سليمان محمود
إنّ السياسةَ الاستثنائيّة والخاصّة، والتي مورسَت حيالَ الكُرد في سوريا عامّة والجزيرة السورية خاصّةً، وتنفيذ مشاريع من شأنها تعريب المناطق الكرديّة، وإنشاء حزامٍ من المواطنين العرب ليشكلّوا حاجزاً بين الكرد في تركيا وسوريا؛ بالإضافة إلى ما سُمّي بتطعيم منطقة جبل الأكراد(عفرين) بالعناصر العربية، كانَ لها كبيرُ الأثر على التعايش ما بين جميع مكوّنات منطقة الجزيرة السوريّة، لعقودٍ من الزمن.
نحنُ لا نبتغي نبشَ الماضي وتحريك الجراح حتماً، بقدر ما نريدُ تفصيلَ الحقائق وفضح المؤامرات القديمة الحديثة والتي أضرّت بفكر جيلٍ كاملٍ من السوريين.
ونتذكّرُ هنا الكرّاسَ الذي أصدره محمد طلب هلال، رئيس شعبة الأمن السياسي في محافظة الحسكة عام 1962، بعنوان(دراسة حول محافظة الجزيرة من النواحي السياسية والاجتماعية والقومية)، والذي حملَ في طيّاته جملةً من الاقتراحات الرامية إلى صهرِ الكرد والقضاء على خصائصهم القوميّة. ومن بعض بنوده:
- أن تعمدَ الدولةُ إلى تهجير الأكراد إلى الداخل، مع التوزيع في الداخل، ومع ملاحظة عناصر الخطر أوّلاً بأوّل.
- سياسةُ التجهيل، وعدم إنشاء مدارس أو معاهد، لأنّ بناءها أثبتَ عكس المطلوب بشكلٍ صارخ.
- سحب الجنسيّة السورية من الكرد، ومن ثمّ تهجيرهم.
- سدّ باب العمل أمامهم، حتى يصيرون في وضعٍ غير مستقرّ وغير قادرين على التحرّك، كي يكونوا أمام الرحيل في كلّ وقت.
- شنّ حملة من الدعاية الواسعة بين العناصر العربية مُركّزةً على الأكراد.
- نزعُ الصفة الدينية عن مشايخ الدين عند الأكراد، وإرسال مشايخ بخطّة مرسومة عرباً أقحاحاً.
- ضرب الأكراد في بعضهم، وهذا سهلٌ وميسور، بإثارة من يدّعون بأنهم من أصول عربية على العناصر الخطرة.
- إسكانُ عناصر عربية في المناطق الكردية على الحدود، فهم رقابةٌ على الأكراد ريثما يتمّ تهجيرهم، ونقترح أن تكون هذه العشائر من شمّر.
- جعل الشريط الشمالي للجزيرة منطقة عسكرية كمنطقة الجبهة، توضعُ فيها الآلياتُ والقطعات العسكرية، مهمتها تهجيرُ الأكراد وإسكان العرب.
- إنشاء مزارع جماعيّة للعرب الذين تُسكنهم الدولةُ في الشريط الشمالي، على أن تكونَ مُدرّبة ومسلّحة عسكرياً.
- عدمُ السماح لمن لا يتكلّم العربية بأن يمارسَ حقّ الانتخاب والترشيح في المناطق المذكورة.
- منعُ إعطاء الجنسيّة مطلقاً لمن يريد السّكنَ في تلك المناطق، مهما كانت جنسيّته الأصليّة( عدا الجنسية العربية).
ودائماً كانتِ الذريعةُ التي يسوقها المتعصّبون، أنّ الكردَ يطمحون إلى تشكيلِ دولةٍ كرديّة في سوريا، وتارةً أخرى بأنهم يريدون سلخَ جزءٍ من سوريا وإلحاقه بدولة أجنبيّة.
وفي أواخر الخمسينيات بدأت سياسةُ التمييز القومي تُطبّقُ بشكلٍ صارخ في منطقة الجزيرة، وكانت أخفّ وطأةً في المناطق الأخرى التي يتواجدُ فيها الكردُ. وبلغت هذه السياسةُ ذروتها عام 1962حيث تمّ تنفيذ الإحصاء الاستثنائي، وتم تجريد ما لا يقلّ عن 150 ألف مواطن كردي من الجنسيّة السوريّة. ثمّ طُبّقَ عام 1966 مشروع الحزام العربي، وتمّ بموجبه نزع يد الآلاف من العائلات الفلاحيّة الكردية من الأراضي التي استثمروها أباً عن جدّ، وفقدت مورد رزقها نتيجة ذلك.
وقد اشتدّت وتيرةُ هذه السياسات الهوجاء سنةً بعد أخرى، حتى شملت كافة نواحي الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والصحيّة….
فقد كانَ يترتّبُ على المواطن الكرديّ أن يراجعَ أجهزةَ الأمن لبناء دار سكنٍ أو ترميمه، أو شراء آليّةٍ خاصّة أو عامة. وكان ممنوعاً عليه الانتسابُ إلى الكليّة الحربيّة، والتوظيف في كثير من دوائر الدولة، ومحظوراً عليه ممارسةُ فلكلوره الشعبيّ والاستماع إلى الموسيقا الكرديّة. هذا علاوةً على أنّ المُجرّدين من الجنسيّة بموجب الإحصاء الجائر أصبحوا محرومين من جميع الحقوق المدنيّة المترتّبة على حقّ المواطَنة.
ربما نستطيع القول إنّ الأوضاعَ بقيت على هذا المنوال حتى عام 1970حيث بدأت سياسةُ التمييز القومي تخفّ قليلاً، وصار المواطنُ الكرديّ يستعيدُ بعضَ حقوقه التي سلبتها منه تلك السياسة، وتقلّصت إلى حدٍّ ملموس الإجراءاتُ والتدابيرُ الاستثنائية، خاصّة في التعامل اليومي مع المواطن الكرديّ، الذي بات يمارسُ حياته اليومية يشكلٍ اعتيادي، يشعرُ معها بالطمأنينة والأمان ويساهم بدوره في تقدّم البلد وازدهاره.
إنّ السياساتِ الاستثنائية والمشاريعَ العنصريّة التي طُبّقت ضدّ الكرد في منطقة الجزيرة أدّت إلى تغييرٍ ديمغرافي واضح، فقد أسكنتِ الدولةُ آلافَ العائلات العربية التي اُستقدمت من الرقّة وغيرها من محافظات الداخل في الشريط الحدودي المتاخم لتركيا، طبقاً لمشروع الحزام العربي السيّء الصيت، ونزعتْ يدَ الفلاحين عن الأراضي التي استثمروها عشرات السنين، وبذلك ظلّوا دون مورد رزقٍ في ظلّ التدابير التي كانت تُسمّى ب(الاشتراكيّة)، هذا علاوةً على الآلاف من العناصر العربية التي خدمت في دوائر الدولة ومؤسساتها وفي سلك التربية والتعليم، حيث قدّمت لهمُ التسهيلاتِ والامتيازات للسكن في الجزيرة، في الوقت الذي كان ممنوعاً فيه على العنصر الكرديّ أن ينقلَ موطنَ سكنه من القرية التي يسكنها إلى المدينة التابعة لها، أو من مدينة لأخرى ضمن حدود المحافظة الإدارية؛ وكان يواجهُ شتّى التدابير والإجراءات القاسية، ومضايقته من الناحية الاقتصادية لسدّ سُبل العيش أمامه، وبالتالي إرغامه على الرحيل من الجزيرة، مما أدّى بالآلاف من أبناء الشعب الكردي إلى الهجرة عن المحافظة والتوجّه إلى أوروبا ومحافظات الداخل، سعياً وراءَ لقمة العيش لعائلته.
لقد كانتِ الجزيرةُ قليلةَ السكّان في أوائل هذا القرن، يقدّر عددُ سكّانها بأربعين ألف نسمة، ينتمون إلى المكوّنين العربي والكردي وقليلٍ من المسيحيين. والعشائرُ العربيةُ كانت في حالة بداوة، وهي الطيّ وكانت تسكن جنوبَ القامشلي، والجبور حوالي الحسكة، ثمّ البكّارة في منطقة جبل عبد العزيز، والشرابيين في منطقة رأس العين، وعدد قليل من عشيرة الشمّر والتي كانت في غالبيتها الساحقة في العراق. أمّا الكردُ فكانوا نصفَ حضرٍ يسكنون المناطقَ الواقعة في شمالي الجزيرة العليا جنوب سلسلة جبال طوروس في العديد من القرى.
وبعد اتفاقية سايكس- بيكو عام 1916 وتخطيط الحدود بين تركيا وسوريا، قسّمَ الخطّ الحديدي الذي يربطُ مدينةَ حلب ببغدادَ تلكَ العشائر الكردية إلى قسمين: قسمٌ بقيَ ضمن حدود الدولة التركيّة، والآخر أصبح تابعاً للدولة السورية.
إنّ كلّ المصادر العربية والأجنبيّة تبيّن أنّ الكردَ وُجدوا في الجزيرة العُليا منذ مئات السنين، وأنّ العشائرَ الكرديّة في الجزيرة هي عبارةٌ عن امتداد لجزئها الآخر في تركيا وبنسبٍ متفاوتة بين عشيرةٍ وأخرى، تبعاً لامتداد الحدود الدولية بين سوريا وتركيا، ولحجم كل من هذه العشائر في الكبر والصغر. ونتيجةً لهذا التقسيم فقد قاستِ الآلافُ من العائلات معاناةً اجتماعية وإنسانيّة، وهي لا زالت تكابدها حتى اليوم.
صحيحٌ أنّ الكردَ ما شكّلوا دولةً يوماً، غيرَ أنّ جميعَ علماء التاريخ والأجناس كتبوا في كتبهم وأبحاثهم عن الشعب الكرديّ وأصله وتاريخه الذي يمتدّ لأكثر من خمسة آلاف سنة في هذه المنطقة بالذات، وتحديداً بين بحيرتي أورمية ووان، وعن ثقافته وتقاليده وفلكلوره الغني. وتزخر كتب الباحثين والمؤرخين بدور الكرد المشرّف في نشر الإسلام وترسيخ دعائمه وردّ كيد الأعداء عنه، وكذلك الإمارات التي شكلّوها في العهد الإسلامي وقبله.
على الجميع أن يعرفَ أنّ الكردَ ما كانوا يوماً جسماً غريباً على هذه الأرض، بل كانوا دوماً عنصراً إيجابيّاً في بناء الوطن، يساهمون بإخلاصٍ وشرف في تقدّمه وازدهاره، وهم كغيرهم من المواطنين أصحابُ هذه الأرض وحُماةُ هذا الوطن.
ومهما كانت مساحةُ الاختلاف في الآراء بيننا، فإننا في هذا البلد، على اختلاف انتماءاتنا القوميّة عرباً وكرداً وقوميات أخرى، وكذلك على اختلاف الديانات والطوائف، يجبُ أن نعيشَ بوئامٍ وإخاء، يجمعنا الهدف المشترَك، ألا وهو العملُ معاً لازدهار سوريا وتقدّمها، وتعزيز الوحدة الوطنيّة التي كانت وستبقى حجرَ الأساس لكلّ تقدّم ونجاح.
المصادر:
- اسكندر داوود- الجزيرة السورية- 1959
- محمد طلب هلال- دراسة حول الجزيرة من النواحي السياسية والقومية
- عبد الحميد درويش- لمحة تاريخية عن أكراد الجزيرة.