عوّاس علي
القانون الدّوليّ والإنسانيّة:
بداية لو تمعّنا في التسمية؛ لوجدنا فيها بعض الغرابة التي تنافي الإنسانيّة، أن تضع قانوناً للقتل والحروب، هذا يعني شرعنة الحرب والقتل، فالحرب والقتل منبوذان في جميع الأحوال وبأيّ طريقة كانت، فالحرب والقتل لا يوجد فيها ما يُدعى بالإنسانيّة، ومهما كانت الظروف والأحوال التي تجري فيها تلك الحروب، ولو اُستبدلت تلك القوانين بقانون يمنع وقوع الحرب والقتل بشكل صارم من قبل الجمعيّة العامَّة للأمم المتّحدة ومجلس الأمن، لكانَ ذلك القانون الأجدر بالتسمية الإنسانيّة.
رُبَّما الحقيقة التي يجب أن تُقال عن القانون الدّوليّ، قالها العقيد “مُعمَّر القذّافي” أمام الجمعيّة العامَّة للأمم المتّحدة عام 2009 حيث قال بما معناه: “شَكَّلوا محكمة العدل الدّوليّة من أجلنا نحن الدّول الفقيرة، وجميع قوانينها تُطبَّق علينا نحن الدّول الضعيفة، وكذلك شَكَّلوا مجلس الأمن الذي تديره خمس دول، وقوانينه تُطبَّق علينا نحن الدّول الضعيفة، ورُبَّما تَمَّ تشكيل ذلك المجلس من أجلنا نحن الدّول الضعيفة”.
إنَّ تلك الحقيقة يُدركها الجميع، ولكن ليس كُلّ شخص قادر على قول الحقيقة، رُبَّما المجانين هم وحدهم الأجرأ بين الجميع.
خطاب العقيد القذّافي أُخذ على مبدأ السُّخرية والهزل، ورُوِّجَ له عبر الإعلام بأنَّه كلام رجل مجنون، وكانت البداية من قبل الإعلام الغربيّ، وما لبث أن حذا حذوه الإعلام المُسيَّر الذي يتلو رُكبَ الإعلام الغربيّ.
ورُبَّما الحقيقة المُرَّة التي يعرفها الجميع والتي تُستَّر خلف رداء الإنسانيّة؛ بأنَّ القانون وُضِعَ من قبل الأقوياء لِيُطَبَّقَ على الضعفاء، ولو أردنا أن نسرد الأمثلة؛ فلا حصر لها من قارة إفريقيّة إلى قارة آسيا، وأوَّلُها المجازر التي ارتكبتها الحكومات التُّركيّة بحَقِّ الشَّعب الكُرديّ وحرق قراهم وتدميرها، حيث بلغ عدد القرى المُفرَّغة من سُكّانها من قبل الدّولة التُّركيّة عام 2000 ما يقارب من /3000/ قرية وقتل ما يزيد عن /30/ ألف شخص كُرديّ وتهجير ما يقارب مليون شخص من منازلهم وتشريدهم. وما تقوم به الدّولة التُّركيّة في الشَّمال السُّوريّ من تهجير بحَقِّ الكُرد بمساندة المجموعات المُسلَّحة أيضاً يرتقي لمستوى جرائم الحرب والإبادة الجماعيّة. فالكُلُّ يعلم بأنًّ الهدف من كُلِّ الحروب التي تَشُنُّها تُركيّا على الشَّمال السُّوريّ هو تهجير الشَّعب الكُرديّ وتفريغ المنطقة منهم، من عفرين إلى رأس العين والغاية هي الكُرد فقط. وعلى حَدِّ قول بروين بولدان الشَّخصيّة السِّياسيّة والرَّئيسة المشتركة لحزب الشُّعوب الدّيمقراطيّ والمعروفة بين أوساط السّاسة الأتراك: “أردوغان يريد عالماً خالياً من الكُرد”.
وفي إفريقيا، تكاد الأمور مفضوحة بشكل جليّ، وآخرها تقرير مفوضيّة الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان في 25 يوليو/ تمّوز لعام 2022، والذي يفضح المجازر التي ارتكبتها دولة إفريقيا الوسطى بحَقِّ بعض الأقليّات، وقال بأنَّها كانت إبادة قرية بحالها واغتصاب النِّساء وحرق ما يقارب /547/ منزلاً، وفي نهاية الأمر خلص التقرير من قبل بعثة الأمم المتّحدة بالتوصيات، لماذا التوصيات بدل المحاكمة العلنيّة للمسؤولين عن تلك الجرائم؟ ورُبَّما كانت البداية مع ما يُدعى بعدالة المنتصر، فالحقيقة التي تَمَّ غضُّ النَّظر عنها مع نهاية الحرب العالميّة الثّانية في محاكم “نورنبرغ”، كانت الجرائم التي ارتكبها الجيش الأحمر بزعامة ستالين لا تَقُلُّ بشاعة عن الجرائم التي ارتكبها الجيش النّازي بزعامة هتلر، لكنَّها كانت “عدالة المنتصر”.
فالحقيقة التي يجب أن تُقال بأنَّ العالم تطوَّر وفق قانون القبيلة البدائيّة، فالقبيلة كانت تخضع لقوى عدد من الفرسان، هم من يتولّون إدارة شؤونها ويفرضون القانون الذي يرونه مناسباً، وكذلك الدّولة يتحكَّم فيها عدد من القادة أو الأحزاب ويفرضون القانون الذي يرونه مناسباً على أفراد ورعايا تلك الدّولة، ثُمَّ تطوَّر العالم القبليّ، فالعالم أضحى كقبيلة تُدارُ شؤونه وتُفرض قوانينه من قبل فرسان معدودين هم قادة الدّول العظمى.
القانون الدّوليّ العام:
نَستَشفُّ من خلال الكلمات التي تُعبِّر عن مصطلح القانون الدّوليّ ما يلي؛ فمجرّد ورود كلمة “قانون”، هذا يعني أنَّ هناك قواعد قانونيّة مُلزِمة، وتليها كلمة “دوليّ” والتي تبادر لأذهاننا بأنَّ تلك القواعد القانونيّة المُلزِمة؛ هي مُلزِمة لدول، أي أنَّ تلك القواعد أطرافها دول، وكلمة “عام”؛ تعني بأنَّ تلك القواعد القانونيّة المُلزِمة، مُلزِمة للدّول بدون استثناء على وجه الخصوص.
ما هي فروع القانون الدّوليّ؟
تعتبر فروع القانون الدّوليّ العام، هي جميع القوانين التي يمكن أن يكون أطرافها دول، كالقانون الدّوليّ العام، والقانون الدّوليّ الخاص، والقانون الدّوليّ الإنسانيّ، والقانون الدّوليّ الجنائيّ.
القانون الدّوليّ العام الإنسانيّ:
بدايةً؛ لا بُدَّ من إيضاح الفرق والملابسات بين القانون الدّوليّ الإنسانيّ والقانون الدّوليّ لحقوق الإنسان، كلاهما أطرافه دوليّة وحامية لأرواح وحقوق الإنسان وممتلكاته، ولكنَّ الفرق شاسع بينهما، فالقانون الدّوليّ الإنسانيّ عبارة عن مجموعة قواعد مكتوبة أو عُرفيّة مُتَّفَقٌ عليها بين المجتمع الدّوليّ، مُلزِمة للأطراف التي تخوض الحرب فقط؛ أي تُطبَّق بحَقِّ دول تكون في ظروف محدودة ومعيّنة وفي مكان محدود ومعيّن بالذّات وزمن معيّن، بينما القانون الدّوليّ لحقوق الإنسان مُلزِمٌ لجميع الأطراف الدّوليّة على مَرِّ الزَّمان وفي أيَّ مكان.
أنواع جرائم الحرب:
هناك نوعان من جرائم الحرب، فالأولى تُرتَكب من قبل جيش دولة ضُدَّ جيش أو مواطني دولة أخرى، وجرائم الحرب العدوانيّة، هي جرائم تُرتَكب من قبل الدّولة ضُدَّ رعاياها ومواطنيها.
والأمثلة كثيرة على النّوع الأول من الجرائم، كالجرائم التي ارتكبها هتلر وقادته في البلدان التي استحلّوها، كتعذيب الأسرى وإساءة معاملتهم أو إعدامهم، وكذلك الجرائم الموجَّهة ضُدَّ المدنيّين، كالاغتصاب والتعدّي على الممتلكات المدنيّة والتَّهجير القسريّ والإبادة الجماعيّة.
وأشهر من ارتكب النَّوع الثّاني من الجرائم ضُدَّ مواطني ورعايا دولته هو القائد العثمانيّ “أنور باشا” الذي ارتكب مجازر ضُدَّ الشَّعب الأرمنيّ الذي كان يُعتبَر من مواطني الإمبراطوريّة العثمانيّة.
من هم المحميّون بالقانون الدّوليّ الإنسانيّ؟
إنَّ الأشخاص المحميّون بموجب القانون الدّوليّ الإنسانيّ وكذلك ممتلكاتهم، معيّنون بالذّات، وتَمَّ ذكرهم في قواعد ذلك القانون الوارد في اتّفاقيّات جنيف الأربعة من عام 1864 لعام 1949 وبروتكولاتها، وهم كُلٌّ من:
1 – الجرحى والمرضى والمنكوبين: ورد ذكرهم في البروتوكول /1/ المادة /8/ من اتّفاقيّة جنيف، وهم الجرحى أو المرضى الذين يكونون في وضع صحيّ يجعلهم بحاجة للعناية الطبيّة بسبب جرح أو مرض أو أيّ خلل جسديّ أو ذهنيّ أو إعاقة، ولم يُفرّق القانون بين الأفراد سواءً كان الفرد عسكريّاً أو مدنيّاً، والشيء الجوهريّ في القاعدة القانونيّة هو الحاجة للعناية الطبيّة، والبند الوحيد الذي ميَّزت فيه القاعدة القانونيّة بين الأفراد من طرف الخصم هو منح الأفضليّة لتلقّي العناية الطبيّة إذا كان مستوجب العناية من طرف الخصم المقاتل، وعليه بذل قصارى الجهد والعناية اللّازمة في سبيل إنقاذ حياتهم.
2 – حماية أفراد الخدمات الطبيّة وواجباتها: يحمي القانون الإنسانيّ أفراد الطاقم الطبيّ والمنشآت التّابعة له، ومن حقّهم وضع إشارة الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر او إشارة الكريستال الحمراء على لباسهم أو على وسيلة نقلهم أو على المنشآت التّابعة لهم، ويتوجَّب على جميع الأطراف تحييدهم من العمليّات العسكريّة ومنحهم حُرّيّة التنقُّل حتّى في الجبهات القتاليّة؛ لإنقاذ الجرحى والمرضى ونقل المواد الطبيّة إلى المناطق المُحاصرة عسكريّاً.
ولكن الحقيقة يشوبها بعض الغموض ويلتبس الأمر على الأطراف المتحاربة، في حال استخدام الأطراف بعض وسائل النَّقل الطبيّة لنقل مُعدّات عسكريّة وجنود، وفي هذه الحالة يصعب الأمر على الطرف الآخر الالتزام بقواعد القانون الإنسانيّ، والحقيقة أنَّ احترام قواعد القانون الدّوليّ الإنسانيّ يتطلَّب إنسانيّة وهذا ما تفتقده الحرب، فمن الصَّعب أن نجد إنسانيّة لدى الأطراف المتحاربة، وأكثرهم يستخدم وسائل النَّقل العسكريّة ويتُمُّ تمويهها بشعار الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر أو الإشارة الكريستاليّة، وهذا ما يجعل الأمر في غاية الصعوبة في احترام الكوادر الطبيّة ومُعدّاتها.
3 – أسرى الحرب والمحتجزون: تَمَّ تشميلهم في اتّفاقيّة جنيف الثّالثة لعام 1929، وهم عناصر القوّات المُسلَّحة للأطراف المتحاربة والوحدات المدنيّة التي تقاتل معهم والذين يَتُمُّ أسرهم من قبل أحد الأطراف، وبالتّالي يفرض القانون الدّوليّ الإنسانيّ على الأطراف المحافظة على أرواح هؤلاء وسلامتهم ويمنع تعذيبهم، ويُلزِمُ الأطراف بتقديم العناية اللّازمة لهم.
4 – الأطفال: رُبَّما الأطفال هم أضعف فئة موجودة في ساحات الحروب والأكثر تضرُّراً من غيرهم بسبب البُنية الجسديّة لهم وضعف حيلتهم، فالقانون الدّوليّ الإنسانيّ منحهم الحماية ومنع المعارك في الأماكن التي يتواجد فيها الأطفال. ومن المؤسف أنَّ هذه القاعدة من القانون لا تُطبَّق ولا تُحتَرَم، ونحن نرى كُلَّ يوم عدد الضحايا من الأطفال التي تحصد الحروب أرواحهم، ففي حرب العراق كان عدد الأطفال القتلى /9/ آلاف طفل، وحسب الإحصائيّة المُقدَّمة من قبل “اليونيسيف”؛ فإنَّ نحو /120/ طفل يَتُمُّ قتلهم في اليوم الواحد بسبب الحروب. وقدَّمت الأمم المتّحدة إحصائيّة تشير إلى /315/ ألف طفل تَمَّ قتلهم ما بين عام 2005 و2022 وتشويه أكثر من /120/ ألف طفل واختطاف أكثر من /32500/ طفل و/16/ ألف هجمة استُهدِفت فيها المدارس والمستشفيات. وكما قالت المديرة التَّنفيذيّة لليونيسيف “أيُّ حرب هي بالنهاية حربٌ على الأطفال”، والحقيقة لا يوجد التزام بحماية الأطفال في الحروب، ولا توجد عقوبات رادعة لتلك الانتهاكات بحَقِّ الأطفال.
5 – المدنيّون: تَمَّ تشميلهم بشكل موسَّع في اتّفاقيّة جنيف الرّابعة لعام 1949 وممتلكاتهم، والحقيقة المدنيّون هم الأشخاص الذين لا يحملون السِّلاح ولا يقاتلون في صفوف القوّات العسكريّة. في الواقع؛ إنَّ تطبيق القانون الإنسانيّ وبنوده في الحروب يكاد أن يكون شبه مستحيلاً؛ كون الأطراف الدّوليّة لم تستطع أن تؤمِّن العقوبة الرّادعة لتلك المخالفات، ومعظم مرتكبي الجرائم ينفذون من قبضة العدالة، والبعض يُرجِعُ بتلك الصعوبة إلى صعوبة التمييز بين العسكريّين والمدنيّين في الحروب، فبعض العناصر العسكريّة تتخفّى في لباس مدنيّ وتقاتل، وهذا يجعل المدنيّين الحقيقيّين عُرضَةً للخطر، ويُضافُ إلى ذلك أنَّ بعض الأطراف العسكريّة تستخدم المدنيّين كدروعٍ بشريّةٍ وتحتمي بهم ما يجعلهم أهدافاً عسكريّة، وكذلك تُعتبَر جرائم حرب، تلك الجرائم التي ترتكبها الدّولة ضُدَّ مواطنيها.
6 – المفقودين في البحار: وتَمَّ تشميلهم في اتّفاقيّة جنيف الثّانية لعام 1907، ويُقصَد بهم الأشخاص الذين يتوهون في البحار من القوّات المُسلَّحة لأحد الأطراف، وإلى جانب ذلك؛ فإنَّ وسائل النَّقل البحريّ التي تعمل كفرق طبيّة في البحار أيضاً مَحميّة كزوارق الإنقاذ والسُّفن التي تعمل كمستشفيات طبيّة وكذلك الطائرات التي تعمل على نقل الغرقى أو الجرحى، ولا يجوز الاعتداء عليها، وكذلك السُّفن التي تكون طرفاً محايداً لأحد الدّول المُحايدة.
مفهوم جرائم الحرب:
جرائم الحرب؛ هي تلك الانتهاكات لقواعد القانون الدّوليّ الإنسانيّ المُتَّفَق عليها بين الشُّعوب بموجب الاتّفاقات الدّوليّة والبروتوكولات والأعراف، وهي التي تُحرِّمُ ارتكاب الجرائم في تلك الظروف التي حدَّدها القانون الدّوليّ الإنسانيّ في الحروب، ومرتكبها يُعتبَر مرتكباً لجريمة جنائيّة فرديّة. وأوَّلُ من تبنّى هذا القانون وطرحه هم الصينيّون من قبل القائد “صن تسو” في القرن الرّابع قبل الميلاد والتي وردت في مدوَّنته العسكريّة “فَنُّ الحرب” وكذلك الإغريق اعتبروا تلك المحظورات قانوناً مُلزِماً في المعارك الدّائرة بين الأطراف المتحاربة، وبموجب هذا القانون يَتُمُّ تحييد والحفاظ على أرواح المدنيّين والأطفال والجرحى والأسرى أثناء المعارك الدّائرة بين الأطراف المتحاربة.
تطوّر القانون الدّوليّ الإنسانيّ:
أوَّلُ ظهورٍ لجرائم الحرب بشكلها القانونيّ، ظهر في قانون “مانو” الهنديّ عام 200 ق.م، ثُمَّ تحوّل إلى القانون الرّومانيّ والقانون الأوروبيّ. وتعتبر محكمة “بيتر فون هاجنباخ” أوَّلَ محكمة أقيمت بحَقِّ مجرمي الحرب، وذلك في النمسا عام 1474 ميلاديّ من قبل الإمبراطوريّة الرّومانيّة، وطبَّقت بحَقِّ المُجرِمِ عقوبة الموت بموجب الجرائم التي ارتكبها.
وتحوَّل القانون الدّوليّ وجرائم الحرب إلى واقع رسميِّ في محاكم “نورنبرغ” في ألمانيا، والتي تَمَّ بموجبها محاكمة القادة النّازيّين تحت أمرة هتلر وأقيمت المحكمة في مدينة “نورنبرغ” بألمانيا عام 1945 على مدار عام كامل، تَمَّ الحكم فيها على /24/ قائداً نازيّاً بجرم ارتكاب جرائم حرب ضُدَّ الإنسانيّة، ومعظم التُّهم التي وُجِّهت للمتَّهمين كانت تتضمَّن جرائم الحرب وجرائم ضُدَّ الإنسانيّة في الإبادة الجماعيّة، وطُبِّقَ قانون التدرُّج بفرض العقوبات التي تتراوح ما بين الإعدام والسِّجن مدى الحياة، والسِّجن لمدد متفاوتة حسب الجرم المرتكب من قبل المسؤول في تلك الحرب.
ماذا يترتَّب على مخالفة قواعد القانون الإنسانيّ؟
كُلُّ من يخالف قواعد القانون الإنسانيّ يُعتبَر مرتكباً لجريمة جنائيّة دوليّة ويُعرِّضُ نفسه بشكل شخصيّ للمساءلة عن تلك الجريمة والملاحقة الدّوليّة.
وفي الحقيقة لو تمعّنا في قواعد القانون الإنسانيّ؛ فلن نجد عقوبات وفق القواعد النّاظمة والمعمول بها، ورُبَّما يعود السبب إلى اعتبار جميع الجرائم الواردة في النّصوص تَمَّ توصيفها على أنَّها جرائم جنائيّة الوَصفِ، ولكن هناك مبدأ معمول به في المحاكم المختصَّة بتلك الجرائم، وهو التَّناسب بين العقوبة والجريمة المرتكبة من قبل الشَّخص، ورُبَّما أراد المُشرِّعُ من ذلك المبدأ النَّظر في أسباب ودوافع الجريمة، فكُلُّنا يعرف بأنَّ بعض العناصر العسكريّة تخضع لأوامر قياداتها، ورُبَّما عدم امتثالها وتنفيذها للأوامر العسكريّة قد يُعرِّضُ حياتها للخطر، لذلك نجد أنَّ المحاكم أعطت للقضاة حَقَّ التدرُّج في العقوبة، أي يجب أن تتناسب العقوبات مع خطورة الجريمة المُرتَكبة.
وما لا شَكَّ فيه أنَّ القانون أخذ بالحسبان التَّفرقة بين الدّولة المُعتدية والدّولة المُعتدى عليها، ومنح حَقَّ الدِّفاع عن النَّفس ضُدَّ أيّ اعتداء أو هجوم خارجيّ، ويجب أن يتناسب الرَدُّ مع الوسيلة المستخدمة من قبل المهاجم أو المُعتدي، وهذا ما يُدعى بمبدأ التَّناسب في استخدام القوى، وهو مبدأ مُعترف به على شكل قاعدة عُرفيّة في القانون الإنسانيّ، وتَمَّ العمل بهذا المبدأ من قبل المحكمة الجنائيّة الدّوليّة وطُبِّقَ في بداية عام 1998. ويلزم المبدأ المعمول به بعدم استخدام القوى المُفرطة التي تؤدّي إلى خسائر مدنيّة يعلم بها القادة العسكريّون الذين يقودون تنفيذ الهجوم، والحذر من الهجوم العشوائيّ الذي يَفتقد للحيطة والحذر من عدم تعرُّضِ المدنيّين للخطر.
ما هي المحكمة المختصَّة بجرائم الحرب؟
سابقاً وقبل ظهور وتشكيل محكمة الجنايات الدّوليّة عام 2002، كانت هناك محاكم استثنائيّة تُشكَّلُ بشكل طارئ، وهي محاكم عسكريّة دوليّة تشترك في تشكيلها بعض الدّول، وبعض المحاكم تُشكَّلُ بشكل وطنيّ على مستوى الدّولة الواحدة. وتعمل المحاكم العسكريّة الدّوليّة بموجب معاهدات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها، وتكاد لا تختلف الإجراءات المُتَّبعة في المحاكم العسكريّة الاستثنائيّة الدّوليّة لمجرمي الحرب عن إجراءات المحاكم الوطنيّة، ففيها يَتُمُّ توجيه التُّهم من قبل النّائب العام، تتضمَّنُ الوثائق والأدلَّة والشُّهود، ومن حَقِّ المُدَّعى عليه الدِّفاع عن نفسه أو توكيل من يدافع عنه.
ميثاق روما ومحكمة الجنايات الدّوليّة:
بتاريخ 17يوليو/ تمّوز من عام 1988، عُقِدَ مؤتمر دبلوماسيّ بين عدد من الدّول على إثر المحاكم التي عقدت لمجرمي بعض الدّول كمجرمي الحرب في يوغسلافيا السّابقة ورواندا، وتَمَّ تقديم مُسَوَّدة من قبل لجنة مختصَّة تطالب بإنشاء محكمة خاصَّةٍ وثابتة بمجرمي الحرب، وتَمَّ تقديم المُسَوَّدَة للجمعيّة العامَّة للأمم المتّحدة، وبموجب تلك اللّجنة تَمَّ صياغة قواعد وإجراءات محكمة الجنايات الدّوليّة, وفي عام 1998 جرى التَّصويت على المُسَوَّدَة التي حصلت على /120/ صوتاً مقابل صوت /7/ دول رافضة للمُسَوَّدَة، وهي كُلٌّ من “الولايات المتّحدة الأمريكيّة، الصين، إسرائيل، العراق، قطر، ليبيا واليمن”.
وفي عام 2002 جرى التَّوقيع والتَّصديق على الميثاق من قبل /60/ دولة، وتحوَّلَ لميثاق مُلزِمٍ لتشكيل محكمة الجنايات الدّوليّة. وفي 11 إبريل/ نيسان من نفس العام، بلغ عدد الدّول الموقِّعة والمُصدِّقة على ميثاق روما /66/ دولة، وبعدها تَمَّ تشكيل المحكمة بتاريخ 1 يوليو/ تمّوز عام 2002، وتضمَّن ميثاق المحكمة على الجرائم التّالية التي وردت في الميثاق المُسمّى بـ”ميثاق روما” وهو الاختصاص الذي يقود عمل المحكمة.
وتختصُّ محكمة الجنايات الدّوليّة بالجرائم التّالية:
1 – جريمة الإبادة الجماعيّة:
وهي أيّ عمل أو فعل يَتُمُّ ارتكابه بقصد القضاء أو إهلاك جماعة عرقيّة بِحَدِّ ذاتها على المستوى الدّينيّ أو القوميّ أو العرقيّ أو الإثني، سواءً كان ذلك الفعل يؤدّي إلى هلاكٍ جزئيٍّ أو كُلّيٍّ، ويشمل ذلك الفعل إلحاق ضرر بالجماعة، سواءً كان ضرراً جسديّاً أو عقليّاً أو نفسيّاً.
2 – جرائم ضُدَّ الإنسانيّة:
وهي أيُّ هجوم منسَّق ضُدَّ مجموعة من السُكّان المدنيّين، كالقتل والإبادة أو السِّجن أو الاستعباد وحجز الحُرّيّة أو التَّعذيب الجسديّ والاغتصاب الجنسيّ أو الحمل القسريّ أو البغاء القسريّ أو العقم القسريّ، والتَّعذيب الجسديّ أو النَّفسي يشمل أيضاً اضطّهاد أيَّ جماعة لأسباب دينيّة أو ثقافيّة أو عرقيّة، وتَمَّ إيراد أمثلة في ميثاق روما، وهي ليست على سبيل الحصر:
أ – القتل العمد، ب – الإبادة، ج – الاسترقاق، د – التَّهجير القسريّ.
3 – جرائمُ الحربِ:
وهي الجرائم التي يَتُمُّ ارتكابها مخالفة لاتّفاقيّات جنيف الأربعة، وتشمل الاعتداء العسكريّ على المدنيّين والتَّعذيب والاعتداء على أملاك المدنيّين، أو القيام بأفعال تدفع المدنيّين للنُّزوح والتَّهجير بغاية الاستيلاء على ممتلكاتهم، ومهاجمة المدن والقرى، أو شَنُّ هجماتٍ متعمَّدةٍ على المقرّات الإنسانيّة التي يُعزَل فيها الأسرى، أو إساءة معاملة الأسرى، أو إخضاع الأشخاص المنتمين للطرف المواجه للتشويه البدنيّ أو إجراء التَّجارب الطُبيّة عليهم، أو إجبار رعايا أو مواطني الدّولة المعادية على شَنِّ أو الاشتراك بهجمات عسكريّة ضُدَّ بلادهم، أو استخدام المدنيّين كدروعٍ بشريّةٍ، أو استخدام الأطفال دون الخامسة عشرة من أعمارهم في العمليّات العسكريّة، وهي تشمل جميع الأطراف، أو استخدام الغازات السامّة في الحرب، أو استخدام الرَّصاص المتفجِّر او المتسِّطح.
4 – جريمةُ العُدوانِ:
حسب التَّعريف المُتَّفَق عليه من قبل الجمعيّة العامَّة للأمم المتّحدة؛ هي شَنُّ دولة ما اعتداءً ضُدَّ دولة أخرى بشكل غير مُبرَّر له والغاية منه هو الاحتلال. ولكن لو تمعّنا في معاهدات جنيف والتي وردت سابقاً؛ لوجدنا أنَّ حرب العدوان هي قيام دولة ما بارتكاب مجازر بحَقِّ مواطنيها أو رعاياها، لكن ميثاق روما تجنَّبَ ذكر ذلك، ورُبَّما لحساسيّة الموقف من قبل معظم الدّول المُصدِّقَة على ميثاق روما، لأنَّ أغلب الدّول ترتكب القتل الجماعيّ بحَقِّ مواطنيها بدوافع سياسيّة أو اجتماعيّة.
بلغ عدد الدّول المُصدِّقة على ميثاق روما الخاص بمحكمة الجنايات الدّوليّة حتّى الآن /104/ دولة، وعدد الدّول المُوقِّعة على الميثاق /35/ دولة.
ما الفرق بين التَّصديق والتَّوقيع حسب القانون الدّوليّ؟
التَّوقيع هو قبول الاتّفاق أو المعاهدة بشكل جزئيّ والالتزام بها بشكل جزئيّ، والتَّوقيع غير مُلزِم للطرف الموقِّع. أمّا التَّصديق هو القبول التّام بمضمون الاتّفاقيّة أو المعاهدة بدون التحفُّظ على أيِّ بندٍ من بنودها.
الاختصاصُ الزّمانيُّ للمحكمةِ:
لا يُطبَّق قانون محكمة الجنايات الدّوليّة بشكل رجعيٍّ على الجرائم التي تَمَّ ارتكابها قبل تاريخ الإعلان عنها بشكل رسميٍّ عند بدء عمل المحكمة ودخول قانون روما حَيّزَ التَّنفيذ وهو تاريخ 1 يوليو/ تمّوز عام 2002.
الاختصاصُ المكانيُّ للمحكمة:
تَختَصُّ المحكمة بجميع الجرائم التي تُعتبَر من ضمن اختصاصها بموجب قانون روما، والتي تقع على أراضي أيِّ دولة من الدّول المُصدِّقة على قانون روما، والجدير بالذِّكر أنَّ محكمة الجنايات الدّوليّة تتخلّى عن اختصاصها للمحاكم الدّاخليّة لأيِّ دولةٍ مُصدِّقَةٍ على القانون، وترى تلك المحكمة الداخلية للدَّولة بأنَّها قادرة على القيام بمهامها.
كيفَ تُلاحِقُ المحكمة المُتَّهمين أمامها؟
لا تملك المحكمة أيَّ قوى عسكريّة أو مدنيّة لملاحقة المُتَّهمين أمامها، أو تنفيذ أحكامها، فلا بُدَّ لها من الاعتماد على القوى التَّنفيذيّة للأحكام في الدّول المعنيّة، وهذا بِحَدِّ ذاته يعتبر قصوراً في توقيف أو تنفيذ المُذكَّرات التي تصدرها المحكمة بحَقِّ المطلوبين من قبلها.
أجهزة المحكمة:
تتألّفُ المحكمة من عدد من الأجهزة والدّوائر، وهي:
1 – هيئة رئاسة المحكمة.
2 – دائرة كُتّاب المحكمة.
3 – مكتب المُدَّعي العام وموظَّفيه.
4 – هيئات التدرّج في الأحكام، وتشمل:
أ – الشُّعبّة التَّمهيديّة للدّعوى وتجهيزها.
ب – الشُّعبَة الابتدائيّة.
ج – الشُّعبَة الاستئنافيّة.
الإجراءات القانونيّة أمام محكمة الجنايات الدّوليّة:
تضع المحكمة يدها على الدَّعوى في حال تَمَّ إحالة ملّف الدَّعوى من قبل مجلس الأمن، أو من قبل دولة مُصدِّقة على قانون المحكمة، ولا بُدَّ من إجراءات أوَّليّة لبدء التَّحقيق في القضيّة، ويتوقَّف ذلك على موافقة نسبة من القضاة الأعضاء في هيئة المحكمة، ومن حَقِّ المُدَّعي العام أيضاً في المحكمة مباشَرَةُ إجراءات التَّحقيق من ذات نفسه بناءً على الأخبار أو السماع. ومن حَقِّ المُدَّعي العام التَّنازل بحَقِّ التَّحقيق للنّائب العام في الدّولة المطلوب التَّحقيق على أرضها مع العناصر المُتَّهمة، ومن حَقِّهِ الرُّجوع عن التَّنازل خلال مُدَّةٍ أقصاها سِتَّةُ أشهر في حال التمس عجز النّائب العام في تلك الدّولة من القيام بإجراءات التَّحقيق بنزاهة وجدارة.
ويَحُقُّ لمواطني الدّولة التي وقعت فيها الجريمة بشكل فرديٍّ أو جماعيٍّ، التقدَّم بالشَّكوى لدى النّائب العام للمحكمة، وكذلك من حَقِّ الجمعيّات المحلّيّة أو الدّوليّة الرّاعية لحقوق الإنسان أن تتقدَّم بالشَّكوى.
تصدر المحكمة مُذكَّرة توقيف بحَقِّ المُتَّهم، تتوجَّهُ بها للدَّولة التي يقيم فيها الشَّخص المطلوب، وفي حال توقيفه يَتُمُّ إحضاره إلى مقرِّ المحكمة في “لاهاي”، لِيُتاح له حَقُّ الدِّفاع عن نفسه، وفي حال صدور الحكم يَتُمُّ ترحيل المحكوم إلى البلد الذي يتعهَّدُ بتنفيذ العقوبة وفق المعايير الدّاخليّة لرعاية المساجين في تلك الدّولة. والجدير بالقول إنَّه لم تعد هناك أحكام إعدام في ميثاق وقوانين محكمة الجنايات الدّوليّة وأشَدُّ عقوبة هي السِّجن مدى الحياة.
تمويلُ محكمة الجنايات الدّوليّة:
يَتُمُّ تمويل المحكمة من عدد من المصادر، أوَّلُها تقديم المعونة من قبل الدّولة العضو وفق ما تتحمَّله من نِسَبِ الدَّعم المقدَّمة للأمم المتّحدة، وأيضاً من موارد المحكمة التي تتقاضاها من الدّول الشّاكية، وأيضاً من مصادرة أموال المحكومين التي حصلوا عليها جرّاء ارتكابهم للجرائم.
ولا تأخذ المحكمة بالحُسبان الحصانة التي يتمتَّع بها المُتَّهم، سواءً كانت حصانةً دبلوماسيّةً أو حصانةً برلمانيّةً مُنِحَتْ له من قبل دولته الأم.
أمّا بخصوص قانون التَّقادم، لا يسري قانون التَّقادم على الجرائم المرتَكبة بحَقِّ الإنسانيّة، وذلك كما ورد ضمن اتّفاقيّة الأمم المتّحدة.
والسّؤال الذي لا بُدَّ من الجواب عليه:
لماذا رفضت الولايات المتّحدة الأمريكيّة المصادقة على ميثاق محكمة الجنايات الدّوليّة، بالرُّغم من توقيع الرَّئيس الأمريكيّ بيل كلنتون على الميثاق؟
الحقيقة الجواب على هذا السؤال يعود بنا إلى المُقدّمة، بالرَّغم من توقيع الرَّئيس بيل كلنتون على الميثاق، لكنَّ الكونغرس الأمريكيّ لم يصادق على الميثاق، والحجج كانت عبارة عن حجج واهية، فالولايات المتّحدة الأمريكيّة، كُلّنا يعلم بأنَّها تعتبر ذاتها الرّاعي الأوَّل وشرطيَّ العالم بخصوص حقوق الإنسان، لكنَّها تقدِّم عدداً من الحجج غير المقنعة، منها بأنَّ الجنود الأمريكيّين يجب أن يتمتَّعوا بحصانة من قبل محكمة الجنايات الدّوليّة، كونهم ينقذون ويرعون القانون الدّوليّ، وهذا ما يجعلهم عُرضة للدَّعاوى ذات المضمون السِّياسيّ. وهدَّدَ الرَّئيس بوش بسحب القوّات الأمريكيّة من الأمم المتّحدة في حال لم يُمنَح الجنود الأمريكيّين الحصانة من قبل محكمة الجنايات الدّوليّة، ما دفع بقيّة الدّول على الموافقة بمنح الحصانة، وتَمَّ الاتّفاق على منح الحصانة للجنود الأمريكيّين لمُدَّةِ عام من قبل الأمم المتّحدة قابلة للتَّجديد، ولكنَّ الأمين العام للأمم المتّحدة حينها “كوفي عنان” رفض تجديد الحصانة عام 2004 بعد انتشار صور للجنود الأمريكيّين تؤكّدُ على تعذيبهم لمساجين عراقيّين والاعتداء عليهم، وهذا ما أضعف موقف المحكمة وقراراتها.
والجدير بالذِّكر أنَّ الدّولة العربية الوحيدة التي صادقت على ميثاق روما الخاص بمحكمة الجنايات الدّوليّة هي المملكة الأردنيّة.
تلك كانت لمحمة موجزة عن محكمة الجنايات الدّوليّة التي تنشد العدالة الدّوليّة التي غالباً ما توصف بالعرجاء، ورُبَّما هي تمثِّلُ “عدالة المنتصر”، وكُلّنا قرأنا ما قاله أحد الجنرالات الألمان لرئيس محكمة “نورنبرغ”، حين قال له: “فلتعلم يا سيديّ.. لو كانت ألمانيا هي المنتصرة في هذه الحرب، لكنت أنا الجالس فوق مقعدك هذا”.
فالحقيقة يجب أن تقال مهما كانت مُرَّةً، فكشف الحقيقة يضعها في الميزان، ورُبَّما يأتي جيل جديد قادر على إرشاد العدالة إلى مسارها الحقيقيّ.