افتتاحية العددشيران زادهمانشيتملف العدد 52
تقسيمات الأسلوب ونَسَق الحقيقة عند المفكّر عبد الله أوجلان
شيران زادة
تقسيمات الأسلوب ونَسَق الحقيقة عند المفكّر عبد الله أوجلان
شيران زادة
الأسلوب هو الطريقِ المختصرِ الذي يؤدي إلى النتيجة المأمولةِ المعنيةِ بالأهداف
المفهوم الميثولوجي
- لدى سَعْيِنا لإيلاء المعاني، فإنَّ أولَ أسلوبٍ يواجهنا في أغوارِ التاريخ، هو التناولُ الميثولوجي أسلوباً وطريقةً للكشف عن الحقيقة، حيث تستند الميثولوجيا إلى المفهومٍ الكونيّ. نظرَتَها إلى الطبيعة على أنها حيويةٌ وعامرةٌ بالأرواحِ، لكنّه مبالغ فيه.
- يرى العلم أنّ الأساليب التي تَعتبِر الطبيعةَ ميتةً وجامدة وخاليةً من الدينامية والحيوية، تفتقر إلى المعاني أكثرَ مما عليه الميثولوجيا بذاتِها.
- إنّ التعاطي الميثولوجي من حيث روابطِه مع الحياةِ (أيكولوجي، منفتحٌ على الحرية، ليس قَدَرياً، بعيدٌ عن الحتمية).
- إنّ مفهومَ الحياة المنسجم مع الطبيعة، قد خَصَّ الجماعاتِ البشريةَ بالحماس والعنفوان والتعددية إلى حينِ عصرِ الأديان الكبرى.
- الملاحمُ والأساطير والميثولوجياتُ المُترَعَةُ بالمقدسات، كانت مستمدة من ذهنيةَ الحياةِ الأساسية في العهد النيوليتي على وجهِ الخصوص.
- إنّ تضارُبَ الأقاويل مع الواقع الموضوعي، لا يعني أبداً استحالةَ تطويرِ التفاسير القيِّمة فيما يتعلق بمضمونها. بل يمكن القيام بشروحٍ ذاتِ معانٍ ثمينةٍ للغاية بحق تلك الأقاويل (الميثولوجيات)، بحيث مِنَ النادرِ جداً فهمُ التاريخ من دون هذه التفسيرات.
- لا غنى لنا عن الميثيولوجيا كأسلوبٍ رئيسٍ ومهمّ ، لفهمِ المجموعات البشرية التي عاشت أطولَ فتراتِ حياتها على شكلِ أقاويل.
- بُرهِنَ بما فيه الكفاية على أنّ الأساليبَ العلميةَ الراهنة هي غالباً عبارة عن ميثولوجيات، حتى ولو أُظهِرَت وكأنها مضادةٌ تماماً للأسلوب الميثولوجي.
- إنّ الأسلوبَ العلمي، الذي يدَّعي العمل وفق القوانين القطعية، والذي يُعَدُّ استمراراً للأديانِ التوحيدية الغارقةِ في الدوغمائية، مرغَمٌ على رَدِّ الاعتبار مجدداً للأسلوب الميثولوجي والمعاني الميثولوجية، بعدَ أنْ حَطَّ من شأنهما إلى أقصى الحدود. فالميثولوجيات، التي هي من أقارب اليوتوبيات، والتي تُعتَبَرُ شكلاً للمعنى والذهن الذي لا غنى للجنس البشري عنه.
- إنَّ تَرْكَ ذهنِ الإنسان بلا يوتوبيا، بلا ميثولوجيا (بلا ملاحم، بلا أساطير) كتَرْكِ البدن بلا ماء. وهنا ندرك بشكلٍ أفضل أنّ ذهن الإنسان، الذي هو مجموعُ أذهان جميعِ الكائنات الحية، لا يمكن اختزاله بغناه الشاملِ ذاك إلى حدودِ العقلية التحليلية التي تلجأُ فقط إلى لغةِ الرياضيات. إنّ هذا السلوكَ يخالِفُ طبيعةَ الحياة. فمثلما أنّ أذهانَ الملايين من الكائناتِ الحيةِ لا تعرف الرياضيات، فلا يمكن حصر ذهن الإنسان، الذي هو مجموعُ تلك الأذهان الحية، في الرياضيات. علماً أنّ الرياضيات التي تعدّ اختراعاً سومرياً، قد استُعمِلت في البدايةِ لحسابِ فائضِ الإنتاج كوظيفةٍ أساسية. ولكن يكاد منطقُ الإنسانِ يُختَزَلُ اليوم إلى مستوى آلةٍ حاسبة. إذن، والحال هذه، كيف، وبِمَ يمكننا استيعاب أذهانِ الملايين من الأحياء؟! وحركةِ الجُسَيمات ما تحت الذرّية، والأجسامِ الفَلَكية غيرِ القابلة للقياس؟ واضحٌ أنّ قوةَ علوم الرياضيات لا تكفي لفهمِ هذَين الكونَين الأصغر والأكبر. أو على الأقل، من الضروري أنْ نترك البابَ مفتوحاً لأساليبَ جديدةٍ بشأنِ المعاني، كي لا نخنق أنفسنا سلفاً بالعقائد الجامدة.
- لا يمكنُ استصغار شأنِ الحدسيات الحية. فكلُّ ما هو موجودٌ باسم الحياة مخفيٌّ في تلك الحدسيات. هذا ولا يمكن الادّعاء بافتقارِ الكونَين الأصغرِ والأكبرِ أيضاً لها. بل إنّ الرأيَ الأقربَ إلى الصوابِ هو ذاك القائلُ بأنّ هذه الحدسيات خاصيةٌ أوليةٌ للكون. ولهذا السبب، لا يمكنُ تقليلُ أو تفنيدُ شأنِ الأسلوبِ الميثولوجي في فهمِ الكون. فقد يساهم في مساعَدتنا على فهم الكون بقدرِ الأسلوبِ العلمي بأقل تقدير.
- يُعتبَر الانتقالُ مِن المفهوم الميثولوجي صوب المفهوم الديني الدوغمائي مرحلةً عظمى مرتبطةً عن كثب بالتَحَوُّلِ الحاصلِ داخل المجتمعِ اعتماداً على الهرمية والتمايزِ الطبقيّ، وانعكاسِه على الميدان الذهنيِّ أيضاً. إنَّ علاقة التسلِّطِ والاستغلال تشيرُ إلى الحاجةِ إلى القوالب المحصَّنة عن المساءلة. أي أنَّ القدسيةَ وكلامَ اللهِ والحصانةَ وغيرها من القيم المسَلَّمِ بها، وكذلك القوالبُ الجامدةُ الممنوحة؛ كلُّها أمورٌ تتعلق بمواراةِ الاستغلال والسلطة، وبصونِ المصالح الطبقية، وبشرعنةِ الهرميةِ والسلطة. فبقدرِ ما يَسُود الحكمُ الصارمُ في مفهومٍ ما، يَكُونُ الاستبدادُ والطغيان والاستغلال مخفياً فيه بالمِثل.
التعاطي الدينيّ
- يأتي التعاطي الدينيُّ في المرتبةِ الثانيةِ بعد التعاطي الميثولوجيِّ من حيث كونِه الأكثرَ تأثيراً لعصورٍ طويلة في تاريخِ البشرية. ويمكن الابتداءُ به مع التاريخ المدوَّن، أو قُبَيله أو بُعَيده.
- التعاطيَ أسلوبٌ بِحَدِّ ذاته. فالقاعدةُ الأساسيةُ في التعاطي الدينيّ، هي الحراكُ بموجب الكلام المُعزى إلى الآلهة التي تُعَدُّ فوق الطبيعةِ والمجتمع، بصفتِها غايةَ الحياة وسبيلَ الوصول إلى الحقيقة. وانحرافُ المرءِ أو حَيدُه عن هذا الكلام، يعني تحمُّلَه كل أنواع الأشغالِ الشاقة، وعيشَه شتى ضروبِ العبوديةِ وهو على قيد الحياة؛ بينما يكون مصيرُه بعد المماتِ جهنم وبئسَ المصير.
- إننا على عتبةِ عهدِ إنشاءِ الآلهة المقَنَّعة. ويمكن التحديس والتلَمُّس بكلِّ سهولة أنّ هذا الإله ليس في الحقيقة سوى ذاك الزعيمُ أو المستبِدُ الجبارُ الذي يُصدِر الأوامرَ بحقِّ المجتمع، ويُطَبِّقُ الاستغلال. والتقنُّع المفرِط مرتبطٌ عن كثب بتشويشِ إدراكِ الإنسان ومخاتَلةِ فهمه. وبالأصل، فتسميةُ الطغاةِ المستبدين لأنفسهم في بداياتِ ظهورهم بالمَلِك– الإله تُعبِّر عن هذا الخصوص كفاية.
- ما نصادفه عَقِبَ ذلك كواقعٍ تاريخي سائد، هو قَوْنَنةُ أقوالهم، وإبرازُها على أنها الحقيقة المطلقة. وكلما تجذَّر القمعُ والاستغلال، استحالَ الأسلوبُ الديني الدوغمائي مساراً رئيسياً منقوشاً في ذهن الإنسان. أو بالأحرى، تم إنشاؤه كواقعٍ اجتماعي راسخ. وبهذا الأسلوبِ أُمِّنَ خنوعُ الإنسانية لنيرِ عبوديةٍ طويلةِ الأمد، لتتخبطَ تحت وطأةِ حُكمِ المستبدين الطغاة المتقمِّصين قناعَ الربّ، والذين حوَّلوا الحياة إلى قحطٍ شحيحٍ يكتمُ الأنفاس.
- إنَّ أهمَّ جانبٍ في الأسلوبِ الديني بصفتِه طريقةً للتعودِ الذهني، يتأتى من تجذيره لمفهومِ القدريّة، ومن شرعنته للخضوعِ العبوديِّ البارزِ لدى الحشود البشرية حصيلةَ التقاليدِ الصارمةِ على مرِّ آلافِ السنين.
- لقد غدا الاستغلالُ الكارثي ونشوبُ الحروبِ المُهَوِّلة أمراً ممكناً بفضلِ هذا الأسلوب. أي العيش بموجبِ الكلامِ المقدس وأمرِ الرب! لا ريب في أنَّ هذا الأسلوبَ سهَّل الأمورَ كثيراً على الممسكين بدفة الحكم، حيث تأسَّسَت جدليةُ الراعي – الرعاع (القطيع). وأُبرَزَت العبوديةُ على أنها مرحلةٌ ضروريةٌ لا بدّ منها في سياقِ تطورِ المجتمعات. بل وتَعدى الأمرُ ذلك ليَصِلَ درجةً يكادُ يُجَمَّدُ فيها الواقعُ الطبيعيُّ اعتماداً على مفهومِ المجتمع الثابت الذي لا يتغير. فمن جانب، ثمة مفهومُ المجتمعِ والطبيعة اللذَين صُيِّرا خاملَين للغاية؛ ومن جانبٍ آخر، ثمة مفهومُ الإلهِ المتفوقِ والمتعالي على كل شيء، الفعّالِ للغاية، خالقِ كلِّ شيء، الآمِرِ الناهي، والحاكمِ المتحكم بكلِّ شيء. وتحَوَّلَ ذلك إلى معادلةٍ جدلية حتميةٍ مطلقة. ولن نكون مبالغين كثيراً، لو قلنا :إنّه تمَّ حُكمُ الإنسانيةِ والتحكمُ بها من خلالِ هذا الأسلوبِ أو المفهومِ طيلةَ العصورِ الأولى والوسطى.
- يكمنُ الجانبُ الأخطر للأسلوبِ الدوغمائيِّ في فرضِهِ على البشرية مفهومَ الطبيعةِ الجامدة والخاملة غيرِ القادرة على الحركة إلا بأوامر الإلهِ المقدسِ من الخارج، عوضاً عن مفهومِ الطبيعة الحيوية المتطورةِ ذاتياً وتدريجياً. والنتيجةُ الأهمُّ الناجمةُ عن ذلك ضمن الميدان الاجتماعي، تتمثل في النظر إلى وجودِ البنى الخاملةِ عينِها، وإلى حُكمِ الراعي للرعيةِ من الخارج على أنه أمرٌ جدُّ طبيعي. هذا الأسلوبُ الأقدم، والذي اقتضى وجودَ شخصانيةٍ متفوقةٍ ومتعالية على كلِّ شيء، قد وصَلَ ذروتَهُ في العصور الوسطى. حيث غدا العالَمُ الماديُّ مُبهَماً ومحفوفاً بالغموض، بل واعتُبِرَ وكأنه غيرُ موجود. في حين أصبحَت الدنيا محطةَ حياةٍ انتقاليةٍ عابرة، واعتُبِرَت الغاياتُ والمُثُلُ الراسخةُ والأبدية شكلَ الحياةِ الأساسيّ. ومَن عَرِفَ القوالبَ الدوغمائية والمسلَّماتِ والكليشيهات أكثر، وعُدَّ عالِماً، وتقلَّدَ أرفع المراتب. إنَّ طريقةَ التفكيرِ هذه المتَّصفة بتضادها مع الأسلوب الميثولوجي، قد تحكَّمَت بوِجهةِ مسارِ التاريخ، ولعبَتْ بالتالي دوراً رئيسياً في كبحِ جماح الحياة، والحكمِ عليها بالأسر والذلِّ والهَوان.
- أما الجانبُ الإيجابي في الأسلوب الديني، فيتجسد في قطعه أشواطاً ملحوظةً في ظاهرة الأخلاق ضمن المجتمع. ففي هذه المرحلة، وفي ظل هذا الأسلوب، تعرضَت ثنائيةُ “الفضيلة – الرذيلة” لتمايزاتٍ كبرى، فقُيِّدَت بأحكامٍ قطعيةٍ صارمة.
- الخاصيةُ الأساسية الملفتةُ للنظرِ في هذا الأسلوب، هي مرونةُ ذهنِ الإنسان، وبالتالي، اتسامُه بالمزيةِ التي تُمَكِّنُ من تأهيله ورسمِ ملامحه. وهذه الذهنيةُ التي تُمَيِّزُ الإنسان عن عالَم الحيوان، إنما تشكِّل الأرضيةَ الأساس للتطورِ الأخلاقي.
- دون الرجوعِ إلى الأخلاق، لا يمكنُ تحقيقُ المجتمعيةِ أو القيامُ بالإدارةِ والتوجيه. فالأخلاقُ في الأسلوب تكوينةٌ وحقيقةٌ وإدراكٌ إداريٌّ لا غنى عنه بالنسبة للمجتمع. ومن دونِ الدخول في الجدال حول مضمون الأخلاق الإيجابي أو السلبي، فإنَّ التطورَ على هذا الصعيد يُعتبَر ضرورةً اضطرارية للوعي الاجتماعي.
- لا شك في أنَّ الأخلاقَ وعيٌ ميتافيزيقي، ولكنّ هذه الخاصية لا تجعل منها موضوعاً تافهاً أو منبوذاً. ولن نبالغ إذ ما تحدثنا عن تفوق الأخلاق الدينيةِ نسبةً إلى الأخلاق البدائية السائدةِ في العصر الميثولوجي.
- إنَّ مجرَّدَ التفكيرِ بالمجتمع البشري مجرداً مِن الأخلاق، يعني انقراضَ الجنسِ البشري، أو القضاءَ على بيئة الحياةِ التي تحيطُ به. وربما يعدّ ذلك أقرب إلى الديناصورات التي انقرضت لأنها لم تُبْقِ شيئاً من النباتِ الذي يُمكنُها أنْ تتغذى منه. فالأمر سيّان، ويخرج الموضوعان من البوابةِ نفسِها، ويؤلان في نهايةِ المآلِ إلى سقوطِ الإنسان في حالةٍ يغدو فيها نوعاً عاجزاً عن تأمينِ سيرورتِه. مع العلمِ أنّ التدَنِّيَ الفظيعَ للأخلاقِ هو السببُ وراء تفاقِمِ قضايا البيئة في راهننا لدرجةِ الوصولِ بالبشريةِ إلى حافةِ الهاوية.
الفلسفة:
- لا يطغى الأسلوبُ الدوغمائي التوكيديُّ على الأديان الأساسية فحسب، بل ويسود في الفكر اليوناني الكلاسيكي أيضاً، حيث يحتل الأسلوبُ الدياليكتيكي والمواقفُ الموضوعية الماديةُ حيزاً محدوداً جدّاً فيه. فمثالياتُ أرسطو وأفلاطون كأساليب سائدة، غدت الدعامةَ الأمتنَ للأسلوب الديني الدوغمائي في العصور الوسطى. فكَونُ أفلاطون فيلسوفَ المثاليةِ بل ومبدعَها الأعظم، أو القبولُ بأنه كذلك؛ قد جعلَ منه العزيزَ المحبَّبَ والمقرَّبَ إلى المواقف النبوية. إنه الفيلسوفُ الأقرب إلى النبوة.
- تُعتَبَر تقاليدُ النبوةِ في الأديان الثلاثة الكبرى القوةَ المؤسِّسةَ للأسلوبِ الوثوقيّ الدوغمائي المُنقَّى جيداً من الشوائب. والجانبُ الطافحُ في هذه الأديان الثلاثة يتمثل في كونها مؤسِّسةً للأخلاق الميتافيزيقية. وتصل الأخلاقُ ذروتَها وتُحَقِّق رواجَها مع بوذا، زرادشت، كونفوشيوس، وسقراط. ونخص بالذكر هنا ثنائيةَ الفضيلة – الرذيلة التي اعتُبِرَت في الزرادشتية فلسفةً أساسيةً مكافِئةً لقرينة النور – الظلام. وقد قطعَت الإنسانيةُ مسافاتٍ أخلاقيةً شاسعةً وعظيمة في تاريخها، عبر شخصياتِ هؤلاء الحكماء القيِّمين.
المنهج العلميّ
- يلعبُ “المنهجُ العلميُّ” دوراً مهمّاً في تصييرِ الرأسماليةِ نظاماً عالمياً. وفي هذا الأسلوب الجديد، الذي يُعتبَر كلٌّ مِن روجر، فرانسيس بيكون، وديكارت رواداً له، يتم التمييز بعنايةٍ فائقةٍ بين الذات والموضوع. في حين، لم يكن لهم مكانٌ بارزٌ في الأسلوب الدوغمائي القُرُوسطيّ، بل تميزوا بفاعليةٍ خافتةٍ خامدة. (الذاتانية الأصح الذاتية والموضوعانية الأصح الموضوعية)
- شهدَت أوروبا الغربيةُ صحوتَها مع النهضة، قد فَتَحَتْ آفاقَ عصرٍ جديدٍ في مظهرِ الذات والموضوع، وذلك بالترافق مع ثورةِ التنويرِ الفلسفيِّ وتحقيقِ الإصلاحِ في المسيحية.
- غدت ذاتيةُ الإنسان وموضوعيةُ العالَم تشكلان حجرَ الزاويةِ بصفتِهما عاملَين أوليَّين في الحياة.
- تتهاوى أهميةُ الأسلوبِ الدوغمائي العاملِ أساساً بكلام الرب، إلى جانبِ تدني الأخلاق. أو بالأحرى، يتم الانتقال من عصرِ الملوك المتسترين والآلهةِ المقَنَّعةِ القديمِة إلى حقبةِ الملوكِ العراةِ والآلهةِ غيرِ المقَنَّعة.
- طرازُ الاستغلال الرأسماليِّ بات المحفِّزَ الأساسيَّ المؤدي إلى ذلك الانتقال.
- الاستغلالُ المتحققُ باسمِ الربح، يستدعي تغييرَ وعي المجتمع من جميع المناحي بالضرورة. وتُعَدُّ هذه الضرورةُ أو الحاجةُ المؤثِّرَ الأسَّ الذي أفضى إلى ولادةِ “الأسلوب العلمي”.
- لقد باتت الإنسانيةُ والطبيعةُ وجهاً لوجهٍ هنا أمام استغلالٍ أعظمي. وسوف يُعادُ إنشاءُ وهيكلةُ ضميرِ (خُلُقِ) المجتمعِ بإطراءِ تغييرٍ ذهنيٍّ شاملٍ عليه، لأنه لن يَقبل الاستغلالَ والاضطهادَ بسهولة. ولهذا السببِ بالتحديد، سيقع الدورُ الأكبرُ على عاتق “الأسلوبِ العلميِّ” كسبيلٍ أساسيٍّ صائب.
- الكل على علمٍ كيف مرَّ ديكارت بِمَرَضِ التشكيك الأكبرِ بكلِّ شيء، في سبيل تحقيقِ تحوُّلٍ جذريٍّ متأصلٍ في هذا الخصوصِ بالذات، فلجأ إلى مقولته الشهيرة “أنا أفكر، إذن أنا موجود”.
- أبدى بيكون وأتباعه عنايةً فائقة بـ”الموضوعية”. وبينما فتحَ الأولُ البابَ على مصراعيه لإمكانية تفكيرِ الفرد بشكلٍ مستقل، أَشهَرَ الثاني وأتباعُه الأبوابَ أمام إمكانيةِ تصرُّفِ الفرد بـ”المادةِ الشيء” كيفما يشاء.
الموضوعيّة والموضوعانيّة الشيئيّة
- لا بد من إعادةِ تعريفِ مصطلحِ “الموضوعية” الذي يرتكزُ إليه الأسلوبُ العلمي، وشرحِه بعمقٍ غائر. وفيما عدا الفكر التحليلي، فتعريفُ كلِّ الطبيعةِ بأحيائها وجمادها على أنها “مادة شيء”، بما في ذلك جسدُ الإنسان؛ قد لَعِبَ دورَ المفتاحِ في استغلالِ الرأسمالية للطبيعة والمجتمع، وتحكمِها بهما. ذلك أنه من غير الممكن تحقيق التحول الذهني اللازمِ لأجلِ العبورِ نحو العصر الحديث، من دون تجذيرِ التمييز بين الذات والموضوع، وإضفاءِ طابعٍ شرعيٍّ كبيرٍ على ذاك التمييز.
- بينما تكون الذاتُ الفاعلةُ العاملَ الشرعيَّ الأكثر تداولاً وقبولاً في الفكر التحليلي، يُعتبَر (الموضوعُ الشيءُ) العنصرَ “المادي” الملموسَ الذي يُمَكِّنُ من القيامِ بكلِّ أنواعِ المفارقات والإشاعات عبره. وبمعنى آخر، فهو يمثل “الموضوعانيةَ”. وقد نَشَبَت صراعاتٌ مريرة بسبب هذا التمييز. إذ يجب عدم تقييم الصراع بين الكنيسة والعِلم كمجردِ نزاعٍ على “الحقيقة”. حيث تستتر نضالاتٌ وكفاحاتٌ اجتماعية عظمى وراءه. فما حصلَ هو بأحدِ معانيه ضربٌ من ضروبِ الصراع بين المجتمع القديم المشحون بالأخلاق، والمجتمعِ الرأسمالي العاري الساعي لنزع الستار الأخلاقي عن ذاته. أي أنَّ المسألةَ ليست مجردَ نزاعٍ بين الكنيسة والعِلم. بل إنّ موضوعَ الحديثِ هنا، وبشكلٍ أعم، هو صراعٌ بين النظام الذي حَظَر الاستغلال، ولَعَنَه، واعتبرَه جرماً لا يُغتفَر، وذلك بالتأسيسِ على القِيمِ التي صانَها وجدانُ المجتمع وضميرُه طيلةَ سياقِ التاريخ؛ وبين المشروعِ الاجتماعي الرأسمالي الجديدِ الساعي لفتحِ الأبواب على مصاريعها أمام استغلالِ المجتمعِ والتسلطِ عليه، دون الاعترافِ بأيِّ رادعٍ أو عيبٍ أو لعنة. و”الاتجاه الموضوعانيّ” هو المصطلح المفتاح لهذا المشروع.
- تتخفى تحت مفهومِ “الموضوعانية” ذاك الذي ينادي به “الفكرُ التحليليُّ” فكرةٌ مفادها: ما من “قيمةٍ” لا يمكن إخضاعها للعملية. إذ يمكن استغلال كلِّ ما في الطبيعة من حيٍّ وجماد، والتحكم بها وتملُّكها، بحيث لا يقتصرُ الأمرُ على كدحِ الإنسان فحسب، بل ويمكن البحث والتنقيب فيها، والتمتع بحقِّ استغلالها بكافةِ الأشكال. وفيما عدا الذواتِ المنتقاة، يحق النظر إلى كلِّ شيءٍ على أنه ميكانيكيّ وآليّ، وبالتالي، يحقُّ التحكم به واستغلاله بلا رحمةٍ أو رأفة.
- أما الفردُ المواطنُ ومجتمعُ الدولة القومية، المنظَّمان كذاتَين أساسيّتَين في مواجهة الطبيعة والمجتمع، فهما “ابتكاران جديدان” يتميزان بطاقةٍ جنونيةٍ قادرةٍ على فعلِ كلِّ شيءٍ بصفتِهما إلهَين جديدَين غيرَ مُقَنَّعَين؛ بدءاً من ارتكابِ الإبادات الجماعية، ووصولاً إلى إقحامِ البيئة في حالةٍ لا تُطاق.
- وهكذا، بات “اللوياثانُ” القديمُ مسعوراً، وكأنه ما من شيءٍ إلا ويستطيع التحكمَ به أو تمزيقه إرباً إرباً. من المهم الاستيعاب جيداً أنّ النظرَ إلى المنظورِ الموضوعانيِّ الشيئيِّ على أنه مصطلحٌ نزيهٌ وشفافٌ إلى أبعدِ حدٍّ في الأسلوب العلمي، قد تَسَبَّبَ بكوارثَ مُهلِكة، وانحرافاتٍ كبرى، بل وارتكابِ مجازرَ مرَوِّعةٍ تضاهي ما قامت به محاكمُ التفتيش القرَوَسطية. يجب التشديد، وبعناية، على أنّ الموضوعانيةَ الشيئانيةَ ليست مصطلحاً علمياً نزيهاً على الإطلاق.
- لا يمكننا إيضاح أسبابِ عُطب وإفلاس وشلل علم الاجتماع في راهننا، ما لم نستوعب أنّ “الأسلوب العلمي” يعدّ وسيلةٌ لأكبرِ تقسيمٍ طبقي بحدِّ ذاته.
- لـ”الأسلوب العلمي الموضوعاني” دورٌ معيِّن وحاسم في إفلاسِ “الاشتراكيةِ العلمية”، التي زُعِمَ أنها علمُ الاجتماعِ النموذجيُّ والأفضل؛ والتي اعتَبَرتُها كذلك في فترةٍ من الفترات.
- التفسخُ، ومن ثم الانهيارُ الذي لَحِقَ بالاشتراكية العلمية وبكافةِ مشتقاتها، أو مرورُها بفترةِ تحوُّلٍ من رأسماليةِ الدولة المباشرةِ إلى الرأسماليةِ الخاصة، بعد اجتيازها مرحلةً طويلةً من التطبيق العمليِّ وتشييدِ النظام الاجتماعي؛ إنما يرجع في أساسه إلى “الأسلوب العلمي” ومفهومِه في “التشيؤ”. وإلا، ما مِن شكٍّ بتاتاً في مدى صدقِ وحُسن نوايا المناضلين على دربِ الاشتراكيةِ بإيمانٍ راسخٍ وجهودٍ حثيثة.
- إنّ البنى العلمية كافةَ التي تُنيطُ التمييزَ بين الذات والموضوع بدورٍ أساسيّ، هي أسيرةُ استقلالياتها، لدرجةِ أنها تزعم بتفوقها على ضروبِ القيمِ كافةً والمُثُل المجتمعية.
- لربما أنّ الانحرافَ الأكبر الحاصلَ باسم العلم مخفيٌّ في هذه المزاعم. ولربما لَم يشهد التاريخُ التحامَ العلم مع النظام المهيمن في أيِّ عصرٍ مثلما هو عليه في العصر الرأسمالي. فدنيا العلم، بدءاً من أسلوبه إلى مضمونه، هي أعظمُ قوةٍ إنشائيةٍ لدى النظام، وهي القوةُ التي تَصونُه وتُؤَمِّنُ شرعيتَه أيضاً.
- إنَّ الأسلوبَ العلمي للعصر الرأسمالي، وبالتالي، كافةَ العلوم الناشئة ضمنه بناءً على هذه الخلفية، تُشكِّل القوةَ الأساسيةَ التي تُؤَمِّنُ وتؤدي إلى تعزيزِ آليةِ الربح في النظامِ من جهة، وإلى تكريسِ الحروبِ والأزماتِ والآلامِ والمخاضاتِ والمجاعةِ والبطالةِ ودمارِ البيئةِ والانفجارِ السكانيّ، بحيث شَمَلَت كافةَ قطاعاتِ المجتمع وحلقاتِهِ الداخليةِ والخارجية. وما عبارةُ “العلمُ قوة” الموجَزَة سوى تعبيرٍ عن الافتخار بهذه الحقيقة.
- قد يقال: وما الضَّيرُ من ذلك؟ إنّ النظامَ المتحصن بدرعِ النزاهة والشرعية، يكون قد عَبَّرَ عن أكثرِ المواقفِ طبيعيةً عندما ينادي بهذه الأحكام بكلِّ سهولة.
- إذا كانت الحداثةُ الرأسمالية في راهننا تُنذِرُ باستحالةِ الاستمرار في كافة مجالاتها الأساسية، فلـ”الأسلوب العلمي” الذي ترتكز إليه النصيبُ الأكبرُ في ذلك. لذا، فالأمر المهمُّ والمصيري هنا هو توجيه النقد إلى الأسلوب الذي يشكل الدعامةَ الركن للنظام، وإلى “الضوابط العلمية” المطروحة.
- إنَّ نقطةَ الضعف الأساسيةَ في الانتقادات الموجَّهةِ إلى كافة الأنظمة، بما فيها انتقاداتُ الاشتراكية، تكمن في لجوئها إلى نفسِ الأسلوبِ الذي ترتكز إليه تلك الأنظمةُ في تحقيقِ وجودها.
- الحقيقةَ تشير إلى أنّ انتقادَ الواقعِ الاجتماعي الناشئِ اعتماداً على نفسِ الأسلوب الذي يستند إليه هذا الواقع، لا يُنقِذ النُّقّادَ من الوقوعِ في نتيجةٍ مشابهة.
- من المعروفِ جداً أنَّ السائرين على نفسِ الدروب المرسومةِ سلفاً، لا يمكنهم سوى الوصولِ إلى القرى أو المدن التي تؤدي إليها تلك الدروب. وهذا تماماً ما حصل لمناهضي النظامِ القائم، بما فيهم أصحابُ الاشتراكيةِ العلمية.
الذات والموضوع
- إنني أُبدي اهتماماً بالغاً في تقييماتي للتمييز بين الذات والموضوع بشكلٍ أساسي، إزاء تناوُلِ الخصائصِ والمزايا الطبقيةِ والاجتماعية.
- ذلك أنَّ هذَين المصطلحَين الباديَين وكأنهما نزيهان، هما السببُ الأنطولوجيُّ (الوجودِيُّ) لنشوءِ الحداثة التي غدت مستحيلةَ الاستمرار.
- لا علاقةَ لهذَين المصطلحَين بالمنجزاتِ العلمية كما يُعتَقَد، وليسا مُنَزَّهَين عن التطبعِ بالميزات النسبية. بل إنهما مشحونان بمفهومٍ ثبوتيٍّ وقالبيٍّ بصدد الطبيعة والذات، بقدر ما هو عليه الأسلوبُ الوثوقيّ الدوغمائي السائدُ في العصور الوسطى بأقل تقدير.
- السعيُ لفهمِ الحياة عبْرَ التمييز العلني بين الذات والموضوع، يؤدي بالحياة إلى الاختناق المادي، ويجعلها رجعيةً ومُهَمَّشةً أكثر مما كانت عليه حياة الإنسان في العصور الوسطى.
- حياةُ الإنسان التي كتَمَ الأسلوبُ العلميُّ أنفاسَها، وحَرمَها من الحرية؛ قد تشتتت إرباً إرباً في الحداثة الرأسمالية، اعتماداً على التمييز بين الذات والموضوع، وتعرَّضَت كافة مناحيها لتصدُّعاتٍ متأصلة.
- إنَّ القيمة العظمى المفقودةَ مع تجزُّؤِ التكاملِ إلى أدقِّ خلاياه الأوليةِ بسبب “الضوابطِ العلمية”، هي تكامُلُ ووحدةُ الحياة الاجتماعية المسجَّلةِ ضمن الأبعادِ الزمكانية.
- ما من شيءٍ في راهننا أخطرُ من “الحياةِ المحصورة”، ومن مأساةِ الحياة المبتورة من جوهرها ومقوِّماتها الزَّمَكانية. إننا وجهاً لوجه أمام أشدِّ المصائرِ بؤساً.
- السرطنةُ المجتمعية ليست تصوراً استعارياً من صُنعِ الخيال، بل هي التفسيرُ الأمثل للنظام القائم فيما يتعلقُ بالحياة.
- انتقاداتي هذه لا تعني أنني أقترحُ أسلوباً جديداً. كما أنه لا يمكن الاستنتاجُ من كلّ ذلك أنني أقترحُ عدميةَ الأسلوب. ذلك أني متيقظٌ للخصائص التي تعبِّر عنها السبلُ والأساليبُ والقوانين الملتزَمُ بها في حياةِ الإنسان، بل وفي حياةِ الطبيعة بأحيائها وجماداتها. كما أُولي قيمةً ثمينةً للطريقة والأسلوب.
- بينما يَكُون مفهومُ الأسلوبِ والقانون مشحوناً على الدوام بمخاطِرِ المضمون الحتمي المطلق، فإني مضطرٌّ للتشديد على أنّ الإصرارَ والثبوتَ في ذلك يُفضي إلى خطرِ إنكارِ التطور والحرية.
- لا أتصور وجودَ كَونٍ بلا أساليبَ أو قوانين. لكني لا أؤمن أيضاً بضرورةِ اتخاذِ ميكانيكيةِ ديكارت أساساً، والتي تنظر إلى الكون كَنَسَقٍ رياضيٍّ محض. ولديّ شكوكٌ عميقة تشيرُ إلى أنّ المنطقَ المرتكزَ إلى الرياضياتِ والقانونِ هو منطقٌ مَرَضيّ. بل وألاحظُ شبهاً كبيراً بين الرهبان السومريين الذين اخترعوا الرياضيات والقانون، وبين مؤسِّسي الذهنيةِ العلمية. إني على قناعةٍ بأنَّ كلَيهما يمثِّلان المدنية عينها.
- مناهَضةُ الأسلوب لا تعني إنكارَه كلياً، ولا البحثَ عن أسلوبٍ بديل. من الضروريِّ القولُ: إنّ الانفتاحَ أكثر لإمكانيةِ التفسير الأقرب إلى خيارِ الحياة الحرة، يتميز بمعانيَ أسمى. ولَئِنْ كانت الغايةُ هي بلوغُ معنى الحياة، فعلى الأسلوبِ حينها أنْ يكونَ وسيلةً تُفضي إلى ذلك. فالدولةُ الكبرى والإنتاجُ الصناعيُّ الضخمُ لوحدهما، قد ألحقا الحروبَ والدمارَ بالبشرية، بدلاً من السعادةِ والرفاه.
- لدى اتحادِ الإنتاجِ مع القوة، يتزايد الابتعادُ عن المعنى. وفي جميع الأوقات يأتي أصحابُ الادخار في مقدمة الشرائح البليدة التي لا تُبدي التفهُّمَ للحياة.
- في حين يُنظَر إلى الادخار بعينِ الشكِّ والريبة دائماً داخلَ المجتمع. إنّ الخلاصَ من مشكلةِ الأسلوب، أو تخطيها والتغلبَ عليها، يتضمن معانيَ متأصلة، حيث يستوجب محاسبةَ العصرِ والمدنية المُعاشَين. ولطالما نصادف أمثلةً ضاربةً للنظر عن ذلك على مرِّ الأزمنة التاريخية. سيذهب أيُّ بحثٍ عن المخرج هباءً، ما لَم توجَّهْ الانتقاداتُ الراديكالية والجذريةُ إلى الرأسمالية وأساليبها وضوابطها العلميةِ التي تَمْهُرُ جميعَ مؤسساتِها وقوالبها العصرية بطابَعِها؛ وما لَم نتوجهْ بالتالي إلى إعادةِ هيكلةِ العلم الذي يُمَكِّنُ من الدنوِّ أكثر فأكثر من الحياة الحرة.
- لا أنوي تقديمَ أيةِّ مساهَمةٍ لثنائيةِ الحداثة – ماوراء الحداثة. ومع احترامي للعديد من المواقفِ البارزة في هذا السياق، ولكن، يتعينُ عليّ الإشارةُ إلى أنّ القناعةَ القائلةَ ببُعدِ تلك المواقفِ عن صُلبِ المُشكِلة، لا تنفكُّ رائجةً حتى الآن. ولا زلتُ أرى ما بعد الحداثةِ استمراراً للحداثة بأغلفةٍ وأقنعةٍ جديدة.
- إني مضطرٌّ لتقديمِ شروحي باسمِ مصطلح “نَسَق الحقيقة”. فعوضاً عن البحث عن أسلوبٍ بديل، فإنني أبحث من خلالِه عن سبيلٍ للنفاذِ من القضايا المستشريةِ الناجمةِ عن الحياة التي أُبعِدَت عن قيمِ الحرية، وأُثقِلَت بالزيفِ والضلال.
- لا ريب أنه لطالما جرى البحثُ عن الحقيقة في المجتمع البشري، وبرزَت العديدُ من الخيارات كجوابٍ لهذه الأبحاث، بدءاً من الميثولوجيات إلى الأديان، ومن الفلسفة إلى العلوم الراهنة. ومثلما لا يمكن التفكيرُ بالعيش في حياةٍ خارجَ إطارِ هذه الخيارات، فلا يمكن إنكارُ وجودِ واقعٍ مؤلم وهزليٍّ يفيد بأنَّ هذا الكَمَّ المتراكمَ من القضايا العالقةِ نابعٌ من تلك الخَيارات. أي، ثمة ثنائيةٌ تقول: العيشُ معها وبدونها محال.
- لكنَّ الحداثةَ التي نحياها ذات فوارق فريدةٍ من نوعها، حيث بلغَت حدودَ استحالةِ الاستمرار في العديد من الميادين.
- إذا ما سعينا لتعدادها بشكلٍ خاطفٍ سنلاحظ: التضخمَ السكانيّ المفرط، نفاذَ الموارد، دمارَ البيئة، التصدعاتِ الاجتماعيةَ المتعاظمةَ بلا حدود، الروابطَ الأخلاقيةَ المنحلَّة، انقطاعَ الحياة عن الزمان والمكان، الحياةَ المفتقدةَ لجاذبيتها وشاعريتها تحت وطأةِ التوتراتِ الكبرى، أكداسَ الأسلحة النوويةِ القادرة على إحالة الدنيا إلى صحراءٍ قاحلة، وضروبَ الحروبِ الجديدة اللامتناهية والمستفحلة في البنية الاجتماعية برمتها. كلُّ ذلك يُذَكِّر بيومِ القيامة والمحشر الحقيقي.
- إنّ الوصولَ إلى هذه المرحلة بِحَدِّ ذاته مؤشِّرٌ واضحٌ على إفلاسِ أنساق حقيقتنا القائمة. أنا لا أَعرِضُ لوحةً تشاؤمية، ولكننا لا نستطيع البقاءَ صامتين، ولا نتمالكُ أنفسنا عن الصراخ بأعلى صوتٍ إزاء الحياة المنتهية داخلَنا وأمامنا. علينا ألا نفقد الأمل، وألا نخنق أنفسنا بذرفِ الدموع. ولكن، علينا البحثُ عن الحل.
- هل كان بحثنا عن الحقيقة عملاً تافهاً أم فارغاً؟ أم أننا كنا نمر بعصرِ القوى الظلامية؟ أين، ومتى ارتُكِبَت الأخطاءُ الفادحة؟ أين، ومتى تشبثنا بالأفكارِ الدوغمائية الجامدة؟
- أنا واثقٌ من أنّ الحداثةَ الرأسمالية انتهلَت النسبةَ الكبرى من قوتها من تكويناتِ المجتمع المخادِعة والمضلِّلة. لا يمكن إنكارُ حصولِ كفاحاتٍ باسلةٍ تجاه ذلك، ولكن، واضحٌ للعيانِ ما حلَّ بالنظمِ التي يُزعَمُ أنها موفَّقةٌ وظافرة. إذن، والحال هذه، هل هذا العالَمُ هو النهائيُّ والأبدي، مثلما يدَّعي النظامُ القائم؟ أَمِن غيرِ الممكنِ وجودُ عالَمٍ آخر؟ إني منتبهٌ لتكراري الأسئلة المطروحة يومياً. ولكن، يجبُ عدم الاستهتار بجهودِ الكشف عن الوجه الباطني للكثير من الظواهر، بدءاً من الوقوعِ في أخطاءِ الأسلوب في العديد من النقاط، إلى الأخطاءِ الموجودة في الضوابط العلمية، ومن التفسيراتِ القائمة بشأنِ السلطة والاقتصاد إلى المفاهيم والتمأسسات السلطوية المتحكمةِ بالحقوق وعِلمِ الجمال. وفي هذا السياق أرى في ذاتي القدرةَ على الشروع بتجربةٍ معينة، بل وأعتبر ذلك وظيفةً عليَّ القيامُ بها، أو دَيناً عليَّ الإيفاءُ به إزاء قيم الحرية.
- وكتمهيدٍ للبدء بالموضوع، أشير بجملةٍ واحدةٍ إلى أنّ التقسيماتِ القالبيةَ الثنائيةَ الأساسيةَ المتحكمةَ بفكرِ الإنسان قد أضعفت المعنى وحرَّفته، من قَبيل: (ذاتاني–موضوعاني، مثالي–مادي، دياليكتيكي–ميتافيزيقي، فلسفي–علمي، وميثولوجي–ديني). والتجذراتُ الحاصلة في هذه الثنائيات والقرائن، هي حصيلةٌ لأخطاءِ الأسلوب الأساسيِّ الذي أفضى إلى ظهورِ الحداثة الرأسمالية.
- قد دَعَمَ أصحابُ السلطة والاستغلال تطوُّرَ أو تطويرَ الأفكار والعقائد في هذا الاتجاه طيلةَ تاريخِ المدنية، لتؤديَ دوراً بارزاً كأداةٍ لديمومةِ وشرعنة النظم التي أسسوها، وتُحقِّقَ ذروتها مع الرأسمالية. وتفسيرُ هذه الثنائياتِ كتاريخٍ مجرَّد، هو الأساسُ في دَرِّ النفعِ للنظمِ السلطوية والاستغلالية القائمةِ عملياً.
- لو لم يُطْبَقْ الخناقُ على ذهنيةِ البشرية بهذه القرائن، لَما كان بوسعِ أيِّ نظامٍ سلطويٍّ أو استغلاليٍّ أنْ يَكُونَ مؤثراً لهذه الدرجة. فاستمرارُ مَحوَرَةِ الصراعاتِ الذهنية حول هذه الثنائيات، يؤول إلى الجشع النَّهِمِ في مزيدٍ من السلطة والاستغلال.
- وبقدرِ نجاحِ الباحثين عن الحقيقة في مضمارِ هذه الثنائيات، فقد تمكَّنوا من احتلالِ مكانةٍ رفيعةٍ في مصافِّ أصحابِ السلطة وداخلَ بؤرِ الاستغلال.
- وهكذا، أُضفتِ الواقعيةُ العظمى على مقولة “الحقيقةُ سلطة، والسلطةُ حقيقة”. إنَّ نَسَق الحقيقة المذكورَ هنا هو الحليفُ الوفيُّ والأمينُ لنظامِ الاستغلال السياسي. أما محصلةُ هذا التحالف، فهي المزيدُ من القمع والاستغلال. وهذا بدوره يؤول إلى فقدانِ وضياعِ الحياة الحرة الفاضلة.
- إذن، والحالُ هذه، فأولُ عملٍ جادٍّ علينا فعلُهُ مِن حيث الأسلوب، هو التخلي عن نَسَق الحقيقة ذاك. وفي الحقيقة، يتطلب الأمرُ موقفاً سلبياً، أي، التصرفَ السلبيَّ على جميع الأصعدة إزاء نَسَق الحقيقة التابع للنظام القائم! لا أقصد هنا اتخاذَ جبهةٍ فظّةٍ ضده، بل أعني ضرورةَ اتخاذِ الموقفِ المعارِض عبرَ تحليلِ نسقِ الحقيقةِ لذاك النظام.
- لا يمكنُ الإمساكُ بمربطِ الفرسِ في النظام القائم، أو البدءُ بِحَلِّهِ وتفكيكه؛ إلا عبر مقاوماتٍ باسلةٍ قيِّمة، وبتطويرِ جهودِ إنشاءِ المجموعات المعارِضة، ليس تجاه شِباكِ وأجهزةِ السلطة فقط، بل وتجاه بؤرِ الاستغلال في كافة أماكنها.
- جميعُ التكوينات الاجتماعية هي ثمرةُ الذهنية. وعلى نقيضِ ما يقال، فالأيدي والأقدامُ لا تُنشِئُ المجتمع. ولو كان كذلك، لَكان العالَمُ الذي أمامَنا مختلفاً كلَّ الاختلاف.
- ظهرَت جميعُ الأحداثِ المهمّةِ ومراحلِ التطورِ والبنى الموجودةِ في التاريخ كثمرةٍ من ثمارِ الذهنيات المؤثِّرةِ والعزائمِ التي لا تلين. وأحدُ أهمِّ الأخطاء الجسيمة للأسلوب الماركسي، يكمن في تعويلِه على البروليتاري القابع تحت وطأةِ القمع والاضطهاد والاستغلال اليومي لإنشاءِ المجتمعِ الجديد، دون أن يوجِّه الثورةَ ويُعمِّقَها في الميادين الذهنية. لقد عجزَ الماركسيون عن رؤيةِ أن البروليتاريَّ عبدٌ مَغزُوٌّ ومُستَعبَد من جديد. بل وقعوا بأنفسهم في سفسطةِ “العاملِ الحر”. وبإضافةِ الأخطاء الأخرى، تكون قد اتضحت نتائجُ هذا الخطأ.
- إذن، ومع إيلاء المعاني لمنجزاتِ الإنسانية في العلم، كيف يجب أنْ تَكُونَ الذهنيةُ التي علينا اكتسابها؟ للرد الصريح على هذا السؤال، علينا بمزيدٍ من كشف النقاب من الأعماق عن المُقارَبَتَين الذهنيَّتَين النابعَتَين من الذاتانية والموضوعانية، والمؤدِّيَتَين في النتيجة إلى نفسِ المصب. أوّلهما؛ هو أنه، وعلى عكسِ ما رُوِّجَ كثيراً، فالموضوعانية ليست تعبيراً عن قوانينِ الطبيعة والمجتمع مثلما هي عليه. ولدى البحثِ والتمحيص بإمعان، سيُرى أن القوننةَ الموضوعيةَ هي الشكلُ العصريُّ لعبارةِ “كلامِ الرب” القديمة. إذ يصدح صدى القوى الخارقةِ للطبيعة والمجتمع في هذه الموضوعانية على الدوام. وبمزيدٍ من النبش والسبر، سيُدرَك أنّ هذا الصوتَ يعود لحاكميةِ وسيطرةِ الطاغي الجبّارِ والاستغلاليِّ المستبِد. إنّ العقلَ الموضوعي ونَسَقَ أصواتِهِ الصداحة ذو عُرىً وثيقةٍ مع نُظمِ المدنية القائمة، حيث رُوِّضت تلك الأصواتُ على يدِ تلك النظم، وأصبحَت مألوفةً للآذان. وحتى لو جُنِيَت معلوماتٌ جديدةٌ من الموضوعات، فهي تُلحَقُ على الفور بأماكنِها المخصَّصةِ لها ضمن النظام القائم. علينا، وبكلِّ تأكيد، معرفةُ أنّ كلَّ صاحبِ اكتشافٍ تقنيٍّ جديد، يُكَبَّلُ سلفاً أو لاحقاً بألفِ قيدٍ وقيد على يدِ النظام القائم. وفي حالِ الإصرار على العكس، فسيتعرضُ لغضبِ آلهةِ النظام، مثلما نشهد في الأمثلة التاريخية، بدءاً من آدمَ حتى إبراهيم، ومن ماني إلى منصورِ الحلاج، ومن بولس الطرسوسي إلى جوردانو برونو. فلدى دُنُوِّ أصحابِ المواقفِ الموضوعانية من الحقيقة والعدل أكثر، فسيواجِهون ألفَ عدوٍّ وعدو. ستكون الموضوعانية ثمينةً للغاية، إذا كانت حقاً تعني الشيءَ الذي تراه عينُ القلب ويَرصده الإدراك. وإذ ما ارتبطَت بقيمِ الحياة الحرة، فستؤدي إلى الحكمة الحقيقية. ولكن، يجب حينها تَحَمُّلُ نتائجِ أنْ يكون المرءُ مُحارباً في سبيل الفكر، مثلما كان منصور الحلاج وجوردانو برونو.
- يجب التبيانُ بعنايةٍ وحساسية أنه بالمقدور استخلاصُ نتيجة ذات اتجاهَين من الموضوعانية بالنسبة لقوانين العلم. فالتمييزُ بين الاتجاه الذي يمثل النظامَ الحاكم المتأسِّس، والاتجاه الذي يمثل الحقيقة؛ يتطلب انهماكاً عظيماً وصموداً عتيداً. أمّا نمطُ الفكر الموضوعيِّ العائد غالباً للفكر التحليلي، فسيؤدي مَهَمَّةَ الديناصورِ الثاني في التاريخ، ما لم تتوثقْ عُراه مع الأفكارِ الحدسية الآنية المتأتية من الذكاء العاطفي.
- فالوحشُ المولِّدُ للقنبلة الذّرّية ليس سوى نسخةٌ معدَّلة من اللوياثان القديمِ مجهَّزاً ببنية الفكر التحليلي للحداثة الرأسمالية. وهو نفسُه المسؤولُ عن هذه اللوحة السوداوية السلبية التي تَحَدَّثنا عنها. وإذا ما أمعنّا النظرَ في هذا الإله الجديد غيرِ المقَنَّع، والمتجلي في هيئة الدولة القومية، سنلاحظ عن كثب ما يقتدر عليه الفكرُ التحليلي الموضوعي.
الذاتانيّة
- أما الذاتانيةُ القابعة في القطب المقابل للموضوعانية، فتدَّعي الوصولَ إلى الحقيقة عبر مفارقاتِ الإدراك الحسي دونَ الحاجة إلى الموضوع الشيء. إنها ضربٌ من الأفلاطونية. ولدى تركِها لوحدها، فسيظهر على الفور جانبُها المخادِعُ والثبوتيُّ القالبيّ، مثلما حالُ الموضوعانية: الحقيقةُ هي بقدرِ ما نحسه وندركه. وهذا ما يصل من أحد جوانبه إلى مذهبِ الوجودية (الأنطولوجيا). فهي تَعتبِرُ الإنسانَ موجوداً بقدرِ ما يخلق نفسَه. ورغمَ تأسيسِ العديد من المدارس الفكرية باسمها، فهي –مثلما الموضوعانية– لا تتخلَّف عن احتلالِ مكانها داخلَ أروقةِ النظام القائم. أما سقوطها في “الذاتية” (نزعة إنكار الموضوع) بمفهومها إزاء الطبيعة والمجتمع، فيؤدي إلى جعلها دعامةً وطيدةً للفردية.
- فالمفهومُ الذي يجعل الفرد في الحداثة أنانياً، مرتبط عن كثب بالذاتانية. فتمهيدها الطريقَ للأنانية عوضاً عن ظهورِ الـ”أنا” السليمة، متعلقٌ بالحافزِ الأساسيِّ الذي يُفضي إلى المجتمع الاستهلاكي.
- الذاتانيةُ مسؤولةٌ أيضاً عن الفكر الدوغمائي المنحرف الذي مفاده “الحقيقةُ بقدرِ الأنا”.
- والنظامُ الرأسمالي مَدِينٌ بالكثير لهذه البنية الفكرية. فهذا النمطُ الفكري المنعكسُ على كافة الميادين الفنية، وعلى رأسها الآداب، قد انتهى به المطافُ إلى ابتداعِ عالَمٍ افتراضي، حيث بسطَ نفوذه على المجتمع برمّته بوساطةِ صناعة الفن، فأمَّن بأضعافٍ مضاعفةٍ المشروعيةَ التي يحتاجها النظامُ القائم. الذي أَبقى على المجتمع يئن تحت وطأةِ هجماتِ العالَمِ الافتراضي لحظياً، لِيُترَكَ متخبطاً على الدوام في انعدامِ القدرة على التفكير الذاتي.
- هكذا أُسقِطَت الحقيقةُ إلى مستوى عالَمِ التَّشَبُّهِ والمحاكاة لتزولَ معاني الفرق بين الأصل والشبه.
- الجانبُ الإيجابي للذاتانية كإدراك حسي هو ارتباطُها عن قُربٍ بالفكر العاطفي. أي أنّ استكشافَ الإحساسات والحدسيات في الإدراك الحسي يُعتبَر جانباً قوياً.
- جرت المحاولاتُ في مذهبِ التصوف وفي حِكمة الشرق الأوسط لبلوغِ التكامل بين المجتمع والطبيعة عبر أسلوبِ الإدراك الحسي، فقُطِعَت مسافاتٌ شاسعة في هذا الشأن، بحيث لا يزال بالمقدور تفعيلُها والاستفادةُ منها اليومَ أيضاً كمنبعٍ لا ينضب. تتميزُ ذاتانيةُ الشرق المثالية بتفوقها على موضوعانية الغرب الشيئية بمعالجتها الأخلاقية للمجتمع والطبيعة.
- هذا ولطالما أُصيبَت الذاتانيةُ أيضاً بعدوى عكسِ ذاتها على أنها صوتُ الإله، مثلما كانت عليه حالُ الموضوعانية. وكلتاهما تتلاقيان في جانبهما هذا.
- فانطلاقاً من مواقفهما إزاء الطبيعة والمجتمع بالاعتماد على فكرةِ الإله الداخلي والمتعالي، لن تتخلصا من التحولِ إلى أداةٍ مسخَّرةٍ لخدمةِ الملوك المتسترين والعراة، الذين هم ليسوا سوى آلهةٌ مقَنَّعة وغيرُ مقّنَّعةٍ في النظام القائم. كما ولن تُنقِذا ذاتَيهما من الالتحاق بهذا النظام. (كلّ سؤال من الأفضل وضع علامتَي الترقيم “؟!”)
مكانة الموضوعانية
- تحتلُّ الموضوعانيةُ مكانةً راسخةً في يومنا الراهن، أو بالأحرى في ظلِّ الحداثة الرأسمالية، عبرَ المدارس والجامعاتِ الوضعية؛ في حين تحتل الذاتانيةُ مكانةً وطيدة عبر كافةِ ضروبِ المؤسسات الروحانية والدينَيوية؛ لتنتجا المشروعيةَ للنظام من جانبَين مختلفَين. كما وتؤديان بذلك دورَ المِزْيَتَة والمَشْحَمَة تجاه النظام، عوضاً من أنْ تَكُونَ كلُّ واحدةٍ منهما أسلوباً أو نَسَقاً للحقيقة. وباعتبارهما تشكلان البنيةَ الكادريةَ والمؤسساتيةَ لشرعنةِ السلطة والاستغلال، فهما تتميزان بالفاعلية المماثلة لِما تقوم به مؤسساتُ العنف والاستغلال.
- إننا مرةً أخرى أمام قوى النظام المتكاملة مع مقولة “السلطةُ حقيقة، والعِلمُ قوة”.
- أما البحثُ عن الحقيقة، فليس سوى اسمٍ يطلَق على لعبةٍ متجسدةٍ في ثالوثِ رأس المال – العِلم – السياسة، والذي يمكن تسميته بـ”الشركة”. وكلُّ بحثٍ آخر عن الحقيقة خارجَ إطارِ هذه اللعبة، إما هو عدوُّ النظام القائم، ويجب القضاءَ عليه؛ أو يجب جذبُه لأروقةِ النظام، والعمل على صهره في بوتقته.
- وإزاء الفقدان الكبير للمعنى، فنحن مُطَوَّقون بحصارِ المدنية المادية البالغةِ أعلى مستوياتِها.
- فكيف لنا النفاذُ والانعتاق من طوق قِوى رأس المال – العِلم – السياسة؟ إنّ هذا السؤالَ، الذي طالما بَحَثَ فلاسفةُ الحرية عن جوابٍ له، بدءاً من نيتشه إلى ميشيل فوكو؛ ليس من النوع الذي يمكن الإجابة عليه بهذه السهولة.
- علينا تفهُّم هؤلاء الفلاسفة الذين توصّلوا إلى أحكامٍ على شاكلةِ “المجتمع المخصيّ” و”موت الإنسان” إزاء الحداثة. (فمعسكراتُ الموت، القنبلةُ الذرّية، حروبُ التطهير الإثني، دمارُ البيئة، البطالةُ الجماعية، تضييقُ الخناق على الحياة بشكل متطرف، تفشي السرطان وغيره من الأمراض كالأيدز؛) إنما تدل على صحةِ تلك الأحكام، بل وتجعل من البحوث عن الحقيقة المضادة مَهَمَّةً ضرورية ومُلِحِّةً.
- مرّةً أخرى أعيدُ وأوضحُ أنّ تياراتِ الاشتراكية العلميةِ والديمقراطية الاجتماعيةِ والتحررية الوطنية، التي يُنظَر إليها كنظرياتٍ معارِضةٍ عظمى، قد حَدَّدَت أماكنَها منذ زمنٍ طويلٍ كمذاهبَ في كنف الحداثة، وبدأت بتأديةِ مهامها بموجب ذلك. ومن السهل الإدراكُ أنّ العديدَ من البحوثِ ما وراء الحداثيّة ما هي إلا تياراتٌ فكريةٌ حداثيّةٌ قد غيَّرَت من هيئتها.
- عندما تبلغُ النظمُ ذروتَها، تبدأُ بالتحللِ والتهاوي. وأعوامُ السبعينيات تُمَثِّلُ مرحلةَ بدءِ سقوطِ وانحدارِ الحداثة الرأسمالية، ورواجِ فقدانِ الثقة بها حصيلةَ تجزؤها وتراجعها الواضح في الأسلوب.
- لهذه المرحلةِ علاقةٌ وثيقةٌ ببدءِ ظهورِ الفكر الأيكولوجي، والتيارات الفامينية، والحركات الإثنية – الثقافية ودخولها حيّزَ التنفيذ. فتفكُّكُ وتجزؤُ الأسلوبِ العلمي، أظهرَ للعيان وجودَ عوالم أخرى مختلفة، وأبرزَ قيمةَ الشروحِ الحرة. من المهم للغاية استقبالُ هذه المرحلة، التي يمكن نعتُها بمرحلةِ الفوضى، بإدراكٍ غنيٍّ ووعيٍ راقٍ؛ والنظرُ إلى مختلَفِ المجموعات الفكرية البارزة حسب واقعها، كبؤرةٍ للمقاومة في أحشاءِ جميعِ بؤرِ السلطة.
- إنّ تقييمَ هذه المرحلةِ التاريخية بالمُثمِرةِ من حيث بروزِ الأساليبِ الجديدة وتصوُّراتِ الحقيقة المختلفة، يُزيد من فرصةِ إعادةِ بناءِ المجتمع على مستوى المجموعات. فتجسيدُ يوتوبييات الحرية والمساواة بشكلٍ ملموسٍ في البنى الاجتماعية المنشأة، قد أصبح من بين المهامِّ العمليةِ اليومية التي تفرضُ نفسها بقوة. وما يلزم لذلك، هو معرفةُ القيمةِ العلمية للطريق المسلوك، والتحلي بقوةِ إرادةِ الحرية. إننا نتحدث عن المرحلة التي يدنو فيها عشقُ الحقيقة من الحياةِ الحرة. ما نقصده باختصار: الحقيقةُ عشق، والعشقُ حياةٌ حرة!
- إذن، والحال هذه، لا يمكننا الوصولُ إلى المعلومات اللازمة، ولا إنشاءُ عالَمِنا الاجتماعي والقوى الرياديةِ الجديدة له؛ ما لَم نتعقبِ الحياةَ الحرة بعشقٍ وهيام، سواء من حيث الأسلوب، أو كنَسَقٍ للحقيقة. لنبحثْ عن قُرب في تحصيلِ المعرفة وإنشاءِ البنى الريادية على ضوءِ فرضياتنا هذه.
- لنبدأْ في بحثنا برفضِ ريادةِ كلٍّ من بيكون وديكارت. وبعدَ دحضِ ثنائيةِ (الذات العاقلة – الموضوع الشيء)، وثنائيةِ (الروح – البدن) فإنّ اتخاذَ الإنسانِ معياراً أساسياً سيكون بدايةً مناسِبةً من جميع النواحي.
- ومثلما لا نتحدث هنا عن عالَمٍ إنسانيِّ المركز، فنحن لا نتبع أسلوبَ الفلسفة الإنسانية أيضاً. بل موضوعُ بحثنا هو مجموعُ الحقائق المتركزة في الإنسان.
- إنّ الذراتِ التي تُعتَبَرُ بنية المادة، تتميز بوجودٍ وتكوينٍ غنيَّين للغاية في الإنسان، سواء من جهة تعدادها أو ترتيبها.
- يتميز الإنسان بأفضليةِ تمثيله لكافةِ البنى النباتيةِ والحيوانية في العالَم البيولوجي.
- أسَّسَ الإنسانُ أرقى أشكالِ الحياة الاجتماعية.
- يتمتع الإنسانُ بعالَمٍ ذهنيٍّ مرنٍ للغاية وحرٍّ للغاية.
- يمكنُ للإنسانِ العيشُ بشكلٍ ميتافيزيقي.
واضحٌ جلياً أنَّ تَواجُدَ كافةِ هذه الخصائص والمزايا بشكلٍ متداخلٍ ومتكاملٍ في آنٍ معاً داخلَ الإنسان، يجعلُ منه مصدراً لا نِدَّ له للمعلوماتِ المعرفية. وإدراكُ هذا المصدرِ ضمن تكاملِه الكليّ، يكافئ استيعابَ الكونِ المعروف. أو إنه –بأقل تقدير– بمثابةِ بدايةٍ صحيحة لفهمِ الكون.
المادّة والمعنى والطاقة
- قبل كلِّ شيء، يمكننا من خلالِ الإنسانِ تشخيصُ التكويناتِ الكائنةِ داخلَ وفيما بين الذرات التي هي أصلُ المادة، وكذلك رصدُ الروابط بين تلك التكويناتِ وبين الحيوية بأفضلِ الأشكال. وبمعنى ما، يمكننا تصوُّرُ الإنسان كترتيبٍ منتظمٍ ومُتَّسِقٍ للمادة الحيوية المفكِّرة. لا شك في أنه، ومثلما أنّ هذا التشخيصَ لا يَعتَبِر الإنسانَ مجردَ مُجَمّع من المادة، فهو لا ينظر إلى المادة أيضاً كبُنيةٍ خاليةٍ تماماً من الحِسِّ الحيّ. في حين أنّ عَقْدَ الروابطِ بين المادة التي تتمتعُ بحسٍّ حيٍّ خاصٍّ بها، وبين حقيقةِ الإنسان التي يتعدى كونَه مجمّعاً من المادة الصرف، يُعَدُّ مشكلةً عصيبةً ومستعصيّة على صعيدِ المعنى.
- هذا ومن الضروريِّ البحثُ عن منبع الميتافيزيقيا في هذا النمطِ من الوعي. في حين أنّ تركيزَنا على هكذا طرازٍ من الوعي يدلُّ على مرونةٍ لا محدودة، وقد يتخطى ثنائيةَ (المادة – المعنى).
- ربما كانت غايةُ كلِّ ما هو حيٌّ وغيرُ حيٍّ هي تجاوُزُ هذه الثنائية. فبينما تَكُون غايةُ المادة اكتسابَ المعنى، يكون هدفُ المعنى تجاوزَ المادة.
- قد يَكُون ممكناً رؤيةُ أولى أنفاسِ العشق في هذه الثنائية. وربما يَكُون مبدأُ “الدفع – الجذب” بِحَدِّ ذاته قد طرأ عليه التَغيُّر، ليتحول إلى ثنائية المادة – المعنى. وربما كان القصدُ هو هذه الثنائيات، عندما قيل بوجودِ العشق في أصلِ الكون وأساسه. وكأن هذا العشقَ يرتكز إلى أمتنِ دعائمه لدى الإنسان.
- مقصدُ حديثي هو اعتقادي بأنّ البحثَ في المادة داخلَ الإنسان هو الأسلوبُ الأقرب إلى الصحة. ولكن، يبدو من غيرِ الممكنِ الوصولُ إلى التفسيرِ الأقرب إلى الصحة للمادة داخلَ مختبرات الحداثة المعزولة بإحكام.
- في حين أنّ العلاقةَ بين الناظر والمنظورِ إليه في فيزياء كوانتوم لا تعترفُ إطلاقاً بالقياسِ الأكيدِ والمجزومِ به. فمثلما يُجري الناظرُ تغييراتٍ على المادة، بمقدورِ المنظورِ إليه أيضاً إفلاتُ نفسِه من عينِ الناظر ضمن شروطِ المختبرات.
- إذن، فالإدراكُ الصحيح غيرُ ممكنٍ لدى الإنسان، إلّا بالاستبطان. إذ، ما مِن مختبَرٍ أعظمُ وأفضلُ إحكاماً من الإنسان. ومثلما كَشَفَ ديموقريطس الذرّةَ بهذا الأسلوب، فهو بذلك يَكُون قد حدَّدَ الأسلوبَ الصحيح والسليم منذ زمنٍ طويل. ما نقصده ليس عدمَ فائدةِ المختبرات، بل نرمي إلى القولِ: إنّ مكانَ المبادئ الأساسيةِ فيما يخص الإنسانَ موجودٌ في الإدراك الحسي.
- يمكننا توسيع نطاقِ مبدئِنا هذا أكثر، حيث من المستطاع رصدُ كافةِ القوانين الفيزيائية والكيميائية بمستوى أقرب إلى الكمال داخل الإنسان.
- إذ ما من مختبرٍ فيزيائيٍّ أو كيميائي يمكنه الوصولُ إلى مستوى الانتظام والترتيبِ الغني الموجودِ في بنيةِ الإنسان. إذن، بالمقدور الوصولُ ضمن بنيةِ الإنسان إلى المعلومةِ الفيزيائية أو الكيميائية الأقرب إلى الصحة.
- كما يمكننا من خلالِ بنيةِ الإنسان استيعابُ كيفيةِ جريانِ التحول بين المادة والطاقة، وكذلك التفاعلاتِ الكيميائية الأوسعِ والأغنى الحاصلة. علاوةً على أنّ أغنى ضروبِ استنتاجِ المعاني السليمة فيما يتعلق بالعلاقة المتبادلة بين المادة والطاقة يتحققُ داخل الإنسان.
- إضافةً إلى إمكانية التِماسِ الوحدةِ بين المادة – الطاقة – الفكر في دماغِ الإنسان. وهذا ما يوجِّهنا نحو تساؤل صعب للغاية: تُرى، هل هذه الوحدة الجاريةُ في الإنسان خاصيةٌ من خصائص الكون؟
- تتأكدُ صحةُ مبدئِنا الأوليِّ من خلال تَمَتُّعِ الإنسانِ الذي اتَّخذناه أساساً للبلوغِ إلى الحقيقةِ بآفاقٍ واسعةٍ إلى أبعدِ حدٍّ على صعيدِ الوعيِ والإدراك. بالتالي، يمكن اعتبارُ هذا المبدأِ طريقاً أساسيّة للحصول على المعرفة، ومبدأً نَسَقِياً سليماً في بلوغِ ماهيةِ الحقيقة.