صلاح الدين مسلم
تمهيد
لم يعرف المجتمع الزراعي معنى السطو والسلب والحرق والإبادة والإرهاب، حيث كان العقد الاجتماعي عفويّاً، ولم يكن هناك فائض إنتاج وتكديس له، فالكلّ يأخذ حسب حاجته، ولم يكن هناك احتكار، بل تخزين لبعض المواد للشتاء، لكن مع نشوء المدنية والطبقات والتصنيفات التي جاءت مع المدينة والحضر والتجار ولدت حالات العنف والإرهاب، حيث بدأت المدن تكبر وتتضخم على حساب القرى، إلى أن وصلت إلى حالة غير طبيعية، وباتت كدودة القز تقتات على الريف، فصار هناك فائض للمال، وبدأ الاقتصاد يرتبط بالدولة، في حين كان الاقتصاد خاصيّة أسروية وعائلية وكلانية، ففي سنوات قليلة شيدت الأهرامات والقصور والمعجزات العمرانية، حتى وصلت إلى ناطحات السحاب والبروج المشيّدة، وبات القرويّ جائعاً لا سبيل له سوى المدينة حيث العمل في المصانع وإن بأجور زهيدة وعمل مضنٍ، وراحت أحلام القريّة وصارت فردوساً مفقوداً، لقد صوّرت الجنّة على أنّها المكان الذي يهرب فيه الإنسان من عوالم العنف والقوّة والتسلّط، وصارت المدينة مكاناً للمآثم والشرور، فنشأ التذمر والحقد على هذا الظلم في تقسيم الثروات، وهذه الطبقات الغريبة.
وكلّما تضخّمت المدينة تفاوتت طبقاتها، وازدادت الحاجة إلى الموارد الطبيعية خارج المدينة، فيبدأ الغزو والنهب، ويبدأ الطمع والبحث عن مدن أخرى لغزوها، وكلّما ازدادت المدن باتت الحاجة إلى جيش مسلّح مدرّب، ولابدّ من عقيدة تدفع أولئك الجنود للقتال والموت، فلابدّ للعقيدة أن تكون عنفيّة، ولا تمتلك الدولة إلّا عقائد المجتمع، فلابدّ من تشويه تلك العقائد لتكون في خدمة السلطة والطبقات التجارية والماليّة، وكانت هذه الأسطوانة تعاد من حضارة إلى أخرى.
بالمقابل تتفجّر الثورات المجتمعيّة، لتكون ردّة فعل على هذا العنف، (فالعين بالعين والسنّ بالسنّ) وهكذا تتشوّه الثورات وتظهر بلبوس الإرهاب والعنف، وبما أنّ الترسانة الإعلامية للدولة المنتصرة دائماً هي الأقوى، فهي تصوّر الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً، وهكذا يزداد العنف.
وقد تلجأ السلطة إلى مافيات ورجال لها ضمن المجتمع لتؤلف تنظيمات تموّلها بالمال والعتاد والنفوذ والإعلام، لتكون اليد الضاربة لأيّة ثورات مستقبلية، وتكون أدوات لتخرب دول معادية أو غير منصاعة لها.
الإرهاب الدولتي وصولا إلى الحرب العالمة الأولى
لقد كانت الحروب بين الإمبراطوريات تشهد دماء بقدر الأنهار، والعروش كانت تشاد بالجماجم، فلم تسلم إمبراطورية من الوحشية والدموية، ونسجت الملاحم والأساطير عن هذه العروش المبنية على الدم، كلّما كانت الشواهد العمرانية باهرة عظيمة كالأهرامات والحدائق المعلقة وبرج الإسكندرية والمسرح اليوناني… كان بالمقابل عنف ورعب ودماء وجبروت وسلطة وجحيم، فعندما نشاهد هذه المعجزات العمرانية لا نتذكر الجهد الذي بذله العبيد والسبايا للوصول إلى هذا الصرح، إنّ سلطة الدولة تتحوّل إلى قوّة ورعب وإرهاب أقوى من كلّ الأساطير التي نسجت حول العنف والقوّة، ولا يمكن أن نتصوّر كمّ العنف والإرهاب في تلك المرحلة.
لقد وضع الرسول محمد التسامح كقاعدة، أمّا العقاب فكان استثناءً، لكنّ من جاؤوا بعده جعلوا العقاب قاعدة رئيسية، وألغوا التسامح، وصار هناك تباهٍ حتّى الآن بصرامة هذا الخليفة أو ذاك، وبجبروته، وشدّته، وحزمه، وقوّته، وسطوته…. وكلّها مرادفات العنف والإرهاب، فصار الخليفة المعاقب الذي لا يمتلك الرحمة مثالاً للخليفة العظيم، أمّا الخليفة المتسامح فبات المؤرخون يقولون عنه بأنّ الدولة قد ضعفت في عهده، وصارت هزيلة في ظلّ هذا الرخو، فأبو جعفر المنصور الذي قتل الجميع كانت صفحات الكتب تمدح عظمته، وبأسه، مع أنّه وأخوه العباس السفّاح من أشرس الإرهابيّين الخطرين في التاريخ.
لقد أضحى الإرهاب لترسيخ دعائم السلطة، فقد كان يلجأ الخليفة الصارم إلى الاعتماد على رجال لا يمتلكون الرحمة للقضاء على الثورات، فقد اعتمد عبد الملك بن مروان على الحجاج بن يوسف الثقفي والمهلّب بن أبي صفرة للقضاء على الشيعة والخوارج، وبعد انتصار الخليفة نسج مؤرّخو السلطة أساطير عن الخليفة العظيم الذكي القادر على حماية الحدود والدولة، وعرّفت الثورات بالفتن، وأمسى قائدو الثورات بعد فشلهم إرهابيين، والخليفة هو العادل الأمين الرائع الذي يعتبر مثالاً للأخلاق، واندثر التاريخ الحقيقي للإرهاب كما هو الحال الآن.
حتّى إن نجح الثائر واستلم السلطة، فإنّه يبدأ رويداً رويداً بالانصياع إلى أوامر الكرسي والدولة، كالأمير عبد الرحمن الداخل الذي هرب من بطش وإرهاب العباسيين، والتجأ إلى الأندلس (إسبانيا)، وبعد أن استلم السلطة بدأ بتصفية خصومه الذين كانوا أصدقاءه قبل استلام العرش، وزرع الإرهاب، وكأنّ شيطان الإرهاب مرادف للكرسيّ.
إنّ صلاح الدين الأيوبي إرهابيّ بنظر الشيعة وآل البيت، فهو الذي قضى على دولتهم الفاطمية، وأحرق كلّ كتبهم وتاريخهم، وصفّى الشيعة في مصر، حتّى لم يبق شيعيّ واحد فيها، (بالطبع ليس هناك خلاف أنّ شاور وزير مصر كان سلطويّاً أيضاً ووقع في شراك الدولة مثله مثل غيره) وبالمقابل يعدّ الأيوبيّ محارباً ضدّ الإرهاب الصليبيّ في نظر الإسلام السنّي، فأين حقيقة الإرهاب في هذه المعادلة؟
لقد تعاهد ثلاثة أصدقاء في سمرقند على مقاعد الدراسة أن يساعدوا بعضهم البعض إن كبروا (عمر الخيّام – حسن الصبّاح – نظام الملك) وعندما كبروا صار حسن الصبّاح إرهابيّاً في نظر نظام الملك، وبات نظام الملك إرهابيّاً في نظر حسن الصبّاح، وعمر الخيام ابتعد عنهما وانزوى في عوالم التصوّف، فكان مع نظام الملك جسداً ومع الصبّاح روحاً، فصار حسن الصبّاح رمزاً للإرهاب في نظر التاريخ العربيّ الإسلاميّ السنّي مع أنّه كان ثائراً ضدّ هذا النظام الدولتي العنفيّ الذي يغزو وينهب باسم حماية السلاجقة، وحماية الدولة الإسلامية الشكليّة.
كان المهلّب بن أبي صفرة صديقاً لقطري بن الفجاءة، فصار قطريّ زعيماً للخوارج الذي لم يرتض بهذا الإسلام التعسّفي، وبات المهلّب على رأس الدولة في العراق على زمن عبد الملك بن مروان ونظامه القمعيّ، وبات المهلّب والحجاج في خندق واحد ضدّ ابن الفجاءة، حتّى استطاع أن يقضي على ثورته، ودخل المهلّب التاريخ الجميل، ودخل قطريّ إلى التاريخ السيء، ونُسج كلّ صنف من صنوف الإرهاب حول قطريّ، وأضحى المهلّب عظيماً رائعاً، مع أنّه حارب صديقه ووقف إلى جانب السفاح الحجّاج.
ماذا لو قلبنا الآية واعتبرنا حسن الصبّاح وقطريّ بن الفجاءة والفاطميين ثائرين واعتبرنا نظام الملك والمهلّب بن أبي صفرة وصلاح الدين الأيوبيّ إرهابيين؟ هنا ستقوم القيامة، وسيعتبر الكلّ أنّ هذا الكلام هراء، لأنّ التاريخ الذي كتبه مؤرّخو السلطة هو التاريخ المقدّس، ماذا لو قلبنا التاريخ لنعرف الحقيقة؟ هنا يجب أن نمعن العقل والفكر وندرس التاريخ المزوّر للدولة الذي كُتِب، وننبش في تاريخ المجتمع الذي لم يُكتب، لكنّه في طيّات الكتب، وفي الفلكلور والملاحم والأساطير، إنّ المجتمع يكتب تاريخه، بطريقته الخاصّة.
إنّ حقيقة الإرهاب مثلها مثل حقيقة الثورة وحقيقة المجتمع وحقيقة الأنبياء والمفكّرين… فكلّها ترتبط بصورة مباشرة بالنظر إلى التاريخ، فالأمويون كتبوا عن تاريخ الرسول وكذلك كتب العباسيون، لكن كلّ عصر كتب التاريخ بطريقته، وكل إمبراطورية كانت تنبش في الكتب وتحرق ما لا يلائمها، فبالضرورة عندما جاء العباسيون قضوا على الأمويين جسديّاً، وكذلك قضوا على آثارهم وكل ما يمتّ إليهم بصلة، فالعباسيون عندما استلموا السلطة قتلوا كل أموي، حتّى الأطفال الرضّع والنساء والعجائز لم يسلموا منهم، وقد كانت العباسية ثورة على الأموية، وجاءت لتحارب الإرهاب الأمويّ، عن طريق السفّاح العبّاسي، فما هذه الثورة التي يأتي فيها أبو العبّاس أول خليفة عبّاسي ويقول عن نفسه إنّه سفّاح؟ أي يتباهى بأنّه إرهابيّ، وكان الحجاج أيضاً يتباهى بإرهابيته، حتّى وصل الأمر بداعش أنّه لم يعتبر كلمة إرهابيّ شتيمة، بل مدحاً.
الإرهاب في العصر الحديث
لقد كانت الثورة العلمية في أوربا ضدّ سلطة البابا وسلطة الكنيسة، ففصل الدين عن الدولة، وقد كانت ثورة بحقّ ضدّ إرهاب رجال الدين الذين حرّموا كلّ شيء يتماشى مع العقل والمنطق، وقد أعدمت محاكم التفتيش الملايين بتهم الزندقة والكفر والإلحاد، وجاء عصر التنوير والثورة الفرنسية، وخرجت أوربا من عباءة الإرهاب الدينيّ لتقع في شرك أعتى إرهاب على وجه الأرض، وهو الإرهاب الذي دمّر العالم بأسره، وهو إرهاب الدولة القوميّة، فرسمت الحدود بين الدول بالدم، ولم تتوقف سيول الدماء قط حتى نهاية القرن العشرين، فمجزرة سربرنيتشا قتل فيها في يوم واحد ثمانية آلاف بوسني على يد القوات الصربية، والبوسنة مسلمون وصربيا مسيحيّون، فمن منهم هو الإرهابيّ – يا ترى – في التاريخ؟ فكأنّ كلّ جماعة يجب أن تمرّ بمراحل إرهابيّة، ويجب على كلّ دولة أن تمرّ بحالات إرهابيّة، ويجب أن يتحوّل العرق إلى إرهاب والدين إلى إرهاب، فالمسلمون والمسيحيون في يوغسلافا ينحدرون من أصل واحد، فما يجمعهما هو العرق لكنّ الدين يفرّقهم، فالدولة القومية يجب أن تتأسس على العنف والإرهاب فحسب، سواء كان الاقتتال طائفيّاً أم عرقيّاً، لا فرق، فيجب أن يمرّ الجميع في قالب الدولة، ونمطية الدولة وإلا سيكون خائناً يسعى إلى تمزيق هذه الدولة التي رسمت بأقلام أشخاص لا علاقة لهم بالإنسانية وهم الإرهابيون الحقيقيون، فالذين يسلمون منطقة لدولة أخرى بتوقيع واتفاقية هم الإرهابيّون الحقيقيّون، فمن سلّم عفرين هو الإرهابيّ الحقيقيّ، وليس الشعب الذي يناضل ويقدّم التضحيات، فالإعلام يصوّر الجلّاد ضحيّة والضحية جلّاداً.
لقد كانت حروب الدولة القومية وبالاً على أوروبا والعالم بأسره، فلم يسلم الشرق الأوسط من هذه الحرب الدموية ولا الصين ولا اليابان، فقد دمرت هيروشيما ونكازاكي وحلبجة عن بكرة أبيها، وكانت الحرب العالمية الأولى والثانية مسرح الدماء، لم يحصل هذا الشيء في التاريخ قط، أن يكون عدد القتلى 50 مليون نسمة، لم تستطع الوباءات أن تفعل هذا الفعل الشنيع وهذا الإرهاب الوحشيّ، فمن يقف وراء هذا الإرهاب؟ هل إذا أعدمنا تشاوشيسكي وصدام حسين… تنتهي المسألة؟ هل إذا اختفى هتلر تنتهي القصّة؟ فها قد حوكم حسني مبارك، فهل انتهى الإرهاب في مصر؟ لقد مات الفراعنة والنماردة قبل آلاف السنين لكنّ نظام الفراعنة مازال يسري بل بات أكثر توحّشاً من ذي قبل.
لقد كانت الحرب الباردة على أشدّها ما بين الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفيتي، وكانت الحروب طاحنة ما بين المعسكرين (السوفيتي والأميركي) فالشيوعيّون إرهابيّون في نظر الرأسماليين، والرأسماليون إرهابيون في نظر الشيوعيين، والشيوعيون والرأسماليون إرهابيون ملحدون في نظر الإسلامويين، والإسلامويون يفجّرون أنفسهم، والمعسكران يدعمان الإسلامويين (الشيعة والسنّة على السواء).
الإرهاب في القرن الواحد والعشرين:
كما أسلفنا أنّ الصراع دائماً ما بين قطبين؛ كلاهما يدّعي أنّ الطرف المقابل إرهابي، وكلاهما ينتهج نفس المنهج (منهج السلطة والشهوة والمال) وقد تطوّر هذا الصراع إلى أن وصل إلى حالات معقّدة فوضوية في القرن الواحد والعشرين، مع انهيار برجَي التجارة العالميتين، “ففي أواخر التسعينيات عندما أعلن أسامة بن لادن الحرب على الولايات المتحدة الأميركية بتفجير سفارتيها في تنزانيا وكينيا، قام سلاح الجوّ الأمريكي بقصف صاروخيّ لأحد معسكراته في أفغانستان، وكأنّه عبارة عن دولة بحدّ ذاته. لنفكرّ في الأمر مليّاً: في يوم واحد، في سنة 1998، أطلقت الولايات المتحدة 75 صاروخاً، على شخص واحد! وتلك كانت أوّل حرب في التاريخ تقع بين دولة عظمى وشخص. أمّا أحداث 11 أيلول فلم تكن سوى المعركة الثانية في تلك الحرب[1].”
ومن المعروف أنّ أسامة بن لادن صناعة أميركية ضدّ الاتحاد السوفيتي، وقد انقلب السحر على الساحر، أو بالأحرى تمّ توجيه دفّة الإرهاب نحو الولايات المتّحدة، فبن لادن لم يكن إرهابيّاً عندما كان يحارب الاتحاد السوفيتي، بل كان مدعوماً بالأسلحة والذخائر الأميركيّة ضدّ أسلحة الاتحاد السوفيتي آنذاك، فكان إرهابيّا في نظر الاتحاد السوفيتيّ حينها، لكن بعد أحداث أيلول (سبتمبر) أصبح إرهابيّاً في نظر الولايات المتحدة، ولم يعد إرهابيّاً في نظر روسيا، بل كانت معظم الدول العربيّة تتعاطف مع البطل الجديد؛ طارق بن زياد الجديد الذي فتح أميركا.
يقول توماس فريدمان [2]الكاتب الأميركيّ المشهور: ” بعد ما حدث في نيويورك وواشنطن، يعلم الجميع أنّ هذا سرطان مخيف لنا جميعاً، ممّا يتوجّب على كلّ دولة أن تختار إمّا أن تكون معادية للإرهاب أو داعمة [3]له.” المشكلة هنا هي هذه اللغة الأحادية، فيجب على الكلّ أن يعرّف الإرهاب حسب مفهوم فريدمان، أو حسب الزاوية الأميركيّة، على العالم أن يختار محور الخير وهو أميركا أو محور الشرّ وهو ضدّ أميركا، فبن لادن إرهابيّ إذا هاجم مصالح الولايات المتّحدة، وهو ليس إرهابيّاً قبل هذا الحدث، فلم يكن صدام حسين إرهابيّاً عندما قصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية، وأبادها عن بكرة أبيها، وبعد سنوات عدّة بات إرهابيّاً ويجب محاربته، إذاً ماذا سيفعل الكردي في حلبجة؟ هل ينتظر أن يهاجم أردوغان الولايات المتحدة الأميركيّة حتّى يتعاطف السيد فريدمان مع الكرد على سبيل المثال؟ وبالتالي يكون الكرد في محور الخير؟!
يقول فريدمان: “إنّ الحركات الإرهابيّة تنمو وتقوى في الدول الفاشلة، الراكدة، الضعيفة، والفاقدة لحكومة شرعيّة، وليس في الدول المتقدّمة[4].” إذاً من الذي جعل هذه الدول فقيرة؟ أليست الدول الفقيرة كانت ترزح تحت الاحتلال؟ فأفريقيا كلّها كانت وما تزال محتلّة من العالم الأوّل (بريطانيا – فرنسا – البرتغال – إسبانيا…) أليست هذه الدول الفقيرة هي نتاج الرأسمالية العالميّة؟ فسعر الموز الصومالي تحدده البورصات في هونغ كونغ، وول ستريت… ولولا الدول الفقيرة لما كانت هناك دول غنيّة، وعندما تريد دولة ما أن تنهض فتختلق الدول الغنية حرباً داخليّة تجعلها في أسفل السافلين لعقود من الزمن كما الحال في سوريا، وصارت الدول تقودها الشركات العملاقة التي تضخمت وصارت كالحوت تبتلع الشركات الصغيرة، حيث لا مكان للصغار في المركز الرأسمالي العالميّ، نعم لإنّ الإرهاب ينمو في الفقر لكن من يغذّي الإرهاب؟ أليست تلك الشركات التي باتت تقود العالم؟
لقد وصلت المضاربات المالية أيضاً إلى حدٍّ تخرج عن سيطرة المؤسسات المالية الكبرى وهيئات الرقابة، مثل البنوك المركزيّة، وبدأ العنف يندلع بدرجات كبيرة في كلّ مكان، ولم يعد بوسع أحد القضاء على اندلاع القيود الأخلاقيّة التي كانت نتاج المجتمعية ثمّ سرقتها الدولتية، والآن انفلتت الأخلاق بعد انفلات السوق (الاقتصاد الرأسمالي الحرّ) وخرج من عقاله.
العنف الفردي والجماعي
يعرّف لنا الكاتب إبراهيم الحيدري [5]العنف الفردي في عالم النفس الاجتماعي على أنّه “غريزة من غرائز الدفاع عن الذات ضدّ المخاطر الخارجيّة التي تجابه الكائنات الحية، وفي مقدّمتها الإنسان ثمّ الحيوان. وحتّى النباتات تستخدم آليات خاصة بها للدفاع عن نفسها ضدّ المخاطر الخارجيّة. كما أنّ العدوانية غريزة إنسانية ماثلة أمامنا في التاريخ الإنسانيّ إلى درجة أنّها أصبحت قانوناً طبيعيّاً[6]“.
نعم إنّ الإنسان بطبيعته الفردية يجنح إلى العنف، لكن ليس قانوناً طبيعيّاً كما ذكره الكاتب إبراهيم الحيدري، فالطبيعة الإنسانية الفردية من دون ضوابط اجتماعية تجنح إلى العنف، فالقانون الطبيعي هو مبدأ الجماعة، فالأسود لا تهاجم الفرائس عندما تكون شبعة، ولا يحتكر النمل القمح فوق الحاجة ليسيطر على سوق القمح، والمجتمعيّة تفرض على الفرد أن يكون أخلاقيّاً، وكانت الأمّ في المجتمع الطبيعيّ هي التي تديره، ولم تكن تعرف معنى السلطة وتراكم المال، بل كانت منبع الحنان والعطف والاقتصاد الكومينالي، فالمجتمعية كانت تضبط العنف الفردي وتحوّله إلى آلية دفاعية وليست هجومية فرديّة، لكنّ الفكر الليبرالي هو الذي قضى على المجتمعية وجعل الفرد إلهاً انفلت من ضوابط المجتمع، فلم يكن هناك حلٌّ سوى القانون الوضعي الذي لم يستطع حتّى الآن أن يضبط السوق مثلاً ولا الانفلات الأخلاقيّ في المجتمع، لقد وصل الفرد إلى حالة عنفية شوزفرينيّة مرضيّة غريبة، بل صار يتلذذ بالإرهاب وبأفلام العنف، وألعاب التدمير.
يشرح الحيدري مفهوم العنف بقوله: ” العنف هو أنّ الإرهاب عنف منظّم ومقنّن ويهدف إلى تحقيق أهدافه، وتقوم به منظمات غير حكومية غالباً، كما يستخدم وسائل وأدوات متعددة لتحقيق أهدافه، ومنها تهديد العدو المقابل وإيقافه عند حدّه أو الانتقام منه لكسر شوكته أو تدميره، من دون استخدام قواعد ومعايير أخلاقية[7].” هنا نستحضر مفهوم المنظمات غير الحكوميّة، فمن الذي يسيّرها؟ ومن الذي يمدّها بالمال؟ ومن الذي يضع القواعد والمعايير الأخلاقية لها؟ أهو فريدمان الذي ينتهج نهج رئيس الولايات المتحدة؛ جورج دبليو بوش بقوله: “من ليس معنا فهو ضدنا”.
وفي صدد الإرهاب يقول الحيدري: “يشير مفهوم الإرهاب إلى منهج أو طريقة عمل مباشر يرمي إلى إثارة الرهبة والرعب، أي إيجاد مناخ من الخوف والهلع بين السكان. وغالباً ما يستخدم الإرهاب في أعمال عنف من قبل مجموعة أو منظمة سرية معيّنة ضدّ مدنيين ويتبعون أهدافاً سياسية محددة….. فالإرهاب يجعل أقوى الأسلحة غير ذات جدوى في أيدي صنّاع القرار السياسي والعسكري[8].”
لقد كان توماس هوبز [9]مناصراً للملكية المطلقة، وقام أيضاً بتطوير بعض أساسيات الفكر الليبرالي الأوروبي في حق الفرد والمساواة الطبيعية بين جميع البشر والشخصية الاعتبارية للنظام السياسي (التي أدت لاحقاً إلى التمييز بين المجتمع المدني والدولة)؛ وهو أيضاً صاحب رأي أنّ جميع القوى السياسية الشرعية يجب أن تكون “ممثلة” وقائمة على قبول الشعب؛ والتفسير الحرّ للقانون الذي يمنح الناس حرّية فعل ما لم ينص القانون على تجريمه صراحةً[10].
لم تترجم كتب هوبز إلى العربية، بل ضاعت كتب له في الإنكليزية، واستطاع هوبز الذي تأثّر بنظريّة المنفعة، أن يعتبر أنّ الإنسان أنانيّ بالطبع، يتقبّل اللذة ويرفض الألم وينزع نحو استخدام القوّة، لأنّه يعيش في مجتمع يسوده قانون الغاب حيث حرب الكلّ ضد الكلّ، وهي صفة المجتمع الطبيعي البدائي. ولكن لمّا كان الإنسان اجتماعيّ بالطبع فإنّ عقله هداه إلى التفاهم والحوار والتوصّل إلى عقد اجتماعيّ يلتزم به جميع الأفراد، وعن طريق اختيار غول كاسر (ليفياثيان[11]) يستطيع فرض القوّة والنظام في المجتمع. غير أنّ هذا الغول الكاسر تحوّل بتأسيس الدولة إلى وحش كاسر، وأصبحت سلطة الدولة في الأخير أقوى من كلّ الوحوش الكاسرة[12].” يستخدم لوياثان كرمز لملوك الأرض الأشرار الذين يقاومون شعب الله، لا يمكن ربطه أو جعله أليفاً، فمجرد النظر إليه مخيف، فمن الأفضل أن يترك وشأنه، يمتلك لوياثان جسداً جميلاً، لكنه محمي، له أسنان مخيفة، والموت ينتظر أي شخص يقترب من فمه، حتى الأقوياء يخشون لوياثان، لا يهزمه سيف أو رمح أو حربة أو درع، أو سهم، أو حجر، أو قوس أو مقلاع، لا يمكن حبسه لأنه يكسر الحديد مثل القش، على الأرض، يترك لوياثان آثاراً مثل النورج على الطين؛ وفي الماء يصنع دوامات خلفه، ينتهي وصف الله للوياثان بالقول إنّ هذا فعلاً ملك الوحوش: ” لَيْسَ لَهُ فِي الأَرْضِ نَظِيرٌ. صُنِعَ لِعَدَمِ الْخَوْفِ[13]. هذه هي أوصاف السلطة والدولة، أوصاف شهوة الدولة والشركات العملاقة، وليشت أوصاف المجتمع الطبيعيّ.
إنّ العقد الاجتماعي الذي يتحدّث عنه هوبز موجود بالفطرة في المجتمع، والمجتمع الزراعي في موزوبوتاميا الذي امتد إلى ما يقارب اثني عشر ألف عام لدليل على قوّة هذا النظام المجتمعيّ، فطوال هذه الفترة لم تكن هناك مجازر وحروب عالمية وإرهاب منظّم أو عنف اجتماعي، لكن مع مجيء الدولة جاءت السلطة معها أي قبل 5000 عام، وهنا يفسّر هوبز معنى السلطة فهي الغول الكاسر (لوياثان).
لقد بدأت الأمم المتحدة إعلان الحرب على الإرهاب، بالطبع بقيادة الولايات المتحدة، ونشأت فكرة الهجوم بغرض الدفاع عن النفس ضدّ محور الشرّ، وقد بدأت الأحداث تتلاحق، حيث تمّ تفجير سيارة مفخخة في مرآب بناية مركز التجارة العالمية في نيويورك في عام 1993، وفي عام 1998 تمّ تفجير سفارتَي الولايات المتحدة في دار السلام عاصمة تانزانيا ونيروبي عاصمة كينيا، وبدأت الولايات المتحدة بقصف مواقع في السودان وباكستان، وفي عام 2000 تم تنفيذ إحدى العمليات الانتحارية على ناقلة بحرية في ميناء عدن، وصولاً إلى الانفجار الأهم في 11 أيلول على برجي التجارة العالمية وعلى مقر البنتاغون، وقام الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة بوضع استراتيجية عالمية لمكافحة الإرهاب في 2006 تتفق فيها بلدان العالم على نهج استراتيجي موحد لمكافحة الإرهاب، وبدأ مسلسل مكافحة الإرهاب، فلماذا يا ترى بدأت هذه المكافحة الآن؟ هل فقد المجتمع الغربيّ غايته في الوجود؟ هل أصبحت الصين خطراً كبيراً على الولايات المتحدة؟ وبالتالي يجب التدخّل في الشرق الأوسط، هل أصبحت الدول الغربية الكلاسيكية (فرنسا – بريطانيا…) هرمة لا تستطيع أن تقود المرحلة القادمة؟ لنعد إلى علاقة الغرب بالشرق الأوسط والولايات المتّحدة على رأسها.
علينا أن ندرك حقيقة الدولة والإرهاب، فالدولة القومية هي مصنع الإرهاب، فكل التشويهات خرجت من عمق الدولة القومية، وعلينا أن ندرك أن الحداثة الرأسمالية، والنيوليبرالية وهذا العالم الجديد الذي يدار من قبل مؤسسات عملاقة قد أصبح اللوياثان الذي يبتلع كلّ شيء، وسيكون مصنعاً لصناعة التطرّف والعنف والإرهاب، فالإرهاب أصبحاً سلاحاً فعالاً بيد الشركات العملاقة، فإن لم تستجب دولة ما على سبيل المثال لمطالب شركة ما، فبإمكانها أن تصنع التطرّف وتغذّيه، فلاشكّ أنّ المافيات الإرهابيّة العالمية كانت بيد أسر معينة، وكانت تُدار بيد بعض الشركات العالميّة.
أريد أنهي هذه المادة بمقتطف للكاتب ناعوم تشومسكي[14]
“تعتبر العائلات الديكتاتورية في الشرق الأوسط النموذج المفضّل والمحبب. وبغض النظر عن سلوكياتها الوحشية وغير الآدمية، إلّا أنّها تحظى بشرف واحترام، مادامت تخدم مصالح الولايات المتّحدة، وتحافظ على توجيه وتوصيل تدفّق الأرباح إلى الولايات المتّحدة، وإلى شريكها البريطاني، وإلى شركات الطاقة التي يمتلكونها، وإلى مشاريع أخرى تمّ الاتفاق عليها. فإذا قامت هذه العائلات بمهمّتها على أكمل وجه، فستكون مكافأتها الضخمة من قبل دافع الضرائب الأمريكي، الذي من المفترض أنّها لا يعرف شيئاً عمّا تفعله هذه العائلات[15].”
[1] العالم في عصر الإرهاب – تأليف: توماس فريدمان – ترجمة: محمد طعم – منشورات الجمل – بغداد – 2006 ص13
[2] ولد توماس فريدمان في سانت لويس پارك عام 1953، حصل على ماجستير في الفنون في الدراسات الشرق الأوسط. من مؤلفاته: (من بيروت إلى القدس – استكشاف العالم بعد 11 سبتمبر – العالم مسطح: تاريخ مختصر للقرن الحادي والعشرين – العالم في عصر الإرهاب ومنه استمددنا هذه المقتطفات) عضو في صحافة البيت الابيض، والأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، والجمعية الأمريكية للفلسفة.
[3] العالم في عصر الإرهاب – تأليف: توماس فريدمان – ترجمة: محمد طعم – منشورات الجمل – بغداد – 2006 – ص44
[4] المصدر السابق – ص 47
[5] إبراهيم الحيدري هو عالم اجتماع عراقي، ولد في بغداد – عام 1936، درس في معهد الأثنولوجيا الاجتماعية – بجامعة برلين الغربية، نال دكتوراه الفلسفة في الاثنولوجيا الاجتماعية بدرجة امتياز من جامعة برلين الغربية عام 1974. من كتبه: (صورة الشرق في عيون الغرب- النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، سوسيولوجيا العنف والارهاب، الحركات الاجتماعية في الإسلام.)
[6] سيسيولوجيا العنف والإرهاب – إبراهيم الحيدري – دار الساقي – بيروت 2015 الطبعة الأولى ص26
[7] المصدر السابق – 34
[8] المصدر السابق – ص31
[9] يعدّ توماس هوبز (1588 – 1679) أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر عمل في مجال الفلسفة والأخلاق والتاريخ، والقانون، ساهم بشكل كبير في بلورة مفهوم العقد الاجتماعي. ويعتبر من الفلاسفة الذين وظفوا مفهوم الحق الطبيعي في تفسيرهم لكثير من القضايا المطروحة في عصرهم. وضع كتابه الصادر عام 1651 تحت اسم لوياثان الأساس لمعظم الفلسفة السياسية الغربية من منظور نظرية العقد الاجتماعي.
[10] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B3_%D9%87%D9%88%D8%A8%D8%B2
[11] اللوياثان لوياتان، ليفياتان، وحش بحري توراتي أشير إليه في العهد القديم (التوراة) وأصبحت كلمة لوياثان مرادفاً لأي وحش بحري هائل، سباعي الرؤوس، محرشف، يملك أسناناً شرسة مُمَزِقة. عيناه كهدب الصبح، ينفث اللهب كالتنين. (لوتان. ولوتان هي الهجاء الأوغاريتي للكلمة العبرية لوياثان).
[12] سيسيولوجيا العنف والإرهاب – إبراهيم الحيدري – دار الساقي – بيروت 2015 الطبعة الأولى – ص55
[13] العهد القديم (التوراة) – أيوب 41
[14] ولد أفرام نعوم تُشُومِسْكِي في 1928 فيلادلفيا، بنسلفانيا، مؤسّس نظرية النحو التوليدي، يوصف بأنه أب علم اللسانيات الحديث، هو أستاذ لسانيات وفيلسوف أمريكي ومؤرخ وناقد وناشط سياسي، صُوت له كـ “أبرز مثقفي العالم” في استطلاع للرأي عام 2005، اشتهر بنقده للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، ورأسمالية الدولة، ووسائل الإعلام الإخبارية العامة، عرف أنّه بشكل تام مع السياسة الأناركية.
[15] أوهام الشرق الأوسط – تأليف: ناعوم تشومسكي – ترجمة: شيرين فهمي – مكتبة الشروق الدولية – الطبعة الثانية – 2006 ص17