أحمد اليوسفملف العدد 43- الدين والدولة

الدين في المجتمع الطبيعي

أحمد اليوسف

/إعداد أحمد اليوسف

أحمد اليوسف
أحمد اليوسف

عَلَيْنَا بِدَايَةً أَنْ نُعَرِّفَ مَا هوَ المُجْتَمَع الطَّبِيعِي ؟ وَمَا هُوَ الدِّين؟

المُجْتَمَع الطَّبِيعِي: مِنْ خِلَالِ البَحْثِ لَمْ أَجِدْ تَعْرِيفًا لِمُصْطَلَحٍ المُجْتَمَع الطَّبِيعِيِّ يَحْدُدْهُ بِوُضُوح سِوَى الفَيْلَسُوف الكُرْدِي عَبْدالله أَوْجلان، حَيْثُ يَقُولُ مُعَرَّفًا المُجْتَمَعِ الطَّبِيعِيِّ: “أَقْصِدُ بِمُصْطَلَح (المُجْتَمَع الطَّبِيعِي) نِظَامُ الجَمَاعَاتِ البَشَرِيَّة، الذِي دَامَ مَرْحَلَة اجتماعية طَوِيلَة تَبْدَأُ بِاِنْفِصَال المَوْجُود الإِنْسَانِي عَنْ فَصِيلَةِ الثَّدْيَيَاتِ الرَّئِيسِيَّةِ البِدَائِيَّة، وَتَنْتَهِي بِظُهُورِ المُجْتَمَعِ الهرمِيِّ. وَعَادَةً مَا تُطْلق تَسْمِيَة المرَحلَة الباليوليتية (العَصْر الحَجَرِي القَدِيم) والنيوليتية (العَصْر الحَجَرِي الجَدِيد) عَلَى هَذِهِ الحِقْبَةِ مِنْ التَّارِيخِ البَشَرِي، وَالَّتِي شَهِدَتْ ظُهُور تِلْكَ الجَمَاعَات الإِنْسَانِيَّة المُسَمَّاة بِ “الكْلَان” الَّتِي يَتَرَاوَح عَدَد أَفْرَادِهَا بَيْنَ العِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ شَخْصًا.
تَعُودُ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ إِلَى اِسْتِخْدَامِ تِلْكَ الجَمَاعَاتِ الأَدَوَاتِ الحَجَرِيَّةَ. كَانَتْ تِلْكَ الجَمَاعَاتُ تَتَغَذَّى عَلَى الصَّيْدِ وَجُمَع الثِّمَار المُتَوَافِرَة فِي الطَّبِيعَةِ. أَي أَنَّهَا تَعِيشُ عَلَى النتاجات وَالثِّمَار الجَاهِزَة فِي الطَّبِيعَةِ. إِنَّهَا طَرِيقَة تَغْذِيَة شَبِيهَة بِمَا تَسْلُكُهُ الفَصَائِلُ الحَيْوَانِيَّةُ القَرِيبَة مِنْهَا فِي قوتها”
ولاَ بُدّ لنا أيضاً قَبْلَ أَنْ نَدْخُلَ فِي تفاصيل المَوْضُوعِ أَنْ نَعْرِفَ مَا هُوَ الدِّينُ، وَ لَقَدْ وَجَدْنَا عَبْرَ التَّارِيخِ تَعْرِيفَاتٍ كَثِيرَةٍ لِلدِّينِ، ومِنْ المُلَاحِظِ فِي السِّيَاقِ الإِسْلَامِيِّ أَنَّ الحَضَارَةَ الإِسْلَامِيَّة لَمْ تَهْتَم كَثِيرًا بِوَضْعِ تَعْرِيفٍ لِلمُصْطَلَحِ مُقَارَنَةً بالحضارةِ الأُورُوبِّيَّةِ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ.
يُوضِحُ أُسْتَاذُ العَقِيدَةِ مُحَمَّد جَمَال جَعْفَر السَّبَبَ قَائِلًا: “إنَّ التَّعْرِيفَاتِ الَّتِي قُدِّمَتْ فِي المُحِيطِ الإِسْلَامِيِّ كَثِيرة، وَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ الكَثْرَةَ الَّتِي تُوجَدُ فِي المُحِيطِ الغَرْبِيِّ، نَظَرَا لِأَنَّ المُحِيطَ الإِسْلَامِيَّ كَانَ يَتَّضِحُ فِيه المَفْهُومُ وَ لَمْ تَكُنْ الحَاجَةُ إِلَى التَّعْرِيفَاتِ مُلِحَّةٌ”
فِي اللُّغَةِ العربية، تَعْنِي كَلِمَةُ دَيْن مِنْ النَّاحِيَةِ اللُّغَوِيَّة عِدَّةَ مَعَانٍ مِنْهَا، الطَّاعَةُ وَالخُضُوعُ وَ السِّيَاسَةُ وَ القَهْرُ وَ الجَزَاءُ وَ الحِسَابُ وَ الحِكَمُ وَ العَادَةُ، أمّا في الاصطلاح، فيعرّفه شيخ الأزهر الأسبق إبراهيم الباجوري بأنه” وَضْعٌ إِلَهِيٌّ سَائِق لَذَوِيَ العُقُولُ السَّلِيمَة بِاِخْتِيَارِهِمْ المَحْمُود”

لا جدالَ أَنَّ العَلَاقَةَ بَيْنَ المُجْتَمَعَاتِ العَرَبِيَّةَ وَ الدِّين عَلَاقَة عُضْوِيَّة رَاسخة، لَا تُقَبِّلُ التَّلَاعُبَ أَوْ المُقَايَضَةَ وَتَنْعَكِسُ مَلَامِحَ هَذِهِ العَلَاقَةِ فِي العَدِيدِ مِنْ المُؤَشِّرَاتِ الإِجْتِمَاعِيَّة كَاِنْتِشَارِ مَظَاهِرِ التَّدَيُّنِ (حِجَابُ المَرْأَةِ، المَسَاجِدُ، الجَمْعِيَّاتُ الإِسْلَامِيَّة، الفَضَائِيَّاتِ الإِسْلَامِيَّةُ، السُّلُوكُ الديني، الثَّقَافَةُ الإسلاميّة)، وَ مَا المَدُّ السِّيَاسِيُّ الإِسْلَامِيُّ أَلَا مِرْآةً مُسْتَوِيَةً لِلوَاقِعِ الاجتماعي ذَاتِهِ.
فِي الحَقِيقَةِ وَاقِعُ المُجْتَمَعَاتِ العَرَبِيَّةِ يَتَجَاوَزُ السِّجَالَ السَّابِقُ، إِنَّمَا السُّؤَالُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نَفْكِرَ فِيهُ وَنَتَنَاقَشُ فِي إِجَابَتِهِ يَكْمُنُ فِي طَبِيعَةِ الوَظِيفَةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ لِلدِّينِ وَأَبْعَادُهَا : هَلْ يَكُونُ الدِّينُ مُحَفِّزًا لِتَقَدُّمِ المُجْتَمَعَاتِ العَرَبِيَّةِ وَتَطْوِيرَهَا وَنَهْضَتُهَا وَوِعَاءٌ لِلاِجْتِمَاعِ الرَّشِيدِ المَبْنِيِّ عَلَى جَوَامِعَ ثَقَافِيَّةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ، أُم نَجْعَلُ مِنْهُ كَابِحًا لِلتَّقَدُّمِ وَ الاِنْفِتَاح وَ مِعْوَلَ هَدْمٍ لِلوَحْدَةِ الوَطَنِيَّةِ وَ الإِجْتِمَاعِيَّةِ؟

الأَسْئِلَةُ السَّابِقَةُ تَضَعُنَا فِي لُبِّ المَوْضُوعِ
كَيْفَ نَفْهَمُ الدِّينَ وَنُمَارِسُهُ، وَ إِذَا أَرَدْنَا الصِّدْقَ مَعَ أَنْفُسِنَا لاَ بُدَّ أَنْ نَعْتَرِفَ بِوُجُودِ أَزْمَةٍ خَطِيرَةٍ فِي عَلَاقَةِ مُجْتَمَعَاتِنَا بالإسلام.
فهُنَاكَ ضُعْفٌ فِي الخِطَابِ التَّنْوِيرِيِّ مُقَابِلَ حُضُورِ الخِطَابِ المُتَشَدِّدِ؛ إذ لَعِبَت الظُّرُوفُ السِّيَاسِيَّةُ والاجتماعية العَرَبِيَّةُ دُورَاً فِي اِنْتِشَارِ تأويلات وَ فَتَاوِي إِسْلَامِيَّة تشككُ فِي الدَّوْلَةِ العَرَبِيَّةُ المُعَاصِرَةُ وَتُبَالِغُ فِي الحِرْصِ عَلَى الهُوِيَّةِ الإِسْلَامِيَّةُ لِتُصْبِحَ عُنْوَاناً لِلاِنْغِلَاقِ وَ التَّشَدُّدِ وَ مُعْطًى نَاجِزًا بَدَلًا مِنْ العَمَلِ عَلَى تَطْوِيرِ هَذِهِ الهُوِيَّةِ وَالإرْتِقَاءُ بِهَا وَبِمَضَامِينِهَا المُعَاصِرَةِ.
وَقَدْ أَدَّتْ غَلَبَةُ اِهْتِمَامِ الحَرَكَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ بِالجَانِبِ السِّيَاسِيِّ إِلَى إِغْفَالِ الأَبْعَادِ الإِجْتِمَاعِيَّةِ الحَضَارِيَّةِ فِي الوَظِيفَةِ الدِّينِيَّةِ أَوْ التَّقْلِيل مِنْ شَأْنِهَا، وَتَرَاجَعَتْ “المَسْأَلَةُ الثَّقَافِيَّةُ” فِي وَعْيِ الحَرَكَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ لِتَحْتَلَّ مَكَانًا مُتَأَخِّرًا فِي أَوْلَوِيَّاتِهَا. وَبِالتَّأكِيد هُنَاكَ مَظَاهِرُ مُتَقَدِّمَةٌ وَرَاشِدَةٌ مِنْ التَّدَيُّنِ فِي مُجْتَمَعَاتِنَا.
وَبَعْدَ هَذَا الإسهاب نَعُودُ إِلَى مَعْنَى كَلِمَةِ “دِيْن أَوْ دِيَانَة” وَهِيَ مَنْ دَان خَضَعَ وَذُلّ وَدَانَ بِكَذَا فَهِيَ دِيَانَةٌ وَهُوَ دِينٌ؛ وَتَدَيَّنَ بِهِ فَهُوَ مُتَدَيِّنٌ، إِذَا أَطْلَقَ يُرَادُ بِهِ: مَا يَتَدَيَّنُ بِهِ البَشَرُ؛ وَيَدِينُ بِهِ مِنْ اِعْتِقَادٍ وَسُلُوكٍ؛ بِمَعْنًى آخَرَ، هُوَ طَاعَة المَرْء والتزامه لِمَا يَعْتَنِقُهُ مِنْ فِكْرٍ وَمَبَادِئ.
وَالِدّين: يَتَمَثَّلُ بِالطَّاعَةِ وَالاِنْقِيَادِ، فَرِجَالُ الدِّينِ: هُمْ المُطِيعُونَ المُنْقَادُونَ، كَمَا يُحَمِّلُ الدِّينُ الإِنْسَانَ مَا يَكْرَهُ، وَمِنْ هَذَا البَابِ تَأْتِي كَلِمَةُ الدَّيْنِ (القَرْضُ): إِمَّا بِالأَخْذِ أَوْ بِالعَطَاءِ مَا كَانَ لَهُ أَجَلٌ، كَمَا أَجَلَهُ الجَزَاءُ وَالحِسَابُ وَالعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالمُوَاظَبَةُ وَالقَهْرُ وَالغَلَبَةُ وَالاِسْتِعْلَاءُ وَالسُّلْطَانُ وَالمَلِكُ وَالحَكَمُ وَالتَّسْيِيرُ وَالتَّدْبِيرُ وَالتَّوْحِيدُ، وَجَمِيعُ مَا يَتَعَبَّدُ بِهِ لِلإِلَهِ.
لَقَدْ ذَهَبَ البَعْضُ مِنْ عُلَمَاء الاِجْتِمَاع إِلَى القَوْلِ بِأَنْ الدِّين ظَاهِرَةٌ اجتماعية فِي المَقَامِ الأَوَّلِ؛ فَالمُجْتَمَعِ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِهِمْ عِنْدَمَا يَتَعَرَّض لِبَعْضِ الأَزَمَاتِ فَإِنَّهُ يَبْحَثُ جَاهِدًا عَنْ سُبُلِ الخُرُوجِ مِنْهَا وَيَبْتَكِرُ لِذَلِكَ الكَثِيرِ مِنْ الحُلُولِ وَعِنْدَمَا تَنْجَحُ طَرِيقَةٌ مُعَيَّنَةٌ لِلخُرُوجِ مِنْ الأَزْمَةِ فَإِنَّ المُجْتَمَعَ يُقَدِّسُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَتُقَدِّسُهَا الأَجْيَالُ المُتَعَاقِبَةُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَوَفْقًا لِلرُّؤْيَةِ التَّطَوُّرِيَّةِ فَأَنَّ الدِّينَ لَا حَقِيقَة خَارِجِيَّة لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْتِجٌ إِنْسَانِيٌّ مَحَّض مِثْلَ أَيِّ مُنْتِجٍ فِكْرِي أَوْ إِنْسَانِي آخَرَ. وَقَدْ تَعَدَّدَتْ المَدَارِسُ التَّطَوُّرِيَّةُ فِي تَفْسِيرِ أَصْلِ الأَدْيَانِ، أُهِمُّ هَذِهِ المَدَارِسَ هِيَ المَذْهَبُ الحَيَوِي.
وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الحَقِيقَةِ أَيْضًا مُعْجَم (لاروس) لِلقَرْنِ العِشْرِين بِقَوْلِهِ: “إِنَّ الغَرِيزَةَ الدِّينِيَّةَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ كُلِّ الأَجْنَاسِ البَشَرِيَّةِ حَتَّى أَشَدَّهَا هَمَجِيَّة وَأُقَربُهَا إِلَى الحَيَاةِ الحَيْوَانِيَّة، وَإِنَّ الاِهْتِمَامَ بِالمَعْنَى الإِلَهِيِّ، وَبِمَا فَوْقَ الطَّبِيعَةِ، هَو إِحْدَى النَّزَعَاتِ العَالَمِيَّةِ الخَالِدَةِ لِلإِنْسَانِيَّةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الغَرَائِزَ الدِّينِيَّةَ لَا تخْفَى بَلْ لَا تُضَعفُ وَلَا تَذْبُلُ إِلَّا فِي فَتَرَاتِ الإِسْرَافِ فِي الحَضَارَةِ وَعِنْدَ عَدَدٍ قَلِيل جِدًّا مِنْ الأَفْرَادِ.

هَذِهِ النَّزْعَة لِلتَّسَاؤُلِ هِيَ النُّقْطَة المِحْوَرِيَّة الَّتِي اِعْتَمَدَ عَلَيْهَا الفَيْلَسُوفُ الفَرَنْسِيُّ برتلم يسانت هيلار لِيُرَسِّخْ حَقِيقَة أَنَّ ظَاهِرَةَ الدِّينِ مُلَازِمَة لِلجِنْسِ البَشَرِيِّ فِي التَّارِيخِ، فَقَالَ مُوَضِّحًا: “مَا العَالِمُ؟ مَا الإِنْسَانُ؟ مِنْ أَيْنَ جَاءَ؟ مِنْ صُنْعِهِمَا؟ مَا نِهَايَتُهُمَا؟ مَا المَوْتُ؟ وَمَاذَا بَعْدَ المَوْتِ؟.. هَذِهِ الأَسْئِلَةُ لَا تُوجَدُ أُمَّة، وَلَا شَعْبَ، وَلَا مُجْتَمَعَ, إِلَّا وَضْعٍ لَهَا حُلُولًا جَيِّدَةً أَوْ رَدِيئَة، مَقْبُولَة أَوْ سَخِيفَة، ثَابِتَة أَوْ مُتَحَوِّلَة.
وَحِينَ نُحَاوِل التبيّن مِنْ عَلَاقَةِ الدِّينِ بِالمُجْتَمَعِ يَخْطُرُ لِنَّا هَذَا التَّسَاؤُلُ المُثِيرُ لِلجَدَلِ, هَلْ الدِّينُ أَمَرُّ فَطَرِيٌّ فِي الإِنْسَانِ وُلدِ الإِنْسَانُ مُلَازِمًا لَهُ, أَمْ أَنَّهُ ظَاهِرَةٌ مُسْتَحْدَثَةٌ وَعَرْضٌ طَارِئٌ فِي التَّارِيخِ الإِنْسَانِي؟
أَنْكَر بَعْضُ المُفَكِّرِين تلَازم الإِنْسَان وَالدّين، فَاِدَّعَوْا أَنَّ الدِّينَ ظَاهِرَةٌ مُسْتَحْدَثَةٌ عَلَى الفِكْرِ وَالتَّارِيخِ الإِنْسَانِيَّيْن، لَمْ تَصْحَبْ ظُهُور الإِنْسَان وَإِنَّمَا جَاءَتْ لَاحِقَة عَلَيْهِ.
مِنْ ضِمْنِ هَؤُلَاء المُفَكِّرِين المُنْكِرِين لفطرية الدِّينُ الفَيْلَسُوف الفَرَنْسِيُّ فولتير الَّذِي جَادَلَ بِأَنْ “الإِنْسَانِيَّة لاَ بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ قَدْ عَاشَتْ قُرُونًا طَوِيلَةً فِي حَيَاةٍ مَادِّيَّة خَالِصَة، قَبْلَ أَنْ تُفَكِّرَ فِي مَسَائِلَ الدِّينِيَّاتِ وَالرُّوحَانِيَّاتِ”
وَقَدْ وَافْقَهُ عَلَى ذَلِكَ المُفَكِّر الأَلْمَانِي كَارِل مَارْكِس بِمَقُولَتِهِ الشَّهِيرَة “الدِّينِ أفيونُ الشُّعُوبِ” فَبِالنِّسْبَة لِمَارْكِس، لَمْ يَكُنْ الدِّين أَكْثَر مِنْ وَسِيلَة اِخْتَرَعَهَا مُلَّاكُ وَسَائِلِ الإِنْتَاجِ لِيُسَيْطِرُوا بِهَا عَلَى الطَّبَقَاتِ الفَقِيرَة وَيَمْنَعُونَهَا مِنْ الثَّوْرَة عَلَى الطَّبَقَة الحَاكِمَة الَّتِي تَمْتَصُّ طَاقَاتِهُمْ وَتَنْهَبُ ثَرْوَاتِهُمْ فَتَلْجَأُ إِلَى تَحْذِيرِ الشَّعْبِ لِتَقْلِيلِ مُعَانَاتِهِمْ وَمِنْ ثمَّ تحرص عَلَى أَنَّ يَسْتَمِرُّوا بِهَذَا الاِنْقِيَادِ المُطَلِّقِ.
وَفِي الحَقِيقَة لَيْسَ هُنَاكَ مُسَالَة عَبْرَ التَّارِيخِ، بَلْ مُنْذُ فَجْر التَّارِيخ شَغْلَت الإِنْسَان مُمَارَسَةً وَاِعْتِقَادًا، وَمُؤَخَّرًا: دِرَاسَةً، مِثْلَ مَسْأَلَة الدِّين.
تُشكُّل ظَاهِرَة الدِّينِ حَدَثًا إِنْسَانِيّاً فْرِيداً، فَهُنَاكَ فِي التَّارِيخ حَضَارَاتٌ بِلَا فُنُون، وَحَضَارَات بِلَا تَقَدُّم مَادِّي، لَكِنْ لَيْسَ هُنَاكَ حَضَارَة بِلَا دِيْن.
وَفِي إِطَارِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ الفَرِيدَةِ بَدَأَتْ الدِّرَاسَاتُ تَبْحَثُ عَنْ بُذُورِ فِكْرَةِ الدِّينِ فِي التَّارِيخِ الإِنْسَانِي، كَيْفَ بَدَأَ الدِّين؟ وَمَا هِيَ أُولَى دَوَافِع ظُهُور الدِّين؟ وَكَيْفَ اِسْتَطَاعَ الإِنْسَانُ الإِيمَانَ بِمَنْظُومَاتٍ عَقَائِدِيَّةٍ صلْبَة؟
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي البِدَايَة مَا هُو الدِّين، وَأشَرْنَا إِلَى بَعْضِ الاِعْتِقَادَاتِ وَالآرَاءِ فِي الدَّوَافِع الَّتِي أَدَّتْ إِلَى ظُهُورِهِ وَهِيَ آرَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَبَعْضُهَا يَرَاهُ أَمْرًا فِطْرِيًّا لَازَمَ الإِنْسَان مُنْذُ بِدَايَةِ خَلْقِهِ، وَمِنْهِمْ مِنْ رَأْى أَنَّهْ أَمَرٌ مُسْتَحْدَثٌ بِحَسَبِ الحَاجَةِ الدَّاعِيَة لِاِسْتِحْدَاثِهِ.
لَقَدْ ذَكَرْنَا سَابِقًا أَنّ أُهم المَدَارِسَ التِي بَحَثَتْ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَعَلَاقَتِهِ بالمجتمع، المَدْرَسَة الحَيَوِيَّة، وَيَرَى أِّتبَاعُ هَذِهِ المَدْرَسَةِ: أَنَّ الإِنْسَانَ البِدَائِي كَانَ يَرَى فِي أَحْلَامِهِ أَنَّهُ يَتَفَاعَل مَعَ كَائِنَات حَيَّة كَمَا لَو كَانَ فِي الوَاقِعِ بِالضَّبْط، فَمُعْظَم النُّفُوس البَشَرِيَّة التِي يَرَاهَا فِي أَحْلَامِهِ، وَاعْتبرَ النُّفُوس المَيِّتَة التِي يَرَاهَا فِي الأحلام أَنَّهَا أَطْيَاف لِأَرْوَاح الأَمْوَات، وَمِنْ ثَمَّ اِتَّجَهَ الإِنْسَان إِلَى تَقْدِيس أَرْوَاح أَسْلَافِهِ وَاعْتَقَد أَنّ فِيهَا قَوِى خَارِقَة خيّرة أَوْ شِرِّيرَة وَعَظَّمَهَا كَمَا يُعَظِّمُ المُؤَمِّنُون بِاللهِ إِلَهَهُمْ،
فَاعْتَقدَ فِيهَا أَنَّهَا تُسَبِّبُ الأَلَمَ أَوْ تَجْلِبُ السَّعَادَة، وَكُلَّمَا تَقَرَّبَ المَرْءُ مِنْ هَذِهِ الأَرْوَاح وَقَدَّمَ لَهَا القَرَابِين اِسْتَدْعَى الأَرْوَاحَ الطَّيِّبَة، وَكُلَّمَا عَمِلَ الإِنْسَانُ عَلَى إِغْضَابِ هَذِهِ الأَرْوَاحِ وَاِسْتِجْلَابِ سَخَطِهَا كُلَّمَا أَصَابَتْهُ بِأَذى وَسُوء.
أَمَّا أَصْحَاب المَذْهَب الطَّبِيعِي فَيَرَوْن بِأَنّ الإِنْسَان البِدَائِي رَأَى الكَائِنَات الحَيَّة جَمِيعَهَا تَخْضَعُ لِقِوَى الطَّبِيعَة، وَلَا يَسْتَطِيع أَي كَائِن التَّحَكُّم فِيهَا أَوْ تَعْدِيل نِظَامِهَا، فَاِجْتَمَعَ لَدَى الإِنْسَان البِدَائِي شُعُورٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ الدَّهْشَة وَالإِعْجَاب رَأَى بِهِ الكَوْنَ أَشْبَه بِالمُعْجِزَة. وَذَهَب بَعْض اتبَاع هَذِهِ المَدْرَسَة إِلَى أَنَّ الأَحْدَاث الفُجَائِيَّة لِلطَّبِيعَة مثَل الزلازل وَالبَرَاكِين وَالطُّوْفَان وَالصَّوَاعِق أَرْهَبَتْ الإِنْسَان البِدَائِي وَأَعْطَتْهُ شُعُورًا بِالخَوْفِ وَمِنْ ثَمَّ اِنْبَعَث وَلَاء الإِنْسَان إِلَى قَوِى الطَّبِيعَة خَوْفًا مِنْ بَطْشِهَا لِيَتَّقِيَ شَرَّهَا وَيَسْتَدِرْ عَطْفُهَا، فَأَصْبَحَتْ قِوَى الطَّبِيعَة آلِهَةً تُعَبِّد بِحَدِّ ذَاتِهَا.
وَبِالعَوْدَة إِلَى صُلْب المَوْضُوعِ وَعَلَاقَة المُجْتَمَعِ الطَّبِيعِي بِالدَيْن، وَمِنْ خِلَالِ مَا تَقَدّم مِنْ آرَاء، نَجْدٍ أَنّ العَلَاقَة لَهَا عِدَّة أَوْجُه مُخْتَلِفَة وَكُلِّهَا تَصُبُّ فِي بُوتَقَة وَاحِدَة، وَهِيَ الحَاجَة لِلنِّظَامِ، أَوْ الحَاجَةِ إِلَى وَضْعِ حَدٍّ لِلتَّسَاؤُلَاتِ حَوْلَ أَصْلِ الِكُون وَالحَيَاة وَالمَوْت وَمَا بَعْدَ المَوْتِ.
وَنَسْتَخْلِصُ إِلَى أَنَّه يَبْدُو أَنَّ التَّدَيُّن غَرِيزَة مُلَازَمَة لِلإِنْسَان مُنْذُ أَنْ كَانَ إِنْسَانًا. فَمَا سَبَبُ وُجُودِ هَذِهِ الغَرِيزَةِ فِي الإِنْسَان؟
فِي كِتَابِهِ المُهِم (فِكْرَة المُقَدَّس) “يُفَسِّر اللَّاهُوتِي الأَلْمَانِي رودولف أوتو سَبَبَ شُيُوع نَزْعَة التَّدَيُّن هَذِه عَلَى مَدَار التَّارِيخ وَالجَمَاعَات الإِنْسَانِيَّة بِأَسْرِهَا، فَيَقُول: إِنَّ الإِنْسَان دَائِمًا مَا يَنْتَابُهُ شُعُورٌ بِالنَّقْصِ وَعَدَمِ الكَمَال مِمَّا يَجْعَل إِحْسَاسَهُ المُسْتَمِر بِالاِنْتِمَاءِ يَضْغَطُ عَلَيْهِ، أَو حَاجَتُهُ الدَّائِمَة إِلَى الاِسْتِكْمَال، وَالذِي سَمَّاهُ أوتو (الشُّعُور بالمخلوقية).

أَمَّا عُلَمَاء الإِسْلَام فَقَد اِسْتَقَرُّوا عَلَى أَنَّ الدِّينَ مِنْ الفِطْرَة التِي فَطَر الله النَّاس عَلَيْهَا، وَيَعْبُر شَيْخ الإِسْلَام ابن القِيَم عَن اِفْتِقَار الإِنْسَان إِلَى التَّنَفُّسِ مِنْ أَمَارَات نَقَّصَه وَعَدمَ كَمَالَه فَسَمَّاهُ بِنَفْسِ الاِضْطِرَار، فَقَالَ مُوَضِّحًا: “أَمَّا نَفْسُ الاِضْطِرَارِ فَذَلِكَ لِاِنْقِطَاعِ أَمَلِهِ مِمَّا سِوَى اللهِ، فَيَضْطَرُّ حِينَئِذٍ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَنَفْسه وَبَدَنُهِ إِلَى رَبهِ ضَرُورَة تَامَّة، بِحَيْث يَجِد فِي كُل مُنْبَت شَعْرَة مِنْهُ فَاقَة تَامَّة إِلَى رَبه وَمَعْبُودَه، فَهَذَا النَّفَس نَفْس مُضْطَر إِلَى مَا لَا غِنى لَه عَنْهُ طُرْفَة عِين”
بَعْدَ أَنْ اِطَّلَعْنَا عَلَى عِدَّةِ آرَاءٍ حَوْلَ عَلَاقَةِ الدِّينِ بِالإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، سَنَعُودُ إِلَى المُجْتَمَعِ الطَّبِيعِي وَالذِي عَرَّفْنَاهُ فِي بِدَايَةِ هَذَا البَحْثِ مِنْ خِلَالِ التَّعْرِيفِ الذِي أَوْرَدَهُ الفَيْلَسُوفُ عَبْد الله أَوْجلان؛ لِنَرَى مَا هِيَ العَلَاقَة التي تَرْبُطُهُ فِي الدِّينِ حَسَبَ البَحْثِ الَّذِي قَدَّمَهُ الفَيْلَسُوفُ عَبْد الله أَوجلان, وَالَّذِي حَدَّدَ لِنَّا مَا هُوَ الدِّينُ فِي المُجْتَمَعِ الطَّبِيعِيُّ فَنَجْدُهِ يَقُول: “إنّ تَطَوُّرَ المَوْجُودَ الإِنْسَانِيِّ كَمُجْتَمَعٍ, يَعْتَمِدُ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ عَلَى مَبْدَأِ التَّعَاضُدِ وَالتَّكَافُلِ, لَا عَلَى عَلَاقَاتِ الهَيْمَنَةِ والحاكمية. وَيُنَقِّشُ الطَّبِيعَةَ فِي ذَاكِرَتِهِ كِ “أُمُّ” نَشأ وَتَرَعْرَعَ فِي أَحْضَانِهَا. التَّكَامُلُ بَيْنَ أَفْرَادٍ المُجْتَمِعُ مِنْ جِهَةٍ, وَبَيْنَهِمْ وَبَيْنَ الطَّبِيعَةِ مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٌ, شَرْطٌ أَسَاسِيٌّ. الطُّوطِمُ هُوَ رَمْزٌ وَعَي الكْلَان. وَلِرُبَّمَا يُعْتَبَرُ الطُّوطِم أَوَّلَ نِظَامٍ اِصْطِلَاحِيٍّ تَجْرِيدِيٍّ. يُشَكِّلُ هَذَا النِّظَامُ, الَّذِي يُعْتَبَرُ دَيْنَ الطُّوطِمِيَة, التَّقْدِيسُ الأَوَّلُ وَنِظَام المُحَرَّمَاتُ (المُسَلَّمَات) الأَوَّل. أَي أَنَّ الكْلَان تُقَدِّسُ ذَاتُهَا بِقَدْرِ تَقْدِيسِهَا لِرَمْزِ ذَاكَ الطُّوطِمِ. مِنْ هُنَا تَمَّ الوُصُول إِلَى أَوَّل اصطلاح لِلأَخْلَاق. حَيْثُ يَعِي الجَمِيعُ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مُوَاصَلَةَ الحَيَاةِ مِنْ دُونِ جَمَاعَةِ الكْلَان. إِذَنْ, وَالحَالُ هَذِهِ, فَوُجُودُهَا المُجْتَمَعِيُّ مُقَدَّسٌ, وَيُرْمَزُ إِلَيْهُ بَاسمى المَعَانِي وَالقِيَمُ لِتُعْبَدَ. مِنْ هُنَا تتأتى رَصَانَة وَمَتَانَة العَقِيدَةِ الدِّينِيَّةُ. فَالدِّينُ هُوَ الصِّيَاغَةُ الأُولَى لِلوَعْيِ المُجْتَمَعِيِّ. وَهُوَ مُتَكَامِلٌ مَعَ الأَخْلَاقِ. وَمَعَ مُرُورِ الزَّمَنِ يَتَحَوَّلُ مِنْ كَوْنِهِ رَمَزَ الوَعْيُ إِلَى عَقِيدَةٍ مُتَصَلِّبَة, لِيَتَبَدَّى الوَعْيُ المُجْتَمَعِيُّ عَلَى شَكْلِ تَطْوِيرٍ لِصِيَاغَةِ الدِّينِ. الدِّينُ بِخَاصِّيَّتِهِ هَذِهِ, يُعْتَبَرُ المَنْبَعُ العِينَ لِأَوَّلِ أَشْكَالِ الذَّاكِرَةِ وَالتَّقَالِيدِ وَالأَعْرَافِ الجَذْرِيَّةَ وَالأَخْلَاقِ الأَسَاسِيَّةَ فِي المُجْتَمَعِ”.
وَمِنْ هُنَا نَجِدُ تَلْخِيصًا رَائِعًا لِنَظْرَةِ المُجْتَمَعَ الطَّبِيعِي لِلدِّينِ وَعَلَاقَتِهِ بِهِ وَدَوْرُهِ وَمَكَانَتَه ضِمْنَ هَذَا المُجْتَمَعِ, حَيْثُ نُفْهَمُ مِنْ خِلَالِ مَا سبَق أَنَّ الدِّينَ فِي الأَصْلِ أَخْلَاق تتجذّر فِي نُفُوسِ البَشَرِ فِطْرِيًّا عَبْرَ المُمَارَسَةِ اليَوْمِيَّة وَالنَّتَائِجِ المُتَرَتِّبَة عَلَى سُلُوكِيَّاتِ المُجْتَمَعِ, سَلْبًا وَإِيجَابًا, أَي أَنَّ المُجْتَمَعَ الطَّبِيعِي كَانَ دِينُهُ هُوَ الأَخْلَاقُ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى نَتَائِجِ حَمِيدَة عَادَتْ عَلَيْهِ بِالنَّفْعِ وَالتَّنْظِيمِ رَغْمَ حُرِّيَّتِهِ المُطَلِّقَة، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ العَلَاقَةَ كَانَتْ عَلَاقَةً عَمِيقَة متجذرة مِنْ قَنَاعَة تَحَوَّلَتْ لِسُلُوكٍ مَلْمُوسٍ, بَعِيدًا عَنْ وُجُود وَاضِع لَهَا, إِنَّمَا وَضَعَتْهَا الطَّبِيعَةُ حَيْثُ وَجَبَ أَنْ تُوجِدَ لأنها تَجْعَلُ المُجْتَمَعَ بحال أفضل, وَهِيَ الغَايَةُ الَّتِي يَصْبُو إِلَيْهَا الإِنْسَانُ فِي حَيَاتِهِ, أَي أَنْ يَكُونَ كَامَلِ الحُرِّيَّةِ لَا يَشْعُرُ بِالجَبْرِيَّةِ عَلَى مُمَارَسَةِ اِعْتِقَادٍ مَا, بَلْ أَنْ يَقْتَنِعَ القَنَاعَةَ التَّامَّةَ الَّتِي جَعَلَتْهُ التَّجْرِبَةَ العَمَلِيَّةَ يَقْتَنِعُ بِهَا, حَيْثُ أَنَّهُ رَأَى كَيْفَ كَانَتْ هَذِهِ المُمَارَسَةَ الأَخْلَاقِيَّة ذَاتُ نَتَائِجَ تَسْتَحِقُّ التَّقْدِيسَ وَطَالَمَا كَانَ الدِّينُ مُرْتَبِطٌ اِرْتِبَاطاً وَثِيقاً بِالأَخْلَاقِ بَلْ أَنَّ الأَخْلَاقَ هِيَ العَمُودُ الرَّئِيسِيُّ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ كُلُّ أَدْيَانِ العَالَمِ. وَلِهَذَا يَرَى المُجْتَمَعُ الطَّبِيعِيُّ أَنَّهُ مُلْزَمٌ بِتَقْدِيسِ هَذِهِ الأَخْلَاقِ الَّتِي تُفْضِي لِأَنْ يَعِيشَ فِي حَالَةِ تَنْظِيمٍ كَامِل, يُسَاهِمُ فِي رَفَعَتِهِ وَتُقَدِّمهِ.

وَالخُلَاصَةُ:
أَنَّهُ مُنْذُ أَن وَجِد الإِنْسَانُ كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى التَّنْظِيمِ وَالاِنْتِمَاءِ وَالاِعْتِقَادِ بِشَيْءٍ مَا, وَلِهَذَا كَانَ المُجْتَمَعُ الطَّبِيعِيُّ يُؤَسِّسُ لِنَفْسِهِ عَقَائِدَ يُقَدِّسُهَا مِنْ خِلَالِ مُمَارَسَاتِهِ وَتَجَارِبِهِ العَمَلِيَّةَ, وَعَلَيْهِ فَقَدْ كَانَ دَوْرَ هَذِهِ العَقَائِدِ الَّتِي تُسَمَّى دِينًا; التَّنْظِيمُ وَإِدَارَة هَذَا المُجْتَمَعِ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ مِنْ خِلَالِ ضَوَابِطِهِ الأَخْلَاقِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ مَكَانَتُهَا التَّقْدِيسِ الكَامِلِ. وَقَدْ كَانَتْ كُلُّ الدِّرَاسَاتِ وَالآرَاءِ المُخْتَلِفَةَ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا, وَالَّتِي حَاوَلَتْ البَحْثَ عَنْ أَصْلِ الدِّينِ وَعَلَاقَتِهِ بِالمُجْتَمَعِ, تَصُبُّ فِي هَذِهِ البُوتَقَةِ, أَي تَجِدُ أَنَّ الدِّينَ جَاءَ كَحَاجَةٍ مُلِحَّةٌ تضبط المُجْتَمَع وَسُلُوكِيَّاتُهِ, وَبِالتَّالِي تَدْفَعُهُ لِلتَّنْظِيمِ، وَالَّذِي لاَ بُدَّ أَنْ يُدْفَعَ بِالمُجْتَمَعِ إِلَى التَّقَدُّمِ وَالاِزْدِهَارِ.
إِنَّ العَقَائِدَ وَالأَدْيَانَ كُلَّهَا جَاءَتْ لِخِدْمَةِ المُجْتَمَعِ وَتَنْظِيمُهُ سُلُوكِيًّا وَأَخْلَاقِيًّا, لِذَلِكَ فَاِرْتِبَاطُهَا بِالمُجْتَمَعِ اِرْتِبَاطَاً مَبَاشِرَاً, وَمَكَانَتُهَا التَّقْدِيسُ, لأنها بِنَظَرِ هَذَا المُجْتَمَعِ الَّذِي كَانَ فَطَرِيًّا بِحَاجَةٍ لِلتَّنْظِيمِ, العَمُودُ الأَسَاسِي الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ البِنَاءُ السَّلِيمُ الَّذِي يَضْمَنُ لِكُلٍّ ذِي حقٍ حَقّهُ, فِي حَيَاةٍ حُرَّةٌ كَرِيمَةٌ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى