لزكين إبراهيم
يعتبر الكثير من المختصين في المجال الإعلامي والصحفي؛ أن “الإعلام” هو المنبر الرئيسي لتسويق ونشر الديمقراطية والأفكار الحرة وتشجيع أفكار الرأي والرأي الآخر. وبأنه مؤسسة تسهر على تنوير الرأي العام الذي يعتبر السلطة الحقيقية في حماية وخدمة المجتمع. ولكن ثمة أسئلة تطرح نفسها عندما نتحدث عن الإعلام والديمقراطية، وعندما نريد مقارنة الإعلام في الشرق الأوسط بأهداف الإعلام التي ذكرناها، ومن هذه الأسئلة: أيهما يجب أن يكون موضع الاهتمام والأولوية أكثر، الإعلام أم الديمقراطية؟ وبصيغة أخرى ربما أكثر دقة هل الإعلام الحر يؤدي إلى الديمقراطية، أم أن الديمقراطية هي التي تنتج لنا في نهاية المطاف إعلاماً حراً؟ وماهي مساحة الديمقراطية وحرية الإعلام في دول الشرق الأوسط؟ وهل حقاً يهدف الإعلام الشرق أوسطي إلى خلق الديمقراطية أم تاه الطريق وبات يبث خطابات العنصرية والكراهية التي أججت من أزمات المنطقة التي تعاني اساساً من الحروب الطائفية والقومية والمذهبية الدموية؟!
في هذه الدراسة سنحاول تسليط الضوء على وضع الإعلام بشكل عام في ظل الأنظمة الحاكمة لدول الشرق الأوسط، ومدى الإيجابيات والسلبيات الناتجة عنها، وسنحاول الإجابة على الأسئلة التي طرحناها لعلنا نهتدي إلى مقترحات وحلول يمكن أن تعيد للإعلام دوره الحقيقي في خدمة وتطوير المجتمع وأن يكون فعلاً السلطة الرابعة التي تسعى لترشيد باقي السلطات إلى طريق الديمقراطية، وحث المجتمع على نبذ الخطاب الطائفي والعنصري وإحلال لغة السلام والمحبة والأخوة بدلاً منها.
بدايات الإعلام العالمي واختلافاتها بين الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية وبين الغربية والشرقية.
مرت البشرية بمراحل طويلة حتى أصبحت حرية الرأي والتعبير – الحاضن الرئيسي لحرية الإعلام – إرثاً إنسانياً راسخاً وغير خاضع للمساومة، اختلفت درجاتها بحسب اختلاف تركيبة المجتمعات وبنيتها الاقتصادية وتطورها السياسي، تجلت أولى إرهاصاته الدستورية في وثيقة “الماغنا كارتا”(ميثاق العهد الأعظم) في بريطانيا عام 1215، و التي تقّيم حقوق وواجبات الملك وأتباعه من رجال الإقطاع وترسم حدودها وانعكاسها على حقوق المواطنين والتي تطورت لاحقا إلى لائحة الحقوق في بريطانيا عام 1688م، وأسهمت كتابات العديد من المفكرين في تطوير مفهوم حرية الرأي والتعبير بما انعكس ايجابياً على حرية الصحافة التي اكتسبت اسم السلطة الرابعة من تعليق اللورد ادموند يورك المتوفى عام 1797م، الذي قال في مجلس العموم البريطاني: (توجد سلطات ثلاث ولكن عندما ينظر الإنسان إلى مقاعد الصحفيين يجد السلطة الرابعة). وشكّل الإعلان الفرنسي لحقوق المواطنة عام 1789 نقلة نوعية على الصعيد الفكري؛ حيث نص على أن (حرية التعبير هي من الحريات الأساسية للإنسان)، وبذلك نقلها من حيز الحقوق المكتسبة إلى حيز الحقوق الأصلية التي توجد مع وجود الإنسان، وتشكل جزءاً لا يتجزأ من كيانه، ولا يجوز الانتقاص منها بأي حال من الأحوال.
وفي المقابل نرى أنه مثلما أن حرية الرأي والتعبير هو إرث إنساني كلف البشرية قرونا من النضال والثورات، إلا أن محاولة السيطرة عليها أيضا ظاهرة عالمية تمتد من كوريا الشمالية إلى الولايات المتحدة، وقد تنبهت السلطة الدينية باكراً لخطورة الإعلام في توعية الشعب وكشف الحقائق المخبأة، فقامت الكنيسة بتحريم اختراع الطباعة الذي أنجزه يوحنا غوتنبرغ في عام 1452 ولعنته، ولم تعد الكنيسة الاعتبار لغوتنبرغ حتى عام 1995. وفي الشرق لم يجد عمرو بن العاص أي سبب يمنعه من إحراق مكتبة الإسكندرية عندما فتح مصر بعد مباركة السلطة الدينية لهذه الخطوة.
ومع تطور معايير حرية الصحافة وإدراك المجتمعات الديمقراطية ضرورة استقلال الإعلام عن سيطرة الدولة؛ ظهرت اتجاهات فكرية عديدة بهذا الخصوص، عبّر التعديل الدستوري الأمريكي الأول في عام 1791 عن أقسى درجات استقلال الإعلام عن الدولة؛ حيث حرم التعديل الدستوري واجتهادات المحكمة العليا على الحكومة الامتلاك أو المساهمة بأي وسيلة إعلام داخل حدود الولايات المتحدة، أو فرض أي نوع من الرقابة على الصحف، أو إعاقة وصولها إلى المعلومات. وجاء فيه ” إن الكونغرس سوف لن يصدر أي قانون يحد من حرية الرأي أو من حرية الصحافة “.
وقام الاتجاه الأوروبي على اعتبار الإعلام خدمة عامة، حيث ينظر إلى الصحافة على أنها صحافة رقابة شعبية بمعنى أنها تراقب الحكومة والسلطة بشكل عام لحساب الجمهور العام؛ استنادا إلى الاعتقاد بأن مراقبة الحكومة هي الوظيفة أو الدور الأساسي للصحافة؛ الذي يفوق كل وظائفها الأخرى في الأهمية. وبناء على هذا الدور شرعت قوانين تكفل عدم تدخل الحكومة سياسياً أو مالياً في الصحافة على اعتبار أن هذا التدخل سيؤثر على وظيفة المراقبة؛ حيث يدفع المواطن ضريبة مباشرة تعود حصيلتها إلى وسائل الإعلام العامة التي يشرف عليها مجلس وطني للإعلام؛ منتخب ومستقل عن الحكومة – التي لا يوجد فيها وزارة إعلام – يقوم بتعيين مدراء وسائل الإعلام العامة و الإشراف عليها كما في بريطانيا وفرنسا وألمانيا .
أما في النُظم الاشتراكية الشمولية فقد نُظر إلى الصحافة على أساس أنها أداة للتوجيه والتعبئة والدعاية الإيديولوجية، وانتفى مفهوم الصحافة المستقلة أو صحافة المعارضة؛ وذلك نتيجة حظرها قانوناً. واعتبرت الصحافة المعارضة تقع ضمن جرائم خيانة الثورة وجزء من الثورة المضادة لسيطرة الطبقة العاملة، فقد حرم الدستور الفيدرالي لاتحاد الجمهوريات السوفيتية الصادر في عام 1936 المعارضة، ونقد الدولة السوفيتية، وقصّر حرية الصحافة على الدولة وطبقتها العاملة، وحدد مهمة الصحافة في تأييد الحكم الاشتراكي.
وفي العالم العربي ودول الشرق الأوسط لم يعد هناك بلد في وقتنا الحاضر لا توجد فيه صحافة وإعلام خاص، إلا أن ذلك لم يتطور بعد ليشكل إعلاما مستقلا بمعنى الكلمة؛ حيث لا تزال السمة الأساسية هي سيطرة الدولة على الإعلام سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر؛ مما يشكل عملياً إفراغاً حقيقياً لدور الإعلام و لوظائفه، علماً أنه لا يمكن أن تتوجه دول العالم العربي نحو الإصلاح الديمقراطي الحقيقي والشامل؛ بدون أن يترافق بتحرير الإعلام من سيطرة الدولة، فاليوم لا يمكننا الحديث عن مفاهيم مثل الديمقراطية والشفافية والتعددية دون الحديث عن حرية الإعلام، ورغم محاولات البعض الفصل القسري بينهما، إلا أنه يوجد بينهما ترابط عضوي يجعلهما متحدين ومتكاملين، وكل واحد منهما يشكل مؤشراً ومعياراً لوجود الآخر، ومن غير الممكن تصور وجود إصلاح ديمقراطي شامل وحقيقي في المجتمع دون وجود حرية للرأي والتعبير يكون عمادها الإعلام المستقل المتحرر من سيطرة الدولة.
الإعلام والديمقراطية في ظل الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط:
خلال البحث عن الأجوبة لتلك التساؤلات التي طرحناها في البداية حول هل الإعلام الحر يؤدي إلى الديمقراطية، أم أن الديمقراطية هي التي تنتج إعلاما حراً؟ سنجد أن الباحثين والمتخصصين اختلفوا في الإجابة عليها، حيث يرى البعض أن حرية الإعلام شرط أساسي لقيام الديمقراطية، وأن حرية الإعلام هي التي تحقق الديمقراطية وأن الإعلام هو أحد الأدوات التي تسهم في تدعيم الأوضاع الديمقراطية في المجتمع، وذهب هؤلاء إلى حد اعتبار حرية الإعلام مظهر من مظاهر الديمقراطية، وأن أحد معايير قياس الديمقراطية في أي مجتمع هو مدى ما تتمتع به وسائل الإعلام من حرية، وهو ما يتحدد وفقاً للتشريعات الإعلامية القائمة التي تنظم العلاقة بين الإعلاميين ووسائلهم، والجمهور المتلقي، والنظام السياسي، وما يترتب على كل تلك العلاقة من حدود لمضمون الخطاب الإعلامي المنتج. ويذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك؛ حيث يعتقدون أن الإعلام الحر هو الوسيلة الأكثر فاعلية لمراقبة تجاوز السلطة، وأنه بالتالي بقدر ما يتاح له من حرية تزداد قدرته على ضبط المخالفات والتجاوزات، والمساهمة في منعها، ولذلك أطلق هؤلاء على الصحافة لقب السلطة الرابعة التي تراقب السلطات الثلاثة، التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ولكن يجب ألا ننسى أن الإعلام الفعال الذي يفرز الديمقراطية ويؤثر فيها ويتأثر بها هو ذلك الإعلام الذي يستند إلى مجتمع مدني فعال، وإلى قوة مضادة داخل المجتمع تعمل على إفراز ثقافة ديمقراطية وحراك سياسي يقومان على المراقبة وكشف الحقائق والوقوف أمام الفساد والتجاوزات واستغلال النفوذ والسلطة وترشيد القرار، أي ألّا يكون الإعلام منحازاً أو مادياً بحتاً أو متملقاً، فهذه الصفات الأخيرة تقتل روح الإعلام وهدفه السامي وتحوله بالتالي إلى أداة طيعة تخدم من يعادون الديمقراطية وتساهم في توسع دائرة الفساد، والأبشع من ذلك ستحاول حينها تلميع صورة الديكتاتوريات وإظهارهم على أنهم أبطال وممثلي الديمقراطية، وهنا يكون الإعلام ابتعد عن جوهره وتحول من سلطة بحد ذاتها إلى أداة تخدم السلطة الحاكمة. وللأسف هذه الأخيرة هي المتحكمة في كافة مفاصل الوسائل الإعلامية في ظل الأنظمة الحاكمة لدول الشرق الأوسط، وعليه يمكن القول أنه وفي حالة الشرق الأوسط لا يمكن بروز إعلام حر يساهم في نشر الديمقراطية في ظل أنظمة قمعية استخباراتية قائمة على الفساد وتتغذى منه، وبطبيعة الحال فإن العلاقة بين الإعلام الحر وهذه الأنظمة الديكتاتورية علاقة تنافريه، فلا يمكن اجتماع كليهما معاً، لأن وجود الأول هو بالضرورة قائم على فناء الآخر، لذا فبدون تغيير الأنظمة القائمة لا يمكن بناء إعلام حر حقيقي.
دور وسائل الإعلام في مراحل التحول الديمقراطي:
مع استمرار فقدان الجماهير للمصداقية في الإعلام المرئي والمسموع المملوك للدولة، ستظل وسائل الإعلام ذات الطبيعة الإخبارية، هي المؤثر الحقيقي في مسألة إخبار الجمهور بشؤون وطنهم وأحوالهم العامة، وبالتالي ستظل اللاعب الرئيسي في التأثير على توجهات الرأي العام.
ولا يخفى أنه لعبت ثورات الربيع العربي وثورات الشعوب في الشرق الأوسط خلال العقد الأخير دوراً مهمًا وحاسماً في زعزعة أركان النظام الإعلامي للسلطات الحاكمة على الدولة، وتجلى ذلك بوضوح أكبر في البلدان التي تفجرت فيها عوامل الحراك السياسي والاحتقان الاجتماعي منذ مطلع ذلك العقد، وربما تكون مصر وتونس واليمن وسوريا من أبرز تلك البلدان، فقد سمحت ظروف الهامش الديمقراطي والحريات النسبية المتاحة لديها بتحفيز الصحافة والفضائيات الخاصة، وتوظيف أدوات ما صار يُعرف بالإعلام الجديد (New Media) في التمرد على ثوابت الإعلام الرسمي، وتحرير قطاعات واسعة من الجمهور من سطوته. ومن غير المبالغة في هذا السياق القول بأن التضافر والتلاقح الفريد الذي نشأ بين وسائط الإعلام التقليدية الأكثر حرية، وبين تقنية الإعلام الأحدث التي عجز النظام الإعلامي التابع للدولة عن احتوائها، قد لعب الدور الأهم في تهيئة أجيال شعوب الشرق الأوسط للثورة وبلورة توجهاتها السياسية والمجتمعية، وهنا يمكن التأكيد على أنه إذا كان القهر السياسي والاجتماعي لأنظمة الاستبداد والاستغلال هو المفجّر لثورات الشعوب، فإن الإعلام الحر والمستقل هو الذي يهيئ ويعجّل بإنجازها.
ولوسائل الإعلام دور فاعل في تشكيل سياق الإصلاح السياسي في المجتمعات المختلفة؛ حيث تعكس طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين النخبة والجماهير. ويتوقف إسهام ودور وسائل الإعلام في عملية الإصلاح السياسي والديمقراطي على شكل وظيفة تلك الوسائل في المجتمع وحجم الحريات، وتعدد الآراء والاتجاهات داخل هذه المؤسسات، بجانب طبيعة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية المتأصلة في المجتمع، فطبيعة ودور وسائل الإعلام في تدعيم الديمقراطية، وتعزيز قيم المشاركة السياسية وصنع القرار السياسي، يرتبط بفلسفة النظام السياسي الذي تعمل في ظله، ودرجة الحرية التي تتمتع بها داخل البناء الاجتماعي.
الإعــلام فــي النظـــام الديمقراطي:
قلنا أن الإعلام الحر لا يمكنه العيش في بيئة الأنظمة الديكتاتورية التي على شاكلة أنظمة دول الشرق الأوسط عامة، ولكن في حال وجدت البيئة الديمقراطية في بقعة ما، وأفسح المجال للإعلام بلعب دوره الحر، فحينها ما هي مهمة الإعلام في هذه البيئة؟
مهمة الإعلام في المجتمع المدني الديمقراطي هي التواصل الحي مع الجمهور كرقيب ناقد لكل من القوى السياسية والقوى الاقتصادية والسلطات التنفيذية في ممارسة أدوارها ضمن مسيرة البناء الديمقراطي، ويضمن القانون الدولي حرية التعبير عن الرأي، من خلال مستندات عديدة لحقوق الإنسان وبشكل خاص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تشمل التعبير الثقافي والفنون بقدر ما تشمل تبادل المعلومات والأفكار والمناقشة السياسية، حرية التعبير، هذه الحرية التي تعتبر الحجر الأساس للحريات الديمقراطية ويعد دور وسائل الإعلام أساسياً لممارسة حرية التعبير، ولأن الديمقراطية تعد أكثر من مجرّد مجموعة مؤسسات بل هي أيضاً ثقافة بحدّ ذاتها، فبدون وسائل الإعلام، يستحيل على ثقافة الديمقراطية أن تنمو، وعلى المجتمع أن يطور العادات والممارسات المكتسبة وتبادل الآراء والأفكار والمعلومات.
وفي العالم العصري، تعتمد الديمقراطية على وسائل الإعلام السليمة والمتعددة والمتنوعة والمستقلة التي يمكنها أن توفر منصة للنقاش الديمقراطي، وتلعب وسائل الإعلام دوراً حاسماً لأنها توفر الفضاء الاجتماعي الذي يُمارس من خلاله حق التعبير بشكل فعّال، والديمقراطية ثقافة – طريقة تصرّف وعادات وقواعد صغيرة، يقول ألكسندر دي توكفيل في كتابه “الديمقراطية في أميركا” أن قوة أميركا لا تكمن فقط في مؤسساتها – الفيدرالية وفصل السلطات والقضاة المستقلين؛ بل أيضاً في خبرة الشعب وممارسته للديمقراطية بشكل محلّي ويومي.
يعبّر الصحفيون عن آرائهم بالإضافة الى آراء الجماعات الذين يعملون لحسابها. على سبيل المثال، يؤدي الصحافي المحقق وظيفة ديمقراطية قيّمة فيما يستكشف مسائل ذات المصلحة العامة قد تتراوح من تحقيقات الفساد من خلال المسائل الصحية الى كشف الجرائم. ولا تبقى وسائل الإعلام خارج الحدث الذي تقوم بتغطيته مهما كانت وجهات نظرها؛ فيمكنها، كممثل اجتماعي، أن تحدد طريقة تطوّر المجتمع.
أشكال الصحافة والصحفيين في دول الشرق الأوسط:
هناك صحفاً في دول خليجية لا يتعدى سكانها سكان مدينة صغيرة لكنها قوية ومتطورة، كما أن هناك صحافة سوداء لا ترى أية بارقة أمل لكنها تصدر نوعاً معيناً من الرأي ولا تهتم بالتحليل المنطقي ولا تهتم بالخبر مثلما تهتم بآراء أصحابها، وهناك نوع آخر من الصحافة الصفراء التي تهتم فقط بالإثارة، وتخاطب نوعاً معيناً من القرّاء، ولا تهتم بمسألة الارتقاء المهني. وقد أدى ذلك النوع من الصحافة الى تراجع مستوى الصحافة في عدة دول كانت تترك مساحة جيدة لحرية الإعلام، ولكن الأخير لم يعرف الاستفادة منها جيداً.
وفي المقابل هناك الصحافة الحزبية والتي تشبهها الصحافة القومية، بمعنى أنها منحازة إلى آراء أحزابها، فلا تستطيع أن توجه رأياً معارضاً للحزب في جريدته. وهناك صحافة مستقلة نعول عليها في تغيير صورة الصحافة الحزبية.
و قد يتناول الصحفيون قضايا مثيرة وحساسة من خلال، كشف الغطاء عن الأخطاء التي ترتكب بقصد أو بدون قصد من قبل بعض الصحفيين من خلال نقل أخبار من شانها أن تزيد من التوتر أو تقلل من أهمية طرف دون الآخر، أو قد يعمل البعض على انتشار أو ترويج الأفكار المبتورة أو الكاذبة التي يريد البعض من العابثين أن يروجوا لها، أو ينشروها عبر صحفهم التي يثق فيها البعض، فثقافة الاستسهال ما بين جموع الصحفيين الذين لا يبذلون جهداً في الحصول على المعلومات من مصادرها رغبة في الاستسهال؛ تعتبر مشكلة كبيرة تؤثر على العمل الصحفي، وتؤثر على جودة نقل الخبر بشكل موضوعي. فالصحفي مثله مثل أي حرفي يجب أن يتقن مهنته ويستخدم أدواته بشكل جيد، ويجب أن يعرف الصحفي أن الصحافة بشكل عام هي معلومات من الدرجة الأولى يقوم على أساسها بكتابة مقال أو تحليل أو خبر. وهناك أيضاً ثقافة الاستهانة بالعواقب التي أدت الى كوارث حقيقية اليوم، فكثير من الاعلاميين والصحفيين أثاروا قضايا معينة أدت الى كوارث حقيقية، وأغلبها عدم تخلص الصحفيين من ذهنية أنظمتهم السلطوية والقوموية أو الطائفية وبث الخطاب العنصري بين الشعوب بدلاً من إطفاء نيران الفتنة.
الإعلام بين الحقيقة والخديعة..!
الحقيقة والخديعة وجهان لعملة واحدة اسمها الإعلام. فقد كان وما يزال يلعب دوراً خطيراً في حياة الأمم، يبني ويهدم، يرفع ويخفض، يسالم ويعادي، يجرح ويداوي ويلعب على الحبلين كما يقال.
الإعلام له دوره في كل الظروف سلماً وحرباً ، إلا أن هذا الدور قد تعاظم إلى درجة غير مسبوقة وازداد إلى حد هائل مع تعدد وسائله وكثرتها وتطورها وسهولة الوصول إليها والتعامل معها، بعيدا عن المراقبة الرسمية التي كانت تكبح جماحه وتقيد حركته.
كان الإعلام إلى وقت قريب مقتصراً على الصحف الورقية والإذاعة والتلفزيون، وكان المتعاملون معه قلة قليلة قياساً إلى هذه الأيام التي طغى فيها وبلغ الأوج، فدخل كل بيت عبر الشبكة العنكبوتية ليتعاطاه الصغار والكبار؛ حتى وصل الحال إلى حد الإدمان. أصبح التواصل بين الناس – دونما اعتبار للزمان أو المكان- أهم سمات العصر. وتم ذلك بالصوت والصورة وغدت الكاميرا تنقل كل خبر بأسرع ما يمكن بل ويتابع المشاهد الأخبار على الهواء مباشرة في بث مباشر.
تضاعفت خطورة الإعلام أضعافاً مضاعفة وبات سلاحاً فتاكاً يلعب بعقول الناس ويوجهها حيث يشاء ويوظفها وفق أهدافه ومراميه. كم معركة استطاع الإعلام فيها أن يزيّف الحقائق ويلبسها الثوب الذي يريد ويخدع به المتلقي ويؤلم مخبره. وإذا كانت المعارك والحروب يديرها جنرالات عسكر، فإن المعارك الإعلامية يوجهها متخصصون في تلوين الأخبار وفق المصلحة التي تدر عليهم أموالاً طائلة يسيل لها لعابهم؛ وليذهب غيرهم إلى الجحيم. إنها الأنانية المفرطة التي تعمي وتصم، وأمثال هذه النماذج تسللت إلى روج آفا وشمال سوريا مستغلة حالة الأمن والاستقرار فيها مقارنة بباقي المناطق السورية، والأهم استغلاهم لمساحة الحرية التي مُنحت للإعلام من قبل الإدارة الذاتية التي تحكم تلك المناطق، ولكن للأسف تحولت مساحة الحرية هذه إلى فوضى إعلامية بدلاً من حرية إعلامية، وزاد الطين بلةً انتشار ما يمكن تسميتهم “تجار الإعلام” الذين يهتمون بالربح المادي الذي يجنونه على حساب الثورة القائمة فيها والتضحيات التي يقدمها أبناء وبنات المنطقة، دون أي اعتبار للمبدأ الأخلاقي والإنساني لمهنة الإعلام، ولدى محاولات الإدارة الذاتية ضبط أولئك التجار عبر تشكيل مديرية واتحاد للإعلام وسن قوانين تحد من الفوضى التي خلقتها مكاتب السمسرة الإعلامية، ومن يعملون بها، يشهر أولئك التجار سيف التشهير واتباع سياسة الصحافة الصفراء بالتهجم على الإدارة الذاتية ومؤسساتها في محاولة تشويه صورتها وإظهارها كأنها تعادي الإعلام وتمنع حرية الرأي، علماً أن الحرية التي منحت لهم من قبل هذه الإدارة والحماية التي يتمتعون بها في مناطق الإدارة الذاتية، هي التي أفسحت لهم المجال في أخذ مجدهم بالتشهير والتهجم على الإدارة دون حسيب ورقيب.
وعليه يمكننا القول أنه ليس في إعلام اليوم مبادئ ثابتة ومواقف صادقة تنحاز لقول الحقيقة بلا مجاملة وبلا تزييف أو خداع. وقلما نجد صحفيين يصدعون بقول الحق ولا شيء سواه، وهؤلاء يعانون كثيراً ويتجرعون المرار ويقاسون شظف العيش! لا يتاجرون بقناعاتهم، نفوسهم أبية، لا يقبلون الدنية، ولا يستجيبون للإغراءات وإن كثرت أو تعددت!
إن الثورات والهيجان الشعبي الذي يجتاح معظم عالمنا العربي والشرق أوسطي منذ عدة أعوام، وجد فيه الإعلام المضاد فرصة سانحة لينفث سمومه ويروّج لفكر أسياده من أعداء حرية الشعوب وتحرر الأوطان وديمقراطيتها، وراح يؤلب ويصب الزيت على النار ويحرض الشباب خاصة مستغلاً حماسهم وتوقهم إلى التغيير. الأمر الذي وجه الأمور إلى هذا الوضع المتردي الذي نعيشه اليوم، والذي كلف شعوب المنطقة خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وأضرت بالاقتصاد كثيراً.
أوقع هذا الإعلام الناس في حيرتهم ولم يعودوا قادرين على رؤية الخيط الأبيض من الخيط الأسود. فقد بلغ التزييف الإعلامي الزبا وفاق كل تصور. ولم تعد هناك ضوابط مهنية أو أخلاقية، واغتر الكثيرون بالشعارات التي يروجها ويسوقها بكل ما أوتي من ذكاء ودهاء حتى أوقع الإعلام أعداداً كبيرة من الناس في حبائله، فتؤمّن على أخباره وتصدّق كل ما يقول.
وخلاصة القول: علينا أن نكون أكثر حذراً في التعامل مع الإعلام؛ خاصة القنوات المشبوهة التي تلعب على الحبلين وتستغل حماس الشباب لتحقق مبتغاها في نشر الفتنة وإذكاء نار الخلاف وتأجيج الأحقاد؛ خدمة لأهداف من يمولونها ويديرونها.
إيجابيات وسلبيات الإعلام:
الإعلام يعد واحداً من تلك المجالات الشديدة الأهمية والتي قامت بالهيمنة والتأثير المباشر والعالي في حياة الإنسان المعاصر، وذلك لما فيه من العديد من تلك التفرعات والأقسام التي يتفاعل معها الأشخاص، والتي تقوم بلعب العديد من الوظائف، ومنها نشر المعلومات والأخبار، وأيضاً الدور التثقيفي والخاص بالتوعية المجتمعية وما إلى ذلك، ونظراً لما أصبحت تشكله وسائل الإعلام بشكلها العام من تفاعل عالي مع الأشخاص؛ فقد ظهرت لها العديد من الإيجابيات وأيضاً العديد من السلبيات والآثار الضارة على الأشخاص.
أهم إيجابيات الإعلام وفوائده:
– سرعة معرفة الأخبار أو الأحداث سواء المحلية أو العالمية إذ أن وسائل الإعلام قد قضت تماماً على حاجز المسافة، وجعلت من العالم قرية صغيرة، وسهلت عملية نقل المعلومات بشكل كبير بينه.
– القيام بأداء الدور الرقابي والخاص بأداء الحكومات والأجهزة التنفيذية بمختلف أنواعها؛ مما يؤدي إلى التزام تلك الحكومات (الأجهزة التنفيذية) بإنجاز مشاريعها وخططها على أكمل وجه، وبأفضل صورة ممكنة لها.
– إتاحة الفرصة وذلك أمام كافة أصناف الأشخاص واتجاهاتهم الفكرية للتعبير عنها وإيصال أصواتهم إلى الجهات المعنية.
– العمل على نشر ثقافة التوعية للمجتمع، وذلك بخصوص كل ما يواجهه الأشخاص فيه من عوائق أو مشكلات أو أحداث؛ قد تقوم بتأثير سلبي عليهم إن لم يكونوا على دراية مناسبة للتعامل معها.
– إتاحة مساحة لعرض المهارات والمواهب الشخصية للأشخاص.
– القيام بعمليات الدعاية للمنتجات أو الخدمات؛ وهو ما ينشأ عنه زيادة الطلب على تلك المنتجات أو الخدمات من جانب الأشخاص وبالتالي رفع مبيعاتها وأرباحها.
– تقديم الدور الترفيهي من خلال الموسيقى أو البرامج والمسلسلات بأنواعها.
– إتاحة الفرصة للأشخاص بالتعرف على الثقافات والدول المختلفة بل والاطلاع على عاداتهم الخاصة بهم وأسلوب حياتهم.
أهم السلبيات والآثار الضارة للإعلام:
– يتم استغلالها بشكل سيئ في بعض الأحيان من جانب الأنظمة أو الحكومات الديكتاتورية أو المستبدة من أجل القيام بتبرير سياستها السيئة أمام المجتمع.
– إثارة البعض من وسائل الإعلام تلك النعرات، أو العصبيات الطائفية البغيضة بين الأشخاص، وذلك لأغراض معينة ومحددة، مما ينتج عنه في النهاية حدوث الكثير من أشكال الاحتقان المجتمعي بين الأفراد تأثراً بذلك.
– قيام بعض من وسائل الإعلام أو القنوات الإعلامية ببث مجموعة من البرامج التي تعمل على انحطاط الذوق العام أو أفكار الأفراد ووعيهم وذلك سعياً منهم لتحقيق الأرباح المالية.
– إصابة بعض الأفراد بالعزلة، ويرجع ذلك إلى قضائهم لمعظم وقتهم في مشاهدة التلفاز، أو القيام بتصفح الشبكة العنكبوتية الإنترنت، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى ابتعادهم عن عائلاتهم أو حتى أصدقائهم، ويتسبب لهم في مشاكل اجتماعية عديدة.
– القيام بالترويج لبعض المنتجات أو السلع الضارة صحياً مثل الترويج للدخان أو الكحوليات أو المواد المخدرة، وذلك يكون من خلال وجود بعضٍ من المشاهد في الإعلام تقوم بإظهار إدمان هذه الأمور كشيء عادي، بل وممتع في بعض الأحيان وهو ما ينتج عنه دفع عدد من الأشخاص والغير مدركين لخطورة ذلك إلى محاولة تجريب تلك الأمور نتيجة تأثرهم بالإعلام.
– القيام بنشر ثقافة الاستهلاك بين الأفراد كنتيجة طبيعية لما تعرضه وسائل الإعلام لهم من منتجات باختلاف أشكالها، حيث يقبلون على شرائها دون تفكير.
– القيام بنشر بعض المفاهيم الخاصة بالثقافات الغريبة أو الشاذة عن المجتمع.
ما الشروط التي يجب توفرها لتأسيس إعلام حر وبناء مجتمع ديمقراطي؟
على الرغم من كون فكرة وجود إعلام مستقل تماماً عن الحكومات أو عن رأس المال تقترب لتكون فكرة طوباوية في عالم اليوم؛ إلا أنه لا بد من الوقوف مطولاً عند تجربة إعلام الانترنت الذي نجح في حالات كثيرة بتشكيل مجتمعات إعلامية حرة، ومستقلة عن تبعية رأس المال نتيجة للكلفة القليلة، ولإمكانية التحرر من الرقابة المباشرة مما مكنه من تحمل العبء الأكبر في نشر الفضائح وقضايا الفساد و كسر سيطرة الدولة على الخبر.
لذا فإن السعي المتواصل من أجل تحرير الإعلام من سيطرة الدولة؛ يشكل واحدة من مجموعة الأهداف الأساسية من أجل التحول الديمقراطي الحقيقي والشامل في دول الشرق الأوسط عامة، ولابد من وضع الخطط والإجراءات الكفيلة بذلك، ومنها تلك التوصيات التي مازلنا نرددها وندورها من عام إلى آخر، ومن منبر إلى أخر حيث لابد من توفر شروط أساسية في أي مجتمع لقيام حرية الرأي والتعبير التي تشكل الحاضن الرئيسي لنمو إعلام حر. وتتمثل هذه الشروط بـ:
– وجود نظام ديمقراطي يقوم على أسس المواطنة والحكم الرشيد والتداول السلمي للسلطة في كافة مستوياتها.
– بنية تشريعية تضمن حرية الحصول على المعلومات، وحرية تداولها بكافة الطرق تتوافق مع المعايير العالمية لحرية الرأي والتعبير مدعومة بنظام قضائي مستقل.
– بيئة مجتمعية تحترم الاختلاف والتنوع وحرية الاعتقاد والرأي الآخر، وتنبذ عقلية الانغلاق والتحريم.
– التزام الدول والسلطات والإدارات بالمصادقة على الإعلانات والمعاهدات الدولية التي تصون حرية التعبير والإعلام، وإدخالها حيز التنفيذ والمباشرة في تبني وتنقيح وتعديل وإصلاح تشريعاتها حتى تتوافق مع هذه المعايير.
– وضع الضمانات الدستورية الكفيلة بحماية حرية الرأي والتعبير والإعلام المستقل وألّا تقر قوانين وأنظمة تنتقص وتتغول على المعايير الدولية لحرية الإعلام والضمانات الدستورية.
– المباشرة بوضع قانون حق الوصول للمعلومات واعتماد مبدأ الكشف الأقصى للمعلومات وحماية المسربين الحكوميين بما يتفق مع المعايير الدولية.
– أن تتبنى الحكومات الإعلان صراحة عن منع التدخل المباشر وغير المباشر بوسائل الإعلام، وأن تضع الآليات القانونية لمساءلة، وتجريم من يقوم بذلك من موظفيها العموميين والأجهزة التابعة لها.
– إطلاق حرية التملك لوسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة والاكتفاء بنظام الإخطار لغايات التأسيس، ووضع آليات لأعمال ذلك في التشريعات القانونية، ووضع تشريعات قانونية تحول دون سيطرة الحكومات وتملكها لوسائل الإعلام.
– التزام الحكومات بتمويل صحف وإذاعات وقنوات تلفزة مجتمعية من الموازنة العامة للدولة وفق معايير وآليات شفافة على أن تدار من مجالس مستقلة.
– التزام الحكومات باقتطاع نسبة مئوية من إيرادات الإعلانات الحكومية والخاصة لغايات تطوير الحالة المهنية والتدريب للإعلاميين.
– وضع آليات واضحة وفعالة تكرس الشراكة بين الحكومات ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني بما يضمن تقدم وتطور واقع حرية الإعلام.
-الحياد في العمل الاعلامي، أي لا بد من استقلالية ملكية الإعلام، وحق الجميع في تأسيس المؤسسات الإعلامية، دون ضغط، وكذلك ضمان حرية العاملين من محررين وكتاب في التعبير عن آرائهم بكامل الحرية دون تدخل المالكين، وهذا يعني استقلالية هيئة التحرير عن الإدارة.
-كما لابد من تأمين الحرية المهنية الفردية: التزام العاملين في المؤسسات الإعلامية بالمهنية التي تلزمهم بالنزاهة والصدق والانتماء للخبر الصادق والكلمة الحرة النزيهة المحايدة بأمانة، ولا يمكن إغفال أهمية وجود ضمانات تشريعية لحرية الصحافة وحقوق الصحفيين، وتأمين الحصانة للصحفي وعدم مطاردته عن التعبير الحر الملتزم عن رأيه.
______________________________________________
المصادر:
1-ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
2-موقع السلطة الرابعة.
3-كتاب الصحفي العالمي للكاتب ديفيد راندال، ترجمة معين الإمام.
4-كتاب صناعة الخبر في كواليس الصحافة الأمريكية، تأليف الصحفي الأمريكي “جون ماكسويل هاملتون”.
5-كتاب على درب الحقيقية إصدار مؤسسة أريج المهتمة بالصحافة الاستقصائية.
6-كتاب التربية الإعلامية تأليف الإعلامي فهد بن عبد الرحمان الشميمري.