ورقة أمريكا في تعكير الجو العربي والإسلامي (العراق وسوريا أنموذجاً)
عمر جبريل رحّوم
عمر جبريل رحّوم/
الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط
في أعقاب انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، القوة العسكرية والاقتصادية المضادة التي كانت تعادي المصالح الأمريكية وبعض الدول الأوروبية كفرنسا وبريطانيا في استغلال موارد دول العالم الاقتصادية، والتي يأتي على رأسها النفط والمعادن والذهب، وأيضاً تفكك الروابط الاجتماعية والعقدية للاتحاد السوفيتي وتحوله إلى دويلات متناحرة فيما بينها؛ ظهرت أيديولوجية وقوة جديدة لم تكن أمريكا ولا حتى الدول الأوروبية المهيمنة على المجتمع الغربي آنذاك والذي كانت تتحكم في قناعاته وتصنع توجهاته نحو العالم من خلال ما تمليه عليه عبر وسائل الإعلام المختلفة، حتى أصبح المجتمع الأمريكي والغربي لا يعلم شيئاً عمّا يحيط بالعالم من حوله، وبهذا استطاعت أمريكا وحلفاؤها الأوروبيون أن يضمنوا صوتَ وولاء جماهيرهم وشارعهم، وإشعاره بأنه يعيش في رغد من العيش وفي بيئة ديمقراطية لا يتمتع بها غيره، وهذا غير شكل الحقيقة التي تكشف عن القناع الأساسي للنفوذ الأمريكي.
وفي خضم تلك المتغيرات وغيرها من الأحداث التي كانت تروج في المجتمع الغربي والأمريكي، ظهرت الشريعةُ الإسلامية صاحبة النفوذ العقدي المتين الذي كفل للفرد حرية الرأي والتعبير والتمتع بالحياة الكريمة ويدعو الناس للعدل والمساواة ولا فرق بين حاكم ومحكوم، وهذا التوجه الذي لا تمثله دولة أو جهة بعينها بل تكفل بالحفاظ عليه قوة جبارة لا يمكن مقارنتها بقوة الطبيعة أو القوة البشرية والعسكرية التي هي من خلق الإنسان، قوة الشريعة الإسلامية المستمدة من كتاب الله وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام والتي عنى بحمايتها ورعايتها الله تعالي:((إنا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون))..
هذا التوجه الجديد نقرَ ناقوسَ الخطر كما تتخيل أمريكا وحليفاتها آنذاك. عليه عملت الولاياتُ المتحدة الأمريكية على صناعة توجّه جديد وخارطة نفوذ جديدة استهدفت بها الدول العربية والإسلامية في الخليج العربي والشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ التي تمثل القوة الجديدة التي تستندُ على الشريعة الإسلامية كمنهجٍ اجتماعي وأخلاقي، ويعتبر موضع تشريعاتها جميعاً.
عملت على تأجيج الواقع العربي والإسلامي المسالم والمتسامح مع بعضه البعض واستخدمت كثيراً من الطرق للسيطرة على موارد تلك البلاد تحت غطاء جديد، منتهجة فيه رعايتها للديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير واهتمامها بقضايا الأقليات لتأجيج الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي، ونصّبت نفسَها مسؤولةً عن التقدم الحضاري، وانتهجت مشروعَ الديمقراطية التي لا تتمتع به هي نفسها، كل ذلك كان لتحقيق أهداف واضحة وهي أن يعيش المواطن الأمريكي في ترفٍ على حساب موارد وشعوب الدول الأخرى، وأهم تلك الدول دول الخليج العربي، دول الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وساعدها في مشروعها الحضاري مجموعات وأنظمة في المنطقة لأنها انتهجت معها سياسة الخصومة التي عمادها- فرّق تسُد- التي وقع العرب في أتونها دون علم وحين غفلة، فصنعت فجوة كبيرة بين الأشقاء من الدول العربية والإسلامية. وفي هذه النقطة تحاور الكاتب مع الإعلامي والمحلل السياسي اللبناني توفيق شومان لصحيفة ملتقى الأجيال الإلكترونية السودانية: ﺍﻟﺪﻭﻝُ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﺗﺪﻓﻊ ﺿﺮﺍﺋﺐَ ﻭﺃﻣﻮﺍﻝ ﻃﺎﺋﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﺤﻤﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺩﻭﻥ ﺍﻷﺧﺮﻳﺎﺕ، ﺃﻫﻮ ﻏﻴﺎﺏ ﺍﻟﻀﻤﻴﺮ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺃﻭ ﺗﺨﺒّﻂ ﻭﺗﻌﻨﺖ ﺭﺅوﺳﺎﺀ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﻭﺑﺤﺜﻬﻢ ﻋﻦ ﻣﺼﺎﻟﺢَ ﺷﺨﺼﻴﺔ إﺭﺿﺎﺀً ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ؟.
فرد ﺗﻮﻓﻴﻖ ﺷﻮﻣﺎﻥ بالقول: ﻣﻦ ﻣﻔﺎﺭﻗﺎﺕ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ، ﺃﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﻘﺎﺋﻤﺔ، ﺑﺄﻏﻠﺒﻬﺎ، ﺗﺴﺘﻤﺪ ﺑﻘﺎﺀﻫﺎ ﻭﻭﺟﻮﺩﻫﺎ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﺻﺮ ﺍﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ ﻭﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻣﻦ ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﺘﺮﺍﺧﻲ ﻣﻊ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻭﺍﻟﺘﺸﺪﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﺍﺧﻞ. ﻭﻓﻲ ﻇﻞ ﻏﻴﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮﺍﻃﻴﺔ، ﺳﻮﻑ ﺗﺴﺘﻤﺮ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﻮﺍﻋﺪ، ﺃﻱ ﺍلاﻋﺘﻤﺎﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﺑﻬﺪﻑ ﺍﻟﺤﻔﺎﻅ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ. ونتاج ذلك كان واضحَ المعالم، حيث يمكن أن ننظرَ إلى الحالة العراقية وسوريا واليمن وليبيا التي يمكن أن يتناولها الكاتب في مقالات تفصيلية لاحقاً، ولكن الأهم هو أن ننظر إلى النتيجة الواضحة المعالم في تفكيك جامعة الدول العربية التي أصبحت بلا دور ولا حتى قرار في قضايا الأمة العربية والإسلامية وكل ردودها كانت عبارة عن شجب وتنديد، دون التحرك للمعالجات الآنية للواقع العربي ومشكلاته. تفكك جامعة الدول العربية والإسلامية وانقساماتها إلى اتحادات وروابط مجالس مثال “مجلس التعاون الخليجي” أكبر دليل على لعب أمريكا فيه دور كبير لتفرقة الأشقاء العرب والمسلمين التي ستؤثر على اتخاذ القرارات ومواجهة التحديات التي تواجه المنطقة ودولها، خصوصاً أن تلك الدول لها ثقل جماهيري وتوجه عربي وإسلامي كبير جداً، ناهيك عن الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفطية التي تتمتع بها الآن أمريكا أكثر من تلك الدول المنتجة والمصدرة نفسها! تجدر الإشارة إلى أن تبنّي الولاياتُ المتحدة الأمريكية لمشروع الديمقراطية وحماية حقوق الأقليات ما هو إلا مشروع استعماري يهدف للحصول على أكبر قدر من القوة والطاقة وجميع ممتلكات الدول الأخرى، فمشروعها قد نجح لحد كبير في دول أمريكا الجنوبية واستطاعت أن تستولي على ولاء حكومات تلك الدول مثل المكسيك وكوبا والأوروجواي، الباراغواي، الأرجنتين، بيرو وكندا، وأخيراً فنزويلا التي وقف رئيسها مادورو متحدياً للقرارات الأمريكية، حيث نرى أن أمريكا كانت هي من سمّت رئيسَ البرلمان الفنزويلي… غوايييدو رئيساً لفنزويلا في انقلاب واضح على مشروعها الديمقراطي التي تتبناه بنفسها، ونفس الشيء حدث مع سوريا التي نتناولها في موضع آخر مما جعل سفير فنزويلا لدى موسكو يقول: إن هذا القرارَ نفذته أمريكا في سوريا حيث شكلت حكومة في المنفى كذريعة لوجود نظامين وهو ما تسبب في تدمير الشعب السوري. وهو ما يفضح نوايا الولايات المتحدة الأمريكية في أنها لا تهتم إلا بمصالحها ورفاهية شعبها من خلال الاستيلاء على ممتلكات الدول الأخرى التي تطلق عليها دول العالم الثالث، ولا تعترف بسيادة الدول وخصوصياتها.
أمريكا مشروع دولة صهيونية في المنطقة:
لا يكاد يخرجُ أيّ تصريح أو أي تحرك في مسار العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية إلا وكانت قضية إسرائيل ووجودها في المنطقة أهم الأجندة التي تدفع الإدارة الأمريكية للحديث عنها وبصورة داعمة لا معادية، فعملت على بلبلة الواقع العربي والإسلامي وتوجهاته نحو قضية مهمة لكل العالم وليس العرب أو المسلمين وحدهم، فحين تتحدث أمريكا عن الديمقراطية وحمايتها لحقوق الأقليات تقف القضية الفلسطينية مهدداً رئيساً للقادة الأمريكان، فكيف يعقل لها أن تتحدث عن مشروع ديمقراطي وهي داعمٌ رئيس لدولة الكيان الصهيوني في قتل الأبرياء وتهجيرهم من مناطقهم وامتلاء سجون الاحتلال الإسرائيلي بالأسرى الفلسطينيين. وآخر أنواع الدعم لكل متابع هو إعلان ترامب القدسَ عاصمةً إسرائيلية ضارباً بالمواثيق والمعاهدات الدولية عرض الحائط وبمباركة بعض القادة العرب. هذا الادّعاءُ الاستفزازي الذي هزّ مشاعرَ جميع العالم والمهتمين بحقوق الإنسان والديمقراطية الحقيقية وجدَ استنكاراً واضحاً، أهمّه وآخره ما جاء في مقال مجلة الدوحة العدد 123 يناير 2018 م، كتبه ريتشارد فالك: “جميع الذين يُصدرون بيانات عامة نيابة عن الحكومة الإسرائيلية يسعدهم قرار ترامب الاستفزازي الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل مستعينين بالمسلّمة التالية: إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تملك الحق في تحديد عاصمتها الخاصة في موقع تختاره هي…” ويقول ريتشارد: ” إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تتمتع حكومتها بالشجاعة لاختيار عاصمتها في مدينة تتجاوز حدود سيادتها، علاوة على ذلك تخضع لمن يمارسون حقوقاً أعلى. وبلا شك فإن من يمارس الحقوق الأعلى هي الولايات المتحدة الأمريكية التي تريد أن تتحقق لها مصالح خاصة تخدم مشروعها المغطى بغطاء الديمقراطية والحضارة، ولكن باطنه أطماع رأسمالية تريد أن تستولي على جميع ممتلكات المنطقة، وفي غفلة من السادة أعضاء الكومبارس العربي النائمين في سباتهم الحريري الذي لم يدم طويلاً.”
وفي هذا السياق يتفق الكاتب مع تساؤلات الأستاذ محمد الإدريسي حين سأل: هل يمكن لفرنسا أن ترعى القضية الفلسطينية في المستقبل؟! وقد أشارت اوليفيا زيمور الناشطة السياسية الفرنسية وقائدة الائتلاف الأوروبي لدعم الشعب الفلسطيني إلى أنه ليس ترامب ولا إسرائيل من يحددون القانون الدولي وليس هناك شعبٌ مختار. تخلى القادةُ العرب عن القضية الفلسطينية بشكلٍ مريب ومضحك لصنّاع القرار الأمريكي، حيث قدّم العربُ فلسطينَ على طبقٍ من ذهب لخدمة الأطماع الرأسمالية الغربية والأمريكية، وزيادة عن ذلك منحوها المال لكي تكمل هذا المشروع الديمقراطي المضحك. الدائرةُ الأمريكية وفقَ مخططها الاستعماري لم تقف عند القضية الفلسطينية فقط، بل استمرت لتشملَ بقية دول المنطقة العربية والإسلامية، ولن ينتهي هذا المشروعُ إلا بالاستيلاء على كل إمكانات الدول العربية والإسلامية من مياه ونفط وطاقة ومعادن وثروات لا حصرَ لها وبمساعدةٍ من أصحاب القرار في تلك المنطقة.
تخلي القادةُ العرب عن القضية الفلسطينية الذي تعترف حدود 48 بأن القدسَ عاصمةُ فلسطين، وكل العالم يعلم أن إسرائيلَ هي مغتصبة الأقصى ومحتلةٌ لفلسطين، ولكن الولاياتِ المتحدة الأمريكية عادةً ما تلعب في الماء العكر وتتخذ من نقاط ضعف العدو قوةَ هجوم، حيث اعترفت بالقدس عاصمةً لإسرائيل؛ ومما ساعدها على ذلك هو مبادرة السلام العربية 2002 التي استبدلت تدويل القدس بحلّ الدولتين الذي يتحقق فيه الافتراض الذي يشاطره الطرفين، بحيث يمكن تقاسم القدس والسماح لإسرائيل وفلسطين بإنشاء عاصمتهما في حدود المدينة.
هذه المبادرة ومثيلاتها كانت تمثلُ طوقَ نجاة لتحققَ به أمريكا مآربها، وهي فرصٌ تستثمر فيها دائماً أمريكا لتلفقَ التهمَ والفتن بين الدول الإسلامية والعربية، لتتركَ القضية الفلسطينية وتتجه نحو التحارب والاقتتال مستخدمة في ذلك كل الوسائل الإعلامية والإعلانات والدعايات. وفي خضم هذه الاتهامات بين الدول العربية فيما بينها تقوم هي بمساعدة إسرائيل ببناء مستوطنات جديدة في القدس وفلسطين عموماً، وتعتقل الفلسطينيين. والنقطة المهم الإشارة إليها هنا وفي ظل تباعد وجهات النظر بين البلدان العربية تقوم هي بتجنيد الفلسطينيين وتستخدمهم ضد التوجهات العربية التي تقف في نصف الطريق حتى لا تستطيع التحدث والدفاع لوحدها عن القضية الفلسطينية.
تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع ملف الربيع العربي :
العالم عبّرَ عن أحداث الربيع العربي بأنها أول ثورة شعبية في المنطقة، وأصبح الكثيرون يؤرخون ويكتبون عن هذه الثورة التي بدأت من تونس ومن ثم مصر وليبيا واليمن وغيرها، ولكن الكاتبَ يشير إلى أن الربيع العربي لم يكن بداية للثورات العربية بل ثورتي الشعب السوداني في 1964 والأخرى كانت 1981 وفيها رأى العالم كيف ثار الشعبُ السوداني في ثورة شعبية سلمية توجهت للقصر الرئاسي بمعاونة قوات الجيش والشرطة حتى نالت حريتها واستقلالها. وهنا الإشارة إلى أن أطماع المشروع الرأسمالي الأمريكي بدأت من تلك الفترة وأصبحت أمريكا تفتعل المشكلات الاقتصادية والسياسية بين الدول العربية حتى لا تتحد، فعملت على عزل السودان القلب النابض للأمة العربية والإسلامية وفرضت عليه عقوبات اقتصادية دفع ثمنها الشعب السوداني وليس الحكومات كما يعتقد البعض. هذه السياسة الأمريكية نجحت بمعاونة دول في المنطقة واستمرت حتى بداية الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من الدول.
موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الأحداث في مصر وتونس:
لطالما أشرنا إلى أن الولاياتِ المتحدة الأمريكية تجيدُ اللعبَ والاصطياد في أجواء المياه العكرة دون النظر للسجية الإنسانية أو الأخلاقية. فقط تهتم بتحقيق العيش الرغيد لمواطنيها ولو كان الثمنُ جوعَ وقتال ودمارَ دولٍ أخرى، فبعد أن شجعت الولاياتُ المتحدة الأمريكية قيامَ دولة الكيان الصهيوني في المنطقة وبسطت سيطرتها على العراق كما سنكشف لاحقاً، وعملت على عزل إيران وتركيا عن قضايا محيطها العربي والإسلامي، توجهت أطماعها والظاهر أنها أعدت دراسات مجدية لمشروعها الرأسمالي في إمكانية الاستفادة من هذا الحراك الشعبي السلمي الذي كان كل حلمه أن يعيش حراً وكريماً، ولكنها لا تراعي لمثل هذه المطالب خاصة إذا تعارضَ مع مصالحها ولكن إرادة الشعب غالباً ما تكون هي الأقوى خاصة إذا جاءت من الشعب العربي.
يلاحَظُ هنا أن دورَ امريكا لم يكن واضحاً، فقد كان مستغرباً لهذا الحراك الذي لم يكن في حسبانه لعدة دلالات أشار لها د. خالد حسين محمد في كتابه ” الثورة الشعبية العربية وتداعياتها على المنطقة والسودان”، حيث دهشة الولايات المتحدة الأمريكية كانت لإيمانها التام بتحكمها بالوضع في كل من مصر وتونس، وذلك عن طريق ضمان ولاء نظامَي مبارك في مصر وبن علي في تونس، وكانت دائماً ما تطلق على مصرَ وتونس اسمَ دول الاعتدال، ولكن الإرادة الشعبية في مصر وتونس كانت أقوى وأعتى من قرارات ودراسات النظام الرأسمالي الأمريكي. وعندما شعرت بقوة هذا الحراك لم تدعم تلك الأنظمة بشكل مباشر، ولكن النقطة المهمة كانت كيفية استقطاب شباب الثورة والاعتراف المبكر بحقوقهم وكانت تريد أن تكون هي الحاضن الرئيس لشباب تلك الثورات. ونجد أن كل التصريحات كانت تهدف بالمقام الأول لوجود ضامن لأهداف الولايات المتحدة الأمريكية في تونس ومصر حتى لو كان الثمن التضحية بحلفائها مبارك وبن علي، حيث عبّرت في أكثر من مرة في أحاديثها عن تلك الثورة في مصر وعبر البيتُ الأبيض عن قلقه الشديد إزاءَ الأحداث في مصر معرباً عن حق المصريين في حق التجمّع والتعبير. أما وزيرة الخارجية الأمريكية فقد حثت الحكومة المصرية على السماح للاحتجاجات السلمية وعدم حجب مواقع الانترنت. وفي خطابات أخرى مثل تلك التي عبّر فيها السيدُ فليب كراولي الناطق الرسمي باسم الخارجية عن قلق بلاده عن قطع خدمات الاتصالات في مصر.
ويشير د. محمد حسين إلى أن كل المواقف الأوروبية زائد الموقف الأمريكي تنطلق من الخوف مما يحدث في مصر من أن يؤثر ذلك على الأمن الإسرائيلي وعلى علاقات إسرائيل بمصر، حيث عبّر عن ذلك نائبُ رئيس الوزراء الإسرائيلي سيلفان شالوم، حيث أعرب عن أمله بأن لا تؤثر الاضطرابات في مصر على علاقاتها الجيدة التي تربطها بإسرائيل منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
ومما يمكن الإشارة له هنا وفي أعقاب الثورة الشعبية المصرية جعلت الولايات المتحدة الأمريكية في موقف لا تحسد عليه، فهي بالرغم من قوتها وجبروتها وسياساتها التدخلية في سيادة الدول إلا أنها تخاف من ذهاب أهدافها سدى، فهي لا تريد أن تفقد السيطرةَ على الوضع في مصر ولا تريد أيضاً أن تخسرَ نظامَ مبارك الذي أعلن انصياعه وتبعيته لتحقيق أجندة الولايات المتحدة الأمريكية حتى أطلقت على مصر وتونس دول الاعتدال. ولكن أمريكا لا تؤمن إلا بمصالحها وتحقيق رفاهية مواطنيها على حساب قدرات وموارد الآخرين، ومما يؤكد تخوف الولايات المتحدة من فقد سيطرتها على الوضع في مصر إبان ثورة الربيع العربي ما أشار إليه ديفيد ميللر المحلل في مركز وودرو ويلسون الدولي: إن موجة التطورات الحالية تسلط الضوء على الضعف الأمريكي، ويظهر أن واشنطن ليست هي المحرك الرئيسي للأحداث ولم تكن أبداً في يومٍ من الأيام صاحبة هيمنة إقليمية وأن كل ذلك مجرد وهم حيث نجح الرؤساء الأمريكان في أن يجعلوننا نرفع التوقعات ونخلق شعوراً بأننا أقوى مما نحن عليه في الحقيقة. ومن نقطة ميللر يتفق الكاتب معه في كثير من النقاط، حيث نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في إقناع كل العالم بأنها هي القوة المهيمنة على مصالح الدول مما أعطاها حق التدخل في السيادة الوطنية لكثير من الدول ومنها بلا شكل دول الشرق الأوسط والدول العربية والإسلامية بشكل خاص، بأنها ترى في هذه المنطقة منافع تدر بليارات ومليارات الدولارات لخزينة البنك المركزي الأمريكي مما يضمن رفاهية عالية للمواطن الأمريكي، وأصبحت تتخذ قرارات أحادية في شؤون الآخرين أولها تدخلها في العراق مع بنت عمها بريطانيا مروراً بدول آسيا، أفغانستان وباكستان مروراً بمصر واليمن وتونس وليبيا وسوريا. وأخيراً اتجهت إلى دول أمريكا الجنوبية حيث النفط والغاز والطاقة النووية في فنزويلا، ولن ينتهِ المشروع هنا ما لم يجد قوة عظمى، وليست هناك قوة أعظم من الدول العربية والإسلامية التي ينظر لها العالم بأنها المنقذُ الرئيسُ للهيمنة الأمريكية على الرغم من الغطاء العميق الذي تتدثر به مهابة من أمريكا وحلفائها.
قوة الدول العربية والإسلامية لا توازيها قوة في العالم، ولكنها تحتاج إلى نهضة فكرية وسياسية وتغيير نظرة الحكم في الدول العربية والإسلامية من حكم دكتاتوري وملكي وعشائري إلى حكم يقدم المصلحة الوطنية فوق كل شيء وتحقيق الوطنية والخروج من عباءة الهوان التي يرتديها. وفي هذه النقطة أجرى الكاتب حواراً مطولاً مع الإعلامي والمحلل السياسي اللبناني توفيق شومان لصحيفة ملتقى الأجيال الإلكترونية السودانية: وسألته عن “ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﺮﺝ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﺭﻃﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ؟” وكان رده مليئاً بالموضوعية التي يتفق معها الكاتب، وفيها يقول ﺗﻮﻓﻴﻖ ﺷﻮﻣﺎﻥ ” ﻓﻲ ﻇﻞ ﻏﻴﺎﺏ ﺍﻹﺭﺍﺩﺓ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﻮﺍﻳﺎ ﺍﻟﺤﺴﻨﺔ ،أﻋﺘﻘﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻌﺐ ﺃﻥ ﺗﺨﺮﺝ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺃﺗﻮﻥ ﺻﺮﺍﻋﺎﺗﻬﺎ، ﻭﻃﺎﻟﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺜﻘﺔ ﻣﻔﻘﻮﺩﺓ ﺑﻴﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺗﻠﻚ، ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻧﺘﺤﺪﺙ ﻋﻦ “ﺳﻼﻡ ﻋﺮﺑﻲ”، ﻫﺬﺍ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﺤﺮﻭﺏ ﺍﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻟﻦ ﺗﺘﻮﻗﻒ، ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻫﻲ ﺳﺘﺘﻮﻗﻒ ﺑﻌﺪ ﺣﻴﻦ، ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﺳﺘﻌﻮﺩ ﺑﻌﺪ ﺣﻴﻦ ﺁﺧﺮ، ﻃﺎﻟﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﺃﻥ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻐﻠﺒﺔ ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻨﻒ ﻭﻋﻠﻰ ﺇﻗﺼﺎﺀ ﺍﻵﺧﺮ. ويبقى السؤال : من يوقف أمريكا عن العرب غير العرب؟