الأقليات التاريخية والمهاجرون.. خصوم أم حلفاء؟
روبيرتا ميدا وينديشر
باحثة في أكاديمية بولزانو الأوربية / بوزين، إيطاليا
ترجمة: ياسر شوحان
أصبحت الهجرة في أوربا وبشكل عام في الدول الغربية حقيقة متزايدة الأهمية بالنسبة للمدن الكبرى داخل أراضي الأقليات القومية : برشلونة (كاتالونيا)، بلباو (إقليم الباسك)، غلاسكو (اسكتلندا)، بروكسل (فلاندرز)، بولزانو / بوزين (جنوب تيرول) ومونتريال (كيبيك). لقد جذبت بعض هذه المدن المهاجرين لعقود من الزمن، في حين أن البعض الآخر لم يشهد سوى مستوى كبير من المهاجرين في الآونة الأخيرة.
السؤال البحثي الرئيسي الذي تسعى هذه المقالة إلى تحليله هو ما إذا كان من الممكن ـ في السياقات التي يستقر فيها المهاجرون في المناطق التي تقطنها الأقليات التاريخية ـ التوفيق بين مزاعم الأقليات التاريخية والمجموعات الجديدة الناشئة عن الهجرة، وما إذا كانت السياسات التي تستوعب الأقليات التقليدية والمهاجرون كحلفاء في السعي لتحقيق مجتمع تعددي ومتسامح يمكن تصويره بشكل واقعي.
تعتبر دراسة التفاعلات والتكامل بين هاتين المجموعتين من الأقليات جد مهمة للبحوث المستقبلية في أوربا، حيث أنشأت العديد من الدول أنظمة حقوق لمجموعات الأقليات “القديمة” لكنها لم تضع بعد سياسات سليمة لتكامل مجموعات الأقليات الجديدة الناشئة عن الهجرة، حيث تمت مناقشة الموضوعين عموماً بمعزل عن بعضهما البعض.
التشابه والاختلاف بين الأقليات القديمة والجديدة:
تشير المصطلحات المتعلقة بالأقليات التاريخية أو القومية أو التقليدية أو الأصلية إلى المجتمعات التي يكون لأفرادها لغة و/أو ثقافة أو دين متميز. وأصبحوا في كثير من الأحيان أقليات نتيجة لإعادة رسم الحدود الدولية وتحول منطقة الاستيطان الخاصة بهم من سيادة بلدٍ إلى آخر، أو أنها مجموعات عرقية لم تحقق دولة خاصة بها لأسباب عديدة، وبدلاً من ذلك كانت تشكل جزءاً من بلد أكبر أو عدة دول. وتشير مجموعات الأقليات الجديدة الناشئة عن الهجرة إلى الجماعات التي شكلها قرار الأفراد والأُسر بمغادرة وطنهم الأصلي والهجرة إلى بلد آخر لأسباب اقتصادية أحياناً ولأسباب سياسية أيضاً، وبالتالي فهم يتألفون من المهاجرين واللاجئين وذريتهم الذين يعيشون على أساس انتقالي أكثر من بلدٍ آخر غير بلدهم الأصلي. في معظم المناقشات الحالية حول قضايا الأقليات فإنه لا يتم الاعتراف بهذه الجماعات كأقليات بالمعنى الاصطلاحي التقليدي.
فيما يتعلق بالمهاجرين، وكذلك فيما يتعلق بالأقليات التقليدية خاصة في حالة الزواج المختلط، يمكن أن تكون مشاكل الجيلين الثاني والثالث حادة للغاية. وهم في الواقع يخضعون لقرارات والديهم بالهجرة، ويمكن اعتبار حياتهم بين ثقافتين ولغتين إما تجربة غنية ـ أو في كثير من الأحيان ـ عبئاً مفرطاً. وغالباً ما يكون للأجيال الثانية والثالثة من المهاجرين مسافة ثقافية أقل من المجتمع المضيف عن آبائهم، ولكنهم غالباً أيضاً ما يخضعون لعملية استيعاب دون الوصول إلى درجة مرضية من الاندماج من وجهة نظر اجتماعية اقتصادية.
تاريخياً، كان رد فعل المهاجرين مختلفاً تماماً تجاه مجتمعات الأغلبية المهيمنة مقارنة بالأقليات القومية. تدل التجربة على أنه على عكس الأقليات التاريخية التي يمكن لتقاليدها الثقافية تحديد تاريخ إنشاء الدولة التي يجد أفرادها أنفسهم مواطنين فيها، يميل المهاجرون عادة إلى الاندماج في المجتمع المضيف ـ أي اعتماد ممارسات معينة من المجتمع المهيمن ( خاصة في النواحي اللغوية ) ـ بسهولة أكبر. وهذا هو الحال خاصة إذا كان هذا مستعداً لاستيعاب هويتهم والممارسات والمعتقدات المتميزة إلى حد ما. في الواقع فإن قلة من المهاجرين يعترضون على شرط أن يتعلموا اللغة الرسمية للدولة المضيفة كشرط للمواطنة، أو أن أغلب أطفالهم يجب أن يتعلموا اللغة الرسمية في المدرسة. عادة ما يقبلون أن فرص حياتهم وأولادهم تعتمد على المشاركة في المؤسسات الرئيسة العاملة بلغة الأغلبية.
إن ادعاءات الأقليات التاريخية ليست فقط تلك المتعلقة بمعاملة أفرادها على قدم المساواة والحفاظ على هويتهم وتطويرها داخل المجتمع المهيمن، بل هي أيضاً مطالبات تهدف إلى ضمان المشاركة الفعالة في الحياة العامة لأفرادها من خلال تدابير تتراوح بين الإقليمية أو غير أشكال الحكم الذاتي الإقليمية للانفصال. بالمقابل فإن جماعات المهاجرين تسعى إلى بعض أشكال المشاركة السياسية في الحياة العامة للبلدان المضيفة مع بعض التسهيلات لهوياتهم وممارساتهم المتميزة، لا يوجد دليل على أن هذا يستلزم أشكالاً مؤيدة من الحكم الذاتي أو الانفصال كما في حالة الأقليات التاريخية. على عكس مطالب الأقليات التاريخية، فإن المطالب الرئيسة للمهاجرين نحو تحسين اندماجهم في المجتمعات المضيفة. يسعى المهاجرون إلى إصلاح المؤسسات العامة الرئيسة في البلدان المضيفة لتوفير قدر أكبر من الاعتراف بهوياتهم، وزيادة استيعاب ممارساتهم الثقافية، مما يسهل مشاركتهم في هذه المؤسسات. وبالتالي فهم يريدون من المدارس تقديم مزيد من المعلومات حول تجربة المهاجرين، أماكن عمل لاستيعاب إجازاتهم الدينية أو لباسهم التقليدي، الوكالات الحكومية لتوفير الرعاية الصحية وفوائد الرعاية بطريقة حساسة ثقافياً وما إلى ذلك، وهلم جرا. وبدلاً من ذلك فإن الأقليات التاريخية عموماً تقاوم التكيف مع جوانب الثقافة السائدة، على الرغم من الحوافز الاقتصادية والضغوط السياسية للقيام بذلك، والسعي للحصول على اعتراف رسمي بلغتهم وثقافتهم مع أشكال مختلفة من الاستقلال السياسي.
حلفاء أم أعداء؟
بشكل عام تم النظر إلى مزاعم كل من المهاجرين والأقليات التاريخية على أنها تحديات للنموذج التقليدي “للدول القومية” المتجانسة، وبالتالي غالباً ما يُنظر إليهم على أنهم “حلفاء” من قبل مجموعة الأغلبية. في الواقع فإن مجموعات الأقليات تسعى عادة إلى زيادة الفرص المتاحة للأفراد للتعبير عن هوياتهم وتنوعهم، وهكذا في هذا المنظور ينظرون إليها من قبل مجموعات الأغلبية على أنها تشارك الالتزام بمبادئ التعددية والاعتراف بالفرق. بعبارة أخرى فإن ما يميز مجموعات الأقليات عن بقية السكان هو أنها تُظهر ولو ضمنياً الرغبة في الحفاظ على هوية جماعية تختلف عن الثقافة السائدة. الثقافة في هذا السياق ليست مرادفاً لممارسات معينة و عادات أو أساليب لباس معين. إنه شعور بالهوية الذاتية الجماعية التي تنتشر في كل جانب من جوانب الحياة تقريباً، ربما في ذلك العمل والنشاط الاقتصادي. إنها “تقاليد الحياة اليومية” في نظر بُناة الدولة التي يمكن للأقليات والمهاجرين أن يمثلوا تهديداً على أسس متعددة. ويمكن اعتبار الأقليات التاريخية “أجانب” في مجتمع الولاء المشترك للدولة والحقوق المشتركة التي تكفلها تلك الدولة. يُنظر إلى أفراد الأقليات التاريخية والمهاجرين على أنهم موالون مقربون للدولة التي ينتمون إليها ولمن ينتمون لسيادتهم، طالما لم يتم استيعابهم في الهيئة الوطنية من خلال الاحتواء والتجنس. زاد في هذا التصور بعد الحادي عشر من أيلول لعام 2001 كما يتضح ذلك من الاهتمام المتزايد بالنشاط السياسي وولاء المهاجرين وأفراد الأقليات التاريخية.
في الواقع، العلاقة بين المجموعتين أكثر تعقيداً. واتسمت تاريخياً بالتوتر. وفي الواقع أيضاً يُنظر إلى الهجرة الواسعة النطاق على أنها تهديد للأقليات التاريخية لأن المهاجرين أظهروا دائماً ميلاً للاندماج في الثقافة السائدة، والتي عادة ما توفر تنقلاً وفرصاً اقتصادية أكبر. لكن إذا استقر المهاجرون في المناطق التي تقطنها الأقليات التاريخية واندمجوا فيها ضمن المجموعة المهيمنة على مستوى الدولة، وأحياناً ما تشجعها الدول عن قصد، فإن الأقلية القومية تصبح عاجزة في الحياة السياسية وتواجه خطر أن يتزايد عددهم أكثر فأكثر.
ولهذه الأسباب وغيرها، كان هناك ميلٌ ملحوظ للأقليات القومية إلى تبني موقف دفاعي واستثنائي تجاه المهاجرين. نتيجة لذلك فغالباً ما أصبحت قومية الأقليات قومية “عرقية”، والتي تؤكد من خلالها روابط الدم والنسب، وكراهية الأجانب بعمق، وكثيراً ما تكون عنصرية، ومن الواضح أنها تميل إلى استبعاد المهاجرين. في هذا المنظور يبدو أن هذا النوع من الأقلية القومية هو عودة إلى شكل ما قبل الحداثة وغير الليبرالي من القومية. وحتى أقل تسامحاً مع التنوع من صنف القومية والهوية الوطنية التي تروِّج لها العديد من الدول القومية. في الواقع يُصِّر المعلِّقين على أن جميع أشكال القومية الأقلية هي بحكم التعريف “إثنية” أو استثنائية. وبالتالي عدائي بطبيعته للمهاجرين.
ومع ذلك فإن الأدلة الفعلية والتاريخية توضح أيضاً أن العديد من الأقليات التاريخية ترحب بالمهاجرين، وتسمح لهم بالحفاظ على هويتهم والتعبير عنها، مع تشجيع اندماجهم في نفس الوقت مع الأقلية. يبدو أن احتمال قيام أقلية تقليدية بتبني هذا النموذج التعددي لقومية الأقلية يعتمد على عدد من العوامل، لا سيما الخلفية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية المحددة للأقلية القومية والدولة التي يعيش فيها أفرادها. ويحدد الفيلسوف ويل كيمليكا Will Kymlicka عناصر مهمة للحفاظ على مطالبات الأقليات التاريخية وتعزيزها، وتلك التي تنبع من الهجرة، بعض أشكال السيطرة التي ينبغي للأقليات القديمة أن تمارسها على الهجرة، مثل الحق في تحديد معايير الهجرة الخاصة بها لوضع هدفها الخاص ومستويات تستند إلى حساباتهم فيما يتعلق بقدرة الاستيعاب لمجتمعهم. من الواضح ـ كما يعترف كيمليكا ـ أيضاً أن بعض هذه القرارات يمكن أن تعتبر غير ليبرالية أو غير عادلة.
تطوير حماية فعّالة للأقليات :
يمكن وضع معايير سليمة وعملية للتمييز بين مجموعات الأقليات، وخاصة حقوق الأقليات، وقد تشمل هذه المعايير ما إذا كانت المجموعة قد استقرت في إقليم مضغوط أو منتشرة على نطاق أوسع، أو ما إذا كان أفراد مجتمع لهم خصائص مميزة قد تم تأسيسهم لفترة طويلة فيها على الإقليم، أو وصلوا مؤخراً فقط، سواء كانوا أم لا يتم الاعتراف بها كأقليات أو أقليات تاريخية.
في الواقع عند الإشارة إلى حقوق الإنسان العالمية فمن الواضح أنه لا توجد حاجة للتمييز بين الأشخاص الذين ينتمون إلى مجموعات عرقية أو دينية أو لغوية مكونة من المهاجرين الجدد والأقليات التاريخية. الحقوق الأخرى مثل الحق في استخدام لغة الأقليات في العلاقات مع السلطات، أو الحق في أسماء الشوارع بلغة الأقليات يمكن أن يطالب بها اشخاص ينتمون إلى مجموعات تعيش معاً في منطقة معينة، ولكن ليس من قبل أشخاص ينتمون إلى مجموعات مشتتة، سواء أكانت تنتمي إلى أقليات تاريخية أو إلى مجموعات الأقليات الناشئة عن الهجرة. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن أحكام الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية على سبيل المثال صيغت بطريقة مرنة للسماح لتطبيق كل حالة على حدة تبعاً للظروف المحددة للجماعة المعنية والدولة التي يعيشون فيها.
يجب أن تتمتع كلتا المجموعتين بحقوق قائمة على الأقل، مثل الحق في استخدام لغتهم الخاصة والعامة في التواصل مع أفراد آخرين من نفس المجموعة اللغوية أو ممارسة دينهم مع أفراد آخرين من نفس المجموعة الدينية. ما يتبقى على أساس كل حالة على حدة، على سبيل المثال ما إذا كان يحق لأفراد مجموعات الأقليات التاريخية أو المنبثقة عن الهجرة على حد سواء اتخاذ تدابير إيجابية، على سبيل المثال التعليم المدعوم من الدولة بلغتهم الأم.
خاتمة :
لا ينبغي أن تهدف حماية الأقليات إلى وضع قواعد موحدة في جميع مجالات الحياة العامة وصالحة لأي سياقات، إذ أن طبيعة ونطاق الترتيبات لاستيعاب مطالبات الأقليات والحماية سوف تختلف بالضرورة من حالة إلى أخرى، ولا يمكن تسويتها بشكل مسبق وعلى المستوى النظري كـ”تكهنات نظرية”.
يجب أن تكون مطالبات الأقليات موضوع مفاوضات بين المجموعات المعنية، إذا كان صحيحاً في بعض الحالات إن الإثنية أو العقيدة غير قابلة للتفاوض من حيث المضمون، فإن الوسائل والطرق التي يتم بها الحفاظ على الإثنية أو ممارسة الدين يمكن أن تخضع لترتيبات عملية مختلفة، قد تتنازل عنها الأطراف المعنية.
فيما يتعلق بالقضايا التي لا يمكن أن يوجد فيها توافق في الآراء بين مجتمعات الأغلبية والأقليات أو بين المجتمعات المضيفة والمهاجرين، فإن الغرض من المداولات لن يكون الاتفاق على مبادئ عالمية، ولكن الاعتراف بالاختلافات والتشابهات بين المجتمعات المعنية من أجل ذلك الشكل من الأشكال يمكن التوصل من خلاله إلى اتفاق، والذي يستوعب من خلاله أيضاً الاختلافات في المؤسسات المناسبة وأوجه التشابه في المؤسسات المشتركة.