تجربة الادارة الذاتية بين نقاط القوة والضعف
ﻻ يمكن لأيّ متابع للشأن السّوري اليوم أن يتجاهل ما تحمله تجربة الإدارة الذّاتيّة القائمة في شمال وشرق سوريّا من معانٍ ودلالات في معادلة الصراع الدّائر على مستقبل سوريا، وعلى شكل المنطقة اللاحق. كما ﻻ يجوز لأيّ مثقّفٍ وطنيّ، أو أيّ حركة ديمقراطيّة ثوريّة أن تغفل عن تناول هذه الظاهرة الجديدة، والتاريخيّة بالدّراسة والتحليل، وكما في اتّخاذ الموقف، ليس فقط لأنّها تقوم على جزء مهمّ من الأرض السّوريّة؛ الجزء الذي بات يشكّل ما يقارب من ثلث مساحة البلاد. بل باعتبارها محطّة هامّة في تطوّر المسألة السّوريّة. حيث تنخرط فيها عشرات القوى والأحزاب ممثّلين عن منظّمات المرأة والشبيبة والمجتمع المدني. وذلك في ائتلاف واسع يسمّى مجلس سوريّا الدّيمقراطيّة (مسد) إذْ هو مجلس أفرزت هيئته القياديّة عن طريق انتخابات محلّيّة، وانضمّ إليه فيما بعد ممثّلون عن قوى ومنظّمات تمثّل مناطق عديدة في أطراف البلاد الواقعة خارج سيطرة الإدارة الذّاتيّة نفسها. ويجدر بالذّكر أنّ (مسد) بدوره يقود هو الآخر قوّة عسكريّة لا يُستهان بها تدعى قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة (قسد) التي تكوّنت في بدايتها من مجموعة من أهالي المنطقة الأكراد، وحملوا السّلاح دفاعاً عن مناطقهم بعد الفراغ الذي نشأ بعد انسحاب جيش النظام من المنطقة إثر انطلاق الحراك السّوريّ في 2011، وقد كانت مهمّتها في البداية أعمال صغيرة لحماية مناطقها، وقد لعب حزب الاتّحاد الدّيمقراطيّ (PYD) دوراً أساسيّاً في تأسيسها وقيادتها. ومع ظهور داعش في مطلع العام 2014 اتّسعت مهمّتها، وتطوّرت إلى شكلها الحالي قوات سوريّا الدّيمقراطيّة (قسد)، وحيث كانت قد انضمّت إليها وحدات مقاتلة تمثّل مكوّنات مختلفة من العرب والسريان والآشوريّين وغيرهم. وقد ازداد ثقلها بعد أن تدخلت قوات التحالف الدولي لمقاتلة داعش، والتي شكّلت بدورها مظلّة حماية جوّيّة لوحدات (قسد) التي كان لها دورٌ حاسم في هزيمة التنظيم الإرهابيّ مطلع العام 2019، وفي سياق التطوّر في الأحداث ذاتها فقد اكتسب هذا المولود الجديد والمستحدث كنموذج للدّولة الدّيمقراطيّة لم تعرفه المنطقة من قبل، اكتسب العديد من عناصر القوّة والتفرّد، فقد واجَهَ وسيواجه العديد من التحدّيات والمصاعب التي ﻻ يحوز إهمالها أو الاستهتار بتأثيرها.
أمّا حول ما بات يكتنف تجربة الإدارة الذّاتيّة من مزايا وعناصر قوّة فإن جملةً من الحقائق والنقاط تفرض نفسها ويقع في رأسها:
أوّلاً: تقديم نفسها بصفتها مشروعاً واقعيّاً يترجم تطلّعات السّوريّين في الخروج من المعضلة الوطنيّة، وفي المحافظة على وحدة البلاد. بالاستناد إلى مفهوم الدّولة الدّيمقراطيّة اللامركزيّة. هذا المفهوم الذي يجري تطبيقه اليوم على الأرض ويحقّق نجاحاً باهراً. وإلى ذلك فهي تسعى إلى دفع السّوريّين جميعاً وعبر حوارٍ دؤوبٍ تعمل عليه. تجلّى في المؤتمرات والورشات الحواريّة التي تجريها في الدّاخل والخارج، بقصد الاتفاق على دستور جديد يقوم على العلمانيّة ويقرّ بمبدأ الدّولة الدّيمقراطيّة اللامركزيّة. يستبعد صفة القوميّة من الدّولة، ويحافظ على الحقوق الثقافيّة لجميع المكوّنات. ومن الأهميّة بمكان أنّ الإدارة الذاتية بإقرارها هذا المبدأ تكون قد وفّرت حلّاً إبداعيّاً للمسألة الكرديّة طالما طال انتظاره. وكما كرّستْ تطبيقاً حقيقيّاً لمبدأ أخوّة الشعوب الحرة.
ثانياً: نجاح قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة (قسد) في هزيمة التنظيم الإرهابيّ داعش، يعدّ واحداً من أهمّ عوامل القوة التي اكتسبتها هذه القوات، كما دخل هذا الإنجاز كرصيد هام يدخل على أرصدة تجربة الإدارة الذّاتيّة. فتنظيم داعش الذي شكّل وما يزال يشكّل تهديداً لاستقرار الدّول. ويعمل على تقويض المجتمعات في المنطقة، وأيضاً يهدّد السلم والأمن في العالم بأسره. وهذا ما جعل القوى الكبرى في العالم تعزّز ثقتها بقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، وما زاد في الاعتماد عليها كونها القوة الأهمّ على الأرض في مواجهة الإرهاب؛ الأمر الذي سيؤدّي حتماً إلى الزيادة في الاهتمام والرّعاية لهذه التجربة.
ثالثاً: بينما تتعدّد القوى والأطراف المحلّيّة والإقليميّة التي ادّعت أو سجلت اسمها على قائمة المنتصرين على داعش، آخذين بعين الاعتبار أنّ داعش تنظيم عابرٌ للحدود في سعيه إلى إقامة خلافة إسلاميّة وجنّة موعودة على مرمى حجر حسب زعمه، ففي هذا الجو المحموم من زحمة المتبارين على الاغتسال من داعش، أو لتبييض صفحتهم عبر دورهم في هزيمتها. تنفرد مسد بأنها المنظومة الوحيدة التي عملت وتعمل بشكل جدّيّ وصحيح على اقتلاع جذور داعش من تربة المجتمع. وذلك من خلال تجسير الهوّة التي كانت قائمة بين الدّولة والمجتمع؛ الهوّة التي تكوّنت عبر تاريخ من الإهمال والتهميش. ما أدّى إلى خلق بيئة متخلّفة وخصبة ملائمة لهكذا مزروعات. ولينبري مسد للعمل على تشخيص دقيق لهذا الواقع، ومن ثَمَّ تحليله، والإمساك بالأسباب والظروف التي أدّت إلى نشوء ولادات مشوّهة من هذا القبيل. وبالمقابل انشغل بتغيير المناخات السائدة. وتالياً رأب الصّدع. فنراه ينفّذ أنشطة عديدة، ويطرح برامج مكثّفة لاستقطاب المجتمع، وتعزيز ثقته بالإدارة في خطوات تكرّس مشاركته، وانخراطه عميقاً في التجربة.
ثمة قرائن عديدة تدلّل على حدوث اختراق كبير لجهة استقطاب القاعدة الشعبيّة المتذمّرة، حيث يمكن إدراج الحوارات والمؤتمرات الخاصّة بمشاركة زعماء العشائر خطوة في هذا الاتّجاه. وليس أدلّ على هذا الجهد من مؤتمر عين عيسى الذي عقد منذ بضعة أشهر، وقد أطلق عليه مؤتمر عين عيسى لحوار زعماء العشائر. والذي شارك فيه أكثر من ستّة آلاف مندوب من ممثّلي المدن والقرى والأحياء في سائر جغرافيا شرق وشمال الفرات وما إلى ذلك، وما تبعه إلّا دليل واضح على حجم انخراط المجتمع ببرامج الإدارة، وكذلك في المهام الدّفاعيّة لقوّات قسد، وعن مستوى هذا التطوّر في وعي وموقف البيئة الاجتماعيّة يمكن إدراك ذلك من خلال الأحاديث التي يدلي بها المشاركون في جلساتهم الخاصّة ولقاءاتهم. ومن بين أهمّ الأحاديث الدّالة على ذلك هو رأي للناشط في مجموعة زعماء العشائر؛ الأستاذ سعود الشمّري وزملائه من الحسكة. حيث قدم في خُلاصةٍ توصيفيّةٍ تقييماً عالياً للتطوّرات الحاصلة في أداء الإدارة ونجاحها في أن تعكس مصالح وهموم المجتمع، وكما لفت الانتباه إلى نقطتين هامّتين: 1- تحسّن مستوى المعيشة، وانتفاء الفساد من جهة. 2- المناخ الديمقراطي الذي أصبح ملحوظاً بدرجة كبيرة. ومن هنا يمكن القول: إنّ مسد يتجه بالفعل إلى تقديم ذلك النموذج الذي يقدّم نفياً لداعش بالمعنى التّاريخيّ، كما ويستطيع أن يعبر الحدود ليقدّم النقيض منها.
رابعاً: واستطراداً ضمن متوالية عناصر القوّة في أرصدة الإدارة الذّاتيّة يبرز دور المرأة، وانطلاقاً من مقولةٍ فكريّة أوجلانيّة مفادها؛ إنّ المرأة هي المستعمرَة الأولى في التاريخ، ويجب أن نعمل لجعلها الأخيرة، تهتدي سياسات الإدارة بروح هذه الرؤية لتنتهج نهجاً يولي قضيّة المرأة اهتماماً متقدّماً، كما وليُسنَد لعنصر النساء دورٌ طليعيٌّ في سائر المجالات والأنشطة لتكون بذلك قد استثمرت جهداً كبيراً ونضالاً متراكماً كان يهدف إلى تطوير البنية الفوقيّة في المجتمع ككلّ، وليبدع في فكرة تثوير المرأة، والمرأة هنا تمسك باللحظة التاريخية إمساكاً جدّيّاً كما تنتهز الفرصة التي وفّرتها ظروف عديدة فتمشي لدورها الرّياديّ بكلّ كفاءة وحنكة لتظهر في المقعد الأوّل وفي كلّ عربات القطار، حيث لا تخلو محطّة ولا يخلو غصن من تغريدة لها بدءاً بمؤسّسة الرّئاسة وانتهاء بقيادة الوحدات المقاتلة.
وفي هذا الحقل؛ حقلِ النشاط العسكريّ والنضاليّ. ﻻ تقدم فعلاً غير مسبوق فقط، بل تقدّم وجهاً إبداعيّاً يصلُح أن يلهم الكتاب والدّارسين أن يشتغلوا عليه طويلاً، فالمرأة هنا متطوّعة تطوّعاً. وتردد جملةً واحدةً: أنا مشروع شهادة، وإنّ أيّ زيارة خاطفة إلى مقبرة يشرف عليه مراقب كمقبرة كوباني مثلاً، أو إلى القفص الزّجاجي في وسط كوباني الذي يخلّد بعضاً من رفات شهيدتين قضيتا في قتال داعش. إلّا وستجعله يخرج بانطباع يؤكّد على أنّ فعلاً من أفعال التّاريخ قد جرى في هذه المنطقة. وحيث أكثر من نصف الشهداء هنّ نساء. وكلّ التفاصيل والمجريات تدلّ على أنّ شعار؛ الوطن الحرّ يعني امرأة حرة، يأخذ مجراه إلى حيز التطبيق الفعلي.
خامساً: وبالاستناد على كل ما سبق، ورغم ما يبديه البناء التحتي في مناطق الإدارة الذاتيّة من تدهور، بفعل فظاعة الحرب التي جرت مع داعش. ورغم الدمار الحاصل في الجسور والطرق والمنشآت العامة ، في مشهد لم يعرف تاريخ الحروب له مثيلاً. فإنّ مستويات عالية من تطور البنية الفوقية تبدو راسخة في وعي المجتمع، ﻻ بل تتحرّك قِدماً بوتائر متسارعة. وليس أدلّ على ذلك من تنامي اتّحادات ونوادي المثقّفين والمبدعين. وازدياد دورها وانتشارها. وحيث ﻻ تخلو بلدة صغيرة من بروز ظاهرة النوادي تلك، وعند هذه النقطة بالضبط ﻻ بدّ من الإشارة إلى أنّ دور المثقفين يبدو جليّاً في تشكيل عقل المجتمع وفي تنمية الذائقة الواعية فيه. ويجدر بالذّكر أنّ تأثيره الواضح يطال كوادر الإدارة ذاتها. إلى نحو يؤكّد على احترام كبير لدور الثقافة والمثقفين في كل جوانب النشاط ومناحي الحياة. وإلى ذلك تلعب منظّمات المرأة والشبيبة دوراً يزداد أهمّيّةً، وبما أنّ في السياسة تتجلى زبدة المعارف الإنسانية. وتعبر في أحد ركائز تطورها عن مستوى تطوّر البناء الفوقي في المجتمع، وكما تُعنى في أحد أهمّ مهامها بتلبية الحاجات المعنوية لذلك المجتمع. فمن الحري بنا أن نلاحظ ومن خلال كثرة المؤتمرات الحواريّة وتواتر الندوات في كل مكان بأنّ عملاً أخلاقيّاً وكبيراً بالسياسة يجري تطبيقه هنا، من شأنه جرّ ملايين البشر والنساء خاصة إلى ساحة السياسة. وبالتالي إلى ساحة الوعي. وبالتالي إرساء المداميك الأولى للمجتمع الأخلاقي السياسي الذي يملك إرادته، ويعرف ما يريد.
سادساً: تتبلور في النهج الاقتصادي المعتمد ملامح سياسة اقتصادية واجتماعية تأخذ التنمية نحو نموذج الاقتصاد الاجتماعي؛ القائم على محاور ثلاثة: (الكومونالي والتشاركي ثم الخاص)، ووفق خطوات تتّسم بأنّها أيكولوجية في فروع النشاط الاقتصادي المختلفة. تنمو وتتّسع المشاريع التشاركية والتعاونية بدعم وتشجيع من مؤسسات الإدارة، وبمبادرة من النقابات وهيئات المجتمع المدني، وفيما يعد علامة فارقة لصالح اقتصاد المجتمع ، وبخلاف النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي الذي يعدّ هاجسه الأساسي الربح نجده ينشغل بمهمة توفير الحاجات المادية للمجتمع بالدرجة الأولى، وعلى هذا النحو، وفي هذا الاتجاه تتواتر المشاريع، بدءاً بمشروع قرية المرأة في جِينوار قرب عامودا، ومعمل الألبان والأجبان الدي كان قائما في عفرين قبل الاحتلال التركي. ومشروع مدجنة منبج وغيرها الكثير من الأمثلة والنماذج في الزراعة والصناعة والخدمات.
سابعاً: وفي مواجهة تحدي اللحظة الراهنة؛ تحدّي الجائحة الكونية؛ الكورونا، وفيما تظهر دول عظمى، وأخرى إقليمية عجزها في احتواء الوباء، أو منع انتشاره، تبدي ألمعيةً وتفوّقاً حتى الآن على العالم بأسره، وعلى دول المحيط المجاور، وفيما لم تسجّل حتى الآن أية إصابات في عموم مناطق نفوذ الإدارة، يتجاوز العدد المسجل للإصابات مئات الألوف في كل من تركيا وإيران، ولأنّ السر يكمن في طبيعة المجتمع المنظّم. والبيئة الأيكولوجية، الأمر الذي يعد تفوّقاً ورجحاناً لصالح الفلسفة الأوجلانية في تصوّرها للحياة والعالم.
ثامناً: تواجه تجربة الإدارة الذّاتيّة كما هائلاً من الصعاب والتحديات ونقاط الضعف، وقد بات بعضها معروفاً، وتندرج في مستويات ثلاث: المستوى الأوّل: يكمن في التحدّي المحلّي أو الوطني بصفته تحدّ موضوعي يواجه أيّ قوة تملك مشروعا للتغيير ﻻ بدّ أنها ستصطدم بالقوى المعيقة والمتعارضة بنيويّاً وفكريّاً مع برنامجها السياسيّ والأيديولوجيّ. ويأخذ هذا النوع من التحدّي أشكالاً عديدة. وكما يفرص أنماطاً مختلفة من أنماط المواجهة. وما الصدام مع داعش غير واحد من أهمّ صيغ هذا النوع من التحديات، وربما يكون أسهلها، ويمكن الجزم بأنّ الإدارة قد قطعت شوطاً متقدّماً في تجاوز هذا الامتحان القاسي المستوى الثاني، وقد يكون الأخطر: ويندرج في حتمية المواجهة الوجودية والتاريخيّة مع عضوَين في الجغرافيا السياسية، لن يتحمل عقلهما القومجي والعقائدي الإسلامويّ مفهوم الأمّة الديمقراطية العلمانية العابرة موضوعياً للحدود. المستوى الثالث: هو مستوى غير مباشر في الوقت الراهن، لكنّه حتميّ على المدى المتوسط والبعيد، هذا التحدّي هو افتقار فكرة الأمّة الديمقراطية لحلفاء استراتيجيين على المستوى الدولي، ولأنّها فكرة عصرانية من الصعب عليها أن تتجاوز واقع نظام الحداثة الرأسمالية العالمي السائد، دون معارك ستكون مستحقة عندما تنضج ظروفها.