نهب الممتلكات الثقافية في سوريا وواقع التعاون الدولي
ياسر شوحان
ياسر شوحان
تسعى معظم الدول في العالم إلى التصديق على الاتفاقيات ذات العلاقة والاهتمام بحماية الممتلكات الثقافية من الإتجار بها وحمايتها, وخصوصاً اتفاقية عام 1970[1] المتعلقة بالوسائل المستخدمة في منع استيراد أو تصدير أو نقل الممتلكات الثقافية أو ملكيتها بطرق غير مشروعة.
وحيث أن هذه الاتفاقية تُعدّ واحدة من النصوص القانونية المتعلقة بالإتجار غير المشروع؛ فإنها تطرح في مبادئها مبدأ الوقاية بكونه أمراً أساسياً بالإتجار غير المشروع, ومنها:
ـ إقامة قوائم جرد بشكل منتظم.
ـ تطبيق سياسات الرقابة وإنفاذ اعتمادات التجار.
ـ إبرام شهادات تصدير.
ـ تطبيق نظام العقوبات للمخالفات الإجرامية والإدارية.
ـ تنظيم الحملات المعلوماتية والتثقيفية.
وذلك فيما عدا عن مبدأ إعادة الممتلكات الثقافية /المادتان 7 و 13 من الاتفاقية/ وأحكام تنص على استرداد وإعادة الممتلكات، حيث تنص الفقرة (ب) “2” من المادة رقم 7 بخصوص القطع المدرجة في قوائم الجرد والمسروقة من متحف أو من أثر عام، ديني أو علماني، على أن تتعهّد الدول الأطراف في الاتفاقية باتخاذ التدابير المناسبة لمصادرة واسترداد وإعادة الممتلكات الثقافية المسروقة والمستوردة. وتنص المادة 13 على تحمّل الدول الأطراف على الصعيد الوطني مسؤولية استرداد الممتلكات، والتآزر فيما بينها بهذا الخصوص[2] وإيقاف تهريب الآثار أو التنقيب السري عنها والمتاجرة بها، كما وفّرت الحماية اللازمة للتراث الثقافي والتقاليد المرتبطة به، ويبدو ذلك واضحاً من خلال ازدياد أعداد الدول الأطراف الملتزمة بهذه الاتفاقية.
واقع التعاون الدولي والمنظمات العالمية في الحدّ من تهريب الآثار[3]
على الرغم من الكثير من نهب الممتلكات الثقافية السورية أو غيرها، إلّا أنّ العديد من الدول تحاول إثبات حُسن النوايا تجاه الآثار المسروقة, لا سيما من الشرق الأوسط، وتُعدّ القضايا التي نشطت في هذا الجانب من القضايا التي أثارت الكثير من النشاط التحقيقي والتي احتاجت للكثير من المتابعة. ويشير الباحث ساموئيل سويني إلى أن التعاون الدولي يُعدّ خطوة أولى لعملية استرداد القطع الأثرية، ومن ناحية ثانية التشديد على الموادّ المنقولة أو التي يتم عرضها للبيع من خلال المزادات العالمية.
وبالعودة إلى هذه القضايا التي أثمرت وبشكل جيد في استعادة ممتلكات أثرية منهوبة من المنطقة، حيث قضية “هوبي لوبي” التي بدأت في كانون الثاني سنة 2011 بطردٍ بريدي يحوي خمسين رُقيماً مسمارياً, حيث تم كشفها من خلال التباين بين التصريح الجمركي (بلاط مصنوع باليد في تركيا) مع تباين في قيمة الموجودات، وقد اكتشفت السلطات الأمريكية أن شركة هوبي لوبي هي إحدى الشركات الكبرى في أمريكا والتي تبيع موادّ للفنون والحِرَف، كما كانت تستورد قطعاً أثرية مهرّبة من العراق من تاجر إماراتي وتاجرين إسرائيليين الذين أعطوا الشركة أوراقاً مُزيّفة تقرّ بأن مصدر القطع إسرائيل, وأنه تم شراؤها بشكل قانوني في ستينيات القرن الماضي في الأسواق المحلية الإسرائيلية. إلا أنه وبعد إجراءات قانونية استغرقت أكثر من سبع سنوات (عام 2018) تم إرجاع القطع الأثرية إلى العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ودفعت الشركة غرامة ثلاثة ملايين دولاراً أمريكياً[4].
أما القضية الثانية والتي أُطلق عليها (قضية معبد أشمون) فقد بدأت في عام 1981 بعد أن سُرقت حوالي /600/ قطعة أثرية من مستودعات جبيل في لبنان, وقد ظلت معظم هذه القطع الأثرية مجهولة حتى عام 1996 عندما بدأت إحدى القطع المسروقة والتي تمثل رأس ثور بالظهور للعلن من خلال شرائها بسعر مليون ومئتي ألف دولاراً. وفي عام 2009 تم بيع هذه القطعة بقيمة مليون وخمسمئة ألف دولار. وبالعودة إلى أوراق وتسلسل ثبوتيات المشتريات تأكد شراؤها من جورج لطفي وهو لبناني الجنسية, بدون تصاريح جمركية ولا وثائق شحن ولا فواتير من المالكين المفترضين سابقاً، غير أنه من المفروض أن القطعة انتقلت بين عدة دول خلال هذه الفترة وكان يجب أن تكون لها أوراق رسمية. وفي عام 2017 أصدر القاضي في ولاية نيويورك حكماً لصالح الدولة اللبنانية وتم إرجاع رأس الثور الذي تمّ تهريبه من لبنان، وهو الآن معروض في المتحف الوطني ببيروت مع قطع منهوبة أخرى من معبد أشمون تم استردادها أيضاً[5].
القضية الثالثة هي المعروفة بقضية “موسى خولي”[6] حيث ظهر في أحد مواقع البيع رأس تمثال عراقي منهوب ومعروض من قبل موسى خولي الذي هاجر من سوريا إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1992 ويملك شركة اسمها ويندزور، وكانت عائلته تمتلك معرضاً للأنتيكات في دمشق, إلا أن هذا التمثال لم يكن إلا مدخلاً لقضية شملت في طيّاتها العديد من القطع الأثرية المهربة من سوريا والعراق ومصر, وكانت دولة الإمارات محوراً لعملية نقل أو تهريب للآثار إلى أمريكا، وقد تعامل موسى الخولي مع مجموعة من الأشخاص لتوريد الآثار إلى أمريكا مع قيامه بتزييف أوراق عن أصل القطع الأثرية، كما صرّح أن معظم هذه الآثار تم جمعها من قبل أبيه في إسرائيل في ستينيات القرن الماضي، وتم إرجاع القطع الأثرية المنهوبة من مصر إليها في عام 2015. ومن الجدير ذكره أن موسى خولي غيّر اسم شركته إلى Palmyra Heritage “معرض تراث تدمر”، وفي سنة 2016 وثّقت مدونة تتابع سوق الآثار أنه باع رأس تمثال يعود لمدينة تدمر مع أوراق جمركية تعود إلى إسرائيل وتبدو مزيفة، ولم يكن هناك متابعة من قبل أي سلطات قانونية[7].
وفي القضايا الثلاث كان التوثيق الدقيق للقطع الأثرية المفقودة أساسياً في كشف الجريمة وإثباتها، وفي معظم الأحيان تصدر المعلومات عن هذه المبيعات من أكاديميين لهم معرفة في الآثار وليس من السلطات، ولربما أن السلطات تستطيع أن تُجري تحقيقاً أو تلاحق المهربين ولكنها لا تمتلك الخبرات أو الموارد في آلية البحث عن المفقودات.
القائمة الحمراء
في الثامن عشر من تشرين الأول عام 2012 أطلق المجلس الدولي للمتاحف ICOM (International Council Of Museums) القائمة الحمراء الطارئة للممتلكات الثقافية السورية المعرّضة للخطر, وذلك بعد تصاعد الصراع السوري الذي أثّر بشكل كبير على مؤسسات التراث الثقافي, كما تُعتبر القائمة الحمراء أداة مرجعية في حماية التراث الثقافي السوري والمُعدّ من قبل فريق من المتخصصين.
وقد وضّح المجلس الدولي للمتاحف ICOM أن القوائم الحمراء هي عبارة عن أدوات بسيطة وفعّالة تُسهّل عمل الشرطة وموظفي الجمارك وجميع المهنيين الآخرين المعنيين بحماية الممتلكات الثقافية, من خلال تقديم المساعدة والخبرة على تحديد مئات الموادّ المعرضة بشكل خاص للشراء غير المشروع والصفقات والتصدير خلال فترة النزاع المسلّح، وبالإضافة إلى استمرار الأنشطة الإجرامية المتنوعة, فإن الإتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية يدعم التمويل الاحتيالي لمختلف الأطراف، ويُدمّر العناصر العلمية الأساسية الحاسمة لإعادة بناء المجتمع السوري، ويترك فجوات تاريخية تشوّه الأهمية والتفسير لتراث البلاد الثقافي.
وقد بيّنت القائمة أن التراث الحضاري السوري محميّ عبر مجموعة من القوانين المحلية السورية (المادة رقم 84 من القانون المدني لعام 1949 ـ المرسوم التشريعي رقم 148 من قانون العقوبات عام 1949 ـ المرسوم التشريعي رقم 222 لنظام الآثار عام 1999 ـ القانون رقم 38 لعام 2006 ـ المرسوم التشريعي رقم 107 لعام 2011) وكذلك من القوانين العالمية (اتفاقية لاهاي 1954 والمصادق عليها في عام 1958 ـ اتفاقيتا اليونسكو 1970 ـ 1972 المصادق عليهما في عام 1975).
كما بيّنت القائمة الحمراء أن هناك أصنافاً من الممتلكات الثقافية المهددة بالتهريب غير الشرعي خارج البلاد، حيث تشمل هذه القائمة سبع مجموعات رئيسة هي:
ـ الكتابات: وتضم الرُقُم الطينية أو اللوحات الحجرية والبرونزية التي تحمل نقوشاً وكتابات، بالإضافة إلى الكتب والمخطوطات الورقية.
ـ التماثيل والمنحوتات: وتضم التماثيل الطينية والمنحوتات الحجرية كالبازلت والجبس والألباستر، والخشبية والمعدنية مثل الذهب والفضة والمنحوتات النذرية والتماثيل الذكورية البرونزية, والمنحوتات العظمية والعاجية والمنحوتات النافرة والغائرة.
ـ الأواني: وتشمل جميع الأواني الفخارية والخزفية والمعدنية.
ـ عناصر معمارية: كالموزاييك وألواح الخزف (القاشاني) أو أسكفّات الأبواب والأعمدة الحجرية وبلاط الأرضيات والنقوش التأسيسية للمباني والمخاريط وماكيتات المباني (غالباً ما تعود لفترة الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد).
ـ إكسسوارات وأدوات: وتضم الأدوات المرصّعة والأسلحة والمصابيح والمجوهرات وموادّ الزينة النسائية والرجالية.
ـ الأختام المسطحة والأسطوانية: المصنوعة من الحجر أو الفخار.
ـ النقود والعملات: وتضم النقود المعدنية الرومانية والبيزنطية والإسلامية والهلنستية ونقود التوكن (رموز صغيرة مربعة الشكل وحيوانات أو أشياء)[8].
العلاقة بين النزاعات المُسلّحة وتجارة الآثار
من البديهي أن الفوضى والفلتان الأمني يرتبطان بشكل كبير بالصراعات لا سيما المسلّحة منها، كما يزيد النزاع العسكري فيما بين الأطراف المتقاتلة من فرص تعرّض الممتلكات الثقافية للنهب، وتسعى الأطراف المتصارعة إلى القيام بأعمال نهب الآثار كوسيلة لضمان الإيرادات المالية لتمويل الفصائل, فيما عدا عن أن نهب الآثار في المواقع الأثرية يجري بشكل يُظهر أن هذه المواقع وكأنها أملاك خاصة لأطراف الصراع بحكم أنها مُسيطرة عليها.
وفي الواقع فإن سوريا تصدّرت المشهد في نهب الممتلكات الثقافية في الدول التي عانت من الصراعات المسلحة كاليمن وليبيا والعراق، ومما لا شك فيه أن ارتفاع نسبة الإتجار بالآثار في سوريا كان قائماً على رواسب اجتماعية وسياسية واقتصادية مُتجذّرة سهّلت ظهور هذه الانتهاكات أو تجاوزها، إلا أنه ومن المؤكد أن هذه التجارة هي ذات غايتين، فهي إما لتأمين لقمة العيش نتيجة الفقر المدقع في مناطق الصراع، أو نتيجة الفلتان الأمني الذي أشرنا إليه سابقاً بغاية أن تكون هذه التجارة مصدراً لتمويل الفصائل المتصارعة.
ومما لا شك فيه أن تجارة الآثار شهدت نشاطاً كبيراً بعد سيطرة القوى المتطرفة على معظم المناطق في سوريا, وخصوصاً في منطقة وادي الفرات وشمال سوريا وشمال غربها، فيما عدا عن مناطق متفرقة من البادية السورية وشرق الفرات. كما تُشير الكثير من البحوث والدراسات إلى أن الهدف الرئيسي لعمليات التجارة يهدف إلى تمويل الأنشطة أو المنظمات الإرهابية.
وتُشير دراسات أخرى أيضاً إلى وجود مافيات لعائلات مُتورطة في تهريب الآثار من سوريا إلى تركيا، إذ ظهرت عائلات جديدة ذات نفوذ كبير خصوصاً في تأثيرها على الجماعات المسلحة تُشارك بشكل مباشر أو كميسّرين في أعمال التنقيب ونهب المواقع الأثرية والإتجار بالآثار، ومما لا شك فيه أن هناك العديد من الجماعات التابعة لهذه العائلات تقوم بعرقلة أي مبادرة تعمل على التأثير على مصالحهم, وهم بذلك أيضاً يستخدمون نفوذهم لدى الجماعات العسكرية المحلية والمجالس المدنية[9].
وبالطبع فإن التجارة بالآثار السورية عام 2011 كانت تجارة نشيطة جداً, إما من خلال أفراد مغامرين في التنقل مع ما يحملونه من مسروقات أثرية أو من خلال أفراد آخرين يتعاملون أو ينتمون بشكل آخر مع جهات أمنية أو سُلطة تؤمّن لهم الانتقال, وتُيسّر لهم العبور على الحدود مع دول الجوار، بالإضافة إلى تعامل عالٍ مع شخصيات أمنيّة سورية ولبنانية في التهريب والمتاجرة، ومن ثم وصول هذه القطع الأثرية إلى أيدي المُيسّرين أو السماسرة ليتم ترحيلها إلى خارج البلاد وفق طرق وآليات معيّنة.
وبعد تراجع السلطة الأمنية أو خروج معظم المناطق من سيطرة النظام السوري في نهاية عام 2012 نشطت عمليات الاعتداء على المواقع الأثرية، وبنسب مختلفة ومتفاوتة بشكل كبير, فيما عدا عن تحوّل العديد من المواقع الأثرية إلى ساحات للمعارك التي أدت إلى إلحاق الضرر بمبانٍ تاريخية وقلاع أثرية ومواقع موغلة في القِدم, نتيجة الاشتباكات العنيفة التي دارت فيها. وهنا لا بد من ذكر مثال عن هذه التجاوزات، حيث تذكر التقارير الخاصة بالمديرية العامة للآثار والمتاحف السورية أن أكثر من /700/ انتهاك وقع بحق المواقع الأثرية بدير الزور وحدها فيما بين نيسان 2011 ونيسان 2013 وتضمنت الاعتداءات على محيط المواقع الأثرية؛ تنقيبات سرية، سرقة منازل البعثات الأثرية، استخدام الآليات الثقيلة، تجريف مواقع أثرية، حفريات متفرقة[10]. فيما زادت التجاوزات والتعديات على الآثار عن ثلاثة آلاف تجاوز حتى نهاية عام 2015 في محافظة دير الزور وحدها، ثم أصبح من الصعب جداً حصر الأضرار والتجاوزات بعد هذا التاريخ بشكل فعلي[11].
ومما لا شك فيه أن جميع الأطراف المتصارعة قد قامت بشكل أو بآخر بالاعتداء على المواقع الأثرية, كأعمال التنقيب السري أو التخريب أو استخدام المواقع الأثرية كمناطق عسكرية، إلا أنه وبشكل واضح فإن الاعتداءات الصريحة وتفجير مبانٍ أثرية بدوافع عقائدية من قبل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كانت أكثر مأساوية من غيرها من الفصائل المسلحة.
شبكات تهريب الآثار في سوريا
تُعتبر الحوادث المتعلقة بإيقاف مهرّبي الآثار في سوريا أو في دول الجوار قليلة نسبياً بالمقارنة مع القضايا الأخرى، إلا أن تهريب الآثار ذات مردودٍ عالٍ جداً بالنسبة للمهرّب والشبكة التي تعمل معه، ويعمل المهرّب أو التاجر على الاحتفاظ بالقطع الأثرية التي بحوزته لشهور بغية بيعها بمبالغ كبيرة جداً، أو خوفاً من المتابعة الأمنية له آملاً أن تهدأ عملية البحث عن المفقودات أو الآثار التي تم تهريبها، كما لا يُعير المهرّب أي اهتمام لقيمة القطعة الأثرية من الناحية الفنية أو القيمة التاريخية مقابل السعر المرتفع لها, والتي لولا ارتفاع هذا السعر لما بدأت ظاهرة تزوير القطع الأثرية بالتنامي بشكل كبير, حيث يقوم المزوّرون ممن يملكون حسّاً فنياً عالياً أو موهبة بالاهتمام بالآثار وتصنيعها بإعداد نسخ مطابقة للأصل عن قطعٍ أثرية أصلية, ويتم تصنيعها في أماكن سرية، ومن ثم تُعرض هذه القطع المُقلّدة على أنها أثرية في عملية هي أقرب للنصب والاحتيال منها إلى المتاجرة بالآثار.
أما حول العرض والطلب فممّا لا شك فيه أنّ عملية عرض القطع الأثرية للبيع سواء في سوريا أو خارجها تتم بشكل سري كبير، فإمّا أن يقوم السمسار بدور الوسيط بين المالك والمشتري مع أخذ نسبة من الأرباح من الطرفين أو من طرف واحد (حسب الاتفاق)، وهنا يكون دور السمسار الذي يملك الكثير من المعارف والأصدقاء المهتمين بهذا المجال، كما يملك المهارة اللازمة بتسويق القطعة الأثرية, عدا عن أنه يسوِّق نفسه بأنه شخص يملك المصداقية والثقة لدى الكثير من الأطراف وأنه معروف بالنزاهة، ودوره لا يتعدى أنه (وسيط فقط)، بينما هو في الواقع صاحب الدور الأهم والفعّال في عملية البيع والشراء.
يقوم السمسار عادة بعرض القطع الأثرية على متخصّص لتقدير تاريخ وأهمية اللقى الأُثرية, أو مكان العثور عليها وفحصها بدقة والتأكد فيما إذا كانت قطعة أصلية أم مزوّرة, مع تقدير السعر التقريبي للقطعة الأثرية (عادة تكون هذه التفاصيل في رسالة صوتية لعرضها على الطرفين مع هامش من السعر الذي يحتفظ به السمسار في حال لم تتم الصفقة) حيث يأخذ أجرته من البائع لقاء عرضها وتقييمها، أما في حال اتفق الطرفان على البيع والشراء فإن السمسار يقوم بدور الراعي لعملية البيع، حيث يحاول إقناع المشتري بأن القطعة الأثرية ذات سعر جيد, وأن شراءها فرصة لا تقدّر بثمن، فيما يقوم بإقناع البائع بأن القطعة الأثرية متوفرة وبكثرة وهناك ما يشبهها في الأهمية والمضمون, وأن من مصلحته بيعها والبحث عن قطعة أخرى ذات مردود مالي أكبر، أو التخلص من مسؤولية حيازتها لئلا تقع أو يقع صاحبها بيد الشرطة.
أما على وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصاً فيسبوك فإن الأمر يبدو أسهل بكثير من الطريقة السابقة (البيع المباشر), حيث يتم عرض القطع الأُثرية أو المزوّرة على صفحات الأفراد أو من خلال مجموعات الفيسبوك التي تهتم بهذا الشأن، إذ يتابع المهتمّون ما يُنشر عليها لتبدأ بعدها سلسلة من الاتصالات عن طريق برنامج المسنجر, لعرض صور أكثر أو أدّق للقطع المعروضة مع العديد من التفاصيل حول الطرفين, والتي تتعلق بمنطقة وجود القطعة وآلية التسليم والاستلام, وكيفية تحويل المبالغ النقدية أو نقل القطعة إلى مناطق وجود المستلم .. الخ.
شبكة الطرق الرئيسة لتهريب الآثار
اعتمد مهربو الآثار في سورية على شبكة من الطرق تقود إلى دول الجوار[12] والتي يمكن أن نُطلق عليها “دول العبور” حيث تمر بها القطع الأثرية المهربة المتجهة نحو الخارج وهي تركيا ـ العراق ـ الأردن ـ لبنان. وكانت النتيجة أن النسبة الأكبر من القطع الأثرية تم تهريبها إلى تركيا والنسبة الأقل إلى الأردن. ومع ذلك فإن معظم الدراسات التي بحثت في هذا الموضوع لم تتطرق إطلاقاً إلى واحد من أهم طرق التهريب والتي لا تظهر الكثير عنه. وهو طريق التهريب إلى إسرائيل والذي قد يكون عن طريق المرور بالأردن.
هذه الطرق جميعها سهّلت على المهرّبين تصريف ما بحوزتهم من آثار، وعلى الرغم من اتّباع المهربين لطرق رئيسة ونظامية أحياناً من خلال الاتفاق مع قادة الفصائل العسكرية أو من خلال تهريبها بأنفسهم, باتباع طرق أكثر وعورة وخطورة وهي الدروب الجانبية, أو فيما بين الأحراش والبساتين، وقد تكون هذه الدروب سهّلت أيضاً العملية للمهرّبين من خلال ارتباطهم بعلاقات صداقة أو عمل في القرى الواقعة على طول طرق التهريب لتسهيل عملية إخفاء الآثار عند اللزوم, أو تركها لعدة أيام حتى يتسنى لهم نقلها إلى دول الجوار حسب الظروف المتاحة لذلك.
وحيث أن حركة النقل البينية مع دول الجوار قد تكون مراقبة بشكل مستمر ودقيق؛ إلا أن المهرّبين يعمدون لاتّباع أساليب كثيرة وخصوصاً بعد الترويج لها على صفحات التواصل الاجتماعي, وهي كثيرة وتظهر أساليب التهريب المدهشة، حيث رُصدت حالات كثيرة منها إخفاء قطع ذهبية صغيرة في علب المربيات أو العسل أو الزيت، أو قطع أثرية صغيرة في أكياس الفحم والبصل وعلب المناديل الورقية ومعاجين وسوائل التنظيف.
ومما لا شك فيه أنه وعلى الرغم من أن التهريب من داخل سوريا إلى خارجها هو الطريق الرئيس المتّبع عادة، إلّا أنه رُصدت بعض الحالات المعكوسة كتهريب قطع أثرية من العراق إلى سوريا, حيث القرى والبلدات القريبة من المعابر الحدودية مثل البوكمال، بالإضافة إلى نقطة العبور من لبنان إلى سوريا من خلال منطقة العريضة بالقرب من حمص. وتجدر الإشارة إلى أن عمليات التهريب المعكوسة تجري في معظمها بإشراف أشخاص متنفذين أو ممن لهم السلطة في النقل والحركة وعدم التفتيش، ويهدف التهريب المعكوس أساساً إلى عدم وجود الخبرة لدى المهرّبين خارج سوريا بتصريف ما بحوزتهم من قطع أثرية, عدا عن أنهم يحاولون الارتباط مع مهرّبين سوريين “محترفين” لنقل الآثار إلى خارج البلاد.
وعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة في طرق التهريب الفرعية المتّبعة من قبل المهرّبين، إلا أن هناك اتفاقاً كاملاً على أن المنطقة الأنشط في نقاط التهريب ونهب الآثار من المواقع, هو الخط من شرق إدلب ثم إلى جنوب حلب وشرقها نزولاً إلى الرقة باتجاه الجنوب الشرقي مع محاذاة نهر الفرات، ثم صعوداً إلى الطريق الدولي (M4) وحتى مدينة القامشلي، كما تشكل البلدات والقرى الحدودية السورية ـ التركية أهمية كبيرة للمهرّبين, لا سيما إذا كانوا من أبناء هذه المناطق، أو على دراية بحركة المعابر الحدودية أو النقاط التي لا تخضع لرقابة كبيرة ، كما يتضح أن هذه المنطقة هي الأنشط فعلياً خلال فترة الأزمة, بالإضافة إلى الاستناد على نتائج البحث ولا سيما صفحات الفيسبوك.
أمّا عن الطرق فمن المحتمل أنّ هناك الكثير من الطرق التي يتّبعها المهرّبون باعتبارها طرقاً “آمنة” على حدّ قولهم أو “مُؤمّنة” من خلال مراقبين محليين مدنيين، أو طريق تهريب “مفتوح” عند الاتفاق مع النقاط العسكرية مع حصول الأخيرة على نسبة من أعمال التهريب أو أجور محددة، ومع ذلك فإنه وعلى الرغم من الاهتمام بكل ما يتعلق بهذا المجال في سوريا والعراق, إلا أن اهتمامنا بالتفاصيل كان أكثر في شمال وشرق سوريا، حيث تظهر حزمة الطرق التالية:
1 ـ من أطمة وسرمدا في شمال إدلب ـ الريحانية ومنها إلى أنطاكية ثم أضنة.
2 ـ من منطقة شمال حلب ومحيط منبج واعزاز[13] ـ باب السلام ـ كلّس ومنها إلى غازي عينتاب.
3 ـ من حلب ـ منبج ـ جرابلس ـ براجيك ـ أورفا. أو من حلب ـ منبج ـ عين العرب (كوباني) ومنها إلى أورفا.
4 ـ من دير الزور ـ الرقة ـ تل أبيض ومنها إلى أورفا.
5 ـ من دير الزور ـ الشدادي ـ الحسكة ـ رأس العين ـ أورفا (لم يتم سلك هذا الطريق كثيراً)[14].
6 ـ من إدلب ـ سرمدا ـ أنطاكية ـ غازي عينتاب أو مرسين ومدن جنوب غرب تركيا.
7 ـ من دير الزور ـ الحسكة ـ القامشلي ـ نصيبين ـ ماردين (لم يتم سلك هذا الطريق كثيراً، وبشكل قليل جداً حتى قبل عام 2013)[15].
8 ـ دير الزور (طريق الجزيرة) ـ جزرة ميلاج ـ الرقة ـ دوار الفروسية ـ المحمودلي ـ تل عثمان ـ سد تشرين ـ أبو قلقل ـ بزاعة ـ الباب ـ اعزاز ـ مريمين ـ عفرين ـ سرمدا ـ الريحانية . ومنها إلى تركيا.
9 ـ دير الزور (طريق الجزيرة) ـ جزرة ميلاج ـ معمل القرميد ـ المشلب ـ العبّارة ـ خْنيزير ومنطقة (أبو شارب ـ الكالطة ـ الغازلي ـ مفرق تل تمر الحسكة الرقة ـ البيضاء ـ الشركراك) ـ عين عروس ـ تل أبيض ـ آقجقلة ـ ومنها إلى تركيا.
10 ـ من دير الزور (طريق الشامية) ـ الميادين ـ بلدة الصالحية ـ وادي صواب ـ كم صْوَاْبْ (Camp) في البادية السورية ـ شمال مخفر الهجّانة ـ محاذاة معبر الوليد ـ سبع بيار ـ أبو الشّامات ـ الضمير (منطقة مقالع حجر) ـ نجها ـ قطنا ـ ومنها إلى الحدود اللبنانية ومنها إلى راشيا لبنان[16].
وفي نهاية هذا البحث لا بد من الإشارة إلى جهود السوريين الشرفاء في العمل على الحدّ من انتشار هذه الظاهرة, وخصوصاً في المناطق التي شهدت نزاعات ساخنة من البلاد، فيما عدا عن تزويد الناشطين في مجال الحفاظ على التراث الثقافي السوري بالبيانات والمعلومات الهامة التي من شأنها رصد مواقع التعديات ونقاط التهريب، كما لا بد من الإشارة أيضاً إلى جهود الغيارى من أصحاب الباع الطويل في هذا المجال من أجل الحفاظ على الذاكرة والتاريخ الإنساني, على أمل أن يكون هناك غد أفضل ومستقبل مشرق لتستعيد فيه سوريا التاريخ مكانتها الحضارية.
[1] 14 نوفمبر / تشرين الثاني 1970 خلال الدورة السادسة عشر للمؤتمر العام لليونسكو.
[2] https://ar.unesco.org/fighttrafficking/1970
[3] سويني، ساموئيل: (واقع التعاون الدولي والمنظمات العالمية في الحد من تهريب الآثار في سوريا) مجتزأ منقول من بحث مشارك في ندوة حوارية علمية حول واقع التراث الثقافي السوري خلال الأزمة تحت عنوان “معاً لحماية التراث السوري”، المنعقدة برعاية هيئة الثقافة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية في مدينة الرقة السورية بتاريخ 19 أيلول 2019.
[4] الوثائق الرسمية المتعلقة بالقضية موجودة في موقع ecf.nyed.uscourts.gov برقم قضية 1:2017-cv-03980.
[5] الوثائق الرسمية المتعلقة بالقضية موجودة في موقع ecf.nysd.uscourts.gov برقم قضية 1:17-cv-04755-KPF، وكتبت مديرة المتحف الوطني في بيروت، آن ماري عفيش، عن القضية في مجلة BAAL باللغة الفرنسية:
Afeiche, Anne-Marie Maila: « La restitution au Liban de cinq sculptures d’Echmoun, » BAAL 18, 2018, p. 5-18
[6] الوثائق الرسمية المتعلقة بالقضية موجودة في موقع ecf.nyed.uscourts.gov برقم قضية 1:11-cr-00340، وهناك مقالة عن القضية في جريدة إنترناشونال بيزنيس تايمز في الرابط التالي:
https://www.ibtimes.com/us-returns-25m-egyptian-antiquities-experts-call-tougher-punishment-smugglers-1892622
[7] http://art-crime.blogspot.com/2016/11/auction-alert-i-ancient-palmyran.html
[8] حول هذا الموضوع Red List of Syrian Cultural Objects at Risk الصادر عن منظمة ICOM، https://icom.museum/wp-content/uploads/2018/05/ERL_SYRIE_EN.pdf
[9] Al-Muhammad, Adnan: Community responses to protecting archaeological sites during conflict: Evidence from Northwest Syria, SYRIA PROGRAMME BRIEFING PAPER, Cara Organization, April 2021, p.3.
[10] عبد الكريم، د. مأمون: الإرث الأثري في سورية خلال الأزمة 2011 ـ 2013، المديرية العامة للآثار والمتاحف بدمشق، وزارة الثقافة السورية، 2013، ص 30،31.
[11] يُظهر تقرير المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية والصادر في عام 2016 توثيقاً للانتهاكات خلال الفترة ما بين 2011 و 2015، وهي الفترة الأكثر ضراوة في الاعتداءات على المواقع الأثرية، وعلى الرغم من بذل الجهود الكبيرة للحيلولة دون المساس بهذه المواقع الأثرية إلا أن التخريب كان أكبر بكثير من المعلومات الواردة في هذا التقرير. للاستزادة يمكن العودة إلى تقرير المديرية العامة للأثار والمتاحف المعنون: التراث الأثري السوري خمس سنوات من الأزمة 2011 ـ 2015، وزارة الثقافة السورية، المديرية العامة للآثار والمتاحف بدمشق، 2016.
[12] تعمل المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية بشكل مباشر مع الانتربول الدولي، وتبلغه عما فُقد أو عُثر عليه في دول مجاورة أو عن كل ما يُنشر من صور يُعتقد أنها للقى أثرية سورية ربما وصل إليها لصوص الآثار عبر التنقيب غير المشروع في المواقع البعيدة، وقد أثمر التعاون من الانتربول في مجال مكافحة الاتجار بالآثار السورية مصادرة 18 لوحة فسيفساء سورية على الحدود اللبنانية ومصادرة 73 قطعة أثرية سورية مهربة إلى لبنان كانت معروضة للبيع لدى تجار الآثار وذلك خلال عامي 2011 ـ 2013.
[13] كانت اعزاز مركز تهريب بين تركيا وسوريا قبل الحرب. واليوم وبسبب الفوضى يقود عمليات تهريب القطع الأثرية أولئك الذين لديهم خبرة في التهريب ولهم تأثير على الجماعات المسلحة. Al-Muhammad, Adnan: Community responses to protecting archaeological sites during conflict, p.3
[14] على الرغم من أن الكثير من الطُرُق المتبعة في التهريب قد تكون سالكة في أوقات كثيرة، إلا أن هذا الطريق شهد نشاطاً كبيراً خلال فترة سيطرة جبهة النصرة على منطقة الشدادي، بينما الطريق المتجه إلى المالكية وشرق القامشلي فقد يكون طريقاً خاملاً بسبب طوله وطبيعة المنطقة التي يتعذر التهريب فيها فيما أن بعض الطرق تبدو أسهل من هذا الطريق، ومع ذلك سُجلت بعض الحالات للتهريب إلى ديار بكر من هذه المنطقة سابقاً.
[15] هناك الكثير من الطرق الزراعية غير الوارد ذكرها في الدراسة، إلا أنها غير واضحة بالنسبة للدارسين، وإنما يتم اتباعها حسب ما تقتضيه الحاجة أو الأمن بالنسبة للمهرب.
[16] ـ شوحان، ياسر: دور وسائل التواصل الاجتماعي في عمليات المتاجرة بالآثار في سورية: مشاركة في ندوة حوارية علمية حول واقع التراث الثقافي السوري خلال الأزمة تحت عنوان “معاً لحماية التراث السوري”، المنعقدة برعاية هيئة الثقافة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية في مدينة الرقة السورية بتاريخ 19 أيلول 2019.