محاولات إفناء التُراث التاريخي الحضاري تُراث منطقة عفرين نموذجاً
عبد المجيد إبراهيم قاسم
إن التراث الثقافي والحضاري الذي تركه لنا الأقدمون يتضمّن جوانب عدّة، كالجانب اللا مادّي، المتمثِّل بفنون القول السائرة، ومختلف الآداب والعلوم الإنسانيّة، والجانب المادّي، الذي يتمثَّل في المدن والمواقع والآوابد الأثرية، والمباني والأنماط العمرانية، بنقوشها وزخارفها وهندستها المعمارية. ويحظى التراث بجانبيه بمكانة كبيرة لدى شعوب الأرض قاطبةً، ويمتاز بقيمة لا تضاهى بالنسبة لها، وذلك لكونه يمثِّل جزءاً من الإرث الحضاري المتَّصل بها، ودليلاً واضحاً على رقيِّ وجمال وبهاءِ فنونها، ومكوّناً أساسياً في تشكيل وعي ناشئتها ووجدانه.
تشير الكثير من الوثائق التاريخية المكتشفة إلى المكانة الحضارية الهامَّة لمنطقة عفرين، هذه المنطقة التي تعاقبت عليها العديد من الحضارات القديمة، وازدهرت فيها الزراعة والتجارة والمهن ازدهاراً كبيراً، ذلك بالنظر إلى ثرواتها الطبيعية الوفيرة وموقعها الاستراتيجي الهام والمتميِّز. كما تؤكد الدراسات بأنها إحدى أغنى مناطق الشمال السوري بالآثار والأوابد التاريخية، إذ تحوي على العديد من المواقع الأثرية الهامة التي تعود عصور تاريخية عدَّة، وقد أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)(1) بعض هذه المواقع المذكورة على قائمة التراث العالمي، فيضمُّ (جبل سمعان) القريب ثلاث محميّات أثرية مدرجة على هذه اللائحة، من أصل ثمانية في الشمال السوري.
نتيجةً للعدوان التركي على إقليم عفرين ونواحيها، فقد تعرَّضت بعض تلك المواقع الأثرية للدمار والتحطيم والتخريب، جرّاء القصف المتواصل الذي استمر طيلة 58 يوماً، وكذلك إلى النهب والسرقة والتهريب أحايين أخرى، بسبب إطلاق الدولة التركية أيدي مأجوريها وسماسرتها واستخباراتها في عمليات الترويج والتهريب للقطع الأثرية في المنطقة، فتشير معلومات بهذا الشأن أن هناك ما لا يقل عن 16 ألف قطعة أثرية سورية تمت مصادرتها من الأجهزة التركية، وهي مودعة لدى مديرية الآثار التركية(2).
لقد تعرَّض موقع (معبد عين دارة) الأثري الذي يقع على بعد 6 كم جنوب مدينة عفرين، لقصف جويٍّ تركي في بداية الهجوم، (20 كانون الثّاني/ يناير 2018) وألحقت به أضراراً كبيرة بحسب الكثير من المصادر، ومنها المرصد السوري لحقوق الإنسان، فتحطَّمت خلاله ما لا يقل عن نصف منحوتاته النادرة، والمصنوعة من الحجر البازلتي (الأسود البازلتية). وبحسب الخبير في هيئة الآثار التابعة للإدارة الذاتية في عفرين، الأستاذ صلاح الدين سينو، فإن الضرر امتد من مدخل المعبد إلى أجزائه الداخلية، حيث تطايرت هياكل المعبد والتماثيل المنحوتة الممثِّلة للحيوانات الأسطورية الحارسة للمعبد، ومنحوتات أخرى تمثِّل الآلهة. كما تطايرت حجارة الأرضية إلى مسافة 100 متر. ومن جانبها أكدت منظَّمة (اليونيسكو) عبر تصريح مسؤولة فيها لوكالة فرانس برس، قالت فيه: إن أضراراً جسيمة لحقت بالأقسام الوسطى، وتلك الواقعة جنوب شرقي المبنى. أما عن أهمية المعبد؛ الذي لا يقدَّر بثمن، فيؤكد الكثير من الدارسين والباحثين على تلك الأهمية تأكيداً كبيراً، لكونه يمثّل بوضوح الحضارة الآرامية التي سادت في سورية خلال الألف الأول قبل الميلاد.
كما استهدفت الدولة التركية خلال عدوانها، موقع قرية (براد) الأثري المسيحي، الواقع بناحية شيراوا، على مسافة 15 كم جنوب مدينة عفرين، وألحقت به أضراراً جسيمة أيضاً، حيث دمَّرت أجزاء كبيرة من مبانيه الأثرية، علماً بأنه من المواقع المدرجة على قائمة مواقع التراث العالمي (اليونسكو) منذ عام 2011. وقد أشار مسؤول المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية في بيان منشور إلى أن الأهداف التي تعرَّضت للقصف ضمن الموقع هي: ضريح القديس مار مارون، وكنيسة جوليانوس التي تضم الضريح، وتعدُّ من أقدم الكنائس المسيحية في العالم، التي تم إنشاؤها نهاية القرن الرابع للميلاد.
ويجدر بالذكر أن الموقع يضمّ بالإضافة إلى بعض الكنائس والأديرة البيزنطية، معبداً، وحماماً، ودوراً سكنية، ومدافن تعود إلى الحقبة الرومانية. في ردِّه على الحادث؛ صرَّح أستاذ الآثار مأمون عبد الكريم، الذي عمل ضمن البعثة السورية الفرنسية في الموقع المستهدف، لوكالة فرانس برس: إن هناك عملية منهجية لقتل التراث والتاريخ السوري، علماً أن هذه المنطقة هي من أجمل صفحات المسيحية في العالم. وأضاف قائلاً: لم تمر كارثة إنسانية كهذه على المنطقة منذ القرن السادس، فحتى المغول لم يدمِّروا هذه المنطقة.
إلى جانب الضرر الكبير الذي تعرَّض له الموقعين المذكورين، فإن مواقع أخرى تضرَّرت بفعل القصف التركي، وأصابها الدمار والتشويه جرّاءه، كقلعة النبي هوري الشهيرة، أحد المعالم الأثرية الرومانية في المنطقة، وتل جنديرس الأثري، وغيرهما من المواقع الأثرية في منطقة عفرين.
إن ممارسات الدولة التركية في عفرين، وعدوانها وتدميرها للمواقع الأثرية الهامة في المنطقة، ما هي إلا محاولات لطمس معالم الهُويّة الحضارية لشعوب سوريا بالدرجة الأولى، وتشويه لتلك المواقع والأوابد والمنتحوتات، ونهب وسرقة ما تبقى منها، ولعل ذلك بهدف التعبير عن حقد هذه السلطة وكراهيتها تجاه التاريخ، ولإرضاء غريزتها العدائية للحضارة، ربما يكون السبب افتقارهم إلى جذور حضارية ممتدَّة في التاريخ، وظهورهم مؤخراً بفعل القوّة وفضل منطقه فحسب.
إن الجهود الدولية في إطار الحفاظ على التراث الحضاري الإنساني جهودٌ دؤوبة وحثيثة، تهدف لتفعيل الاتفاقيات المشتركة التي تُعنى بهذا الشأن، وأهمها: (اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي) الذي تم تبنّيه خلال المؤتمر العام لليونسكو عام 1972، وصادقت عليه 180 دولة. وأهمّ أهداف هذه الاتفاقية: تصنيف وحماية المواقع (الثقافية أو الطبيعية) الهامّة للجنس البشري، حيث تحصل المواقع المدرجة في هذا البرنامج على الدعم اللازم من المساعدات المالية. وكما سبق فإن منطقة (جبل سمعان) يضمُّ ثلاث محميات أثرية مدرجة على لائحة المنظمة.
إن على المؤسسات والمنظمات الدولية المعنية بالحفاظ على التراث العالمي، والشأن الثقافي الإنساني، عليها واجباً أخلاقياً، يتمثَّل بالتدخل لإيقاف تدمير التراث الثقافي في سوريا الذي يمارس بمنهجية من قِبل النظام التركي، ويستدعي جهوداً عاجلة واستراتيجية لحمايتها، لأن هذا التدمير يؤثر بشكل كبير على التنوّع الثقافي في المنطقة، ويقوّض مقومات هذا التراث الغني، الذي يعدُّ جزءاً من التراث الإنساني والحضاري العالمي، ومنجز هاماً من منجزاته، وذلك من خلال الضغط على هذا النظام ومنعه من استباحة المواقع الأثرية والحضارية في المنطقة، وإيقاف الإتجار بها. ومن الضروري أيضاً مشاركة المجتمعات المحلية والمؤسسات والجمعيات المختصّة وتضافر جهودها في تقديم الأساليب وعرض التحديات للرأي العام بهدف الحفاظ على التراث الثقافي المتنوع في المنطقة. إن أشكال ومكتسبات التراث الإنساني تشكِّل عموماً قيمة حضارية وتاريخية هامّة، ومكوّناً أساسياً من مكوِّنات هُوية أي مجتمع من المجتمعات، ومصدراً لفخرها واعتزازها، وأيَّ تدمير أو محاولات لطمسها وإفنائها، يمكن اعتبارها جريمة كبرى بحقِّ الإنسانية جمعاء.
هامش:
- تأسَّست في 16 تشرين الثّاني/ نوفمبر 1945، لندن- المملكة المتحدة، مقرَّها الرئيسي: باريس- فرنسا.
- عن تصريح للدكتور (محمود حمود) المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، نقلته صحيفة (تشرين) الرسمية.