الظواهر الطبيعية
محمد العزو
تُعرف الجزيرة” الفراتية اليوم بمحافظات “الحسكة”، “الرقة”، و”دير الزور”، وفي الواقع، فإنّ “الجزيرة” الفراتية، هي تلك الأرض القديمة، التي أوت الإنسان الأول منذ القدم، وفي هذه البقعة التاريخية نشأت حضارة متناغمة وموحدة، حيث صالت جيوش الأوائل فيها، وفوق سهولها اصطرعت جيوش كثيرة، وفي أجوائها تعالت ترانيم “السومريين” و”البابليين”، و”الحوريين”، وفي القرون الثلاثة التي سبقت الفترة الإسلامية وطأتْها أقدام “المضريين” و”البكريين” وغيرهم. تتكون أرض “الجزيرة” من سهل فسيح واسع، يبدأ شرقاً من “اليعربية” (تل كوجر) عند الحدود العراقية – السورية، وينتهي عند الشواطئ الغربية لنهر “الفرات”، وعلى امتداد هذه المسافة الطويلة من الشرق إلى الغرب، والتي تقدر بـ/600/كم تقريباً، ليس هناك من عائق جغرافي غير جبل “عبد العزيز”، وهو جبل صغير نسبة لحجم السهول الواسعة في أرض الجزيرة. وفي الشمال من جهة الشرق، يبدأ هذا السهل عند سفوح القسم الشرقي من سلسلة جبال “طوروس”، حيث ينحدر انحداراً هادئاً حتى ينتهي في الجنوب الشرقي عند جبال “سنجار”. وفي الجنوب من جهة الغرب ينتهي هذا السهل عند جبل “عبد العزيز”، حيث تبدأ إلى الغرب منه سهول منطقة “الرقة”. وتتكون تربة هذا السهل من الرواسب الخصبة التي تجرفها إليه مياه السيول، والجداول، والأنهار من الجبال المجاورة. وتنقسم الجبال المحاذية لسهول “الجزيرة” إلى ثلاثة أقسام:
*- القسم الأول: يقابل منطقة “رأس العين” حتى بلدة “الدرباسية”، ويعرف باسم “مازي باغ”، أي جبل “البلوط”، لكثرة هذا النوع من الشجر.
*- القسم الثاني: وهو القسم الذي يمتد من مدينة “ماردين” حتى جزيرة “ابن عمر”، ويسمى جبل “الطور”، أو “طور عابدين”، وكان اسمه في العهد الروماني “ماسيوس”.
*- القسم الثالث: هو جبل “جودي”، ويتكوّن من قمم كثيرة وشاهقة، تطل مباشرة على حوض نهر “دجلة”. أما جبال “سنجار” التي ورد ذكرها فيما سبق من كلام، فهي تمتد من الغرب إلى الشرق، ويقع القسم الأكبر منها داخل الأراضي العراقية، ويُشاهد في وسطها فجوة كبيرة، تقسمها إلى قسمين، وطول هذه السلسلة /55/ كيلو متراً تقريباً، وأعلى قمة فيها تصل إلى /1650/ متراً فوق سطح البحر، ويرجع تكوينها الجيولوجي إلى الزمن الثالث. هناك جبل آخر مرّ ذكره ألا وهو جبل “عبد العزيز”، الذي يقع غرب مدينة “الحسكة”، حيث أنه يمتد غرباً حتى مسافة قريبة من مدينة “الرقة”، وترتفع أعلى قمة في هذا الجبل بحدود /600/ م، ويرجع تكونه إلى القبة الزمنية الثالثة، وطوله من الشرق إلى الغرب نحو /70/ كم. وفي هذا الجبل وديان كثيرة تمتد باتجاه الشرق والشمال الشرقي، وبعضها يمتد نحو الشمال الغربي، بحيث أنها تشكل روافد طيبة لنهر “الفرات” في منطقة “الرقة”. وهناك مرتفعات جبلية أخرى في منطقة “الجزيرة” مثل، “الجريبة” الواقع إلى الغرب من جبل “سنجار”، ويصل ارتفاعه إلى /700/ م تقريباً، ومنها أيضا جبل “كراتشوك” المطل على وادي “دجلة” في الشمال الشرقي من منطقة “الجزيرة”، وهذا الجبل في الواقع يتكوّن من تربة سوداء أصلها بركاني، ويبدو أنّ هذا البركان قد هدأ في الأزمنة القديمة. وهناك أيضاً بركان “كوكب” المعروف بـ”تل كوكب” بالقرب من مدينة “الحسكة”، وله شكل مخروطي، ويقع ضمن سهل فسيح، حيث تبدو من على بعد فوهته على شكل بركان خامد، وعلى ما يبدو أنّ حمم هذا البركان أثناء ثورانه، قد وصلت إلى مسافات بعيدة، وعلى بعد /10/ كم إلى الجنوب الغربي منه يقع تل “تنينير” الأثري الذي غطته حمم هذا البركان أثناء اندفاعاتها في الماضي السحيق. أما منطقة “الرقة”، فهي في الغالب منطقة سهلية خصبة تشمل مناطق كبيرة من حوض “الفرات”، و”البادية” ويزداد ارتفاع التضاريس فيها كلما اتجهنا شمالاً، وترتقي صخور منطقة “الرقة” إلى الزمن الثالث، وأغلبها صخور هشة رملية المنشأ. وفي “الرقة” يوجد جبل يسميه أهل “الرقة” جبل “الحوار” المحاذي لمجرى نهر “الفرات” من الجهة اليمنى، وقد أُخِذ هذا الاسم من نوع صخوره الحوارية. وإلى الجنوب الشرقي من هذا الجبل وعلى مسافة تقدر بـ/50/ كم تبدأ سلسلة جبال “البشري” التي يقع قسم كبير منها في منطقة “الرقة”. عدا ذلك فإنّ أغلب مناطق “الرقة” سهلية كما نوهنا سابقاً، لكن الملفت للنظر، أنه في وسط هذه السهول الواسعة من منطقة “الرقة”، توجد بعض البراكين العملاقة، وأهمها بركانا “المناخر” الواقعان على /20/ كم إلى الشرق من مدينة “الرقة”، وعلى ما يبدو أنّ هذه التسمية مأخوذة من شكليهما اللذين يشبهان شكل مناخر أنف الإنسان، وهناك تفسير آخر يقول: إنّ التسمية مأخوذة من أن صخور هذه البراكين تبدو وكأنها منخورة من الداخل. البركان الأول، أو كما يسميه أهل “الرقة” المنخر الأول أو “المنخر” الغربي له شكل إهليلجي في وسطه تقع حفرة عظيمة وعملاقة، وفي الجهة الغربية وضمن ساتر دائري مكون من الحمم والصخور الاندفاعية، تقع قمتان متجاورتان، ارتفاع الواحدة منها بحدود /60/ م تقريباً وكلها سوداء اللون، ويلاحظ وجود طبقات كبيرة من الرماد بعضها يصل إلى ستة أمتار. هذا وقبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمان قام بعض الخبراء الألمان بزيارة هذين البركانين، وقاموا بإجراء تحليلات مخبرية، أكدوا فيها أنّ البركان الغربي، قد خمد قبل أكثر من /65/ ألف سنة من الآن. أما البركان أو “المنخر” الثاني، فهو الآخر يقع إلى الشرق من “المنخر” الغربي بحدود /10/كم، وعلى استقامة واحدة، ولهذا البركان شكل إهليلجي مثل جاره الغربي، وله ساتر شبه دائري مكوّن في الغالب من الرماد، وفي وسط هذا الساتر تقع مجموعة من المرتفعات الشاهقة أكبرها المرتفع الشرقي، ويلاحظ في وسطه أيضاً حفرة عظيمة وتكوينات طبيعية لها أشكال فنية بديعة، تشكلت بفعل عوامل الطبيعة عبر عشرات الآف من السنين، كما يلاحظ وجود طبقات عملاقة من الرماد، وعلى عمق أكثر من /20/ كم في جميع الاتجاهات تكون الأراضي المحيطة بهذين البركانبن كلها مغطاة بالحمم السوداء، التي تفتت عبر العصور على شكل تربة سوداء نتيجة لتعاقب الليل والنهار، وعوامل الطبيعة التي تتمثل بالأمطار, وتشكل الظل في أوقات الصباح شتاءً وسطوع ضوء الشمس عليها. وتظل هذه البراكين في وسط سهول “الرقة” تشكل حالة فريدة، ومن الممكن إدراجها ضمن أماكن السياحة البيئية.
واليوم يتحدث الطاعنون في السن من أهالي القرى المجاورة لهذه “البراكين” عن قصص وحكايات شعبية جرت في محيط هذين البركانين, منها أنّ أحد سكان القرى المجاورة كان ملاحقاً من قبل قوات الاحتلال الفرنسية في أربعينيات القرن العشرين، ولما ضاق به المطاف لجأ إلى أعلى قمة في “البركان” الشرقي، حيث أنه عاش هناك فترة من الزمن بين الضباع والذئاب متوارياً عن الأنظار، ويقال إنه أوصى بدفنه ضمن الساتر الإهليلجي، وبالفعل قبره مازال هناك مع مجموعة صغيرة من القبور، وعلى ما يبدو أن أصحابها كان لهم حكايا مع هذا البركان، وخلال زيارة قمت بها بمعية رئيس مكتب جريدتي “الثورة” و”الفرات”، وكذلك السيد مدير موقع eRaqqa إلى هذين البركانين، شاهدنا الكوخ الصخري الذي عاش فيه طريد قوات الاحتلال الفرنسي قبل أكثر من سبعين عاماً مضت. كما شاهدنا قبوراً أخرى ولكنها قليلة العدد. كما أنّ الذاكرة الشعبية الرقية خزّنت بعض الأشعار الشعبية التي تتحدث عن قصص الحب والبطولة التي حدثت وهي مقرونة بهذين البركانين، وخاصة في سنوات الربيع الزاهر، حيث تحط مضارب الكوجرية الجوالة بين هذين البركانين، وما يحدث في رحاب هذا الفضاء الواسع من قصص بطولية، وذكريات الحب الجميلة مازالت ترددها الأجيال.
وتقول رواية أخرى أن حمامات السلام قامت منذ زمن بعيد بنقل قبر “جعفر الطيار”، وحطت به فوق القمة الجنوبية الغربية من “المنخر” الغربي، ومنذ ذلك اليوم الناس يقولون عنه أنه “منخر جعفر الطيار”. وفي محيط هذين البركانين كانت تعيش الكثير من عانات الغزلان، وكذلك الوحوش الضارية، أما اليوم فلم يعد وجود لحيوان الغزال، بل تعيش فيه بعض الذئاب والثعالب والأرانب، وبعض الحيوانات الزاحفة مثل “الأرول” والأفاعي المعمرة. وفي أيامنا هذه أصبح هذان البركانان محاطين بمزارع الدولة التي خضعت قبل نصف قرن لمشاريع الري والاستصلاح.