق امام هذا الانحراف الذي تعرضت له البشرية. حيث يُروى في اسطورة بابل بأن ماردوك قطع جسد أمه تيامات الى أشلاء ورماها في اماكن مختلفة من العالم، ليتحول ظهرها إلى سماء وبطنها إلى ارض ودموعها الى نهري الدجلة والفرات. ان هذا المثل ضارب في الفظاعة التي تعرضت لها البشرية في ذات المراة ومدى جشع المجتمع العبودي المتأسس بذهنية الرجل. لقد كانت هذه الحقبة الممتدة الى أربعة آلاف عام قبل الميلاد بداية مرحلة الانحطاط للبشرية عموماً. لقد تحولت المراة في هذه المرحلة الى ملك للرجل في معابده بعدما كانت من اقدس القيم المجتمعية، وانقطعت عن الانتاج والعلم والمعرفة وحتى تم عزلها عن جميع النشاطات الاجتماعية والانسانية. ولم تنحصر المسالة ضمن هذا الاطار فحسب، حيث تم انكار الدور التاريخي الاس للمراة من خلال التاريخ الرسمي عبر الحيل والكذب والرياء وكأن كل شيء بدأ من الرجل ولم يكن للمراة اي دور في التاريخ المشاعي الانساني، ويمكننا رؤية ذلك بسطوع في الاساطير اليوناينة، حيث يُروى في الاساطير اليونانية بأن زوس تزوج من متيس حتى يحصل على عقلها، وثم قتلها من بعدما اخذ الجنين من رحمها ليضعه في رأسه. حيث نرى من خلال هذه الرواية ايضا مدى قباحة الطرق التي استخدمها الرجل للحصول على كل ما هو عائد للمراة وتحطيم قوة مقاومتها واسر روحها وجسدها. كذلك استبعدت المراة عن المعرفة والعلم بألف حجة وحجة، لأنها السلاح الفعال في حماية الذات من المخاطر لتحقيق الحرية. كما عُزلت المراة عن ميدان المعرفة والحكمة التي تؤدي بدورها الى البحث عن الحقيقة وتقوية ساعد المقاومة حتى تُستعمر المراة ذهنيا، كما وجدناه في الاساطير التي اعلنت عن حواء بانها مذنبة لانها اكلت ثمرة المعرفة. ولتحقيق هذا الهدف تم بناء الزيكورات كشكل مصغر عن الدولة، حيث بقي الرهبان في الطابق العلوي والحرفيون في الطابق الاوسط اما الطابق السفلي فكان للنساء والكادحين، وهذه كانت الخطوة الاولى صوب مجتمع طبقي. اعتبر الرهبان وسطاء بين العبد والله، والحرفيون الطبقة الوسطى اما طبقة العبيد فكانت من النساء والكادحين. أي يمكننا القول بان تلك المرحلة كانت الخطوة الاولى للانحراف الذهني. حيث اعتبر كل من الرهبان والحرفيون الجوهر والنساء والكادحين شيء. وفق منطق هذه الفلسفة بالامكان التحكم بالشيء كيفما تشاؤه الجوهر. وبهذا تم شرعنة النظام العبودي بشكل اكثر.
ازداد العنف بشكل ممنهج ومنظم عبر تأسيس الجيوش العملاقة بعد بناء اركان الدولة، وذلك لاستمرارية شرعنة النظام العبودي. ان صارغون الاكادي من المؤسسين الاوائل لنظام الجيش، حيث استولت الجيوش على القيم المادية والمعنوية للشعوب وارتكبت افظع المجازر بحقهم ولكن بطريقة ممنهجة للغاية. لم ينحصر العنف والاستغلال ضمن حدود الجيش فحسب بل بات جزءا من النظام الحاكم، اي بدأ كل شيء يسير وفق قانون العنف لتتوغل حتى الى تفاصيل العلاقات الاجتماعية. تحول العنف الى اسلوب ونهج الحياة حتى لحل ابسط المشاكل الحياتية.
توجه المجتمع صوب الانحطاط والركود بقدر تشييئه، كون العبودية المترسخة في بنية العائلة التي تعرضت المراة فيها الى ابشع انواع التعذيب قضت على جميع قيم المجتمع الاخلاقية. حيث تركز كل شيء حول تغذية الاحتكار والسلطة، ليؤدي بدوره الى خلق امراة جاهلة ومن ثم جيل ومجتمع جاهل. يكمن الجهل في لبنة السلطة العبودية.
مجتمع نساؤه بعيدات عن المعرفة وممارسة السياسة مجتمع غير حيوي اخلاقيا وسياسيا واجتماعيا
. تقع المراة اسيرة الرجل والسلطة في المجتمع التأنيثي. اي ان تحطيم ارادة المراة يؤدي بدوره الى تحطيم ارادة المجتمع، كون السلطة تفصل بين الشيء والجوهر، اي يتحول الرجل الضعيف -بالطبع وفق مقايسس الذهنية الذكورية- الى شيء امام الرجل القوي، والامة الضعيفة شيء امام سلطة الامة المهيمنة، الطبيعة شيء امام الانسان الجوهر والشرق الى شيء امام الغرب. وبهذا تسيطر الادوار الاجتماعية المنوطة للمرأة والرجل على جميع انواع العلاقات الاجتماعية حتى على رؤيتنا لذاتنا وللآخرين ايضا.
اما سياسة الاعتداء فهي نتيجة طبيعية لذهنية السلطة، فمكان تشييء الانسان يصبح الغصب والاعتداء فيه أمرا مباحاً. بالطبع المقصود من الاعتداء هنا ليس فقط الاعتداء البدني، بل كونه نوع من التحطيم الارادي لانسان اخر، لذا فانه يعني التحكم والاحتكار والتمييز والتجريد والعزل ايضا. وبقدر ما يطبق هذا العنف على النساء يتم تطبيقه بحق المجتمعات ايضا. ان الشعوب القابعة تحت نير استعمارية الدولة، يتم الاعتداء على جميع قيمها التاريخية، الثقافية، الاجتماعية والاخلاقية. بما ان عملية الاعتداء تؤدي الى تخريبات في الشخصية وتجعلها خانعة مستسلمة، فانها لا تستطيع حماية نفسها لتبقى مجردة من كافة انواع اسلحة الدفاع الذاتي المشروع. وهذا بالضبط ما تعانيه امة النساء في راهننا. حتى يضمن النظام المهيمن عبودية المراة ويطوقها من كافة النواحي، فانه يتعدى على جميع خلاياها الحية، لتصبح جسد بدون روح، وحتى عاجزة عن تعريف وضعها. إن الخوف والخنوع كبلتها لدرجة لا تقوى على ابداء اي موقف تجاه ما تعانيه، ليس هذا فحسب بل تفقد الثقة بنفسها وبالاخرين ايضا.
انطلاقاً من ما ذُكر في اعلاه يمكننا القول عن الحداثة الراسمالية اليوم بانها من اعمق درجات العبودية على مر تاريخ البشرية، لان الانسان لم يتعرض الى هذه الدرجة من الانحطاط الاخلاقي والانفصام في اية مرحلة مثلما عليه في راهننا. يسعى النظام الراسمالي الرجولي الى الحط من المجتمع عبر تسليع المراة بجميع قيمها المادية والمعنوية واستعراضها في الاسواق، حتى يحول الحياة الى جحيم لها. وما اصابة المجتمع بالشلل والجماد الفكري جراء اثارة الغرائز الجنسية إلا تعبير شفاف عن ماهية السياسة الرجولية في حقيقة هذا النظام. إن وقوع المجتمعات في فخ اثارة الشهوات الجنسية يؤدي الى فراغ معنوي وفكري تُغيبها عن الحقيقة. ولا نبالغ إذا ما وصفنا هذه الممارسات بالاعتداء الفكري والروحي والمعنوي. وما حوادث قتل النساء وانتحارهن اليومي إلا تعبير ساطع عن هذه الحقيقة. تتحول جميع المؤسسات الاجتماعية الى مقاصل للنساء في ظل النظام الراسمالي، بدءا من مؤسسة العائلة وحتى الاجهزة الحكومية ايضا. حيث يتعامل الزوج مع زوجته كتعامل الشرطة مع الشعب، لانها مذنبة وتستحق العقاب في وجهة نظره. الرجل ظل الدولة في البيت والمراة ظل الرجل وفق الذهنية الدولتية الرجولية، ولا يبقى امامها سوى امَّرُ الامرين، فإما الاستسلام والخنوع او معاناة الضرب والتعذيب الذي ينتهي إما بالقتل او بالانتحار في نهاية الامر. ان جميع مؤسسات الدولة بدءا من القضاء والمحاكم والدوائر الامنية مغلقة الابواب بمفتاح النزعة الجنسوية الرجولية امام المراة. ان كل ذلك يتسبب في انقطاع المراة عن الحقيقة الاجتماعية وجميع اواصرها الحياتية الاخرى. كما تؤثر العبودية على جميع سلوكياتها بدءاً من الحركة والتصرف وحتى تكوينها البيولوجي، الى حد تتحول الى رجل في هيئة امراة.
لا تنتهي المسالة الى هذا الحد، بل يتم الترويج لنموذج المراة التي يبتغيها النظام الراسمالي الرجولي في الصحافة يومياً، لذا ترانا نصادف مشاهد تبعث على الغثيان فيما آلت إليه هذه الامة المستعمرة. حتى تتحول اية امراة كانت الى نجمة سينمائية او امراة اعمال او تحصل على منصب حكومي تحتاج الى دعم الرجل الذي يحولها الى آلة في خدمة مصالحه، فمثلا، الكثير من الفنانات وعارضات الازياء والصحفيات في تركيا تُمثلن ايديولوجية الدولة الجنسوية الاجتماعية، أي إن الدولة القومية تعتبر المرأة رأسمالاً لها او مادة اولية للاستثمار. فهي التي تنجب الاطفال لتأمين أيدي عاملة رخيصة وجنود وشرطة، حتى تؤهلهم الدولة الى دروع لغزو وسلب ونهب الشعوب والمجتمعات الاخرى. وبهذه الطريقة يتم سلب آليات الدفاع المشروع الذي يمكن للمراة من خلاله الدفاع عن نفسها. تتعرض المراة التي ترفض اطاعة الرجل الرب او الدولة لحملات تطهير فكري وعاطفي وروحي الى جانب كافة انواع التعذيب البدني. هناك استثمار بدن المراة الى حد تحويل اللاخلاقية هذه الى حرفة كادت المراة نفسها تؤمن بذلك كما هو في العديد من البلدان الغربية. والى جانب ذلك فانها يد عاملة مجانية وسلعة رخيصة تستخدم لكل شيء وفي كل شيء.
الميدان السياسي من اكثر الميادين التي احتلتها الجنسية الاجتماعية، وعُزلت المراة من تلبية المهام السياسية تماماً. فإما أن تتحول المرأة الى صورة مصورة للسياسة التي يمارسها الرجل او سيتم تهميشها وعزلها عن هذا الميدان. اما الميدان الاخلاقي فقد سيطر عليها الرجل بمقاييسه السلطوية الى النخاع، واستولت الدولة عليه باسم القانون والقضاء حتى يكون ميدانا تحت هيمنة الرجل بالكامل. تم شرعنة تسلط الرجل على المراة عبر هذه القوانين، لأن هدف القضاء الأساسي هو خدمة سلطة الرجل والدولة، ولا دور للقانون سوى ترسيخ وشرعنة هذه الذهنية، وخير مثال على ذلك هو القانون الذي اصدرته الدولة التركية بخصوص منع الاجهاض. لذلك يمكن القول بأن جميع القوانين الصادرة بذهنية الدولة والرجل قوانين لا تعمل سوى على تجذير سلطة الرجل على حساب عبودية المراة واستغلالها. انطلاقاً من ذلك، ف
إن انتظار سن قوانين ودساتير دولتية عادلة بخصوص حرية المراة ليس سوى ضرب من الخيال لأن سياسة الاعتداء والعنف المطبق ضد المرأة والمجازر اليومية ليست إلا سياسة تعتمد عليها الدولة والسلطة لترسيخ هيمنتها، ولا يمكنها التراجع عن ذلك، لانها ستواجه الزوال.
ومن الميادين التي تباع فيها المراة وتستخدمها الحداثة الراسمالية من دون هوادة هو ميدان الصحافة والاعلام. تُستخدم هذه الالية من قبل النظام الراسمالي الحاكم في سبيل شل ذهنية المجتمع وتحريف وتشويه الحقيقة ولكن بحذاقة وبداهة لا مثيل لهما. فما تقوم به الصحافة والاعلام اليوم من غزو مادي ومعنوي لا تقوى عليه الجيوش والحكومات، لاننا نعيش عصر المعلوماتية. حيث يستخدم النظام الراسمالي هذه الآلية الفعالة اليوم في خدمة مصالحها لدرجة وصل بالانسان الى التعامل مع التقنية اكثر من تعامله مع محيطه الاجتماعي، وكاد المجتمع يفتقد طبيعته ليتحول الى مجتمع افتراضي بكل معنى الكلمة، بدل من تلبية دورها الحقيقي في توعية وتربية المجتمع. النظام الراسمالي يعتمد على هذه الآلية في جميع مخططاته ومشاريعه لانه من اكثر الوسائل تأثيراً في المجتمع، حيث ينشر ايديولوجيته القوموية العلموية والجنسوية ويرسخها عبر هذه الالية. فالى جانب شل الذكاء العاطفي والتحليلي للمجتمع، يحوله الى مجتمع غرائزي مضمور الذهنية وبعيد عن قيمه الاجتماعية. كما يسعى النظام الراسمالي الى استخدام هذه الوسيلة ضد المراة الى درجة تحويلها الى مادة لتعتيم الحقيقة وحجبها عن المجتمع، لذا نرى بان استعراض بدن المراة بكل اجزائه اعلاميا من اكثر الوسائل التي تلجأ اليها الصحافة والاعلام الدولتي المهيمن.
ان المراة من اقدم الامم المستعمرة في التاريخ، إلا انه لا يمكن الاستهانة بمقاومتها الطبيعية رغم جميع الهجمات والغزوات الذكورية. لم يستطع نظام الدولة والحداثة الراسمالية فرض الاستسلام والخنوع على النساء او تحطيم رغبتهن في تحقيق الحرية، كونهن من اكثر الطبقات الاجتماعية المسحوقة. فكلنا نعلم عن المجازر التاريخية التي ارتكبت بحقهن تحت اسم تصفية المجتمع من المشعوذات والساحرات. كما ان انتحار عدد كبير منهن يومياً يدل على مدى استيائهن من طابع النظام الحاكم.
إن روح الحرية، العدالة، المساواة والديمقراطية المتمثلة في المراة كان وما يزال الطرح المضاد للحداثة الرأسمالية
التي تعصر البشرية بين فكي كماشة النظام الرجولي. ان جوهر وعالم المرأة يمثل روح الحداثة الديمقراطية والذي يعني في نفس الوقت البديل الوحيد للسلطة الدولتية. وما استهداف المراة بالدرجة الاولى من قبل النظام إلا تأكيد على هذه الحقيقة.
انطلاقا من هذه الحقيقة، لابد من احياء مجتمعية تعتمد على ذهنية المراة الحرة ولايمكننا الاستغناء عنها لتصفية الذهنية الرجولية المتمثلة في النظام الراسمالي الحاكم. وهذا بدوره يحتاج الى ان تمتلك المراة وسائل الدفاع المشروع قبل كل شيء، حتى تتمكن من حماية قيمها المادية والمعنوية بعيد عن السلطة الرجولية وان تخرج من كونها ملك للغير اي تصبح ملك نفسها. انطلاقتها هذه سيكون انعطافا لاحياء الميراث النيولوتي الاجتماعي الذي كان يعتمد على القيم والاخلاق الحرة والمساواة. بمستطاع المراة الدفاع عن نفسها عبر التحلي بقوة الدفاع المشروع الذي يعتبر طرحاً بديلاً من اجل حياة حرة. ينبع الدفاع الذاتي المشروع من الوعي الذاتي والدفاع عنه. ولاجل تحقيق خطوات الدفاع الذاتي المشروع يجب تشكيل ارضيته التنظيمية، لانه شرط هام في الميدان العملي.
يمكننا تعداد الالاف من الامثلة على مقاومة النساء منذ عهد الالهات والى راهننا، لان المراة كانت المهد لاحياء ثقافة المقاومة ضد كافة اشكال الذهنية الرجولية بدءا من الآلهة إينانا، الملكة زنوبيا، الفيلسوفة هيباتيا، عائشة، كيبلا، مريم، وملايين النساء العالمات اللواتي انحرقن وهنَّ احياء، ومن الشهيدة ليلى قاسم، زيلان، والى ساكينة جانسيز. ان لواتي النسوة يمثلن رمز المقاومة لاجل حياة حرة كريمة. ولايمكننا فصل مقاومتهم عن مقاومة المراة تاريخيا.
وهنا نود التطرق الى وضع المراة الكردية على وجه الخصوص، فبالرغم من حملات الابادة والانكار ضد الكردياتية عموما والمرأة الكردية خصوصاً من قبل القوى المستعمرة لكردستان، لكنها لم تستطع تحطيم روح المقاومة المتجذرة فيها والتي تعتبر احد تقاليدها التاريخية الهامة، ويزدادها طموحا في تحقيق الحرية والمساواة في المجتمع. لم تتبنى يوما الركود تحت نير العبودية ورفضته بكل شدة في كل فرصة. ويمكننا ان نثبت ذلك من خلال الانضمام الهائل لعدد النساء المناضلات الى الحركة التحررية الكردستانية منذ التاسيس. لقد انبعث روح المقاومة والوعي التنظيمي لدى المراة الكردية بعد تجارب نضالية كافحت فيه بكل ما تملك. وما وجود قوات حماية المراة منذ التسعينات إلا تحقيق نهضة فكرية وثورة ذهنية في المجتمع الكردي. وقد حاولت المراة الكردستانية تكوين ذاتها من خلال البحث وايجاد كل ما فقدته من قيمها التاريخية عبر البحث في نفس المكان الذي فقدت فيه الانسانية سماتها الطبيعية. اعلنت المراة الحرب ضد الذهنية الذكورية في البداية ومن ثم ضد سياسة الانكار والابادة التي تستهدف وجود كيان وثقافة الشعب الكردستاني. لم تحارب المراة الكردية باسم الوطنية فحسب بل خاضت حربا مشروعة في الدفاع عن نفسها باسم جميع النساء وضد كل ما يتعرضن له جراء النظام الراسمالي الحاكم. يمكننا ان ندل على ان الدفاع المشروع يعني قضية وجود ولا وجود بالنسبة للمراة، لانها طالما كانت عرضة لاشد انواع الضغوطات والاحتكارات باسم القانون والدساتير في اي بلد او مجتمع يتحكم فيه النظام الدولتي القومي.
المراة بحاجة الى وعي للدفاع الذاتي وفق ايديولوجية وفلسفة وسياسة المراة الحرة. وبهذا وحده يمكن للمراة أن تكون الطليعة لحياة مبنية على قيم المجتمع الطبيعي ضد الذهنية السلطوية الرجولية. اثبتت المراة الكردستانية جدارتها في الدفاع المشروع عبر التجييش كقوات دفاع مشروعة والذي يعتبر الخيار الوحيد لتحقيق حياة حرة. لم تنحصر المسالة ضمن هذا النطاق فحسب، بل باءت واثقة من نفسها وصاحبة القرار بحق مصيرها الى جانب الوعي الايديولوجي والفكري الحر الذي تتحلى به في راهننا.
ان نضال المراة الكردستانية ومقاومتها في كافة المجالات الحياتية اثر وبشكل كبير في دفع المجتمع الكردستاني نحو البحث عن الحرية والتخلص من التقاليد البالية وحتى تغيير ذهنية الرجل الجنسوية الدونية. بالطبع ان التغيير الذهني الذي يمر به المجتمع الكردستاني يعود بالفضل الى نضال ونشاط المرأة في الميادين الاجتماعية والسياسية والفكرية بطليعة المقاتلات الكرديات على ذرى جبال كردستان. كون نضال المراة في الساحة العسكرية وخاصة المراة الكردستانية كان ضرب من الخيال قبل ظهور الحركة التحررية الكردستانية بقياد قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان”، ولكنها اليوم قادرة على حماية قيمها وقيم المجتمع باكمله وتسعى الى اعادة تاريخ فقدت فيها الانسانية اعظم قيم الحضارة الديمقراطية. ان قدرة المراة على الدفاع عن نفسها يعني التحرر من وصاية او كفالة الرجل الذي تطلع اليها بالمفهوم التقليدي للشرف.
بالطبع لدى تناولنا قضية الدفاع الذاتي لا نقصد التسلح فحسب، بل التحلي بوعي ايديولوجي فكري تحرري وتحقيق عمليتها بارادة حرة، وهذا هو بالضبط ما يتضمنه مفهوم الدفاع المشروع الذي ينبغي على أمة النساء التحلي به. ولكن مقابل كل ذلك يسعى النظام الراسمالي الرجولي الى تصفية كل فكر او تنظيم سائر على نهج الدفاع المشروع وذلك باسم مكافحة الارهاب، إلا
ان عزل الانسان والمجتمع من آلية الدفاع المشروع من اكبر انواع الارهاب
. ففي حين تمر القوى الراسمالية العالمية وعلى راسها امريكا بمرحلة سباق التسلح وامتلاك اكبر انواع الاسلحة الفتاكة التي تهدد البشرية في كل لحظة، تسعى الى تجريد المجتمع وخاصة المراة من كافة انواع وسائل الدفاع المشروع، حتى تكون لقمة سائغة في فمه. فمن جانب يستهدف المراة ويجردها من كافة مقومات الدفاع المشروع والمقاومة، ومن جانب اخر يدعي بحريتها المطلقة، ولكن هذه الحرية لا تعني سوى حق التصرف بروحها وجسدها في خدمة النظام الراسمالي. اي بقدر ما تتقن فن الربح على حساب حريتها الذهنية والروحية والبدنية فانها حرة وفق منطق هذا النظام.
بما اننا لا نستطيع مناهضة نظاماً استبدادياً كالنظام الرجولي بعقل متصحر وقلب محتل مقموع وايدي مكتوفة، فمن الضرروي التسلح بوعي ايديولوجي حر وبوسائل الدفاع المشروع بكافة انواعه. وهذا بدوره يحتاج الى نظام سياسي ديمقراطي حر، حتى يتمكن المجتمع بجميع فئاته وخاصة النساء التعبير عن نفسها بحرية وايجاد القدرة على ادارة نفسها بنفسها. بقدر ما تتحول قدرات المراة الى قوة تنظيمية في الميدان الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي، الثقافي، ستتمكن من حماية نفسها وبلوغ هوية حرة. وهذا بدوره سيؤثر على المجتمع ويضعف من شوكة النظام السلطوي الرجولي.
المراة الحرة ترمز الى ارادة حرة واخلاق فاضلة وسياسة ديمقراطية
من بعد الوعي الديمقراطي الذي تحلى به مجتمعاتنا بكل فئاته في الشرق الاوسط من جراء الحركات الشعبية التي شاركت فيها النسوة مشاركة قوية اوصلتهن في بعض الاحيان الى دور الطليعة في الكثير من المناطق، لا يمكن ان يبقى صف النسوة كبشة فداء في اي ميدان من ميادين حياتنا، لان المراة الان تتحلى بوعي يمكنها من خلاله الدفاع عن نفسها كأي كائن طبيعي اخر. ان التنظيم الاجتماعي والتعاون والمشاركة والعمليات الديمقراطية وقيادة الانتفاضات ومناهضة جميع انواع الابادات المفروضة على المراة من دواعي الدفاع الذاتي المشروع، ولا يمكن لاية قوة في العالم انكار هذه الحقيقة. كل كائن حي في الطبيعة مسؤول عن الدفاع عن نفسه بقدر مسؤوليته عن جماعته ومجتمعه وطبيعته، لذا فعلى المراة امتلاك جميع وسائل الدفاع المشروع حتى تستطيع الدفاع عن نفسها وعن مجتمعها.