محمد غناش
في الحقيقة، إن الفكرَ الإسلامي المعاصر اُبتلي بإشكاليات عديدة تحتاج إلى دراسة معمقة ودراية بالمواضيع التي انتابت تلك الهواجس في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث أن المتتبعَ لمجريات الأحداث لابدّ أن يكون ملماً إلماما واسعاً بالمعرفة، وأنه متابع لتراكمات كبيرة من خلال ما أنجزه المصلحون المسلمون في المجال الفكري والديني. لذلك ظهرت أمورٌ كثيرة في الاختلافات الفكرية والدينية والاتجاهات المسلكية والأخلاقية، حيث اختلفت طبيعةُ ونوعية الاهتمامات والأولويات الفكرية والعملية، وكان من خلال الاختلافات والقطيعة المتباينة بين الأيديولوجيات التراجع الفكري الهام والذي امتدّ منذ الخمسينات إلى أواخر ثمانينات القرن الماضي، و ظهور تيارات متشددة عديدة أهمها ظهور حزب -الإخوان المسلمون- وقد كان هؤلاء ينشدّون لإقامة دولة عربية حديثة في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث دخلت تلك المرحلة بتصادمات مع الخطاب الديني آنذاك حيث تبنت هذه الدولة خيارات فكرية وتشريعية متنوعة وعلى المقاييس التي تريدها هي من خارج المنظومة الإسلامية وظهور إيديولوجيات غير إسلامية مما حدا لوجود صدامات وعنف مع الفكر الاسلامي بكل اتجاهاته.
لذلك أصبح الفكرُ الإسلامي في ظل هذه الأمور مسكونا ًبهاجس الخوف على الهوية الإسلامية الحقيقية وأنه معرضٌ للغزو الفكري والاختراق الثقافي، لذلك لم يعد بإمكانه تطوير معرفته بالأمور الصحيحة والدقيقة التي كان ينادي بها من أجل المعرفة بالوصول للديموقراطية التي نادى بها الإسلام في بداياته، وقام من أجل المساواة والعدالة التي زجّ بها في معترك الصراع الإيديولوجي وجعل مبدأ الديموقراطية الأساس لقيام دولته التي ينشدها آنذاك واعتبرها من مقدماته الأولى والتي بالغ في التفاخر بها، مما خلق حاجزاً نفسياً يعرقل الفكرَ الإسلامي الذي نادى بفكرته المصاحبة للديموقراطية .
حيث كانت الفكرة متلازمةً مع الفكرة العلمانية تارة وانتسابها إلى الفلسفة الليبرالية تارة أخرى .
وكل ذلك وضع الحواجزَ الثقافية والفكرية أمام الفكر الإسلامي من الاقتراب والتفاعل مع فكرة الديموقراطية .
وقد ساهم أصحابُ الإيديولوجيات في تكوين صورة مُلتبسة وغير ناضجة عن مفهوم الديموقراطية الإسلامية الحقة التي حارب من أجلها، ولهذا فقد انبثقت مفاهيمُ لا يقبلها الإسلام، وتعارضت في فلسفته ونظرته في كثير من الأمور والنقاط .
وبصورة عامة نقول بأن الفكرَ الإسلامي كان محكوماً بذهنية الصراعات الإيديولوجية، لذلك أصبح مشغولاً بمنهج المقاربات والمقارنات العامة والكلية والتي كانت تهدف إلى إثبات التمايز بين الإسلام والفكر الإسلامي مع باقي الإيديولوجيات الأخرى التي وصلتنا من الدول الأوروبية. وقد أنجز الفكرُ الإسلامي الكثيرَ من الكتابات التي تتباين من حيث خبرتها المنهجية وكفاءتها العلمية .
وقد كان هناك تجددٌ في المفهوم والموقف تجاه الإيديولوجيات الأخرى، وظهرت مشكلاتٌ عديدة في قسم كبير من الدول العربية والدول الأخرى قامت على أساس الدين، وقامت بأعمال تنافي الفكر الإسلامي والدين منهم براء، ولاحظنا ذلك أثناء الاحتلال الروسي لأفغانستان حيث كانت القوات المحتلة تنادي بفكرة الإلحاد التي حاربها الأفغان سنين طويلة، وتم طرد القوات المحتلة من بلادهم، وظهرت مجموعات عديدة من الإسلاميين المتطرفين وقد سيطروا على جزء كبير من البلاد وقاموا بتقسيم البلاد ونهب خيراته، وقد برزت مجموعاتٌ تكفيرية عديدة في ليبيا –اليمن –سوريا- العراق – وكان في مقدماتها الإخوان المسلمون في مصر وسوريا. وما جرى في مصر واضح على استبدادهم وتفردهم في السلطة ونهب خيرات البلاد، والأمر ينطبق على مصرَ عندما جرت الانتخابات واستلم الإخوان المسلمون السلطةَ هناك والأعمال التي قاموا بها في مصر الحبيبة من تفرّد بالسلطة ونهب الخيرات التي كانت متواجدة في البلاد .
والمجموعات التي تشكلت كانت مجموعات متطرفة إرهابية وتنادي باسم الدين الإسلامي لإقامة دولاً وهي لا تمتلك مقومات الدولة.
وقامت هذه المجموعات بمحاربة الفكر الإسلامي بشكل يتناسب والمفاهيم التي تعلمتها وترعرعت على تنفيذها . ومردّ ذلك أن منطقة الشرق الأوسط وتحديداً الدول العربية تعيش أزمةً خانقة من الاستبداد والفوضى التي تعود إلى الحقبة العثمانية مروراً بالاحتلال الأجنبي الذي احتل مجموعة كبيرة من دولنا العربية واستمرت بعد التحرر والاستقلال تعيش بحالة انقسام وتسلط حتى وقتنا الراهن .
هذا وقد تحولت أنظمة الحكم في الدول العربية التي تحررت إلى ديكتاتوريات، وهذه لعبت دوراً كبيراً في استغلال شعوبها والمتاجرة بمقدراتها وكبتها عبر المراحل التي تلت الاستقلال والتحرر، وقد ظهر جلياً وجود أزمة في العلاقات الدينية والتواصل بين المذاهب حيث وصلت إلى حدّ التكفير، وهذا ما لمسناه أثناء سيطرة المتطرفين على بعض المناطق وخاصة مجموعة داعش الإرهابية والجرائم التي قاموا بها بحجة الإسلام والفكر الإسلامي.
وكذلك لعبت هذه المجموعاتُ دوراً بارزاً في تخريب الإنسان العربي والقضاء عليه واغتصابه ونهب خياراته واستلاب فكره، وتعالت الخطابات للتباعد بين المذاهب إلى حدّ التكفير وقتل كل شيء كما في ليبيا وسوريا واليمن والعراق .
وظهرت هناك جيوشٌ تدعمها القوى الإمبريالية والاستعمارية والرجعية من أجل القضاء على التطور والبنيان الحاصل في تلك الدول المناهضة للاستعمار، من هذه الجيوش والمجموعات المتطرفة –الحشد الشعبي في العراق –وحزب الله في لبنان –والمتطرفون في اليمن – وفي سوريا –وقد كان للإخوان المسلمين الدورُ البارز في الاستبداد والتخريب في الوطن العربي وفي الدول التي كانوا يقطنون بها .
ولعبت المجموعاتُ والأحزاب المتطرفة دوراً بارزاً في إيجاد نوع من التفرقة بين شعوب المنطقة والقضاء على المكونات المتعايشة على أرض الوطن الواحد، وكان لها دورٌ سلبي بتجميع الشباب حولهم من خلال رفعهم لشعارات براقة وكاذبة للسيطرة عل البلاد، متذرعين بالمساواة والديموقراطية بين الشعوب، وغايتهم هي القضاء على مكونات تلك الشعوب ونهب خيرات البلاد وتجهيل الشعوب وإبعادهم عن السياسة والعلوم الأخرى.
هذا وقد كشفت الثورة السورية عن أزمة كبيرة وهي غياب التوجّه الوطني والتعددية والتنوع في حضارة وازدهار الشعوب المتواجدة على الأرض السورية، وكان هناك عدم تجاوب مع المبادىء والأفكار المتجذرة لتلك المكونات المتواجدة، ولم يكن التجاوب إيجابيا للترابط الوثيق بين المكونات المتعايشة فيما بينها والعلاقة الانصهارية لتلك المكونات سواء كانت كردية أو عربية أو آشورية أو سريانية. هذه المكونات تلتقي جميعها برابط واحد هو المحبة والأخلاق والمساواة فيما بينها، وقد غاب عن تلك القيادات الرابط المشترك لهذه الكيانات التي دافعت جميعها عن أرضها وشرفها ضد المستعمرين الذين احتلوا بلادنا عنوة .
وكان لغياب القيادات الإقليمية أو العربية أن تزعمت بعضُ دول الخليج والتي تنادي بالتغيير في العالم العربي، مما جعلنا نتصور بأنها قادرة على قيادة الجماهير في الميادين والساحات وتقديم البرامج الأفضل لسعادة شعوبها. وهذه القياداتُ انفقت مبالغَ ضخمة من أجل التوجه إلى نشر المواضيع التي نادت بها، مع العلم بأنها أظهرت الكثيرَ من الكراهية للشعوب المناهضة للاستبداد والظلم، وعرقلت عمليةَ التغيير السلمي والتحوّل الديموقراطي وحوّلتها إلى عمليات قمع كما جرى في سوريا واليمن وليبيا ومصر .
والهدفُ هو الابتعاد عن مجريات التغيير، وكانت تركز دائماً على عوامل الاختلاف الديني والطائفي لتُخرجَ الحراكَ الشعبي عن مساره، وكل ذلك استوفاء وانطباعاً للدول الأجنبية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية .
ومن البديهي أن نختصرَ مفاعيل الأزمة السورية الحالية بالسوريين وحدهم، لأن هذه الأزمة تجاوزت كلَّ المفاهيم والمعايير للأزمة السورية، بل تعدتها إلى المستوى الإقليمي والدولي، وقد خلقت هذه الأزمة صراعاتٍ بين الدول الكبرى .
وسوريا هي ميدانُ تلك الصراعات والحجم الكبير لعدد الأطراف التي تدخلت في تفاصيل الأزمة على مستوى الدول والتحالفات والمجموعات المسلحة المتطرفة والمعارضة .
وهذا يدل على أن الدول العربية عاجزة عن حل مشكلاتها وقيامها بالانتقام من بعضها البعض على حساب دماء شعوبها، وهذا ما نراه في اليمن وتشكيل التحالف العربي وقوات درع الجزيرة في البحرين، مما يدل على أنه لا يوجد حل سلمي للمشكلات في الدول العربية والتي كانت لها الباع الطويل في الفتوحات الإسلامية لنشر الفكر الإسلامي .
وقد قامت بعضُ الدول الغربية بدعم بعض المنظومات العربية من أجل محاربة الإرهاب والوجود الإيراني والاعتماد على المعتدلين لإبرازهم كفاعلين لإيجاد ديموقراطية بين الشعوب كما يدعون .
واحتواء الكرد والمسيحيين والأطياف الأخرى من أجل تحرير سوريا فيما لو سارت الأمور مساراً وطنيا ً، وهذا ما تريده الدولُ والمواقف الغربية لجعل الجهات الوطنية تعمل على الاستفادة من الكتل الوطنية ومقدراتها في التكامل والتعايش فيما بينها وإيجاد صيغ داعمة لها من قبل الدول الداعمة والمناهضة للإرهاب .
وقد لعبت تركيا دوراً أساسياً من خلال التركيز على الدين كعنصر أساسي في الانقلابات العسكرية منذ البداية، فقد كان الإسلام الذي قامت عليه الدولة العثمانية حيث كان السلاطين يدعون أنفسهم بالخلفاء في العالم الإسلامي
وكذلك في إيران، فقد لعب الدينُ دوراً أساسياً بإقامة الثورة الإسلامية والتي استأثرت بأحزاب سياسية والاهتمام الإقليمي، فقد حسم الجيش الموقف وتم توظيف الدين لمواجهة المدّ الشيوعي آنذاك على أساس فكرة الإسلام، وكان التركيزُ في وقتنا الحاضر في دفع المتطرفين والذين يدعون الإسلام بالدخول إلى الدول العربية ومنها سوريا للقضاء على الشعوب السنية وإبراز قوى تتصادم بين الطوائف للقضاء على الانتماء الوطني والقومي. وقد قامت المجموعاتُ المتطرفة المتعددة الأهداف إلى تدمير البنى التحتية والاقتصادية وقتل الشباب المتطلع إلى الحرية والكرامة، متذرعين بذلك بحجة من الإسلام وتشكيل كتل تنادي بالإصلاح والاقتتال وتدمير كل الجوانب الحياتية للمجتمع .
وفي أيامنا يتم مناقشة وتداول الكثير من الأمور التي ارتبطت بمصير الشعوب التي تناضل من أجل الدفاع عن القهر والضياع الحاصل والذي خلقته القوى الرجعية والإمبريالية في وطننا، ومن خلال المشكلات العديدة التي خلفها الجهل والتعصب والكراهية بين شعوب المنطقة المنادية بالإسلام فقد انقلبَ المفهومُ الذي نادى به الإسلاميون المتسلطون على مقدرات الشعوب بالدمار وانهيار النظم الاستبدادية التي روّعت وقتلت أبناءَ شعبها في سبيل استلام السلطة وقتل بعضنا بعضا، وإن السبب الرئيسي لمأساتنا هو القوى الرجعية والتي دعمت المجموعات الإرهابية وأبعدتنا عن حضارتنا وفكرنا الديني والقومي الذي نعتز به. وقد أسهمت هذه الأفكار الرجعية بإبعادنا عن ديننا وقوميتنا وجعلتنا نتقاتل من أجل السيطرة على السلطة، وتشعبت المفاهيم والأفكار الإسلامية التي كنا نسير بخطاها لبناء مجتمع تسوده العدالة والمساواة ،والمشكلات التي ظهرت من خلال الأحزاب والمجاميع المتطرفة أبعدتنا عن إرثنا الحضاري ومفهومنا الديني السليم، فنرى في العراق أعداداً كبيرة من الأحزاب والمجاميع المتطرفة دمرت وقتلت وهجرت شبابها وطردت أبناءها من أجل السيطرة على السلطة واستبعاد الآخرين، وكذلك في اليمن الأخ يقتل أخاه من أجل الفوز بالسلطة، وكذلك في سوريا تشكلت مجموعاتٌ عديدة كانت تنادي أغلبها بإقامة دولة إسلامية وباسم الدين الإسلامي والإسلام منهم براء. فنتيجة هذه المشكلات المتعددة والمتناحرة انقسم الوطنُ الواحد إلى عدة أقسام ونُهبت خيراته، وكان المستفيدُ الوحيد من هذه العملية هو الاستعمار والدول الغربية وأمريكا وإيران وروسيا التي أقدمت على تنفيذ مخططها التوسعي في البلدان المجاورة ونشر التشييع كما تنفذه إَيران في المنطقة وهذا يتنافى ورؤية الدين الإسلامي الصحيح، وكل هذه الأمور جعلتنا ننادي بالتعصّب الديني والمذهبي .
لذلك نجد أنفسنا ندور في نقطة واحدة مع العلم بأننا العرب جميعاً في مركب واحد، وإذا ما استطعنا أن نجمع بعضنا ونتحد من أجل الدفاع عن وطننا وازدهار شعوبنا والتواصل الإيجابي بين الأديان وعدم التفريق بين الأطياف الأخرى والتأكيد على أن نعيش في وطن واحد وتجمعنا كلمة واحدة من أجل وطننا لكي نحافظ عليه وعلى مقدراته ونعيش متحابين أخوة متضامنين لرد أي عدوان على وطننا ونأكل من ثمار تلك الأرض الخصيبة.
وخلاصة القول بأن الفكرَ الإسلامي المعاصر لم يتقدم باتجاه تطوير المعرفة ،وانقطع لما أنجزه المعلمون المسلمون في عصر الإصلاح الإسلامي، ولم يستعن بالتراكمات والمنجزات التي كانت وقلّ موقفه في العموم متوتر أو متأثراً لا مؤثراً وهذا يقودنا إلى الاستمرار وتصحيح الأخطاء من أجل تقدمنا ودفع عجلة التطور إلى الأمام .