تأثير الجغرافيا على السياسة (الجيوبولتيك،الأنهار والقيمة المائية)
محمد فكري إسماعيل
قبل الخوض في الحديث عن الجيوبوليتيك ودورها في رسم السياسات الدولية والتأثير فيها، لابد لنا أولاً من تعريف هذا المصطلح, فمن الناحية الأبستمولوجية “الجيوبولتيكا” مكوّن من شقّين “جيو” وتعني الجغرافيا، و”بوليتيك “وتعني السياسة, مما يوحي لنا بوجود علاقة بين الأرض أو الجغرافيا مع السياسة، ومنه فالجيوسياسية أو الجيوبوليتيك هي علم دراسة تأثير الأرض على السياسة في مقابل مسعى السياسة للاستفادة من هذه المميزات وفق منظور مستقبلي أي (علاقة تأثّر و تأثير).
و هناك من يصفها ”بعلم سياسة الأرض” بمعنى العلم الذي يُعنى بدراسة تأثير السلوك السياسي في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة، مما يستحضر في أذهاننا أن هناك فاعل يمارس علاقة قوة في إطار جغرافي معين, وعليه يمكننا القول بأنّ علم الجيوبوليتيك في أبسط معانيه هو العلم الذي يقودنا إلى دراسة كيفية استخدام الجغرافيا كمصدر قوة للتعبير عن المواقف السياسية.
لقد تعددت استخدامات الجيوبوليتيك ولعلَّ سبب هذا الاختلافات والتعدد يعود إلى عاملين أساسيين: أولهما، تعدد الاتجاهات النظرية، وثانيهما اختلاف الزمن والأحداث الدولية, فالفرق بين الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك أن الجغرافيا السياسية تأتي بالاعتراف بالحدود السياسية القائمة بين الدول, ومن حق الدول ممارسة سيادتها على كامل أراضيها داخل حدودها.
وتتميز الجيوبوليتيك:
ـ بالموضوعية والشمولية وتنظر للعالم ككل واحد متماسك, ,تهدف إلى سيادة السلم والأمن بين الدول.
ـ الجيوبوليتيك لا تعترف بحدود ثابتة بل تنظر للدولة على إنها كائن عضوي حيوي متغير، ومن حق الدولة البحث عن عناصر القوة والسيادة خارج حدودها.
ـ تدرس تأثير السلوك السياسي في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة.
ـ تدرس البحث عن الاحتياجات التي تتطلبها هذه الدولة للنمو حتى ولو كانت وراء الحدودـ
ـ تهتم باحتياجات الدولة من المساحات الجغرافية من الأرض خارج حدودها، التي تزيد من قوتها.
ـ تهتم بتخيّل الكيفية التي ستكون عليها قوة الدولة في حال تحقيق أهدافها خارج حدودها.
الحدود الدولية والتوازنات السياسية الدولية
إن تعريف الحدود وأقاليم الحدود أو التخوم أيًّا كان, تعقّد مسألة الحدود في الوقت الراهن, فإن مشكلة الحدود البرية قد أثارت وما زالت تثير كافة المشكلات المتضمنة في جوهر العلاقات السياسية بين الدول، كما أنها راسخة في الأذهان كافة، لدى المتخصصين وغير المتخصصين؛ لأنها تمثل الإطار الذي تمارس فيه الدولة سيادتها الفعلية، ذلك لأن الحدود البرية للدول هي الأماكن أو النقاط التي تلتقي فيها الدول وتحتك فيها كتل الناس وتتفرق فيها المصالح الاقتصادية بتوجيه الدولة، ولهذا أثارت الحدود البرية مشكلات كثيرة خاصة في تعريفها:
هل هي خط الحدود أم نطاق الحدود والتخوم؟ وقد كان فريدريك راتزل من أوائل الجغرافيين المحدثين الذين تناولوا مشكلة تعريف الحدود، ففي كتابه «الجغرافيا السياسية», ذكر راتزل عدة إيضاحات لهذه المشكلة، فهو يقول إن نطاق الحدود هو الحقيقة الواقعة، أما خط الحدود فليس سوى تجريد لهذا النطاق.
ويقول أيضًا: في مناطق الحدود يقع جزء كبير من ثقل التوازن السياسي, وفي مكان ثالث يؤكد أن نطاق الحدود هو المكان الذي يشير إلى نموّ أو تقلص الدول، ففي الدول القوية يظهر ارتباط وثيق بين نطاق الحدود وقلب الدولة، فإن أي ميل إلى ضعف هذا الارتباط يؤدي إلى ضعف الدولة وإلى خسارة جزء من أراضيها، وعلى الدول أن تسعى إلى الحصول على أقصر خطوط للحدود لأنها أقواها وأحسنها، وأن تقيم استحكامات عسكرية على طول مناطق الحدود، ويدعم هذا التدبير باتخاذ الجبال والأنهار مناطق للحدود.
الأنهار الدولية ودورها في الصراعات في مناطق الحدودية
لقد لعبت الأنهار دوراً كبيراً في الصراع في مناطق الحدود والجيوبولبتيكا, فالأنهار الدولية تمثل المثال الأفضل لهذا الصراع, والنهر الدولي هو ذلك النهر الذي يفصل بين إقليم دولتين أو أكثر، أي هو الذي تقع أجزاؤه في أقاليم أكثر من دولة “النهر المتتابع”، كنهر النيل، نهر الدانوب، نهر الفرات وغيرها. ويخضع النهر الدولي من حيث الملكية، أن تختص كل من الدول التي يجري فيها بملكية الجزء من النهر الواقع بين حدودها، وعليها أن تباشر فيه جميع أعمال السلطة العامة، ويشترط مراعاة الحقوق المماثلة للدول الأخرى التي تشاركها في النهر وعدم القيام بأعمال من شأنها الإضرار بهذه الحقوق، وذلك وفقاً لتنظيم الانتفاع بالنهر أو من حيث الملاحة فيه، وثانية من حيث استغلال مياهه في شؤون الزراعة والصناعة.
اهتم المجتمع الدولي في القرن العشرين بوضع أسس للتعامل مع الأنهار الدولية التي تمر عبر دول مختلفة في مجراها من منبعها إلى مصبّها, من أجل تحقيق المصالح المشتركة لتلك الدول, كما احتلت الأنهار في التاريخ العربي المعاصر أهميه خاصة في علاقات وسياسات الدول العربية بعضها البعض, أو مع إطراف دوليه أخرى, خاصة وأن الشرق الأوسط في أغلبه يمثّل مصبّات ومجاري عدد من الأنهار الدولية, حيث تقع منابعها في دول مجاورة كما هو الحال في نهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويمرّ بسوريا وينتهي بالعراق في شط العرب بعد أن يلتقي بنهر دجله جنوب العراق، وكذلك نهر النيل.
لقد برزت أولى الإشارات إلى مفهوم النهر الدولي في معاهدة باريس للسلام والتي عقدت بتاريخ 1814/5/30 حيث أوردت تعريفاً له على أساس أنه ذلك: (النهر الذي يفصل أو يخترق أقاليم دولتين أو أكثر).
ومن خلال التعريف السابق نجد أن المعاهدة مرتكزة على المعيار الجغرافي والسياسي على حد سواء, إلا أن هذه الفكرة لم تستمر, بل توالت بعد ذلك المحاولات الدولية لتحديد مفهوم النهر الدولي، حيث عقد مؤتمر فيينا عام 1815 والذي كان بمثابة حجر الأساس ولا سيما أنه وضع الأحكام العامة القابلة للتطبيق على كل الأنهار الدولية, حيث أجمعت الدول المشتركة فيه على ضرورة تنظيم الملاحة في الأنهار المشتركة بين أكثر من دولة, وذلك عن طريق الاتفاق المشترك فيما بين الدول المتشاطئة, كما أكد المؤتمر على حرية الملاحة, فضلاً عن أن هذا المؤتمر تم من خلاله تحديد مبادئ إدارة مياه نهر الراين ما بين الدول المتشاطئة.
واستمر الاهتمام الدولي بقضية المياه المشتركة، وفي القرن العشرين بدأ الاهتمام يتجه صوب التركيز على معايير أخرى غير الجغرافيا والسياسية, بل أضحى المعيار الاقتصادي للنهر يحتل مركز الصدارة بالاهتمام، وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من خلال بيان أستوكهولم لعام 1961، وتوصيات سالزبورغ لعام 1961، وقواعد هلسنكي لعام 1966، وإعلان ريو دي جانيرو لعام 1992، وتقرير لجنة القانون الدولي لعام 1994 وصولاً إلى اتفاقية استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية الصادرة عن الأمم المتحدة لعام 1997 والتي ورد فيها تحديد لمفهوم المجرى المائي وذلك من خلال الفقرة (أ) من المادة (2) حيث نصت على أن المجرى المائي عبارة عن: (شبكة من المياه السطحية والجوفية التي تشكل بحكم علاقتها الطبيعية ببعضها البعض كلاً واحداً, وتتدفق عادة صوب نقطة وصول مشتركة).
وقد حددت نفس المادة في الفقرة (ب) مفهوم المجرى المائي الدولي والمراد به “أي مجرى مائي تقع أجزاؤه في دول مختلفة”, أما مفهوم دولة المجرى المائي فإن المراد بها “الدولة التي يوجد في إقليمها جزء من مجرى مائي دولي أو مستودع للمياه الجوفية عابرة الحدود”.
من خلال ما تقدم نرى أن هذا التعريف قد استوعب المياه السطحية والجوفية على حد سواء، حيث أنها قد أدخلت الأخيرة (المياه الجوفية) في مفهوم المياه الدولية وذلك لكي ينسجم مع التطورات العلمية التي تؤكد وجود صلة ما بين المياه السطحية والجوفية، فضلاً عن أن هنالك مكامن مياه جوفية دولية مشتركة بين أكثر من دولة.
نهرا دجلة والفرات والحدود الدولية الجغرافية
ينبع نهرا دجلة والفرات من أعالي جبال طوروس، الفاصل الطبيعي بين مجتمعي بلاد ما بين النهرين والأناضول، ينحدر النهران باتجاه سوريا والعراق ثم يلتقيان في شط العرب.
إذا نظرنا لدجلة والفرات والروافد كمنظومة مائية واحدة, فمصادر المياه موزعة بنسبة 72% في تركيا و7.4% في إيران 20.6% في سوريا والعراق.
معدل تدفق المياه موسمي ويختلف من شهر الى شهر, فبعد فصل الشتاء تذوب الثلوج من أعالي طوروس وتنحدر مياهها بغزارة الى دجلة والفرات بين شهري آذار وأيار، ومن ثم تشحّ تدريجياً حتى شهر تشرين الأول قبل البدء بالتصاعد ثانية.
هذا التدفق الموسمي جعل دول النهر تبني السدود لتخزين المياه واستعمالها للري في موسمي الصيف والخريف الزراعيين ولتوليد الكهرباء.
السياسات التركية في استغلال نهري دجلة والفرات
فكرة استغلال مياه دجلة والفرات بدأت منذ أيام اتاتورك في العشرينات من القرن الماضي بعد أن رسمت معاهدة لوزان في 1923 الحدود السورية-العراقية مع تركيا وإيران, على منحدرات جبال طوروس وزاغروس بدل أعالي هذه الجبال، كما تُرسم الحدود الدولية عادة، مما أفقد سوريا والعراق السيطرة على دجلة والفرات وروافدهما وأصبحا تحت رحمة الدولة التركية وسياسات حكوماتها, وإلى حدّ ما إيران.
تدعي تركيا مبدأ استخدام المياه وفقاً لدراسات ميدانية لمشروعات الريّ في البلدان الثلاثة، وأن تعتمد هذه الدراسات على جدوى اقتصادية وفنية للمشروعات القائمة والمستقبلية، ووفقاً لمبدأ الاستعمال للاستخدام الأمثل للمياه، تركيا تعلن أن أراضيها خصبة وذات مردود اقتصادي أعلى كثيراً من مردود أراضي سوريا والعراق، وهذا يعني استثناء الأراضي السورية والعراقية من المشروعات الزراعية بحجة عدم خصوبة كثير منها والاعتماد على المشروعات الزراعية التركية، حيث تستطيع تركيا إنتاج محصولين أو ثلاثة سنوياً، لكن سوريا والعراق عارضتا الخطة التركية بدراسة جدوى اقتصادية لمشروعات قائمة, وتدعو إلى تحديد الأراضي القابلة للري، وكيف يمكن الاستغناء عن مشروعات مائية بلغت قيمتها مليارات الدولارات.
لقد نضجت فكرة استغلال النهرين في تركيا بعد تأسيس إدارة الدراسات الكهربائية التي قدمت دراسة سد كيبان الذي نفذ في العام 1974 على الفرات. هذه الدراسة تبعتها دراسات أوسع وأشمل بعد تأسيس “مشروع جنوب شرق الاناضول”(“غاب، GAP” كما يعرف عالمياً) الذي اقترح إنشاء 22 سداً و19 محطة توليد كهرباء لري 1.7 مليون هكتار وتوليد 7500 ميغاوات من الطاقة الكهربائية4. كلفة المشروع قدرت بـ (31) مليار دولار أميركي، وستحتاج الى حوالي 17 مليار م3 من مياه الفرات و8 مليار م3 من مياه دجلة, وستسبب نقصاً حاداً في دول المصبّ وخاصة العراق.
أهم هذه المشاريع التي شملها “غاب” هو سد أتاتورك على الفرات الذي يعتبر خامس أكبر سد في العالم، والذي انتهى العمل فيه في العام 1990. ويروي 872.4 ألف هكتار ويولد 2400 ميغاوات من الطاقة في تركيا. المشروع الآخر المهمّ هو منظومة مدي أليسو وجزرة على دجلة الذي سيخزن 10.4 مليار م” لتوليد 1200 ميغاوات من الطاقة والذي سيروي 121,000 هكتار من الأراضي الحدودية التركية بكلفة 1.68$ مليار.
بدا العمل بهذا المشروع في العام 2006 لكنه توقف في كانون الأول 2008 بعد اعتراض الجمعيات البيئية والاجتماعية وضغطها على حكوماتها الألمانية والنمساوية والسويسرية التي ألغت في تموز 2009 الضمادات لتمويل المشروع.
أهم أسباب الإلغاء هو تسبب بحيرة السد بفيضان قرية حسن كييف الأثرية وإجبار 10000 من السكان المحليين على هجرة منازلهم.
رغم وقف التمويل الخارجي فتركيا أصرت على إكمال المشروع وانتهى العمل بالمشروع وبدأ التخزين في تموز 2019 ووصل إلى 5 مليار م3 في نيسان 2020.
أمام هذا الواقع أصبحت الدولة التركية مسيطرة على أعظم مصدري مياه للمشرق السوري العراقي ومؤهلة لبسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على المنطقة.
في القانون الدولي :دعا مؤتمر(استعمال المياه الجارية الدولية لغير الملاحة) في 1994 إلى تقسيم المياه المشتركة بالتساوي والمنطق بين دول المصدر والمصبّ لضمان استمرارية النهر ومصالح الدول المتشاطئة.
العوامل التي يجب الأخذ بها بعين الاعتبار لضمان المساواة هي العوامل المناخية والإيكولوجية وحاجة البلدان الاجتماعية والاقتصادية والحاجات الإنسانية للسكان الذين يعتمدون على الحوض. كذلك دعت توصيات المؤتمر إلى عدم قيام أية دولة بأية مشاريع مائية تسبب الأذى بدول النهر الأخرى، وضرورة التشاور معها قبل بناء هذه المشاريع.
أقرت الجمعية العمومية للأمم المتحدة مسودة توصيات هذا المؤتمر في 1997 بالإجماع ما عدا ثلاث دول وهي (بوروندي وتركيا والصين) ولكن لم تصادق عليها إلا 21 دولة من مجموع 35 دولة يجب أن تصادق عليها لكي تدخل في إطار الاتفاقات الدولية.
في 17 آب 2014 وبعد انتظار دام 17 سنة صادقت الدولة الخامسة والثلاثون وهي فيتنام على الاتفاقية, وبذلك أصبحت الاتفاقية قيد العمل والتحكيم والمرجعية القانونية الدولية.
إن عدم التزام الحكومة التركية بالقانون الدولي ورفض هذا القانون الدولي دفعها لاتباعها إستراتيجية تتلخص بشعار “مياه تركيا لتركيا”، وباعتبار نهري دجلة والفرات “نهران وطنيان تركيان”.
جاء ذلك في عدة تصاريح ومواقف أهمها تصريح لرئيس الوزراء ترغود أوزال في العام 1988 حيث قال “ادعاء سوريا والعراق بحقوق في مياه تركيا (يقصد دجلة والفرات) هو شبيه بادعاء تركيا بحقوق في بترول سوريا والعراق, المياه أمر سيادي ويحق لنا أن نفعل ما نشاء فيها، فهي ثروة تركية كما هو البترول ثروة عربية ولن نسمح بمشاركتنا ثروتنا المائية ولا نريد مشاركتهم ثروتهم النفطية”.
هذا الموقف لم يتغير عملياً بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية ذي الميول الإسلامية الإخوانية إلا في الشكل.
فالمشاريع المائية سارت وتسير حسب خطة “غاب” المرسومة ومن دون أي تنسيق مع دول الجوار، بل تم تدشين مشروع سد “أليسو” العملاق على نهر دجلة في آب 2006 من قبل الرئيس التركي أردوغان, وأكمِل بناؤه بتمويل تركي، وبدأ التخزين في 2019.
المواقف كذلك لم تتغير في الجوهر, فعندما كانت العلاقات جيدة مع سوريا رفض وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي تائر يلديز، في اجتماع مسؤولي البلدان الثلاثة في 3 أيلول 2009 في أنقرة توقيع اتفاق شامل وملزم، ووافق فقط على زيادة مؤقتة لكمية مياه الفرات المتدفقة إلى سوريا إلى 520 م3 في الثانية لمدة شهرين، وادعى أن تركيا تعطي “أكثر من التزاماتها”.
الجدير بالذكر أن تركيا تاريخياً تقاسمت المياه المشتركة مع جيرانها الآخرين, فوقعت معاهدات مع روسيا في العام 1927 قسمت فيها استعمال المياه على أربعة أنهر مشتركة بين البلدين (كورو، كورا، آريا، آراس)، ومن ثم وقعت معاهدات أخرى في السبعينات من القرن المنصرم.
وكذلك تم توقيع عدة اتفاقيات مع اليونان في العام 1950 عندما وقع البلدان معاهدة لوزان.
مازالت السياسات المتعاقبة للحكومات التركية تتلاعب بالقوانين الدولية ولا تعطي بالاً لها, وتعتبر نهرَي دجلة والفرات “نهران عابران للحدود”, ولا يشكلان حدوداً فاصلة، فهم يعتبرونهما نهرين تركيين، ويرفضون توقيع أية معاهدة طويلة المدى تلزمهم بنسبة معينة من المياه.
هذه السياسة التركية نقضها مؤتمر “استعمال المياه الجارية الدولية لغير الملاحة” الذي صدقت على توصياته الأمم المتحدة في 2014 وهي توضح أنه “لا يوجد أي اختلاف جوهري حول مفهوم الأنهار الدولية والأنهار العابرة للحدود”.
الأهداف السياسية للحكومات التركية المتعاقبة
العقلية التركية وسعي الحكومات التركية المتعاقبة لإنشاء إمبراطورية طورانية تركية كبرى تمتد من الأناضول إلى آسيا الوسطى, وأجزاء من روسيا مروراً بكردستان وأرمينيا وشمالي سوريا والعراق والقوقاز، إضافة إلى مدّ نفوذها إلى كافة أرجاء العالم الإسلامي والعربي الشرق أوسطي، جعلها ترى في المياه وسيلة للسيطرة وابتزاز الشعوب والسيطرة على المقدرات وإجبار الدول على التنازل وتحقيق مطالب الدولة التركية.
إن الأسباب الرئيسية لتفاقم أزمة المياه بين دول حوض نهرَي الفرات ودجلة (تركيا – سوريا – العراق) وعدم التوصل لحلول عقلانية خلال أربعة عقود من الزمن يعود لربط أزمة المياه بملفات لا تمت بصلة للمياه, وبشكل خاص الملفات السياسية والأمنية, وتعتبر تركيا أزمة المياه وملف المياه كرة ضغط وسلاحاً تحارب به كلاً من سوريا والعراق والمنطقة بمجملها، وكذلك من أسباب تطور الأزمة عدم اعتراف تركيا بالصفة الدولية لنهر الفرات, بل تعدّه نهراً خاصاً بها عابراً لحدودها وهو ثروة قومية خاضعة لسيادتها مثل النفط العراقي, وكذلك رفضها التوقيع على اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997، فضلاً عن استمرار تركيا في إنشاء مشاريعها المائية على النهرين من دون مراعاة حقوق سوريا والعراق وحصصهما المائية.
المأخذ الأساسي على تركيا أنها تمتلك فائضاً مائياً يزيد عن حاجتها الأساسية في منطقة الأناضول مقابل عجز مائي تعاني منه كل من سوريا والعراق.
انعكاس المسألة المائية على العلاقات السورية التركية في تسلسل تاريخي شمل تسعينات القرن المنصرم, ففي عام 1987م وقعت معاهدة بين سوريا وتركيا كانت أول اتفاقية متعلقة بمسألة النزاع علي المياه, لكنها لاقت انتقاداً واسعاً بحجة أنها تضر بمصالحهم.
وفي عام 1992 أعلن ديميريل عند افتتاح سد أتاتورك أنه لا حق لسوريا والعراق في الأنهار المائية, وفي نفس الوقت بدأ مشروع تطوير جنوب الأناضول .GAP وهو عبارة عن 22 سداً و 19 مصنعاً لتوليد الطاقة الكهرومائية و 17 نظاماً للري.
وفي عام 1995 اتهمت سوريا تركيا بأن مياه نهر الفرات ملوثة إلى حد كبير, وتقدمت بالشكوى إلى الجامعة العربية واجتمعت دول مجلس التعاون الخليجي وصدر إعلان دمشق الذي تضمن انتقاداً واسعاً لأنقرة, وفي 1998 أعلن رئيس الأركان التركي أن بلاده في حالة حرب غير معلنة مع سوريا, وتم عقد اتفاق أضنة حتى بدأ التقارب بين البلدين.
التقاطعات التاريخية السياسية العسكرية تطول، لكن الفكرة الأساسية أن مسألة المياه ستكون ورقة بيد تركيا ضد دول الجوار، محاولة كسب دور سياسي في صناعة القرار الإقليمي في المنطقة، فتركيا تعتقد أنها تستطيع أن تخفف حدة التوتر بين دول الجوار وإسرائيل إذا قدمت عرضاً لحل مشكلة المياه، فإسرائيل تسيطر على نهر اليرموك ومرتفعات الجولان وحوض الأردن, مما يرفع حدة التوتر مع فلسطين والأردن وسوريا، لذلك قدمت أنقرة عرضاً بنقل مياه سيحان وجيحان باستخدام أنابيب كلفتها 5 بليون دولار، حظي هذا العرض بترحيب من إسرائيل وبرفض الدول الباقية.
الخاتمة :
لا يصح الاعتقاد بأن علاقات حسن الجوار بين دولتين أو أكثر يمكن لها أن تنشأ في ظل التوافق المذهبي أو القومي, أو في ظل استخدام الشعارات الدينية أو غير الدينية، وإنما تنشأ وتتعزز في ظل وجود رؤية متكاملة لكيفية مواجهة التحديات عبر تفهّم الطبقة السياسية الحاكمة لمجمل عناصر القوة والضعف في بناء دولتهم, وفي بناء الدول المجاورة. إن الأمن يعني التطور والتنمية، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية في ظل حماية مضمونة, وإن الأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها، لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في كافة المجالات سواء في الحاضر أو المستقبل.
المصادر والمراجع
- عدنان صافي، الجغرافيا السياسية بين الماضي والحاضر، عمان: مركز الكتاب الأكاديمي للنشر والتوزيع، 1999م
- محمد طيفوري، “الجيوبوليتيكا… علم البحث الدؤوب عن القوة”، جريدة العرب الاقتصادية الدولية، الرباط.
- عباسي عادل، “محاضرات مقياس التحليل الجيوسياسي”، سنة أولى ماستر تخصص دراسات متوسطية، جامعة عنابة، الجزائر، 2014.
- نبيل السمان، الصراع على مصادر المياه، دراسة منشورة، دمشق، ٢٠١٧م