للشعبِ الكرديّ قصصٌ وتاريخ، مع الإبادة العرقية والثقافية
/خالص مسور
مَن يلمّ بقليل من التاريخ، سيدركُ بلا ريبٍ بأنّ الكردَ من الشعوب الأصيلة في مناطقهم الحالية، ولم يأتوا من مناطقَ أخرى ولم يحتلوا أراضي الغير كما فعلته بعضُ حكام المنطقة تجاههم وتجاه شعوب أخرى تعيش بين ظهرانيهم وإلى جوارهم. ولم يكن هؤلاء الحُكام منصفين يوماً ما في تعاملهم مع الكرد الذين رحبوا بالجيرة والجوار واستضافوا الشعوبَ الأخرى في أرضهم وموطنهم، ودافعوا عن المنطقة كلها ضدّ المحتلين والغزاة على مرّ التاريخ. ولكن، ومع شديد الأسف، لم يجنِ الكردُ من وراء ذلك سوى المآسي والويلات، وفي كل مكان يتواجدون فيه تعرضوا للغبن ونكران الجميل والاضطهادات المتلاحقة من تلك الحكومات المتعاقبة التي تحكّمت في مصائرهم وأقدارهم، ونفذت بحقهم في أجزاء كردستان الأربعة التهجيرَ والإبادة الثقافية والجسدية ووفقَ أعلى المستويات؛ ولم تتوانَ الحكوماتُ عن إصدار القوانين الجائرة والإحصاءات الاستثنائية والتي ترقى إلى مستوى الجينوسادات أو التطهير العرقي أو الإبادات الثقافية بكل صفاقة وصلافة.
وهناك الكثير من الألاعيب التي تلجأ إليها الدولُ المتحكمة في كردستان، ذاك الجرح العميق الذي عجزتِ السنونُ عن شفائه ومداواته!. فبدلاً من سياسات السلم والأخوة والعيش المشترك، تلجأ هذه الدولُ والحكومات إلى التعامل مع الكرد بمنطق الشوفينية والتعصب، وتحاول صهرهم في بوتقة شعوبها أو اقتلاعهم من جذورهم، كما حدث في الماضي ويحدث اليوم في عفرين الصامدة وباكور كردستان؛ ناهيك عن أنّ مرضَ الإعدامات التي اُبتلي بها ملالي طهران ضد الشبان الكرد تكاد لا تنقطع، ولن يكون آخرهم الشاب الكردي (رامين) الذي حُكم مؤخراً بالإعدام شنقاً حتى الموت، بعيداً عن الانصاف وروح الإنسانية وحقوق الشعوب المنصوصة عليها في كل الشرائع والقوانين الدولية والسماوية، لأن هؤلاء المرضى من الحكام يريدون كردستان خالية من البشر والشجر. ومن هذه التصرفات الشوفينية نذكر.
ا – الحزام العربي في روج آفا
يبلغُ عددُ الكرد في روج آفا وسوريا بين (2،5-3) مليون نسمة بشكل تقريبي، أي ما نسبته 15- 20% من السكان في سوريا حسب المعطيات السكانية غير الرسمية. فالكردُ متأصّلون في موطنهم في إقليم الجزيرة وروج آفا في شمالي سوريا منذ أمد طويل وقبل غيرهم من الشعوب الأخرى، ويتذكر المعمرون العربُ والكرد بأنّ الجزيرةَ ومناطقها الشمالية تحديداً، كانت منطقة استقرار للكرد ومنذ أن كانت مرتعاً لقطعان الغزلان والنباتات البرية، وكانت القرى الكردية تنتشر فيها أي إلى الجنوب من خط الحدود مع باكور كردستان أو ما تسمى اليوم بالحدود التركية السورية، بينما القليلُ من العرب الرحّل كانوا ينصبون خيامهم في الربيع قربَ مجرى نهر الجقجق ويزرعون مساحات صغيرة من الذرة ثم يرحلون إلى ديارهم.
وفي شهادة للسيد حميدي دهام الهادي شيخ عشائر الشمر في سوريا، في معرض تعليقه على ما كتبه سهيل زكار المدرس في جامعة دمشق، من أن الكردَ ليسوا من السكان الأصليين في الشمال السوري بل إنهم هاجروا إليه بعد ثورة الشيخ سعيد عام 1925م، قال فيها: “والله نحن العربُ كنا نجوبُ بأغنامنا في ربوع الجزيرة وكنا نأخذ بعضَ حاجاتنا من القرى الكردية المستقرة هناك”. أي أن الكرد كانوا مستقرين هناك قبل ثورة الشيخ سعيد بكثير، فإذا أخذنا قرية تل شعير الحجي سليمانية وحدها كنموذج والواقعة إلى الشرق من القامشلي، فعمرُ القرية يعود إلى أكثر من(300) عام على الأقل(1).
تعرّضَ الكردُ – ومنذ وجودهم كشعب في موطنهم- إلى مختلف صنوف الاضطهادات والمجازر والإبادات الجماعية واستباحة الأموال والممالك والديار, وقد بدأت المخططات لإقصاء الكرد عن الحياة السياسية والحقوقية في سوريا منذ العهد الفيصلي أي الملك فيصل الأول الذي حكم سوريا بعد طرد العثمانيين منها بقليل أي منذ عام 1918م تحديداً، وذلك لإنهاء الإرثين الأيوبي والعثماني معاً(2)، واستمرّ هذا النهجُ بإعدام الرئيس السوري حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي الكرديين عام 1949م.
كما خططت النخبةُ الانفصالية الحاكمة عام 1961م لمشروع ما سمّي بالحزام العربي أو الحزام الأخضر، وجاءت مرحلة تنفيذه في الوثائق السياسية للقيادة القطرية لحزب البعث السوري.
وفي الحقيقة فإن حزبَ البعث لم يتوانَ في سوريا في إصدارته ووثائقه التثقيفية عن تذكير عناصره الحزبية بمآثر من الشوفينية والتحريض ضد الشعب الكردي في روج آفا وتصويره على أنه يشكل خطراً على أمن الدولة السورية، حتى يصار إلى تغيير ذهنية العناصر الحزبية والقبول بما تمليه عليهم دوائر الشوفينية والتعصب ضد الشعب الكردي الآمن والذي كان القدوة والمثل في دفاعه بعنفوان عن سوريا كلها ضد ما تعرضت له من احتلال وعدوان خارجي.
وبموجب مخططات الحزام السيء الصيت تمّ ترحيلُ الفلاحين الكرد وتجريدهم من أراضيهم التي ورثوها كابراً عن كابر (عن آبائهم وأَجدادهم) في محاولة من المعنيين بالأمر تغيير ديموغرافية المنطقة رأساً على عقب.
وقد عمدت الحكومة السورية وبأمر من القيادة القطرية لحزب البعث عن نقل ملكية الأهالي من منطقة الحزام إلى ملكية الدولة تمهيدا لتوزيعها على المشمولين بالغمر بعد بناء سد الفرات. وبالفعل تم بناء قرى عصرية للمغمورين نوعاً ما مزودة بكافة المرافق العامة، وفي بناء القرى في الجانب الغربي من مدينة قامشلو ساهم في بنائها نجار متعهد يدعى (ح.خ) من الحسكة. وكان المغمورون مشمولين برعاية الأجهزة الأمنية التي تولت حمايتهم ورعايتهم، وحيث أدى الحزام بالإضافة إلى الترحيل والتهجير إلى وقوع الشعب الكردي بين براثن الجهل والفقر والتشتت والتخلف.
في الحقيقة فقد بدأ التعريبُ في العصر الحديث على يد التيار القوموي العروبي المتسربل بالشوفينية والحقد، في محاولة جادة منه لمحاربة الثقافة الكردية بل الوجود الكردي كله، متمثلاً بكاريزماته الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية…الخ. وتم إصدار قرارات متتابعة من القيادة القطرية لحزب البعث كقرارات محاربة اللغة الكردية، ومنع الكتابة بها في الجرائد والمجلات، ومنع التعلم باللغة الأم، والفرمانات المتعلقة بالبيع والبناء.
ويعود البدءُ بمثل هذه الأمور المُسيسة إلى فترات ما قبل البعث أي إلى الحكومات الوطنية وعهد الانفصال، حيث كان المرسوم التشريعي 193 لعام 1952م آنذاك قد حرم الكرد بموجبه من حق تسجيل الاراضي بأسمائهم في عهد الحكم الوطني وينص بالحرف على: (عدم انشاء أو تعديل أي حق من الحقوق العينية على الأراضي الكائنة في مناطق الحدود إلا برخصة مسبقة تصدر بقرار من وزير الداخلية)(3).
هذا وقد عدل هذا المرسوم بموجب القرار(75) لعام 1954م ليصارَ إلى جعل كامل محافظة الحسكة منطقة حدودية. وبتاريخ الرابع والعشرين من حزيران عام 1973م وفي جلسة خاصة للقيادة القطرية لحزب البعث وبحضور الأمين القطري المساعد للحزب ورئيس لجنة الغمر، تم إصدارُ القرار رقم (521) التاريخي والمصبوغ بنزعة شوفينية يقضي بتنفيذ ما سمي بـ(المشروع الأخضر)(4)، وهو الاسم الرسمي لمشروع الحزام العربي الذي استهدف الأمة الكردية في سابقة خطيرة لامثيلَ لها، وذلك لعزل شمال كردستان عن جنوبه وشطب العمق الاستراتيجي للكرد السوريين، والقضاء على هوية هذا الشعب واقتلاعه من جذوره، وكانت نتيجته إنجاز (36) قرية في الجزيرة وعلى طول حدود الجزيرة المصطنعة مع شمال كردستان؛ أي تمّ الاستلاءُ على (3) مليون دونم في الجزيرة وحدها، و(2،2) مليون دونم في عين عيسى، وسلوك، وكري سبي. وهكذا ففي المؤتمر القطري الثالث لحزب البعث العربي الاشتراكي عام 1966م ورد في الفقرة الخامسة للمؤتمر ما يلي: (إعادة النظر بملكية الأرض الواقعة علي الحدود السورية التركية وعلى امتداد 350 كم وبعمق 10 – 15 كم واعتبارها ملكاً للدولة، وتطبق فيها أنظمة الاستثمار الملائمة بما يحقق أمن الدولة).
وهذه الفقرة ترتقي بمحتوياتها إلي جرائمَ التغيير الديموغرافي وحتى الإبادة العرقية، حث تم الاستيلاء وقتها على ما مساحته (5250) كم2 أي ما يوازي نصف مساحة دولة مثل قطر، وكان الهدف من هدا القرار الجائر والاستثنائي تجريد المواطنين الكرد من أراضيهم واسكان عوائل من المغمورين فيها على شكل مستوطنات، ليصار إلى انحلال الكرد وطمس الهوية الكردية وتهجيرهم، وكانت العملية مقصودة ومدروسة بعناية، ويعتبر هذا مخالفة صريحة لحق التملك والذي نصت عليه المادة/ 17/ من الإعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948م وقد جاء فيها – أ – لكل فرد حق التملك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره – ب- لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفا.
وكان البدء بتنفيذ هذا القرار في أيار 1971م بإيعاز من المؤتمر القطري الخامس لحزب البعث العربي الاشتراكي، وفي عهد الرئيس الأسد الأب، رغم أن الرجل لم يكن عدائياً تجاه الكرد إلى هذا الحد، وقد وقعت حينها احتجاجات من الفلاحين الكرد الذين أبدوا مقاومة لتنفيذ هذا المشروع الشوفيني والمؤلم بالفعل، وكانت نتيجتها تحطيم بعض الآلات الزراعية التي استقدمت لتنفيذ القرار، كما كان هناك قتلى بين سائقي الجرارات وتم اعتقال بعض السياسيين الكرد آنذاك، وهكذا تم ترحيل العرب المحيطين بموقع السد من الذين غمرت مياه سد الفرات أراضيهم عام 1974م ، لكن مشروع استجلاب المغمورين كان بقرار سياسي ومن أعلى المستويات، إلا أن الحقيقة والحق يقال، فإن معظم -إن لم نقل كل- العوائل العربية التي استقدمت من ريف الرقة تم ترحيلهم قسراً وبدون إرادتهم، وكانوا خائفين من المصير المجهول الذي ينتظرهم.
وقد أشرفَ عضوان من القيادة القطرية لحزب البعث على تنفيذ قرار جلب وتوطين المغمورين في الأراضي الكردية شمالي سوريا، وهما محمد جابر بجبوج الأمين القطري المساعد لحزب البعث، وعبد الله الأحمد أحد أعضاء القيادة القطرية للحزب، ولهذا فقد تماهت في أعين البعث الواحدية والكونية مثل مرض عمى الألوان، فلم يميزوا بين هذا وذاك.
وعلينا أن نشير بأنه ورغم احتجاجات الفلاحين الكرد إلا أن عمليات التوطين قد استكملت في بحر عام 1975م، وكان المستوطنون قد مكثوا في مطار قامشلو خائفين من النزول، بعدما نمي إليهم بأن الكرد سوف يقاومون الاستيطان بقوة وأنهم لم يتخلوا عن أراضيهم التي ورثوها عن اجدادهم بتوالي السنين، وعلى أساس أن الكرد شعبٌ شجاع ولن يقبلوا بالمستوطنين، ولكن في الحقيقة فقد أنجز الاستيطان وبدأت فصولٌ من تجويع الكرد أصحاب الأراضي المسلوبة ودفعهم نحو الهجرة الخارجية أو الداخلية لا فرق، وليتم تفريغ المنطقة من سكانها الأصليين وإنجاز تغيير ديموغرافي وتطهير عرقي مشين على أساس أن الكرد في هذه المناطق قادمون من خارج سوريا وأنهم بذلك شعبٌ دخيل، يحق للحكومة السورية تجريدهم من أموالهم وممتلكاتهم متى تشاء، دون الأخذ بعين الاعتبار قِدمَ الشعب الكردي وتواجده في المنطقة قبل أي شعب آخر.
وفي الحقيقة – وكما ذكرنا – فقد بدأت فكرة تهجير الكرد والاستلاء على أراضيهم وتوزيعها على المغمورين في عهد الانفصال عام 1961م وتم التنفيذ في عهد حكومة البعث الذي جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري عام 1963م.
لقد كان تنفيذ مشروع الحزام العربي قاسياً وثقيلاً وبشكل غير عادي على الشعب الكردي على العموم، ناهيك عن الذين مسهم المشروع الشوفيني الحاقد. وقد أشار الكاتب السوري محمد غانم إلى هذه المأساة بشكل مؤثر بقوله:(إن سياسة التعريب والتهجير في مناطق الجزيرة السورية هي، وبصريح العبارة سياسة إرهابية وشوفينية تنفذ جرائمها بطريقة إسرائيل في تهويد الفلسطينيين. إن التعريب هو الوجه الآخر للتهويد، إنها الطريقة الصهيونية وقد لبست عترة وعقال. اللهم إني قد أبلغت… اللهم إني تبرأت… إن أعرابَ البعث يذبحون أخوتنا الكرد، اللهم فاشهد).
وكان آخر العنقود القرار المجزرة أو المرسوم التشريعي رقم (49) لعام 2008م والذي هو بمثابة موت بطيء لكيان الشعب الكردي وبموجبه، يمنع البيع أو البناء في المناطق الحدودية من سوريا، وطبعاً كان المقصود به المناطق الكردية والأراضي العائدة لهم، على أمل أن يتم تهجير الكرد وإقصائهم عن أبسط مقومات الحياة في أرضهم ووطنهم.
ويجب أن نشير هنا بأن مشروع الحزام العربي السيء الصيت مرده إلى اقتراحات ضابط الأمن السياسي في الجزيرة عام 1963م الملازم الأول محمد طلب هلال في كتابه (دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية والسياسية والاجتماعية). والذي دعا فيه إلى الاستيلاء على أراضي الكرد وتهجيرهم بكل صلافة وصراحة، وعلى سبيل المثال، فقد ورد ضمن مقترحاته العديدة واحدة منها، وبالشكل التالي:
(نقترح أن تعمدَ الدولة إلى عمليات التهجير مع التوزيع في الداخل، ومع ملاحظة عناصر الخطر أولاً فأول، ولا بأس أن تكون الخطة ثنائية أو ثلاثية السنين، تبدأ بالعناصر الخطرة لتنتهي بالعناصر الأقل خطورة.. وهكذا).
ولاشك أن إخراج شعب آمن وعريق من أرض آبائه وأجداده بالقوة الغاشمة والإكراه يرقى إلى جريمة التغيير الديموغرافي والتطهير العرقي المشين، وقد نفذه حكام المنطقة الطغاة الذين عجزت الأمهات أن ينجبن على مرّ التاريخ مثلهم في الرعونة والشوفينية، وقد أعطوا درساً سيئاً للإنسانية والقيم الإنسانية.
لاشك أنّ الإتيانَ بالعرب المغمورين وبشكل متعمد إلى المناطق الكردية ووفق خطة خبيثة، خلقت مشكلة عويصة على الصعيد الإنساني، والسياسي، والاقتصادي، للمنطقة بشكل خاص ولسوريا بشكل عام وتحت سمع وبصر العالم الحر والشعوب المنادية بالمبادئ الانسانية، كما حدث ويحدث في عفرين اليوم تماماً. ولربما كانت أزمة الغمر وعلاقتها بمحيطها ستتفاقم أكثر فأكثر لولا حدوث الثورة السورية، حيث كان المغمورون يقدمون مطاليبهم إلى محافظ الحسكة يطالبون فيها بالمزيد من أراضي الكرد تحت حجج زيادة أعدادهم بالتوالد، وأن الأراضي التي بحوزتهم لم تعد تكفي لمعيشتهم، وباعتقادنا لو تم ذلك لكان قد أدى إلى زيادة قضم الأراضي ولحلت كارثة بالسكان الكرد في المنطقة مجدداً ولكانت ورماً سرطانياً مستفحلاً في الجسد الكردي الهش أصلاً، ولأدّى إلى هجرة كردية واسعة النطاق وتقطيع أوصال الجسد الواحد إلى مساحات متناثرة لا يمكن العيش فيها بالشكل اللائق والمطلوب، ولكنّ اندلاعَ الثورة السورية أدى إلى توقف هذه المطالب والتي لم تنجز وستبقى مشكلة أراضي الغمر رهينة للقرارات السياسية وللظروف القادمة.
2 – الكرد على أعتاب الإبادة الثقافية
وردت أول إشارة لمفهوم الإبادة المعنوية أو الثقافية في الدورة الثانية للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947م والتي أشارت في مادتها الثالثة إلى تعريف الإبادة المعنوية بأنها (انكار لحق البقاء لمجموعات بشرية بأكملها نظراً لما تنطوي عليه من مجافاة للضمير العام ومن إصابة الإنسانية بأضرار بالغة سواء من الناحية الثقافية أو غيرها من النواحي التي تساهم بها هذه المجموعات). كما وصف المشروع المقدم من طرف اللجنة المعنية جريمة الإبادة الثقافية بأنها منع التكلم أو الكتابة باللغة الأم، اتلاف المطبوعات، ومنع إصدار مطبوعات جديدة، تدمير النصب والأوابد التاريخية والفنية والدينية، والحاجات المخصصة للعبادة.
وفي الحقيقة فإنّ كلَّ إنسان يمثلُ في ذاته جانبين لا يمكن بأحدهما وحده اكتمال الإنسانية فيه وهما الجانب الروحي ثم الجسدي، أي أن الإنسانَ روحٌ وجسد، أو مادة ومعنى، وقد أخطأ ماركس حينما قلل في كتاباته من الجانب المعنوي للإنسان وأعطى القسط الأكبر للاقتصاد كبنية تحتية، فالجانب المعنوي يتمثل في الثقافة والتي تشتمل على كل ما يتعلق بالدين، واللغة، والعادات والتقاليد…الخ. وتعتبر الثقافة هوية الشعوب التي تميزها عن غيرها وتمنحها الشخصية الاعتبارية، وفي حال فقدان شعب ما لثقافته الأصلية حينها يفقد هويته وشخصيته، فيصيبه الانحلال والذوبان في بوتقات الشعوب الأخرى وينتهي الأمر به كشعب له مميزاته وأخلاقياته وسينسى تاريخه وماضيه.
ومن هنا ندرك لماذا تحاولُ الدول المحتلة لكردستان جاهدة العملَ على محو ثقافة الشعب الكردي، وطمس ذاكرته وإرادته، وضرب مرتكزات هذا الشعب وإنهائه من الوجود أو إبقائه جسداً بلا روح، ومن ثم دمجه بالشعوب المجاورة في ما يمكن أن نسميه بالإبادة الثقافية وهي نظير الإبادة الجسدية تماماً، ويرقى إلى جريمة حرب بحق الإنسانية، فالإبادة الثقافية أو التطهير الثقافي على غرار التطهير العرقي، والذي يعني في أبسط معانيه تشتيت الحالة المجتمعية، واقتلاع الشعوب من جذوره الثقافية، كما فعلته الحكومات السورية المتعاقبة حينما كان أزلامها من رجال الأمن يعمدون إلى كسر المسجلات التي تغني بالكردية، وتمنع الكرد من إصدار كتب أو أي مطبوعات أخرى باللغة الكردية، أو حتى الكتابة باليد، وأفظع ما تعرض له الكرد في عقر دارهم كان في كردستان الشمالية، حينما منعت الدولة التركية الفاشية والمحتلة الكتابة بالكردية بل منعت التحدث بها حتى في المنزل، وكانت عقوبة من يخالف هذه التعليمات قاسية جداً، وتشمل الغرامات المالية ناهيك عن السجن والتعرض لهجمات قطعان الفاشيين الترك وحماتهم، وهو ما أدى إلى إضعاف الثقافة الكردية والوصول بها إلى مرحلة الإبادة بالفعل كما حدث في مدن ديلوك، سيواس، ملطي، وأرزنجان وغيرها. وكان الأمر يسري على الكرد في بقية الأجزاء وإن بشكل أقل نسبياً، ورغم ذلك لم يستسلم الكردُ أمام هذه المآسي، بل قاوموا سياسات الإبادة الثقافية، فكتبوا بلغتهم هنا وهناك وأصدروا بعض المنشورات والألفباءات الكردية بشكل سري بعيداً أعين الرقابة الحكومية وأجهزتها الأمنية. وقد قامت الحكومات المتحكمة والمحتلة لكردستان بتغيير أسماء القرى والمدن الكردية وبشكل خاص في روج آفا وكردستان الشمالية، وعلى سبيل المثال، تحول اسم تربه سبييه إلى قبور البيض ثم إلى القحطانية، وجل آغا إلى الجوادية، وكرسور إلى تل أحمر، وديركا حمكو إلى المالكية؟، وفي شمالي كردستان هناك الكثير من المدن والقرى تم تتريكها مثل مدينة قوصر إلى قزل تبة، وشمزينان إلى شمدنلي، وكرى سبي إلى آقجقلر…الخ. كما كانت دوائر النفوس في روج آفا تمنع تسجيل الولادات الكرد بأسماء كردية حتى يسموا بأسماء عربية، وكثيراً ما كان موظف النفوس هو نفسه يختار لهم اسماً عربياً…! . لاشك أن هذا العمل المشين يدخل ضمن منطق الإبادة الثقافية وهو ما يشكل اعتداءً سافراً على تراث الإنسانية أيضاً لأن لبعضها أسماء أثرية كردية شهيرة مثل كريى نافوكى، والذي حور إلى كوباكلي تبة على سبيل المثال لا الحصر.
وعلينا أن نشير بأن تدميرَ ثقافة الآخر تلجأ إليه الحكومات السلطوية ضد ثقافة الأقليات والشعوب المتعايشة في دولة واحدة وموطن واحد، بهدف طمس هوية الآخر وإبقائه جاهلاً متجرداً من هويته، وتاريخه، وأوابده، وقصصه، وأدبه، وتراثه، كما فعله داعش في الموصل وتدمر بتحطيمه للأوابد التاريخية وأغلبها للشعب الآشوري وللشعوب الأخرى أيضاً. بل أن الأوابد هي ملك للإنسانية كلها، وما يفعله اليوم الرئيس التركي وحزبه ((AKP لإغراق المدينة الكردية (حسكيف) بمياه سد (أليسو) السيء الصيت، وبشكل متعمد هو محاولة لمحو الأوابد الأثرية الكردية ومحو تاريخهم وثقافتهم من الوجود، لأن حسكيف تحوي آثاراً تعود إلى الألف التاسعة ق.م، وتشمل آثارَ عدة شعوب وبالأخص آثار الدولة الأيوبية الكردية وهو ما لا يروق للمتأسلمين من حكام الترك والأحزاب الشوفينية التركية مثل (AKP) و(MHP) وغيرهما أن يروا أي أثر للكرد في كردستان، وكأن حُماةَ القرى لا تكفي لخلق اقتتال داخلي بين الكرد، فيعمدون إلى اقتتال من نوع آخر اقتتال الطبيعة وذلك لإغراق الأوابد الكردية بمياه الأنهار الكردية نفسها.
وفي مثل هذه الحال يتطلب منا نحن الكردُ بألا نتخلى عن مقاومة الانحلال الثقافي الذي تمارسه الدول المتسلطة بحق شعبنا في عموم كردستان، وسيكون ذلك بالرد العملي ضد ما تخطط له الدول المتسلطة على مقدراتنا، فنعمد إلى الاهتمام باللغة الكرية في المدارس والمنازل، والعناية بالتراث الكردي، والفكر الحر، والذكاء العاطفي، وميراث المرأة الحرة، تحت فضاءات الديمقراطية العصرانية، والحفاظ على الممتلكات الثقافية والتي لا تقل أهمية بحال من الأحوال عن الممتلكات المادية.
3 – المُجرَّدون من الجنسية والإحصاء الاستثنائي لعام 1962 في روج آفا
يُعتبرُ الاحصاءُ الاستثنائي الذي جرى في الجزيرة – روج آفا، في الخامس من تشرين الأول عام 1962م(5)، معلماً صارخاً على التغيير الديموغرافي في عهد حكومة الانفصال الرجعية والمتخلفة في أخلاقياتها ومفاهيمها الإنسانية بموجب المرسوم التشريعي رقم 93 الصادر في 23/8/1962م، والذي تم تنفيذه من قبل حكومة البعث فيما بعد، وبموجبه تم تجريد 25 ألفاً من الكرد من جنستهم السورية في البداية وانقسموا إلى أجانب ومكتومي القيد، ليرتفعَ عددهم بين 250 – 300 الف نسمة وسموا بأجانب تركيا، قبل أن يمنحوا الجنسية بعد اندلاع الثورة السورية، ولكن لازال مكتومي القيد هؤلاء والذين يتراوح عددهم بين 30 – 80 ألفا، غير معترفين بسوريتهم ويلاقون الأمرين في معيشتهم وأمام دوائر الدولة.
ومن سخرية القدر أن تشملَ قائمةُ الأجانب على اسم اللواء توفيق نظام الدين من قامشلو الذي تولى رئاسة هيئة أركان الجيش السوري والقائد العام للقوات المسلحة عام 1954م، وشقيقيه عبد الباقي وزكي نظام الدين عضوي البرلمان السوري في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. وكانت الغايةُ من هذا الإحصاء التغييرَ الديموغرافي في المناطق الكردية والاستلاءَ على ممتلكات الكرد غير المنقولة وبالأخص الأراضي الخصبة التي بحوزتهم وتوزيعها على المغمورين ودفع أصحابها الكرد إلى الهجرة للخارج أو إلى الداخل السوري لا فرق، وذلك لتشتيت الكرد والتقليل من أعدادهم في مناطقهم الشمالية بشكل خاص. هذا ويعتبر التغيير الديموغرافي من أخطر ما تتعرض له الشعوب المغلوبة على أمرها، وعفرين اليوم حلقة صارخة في ممارسة التغيير الديموغرافي بل التطهير العرقي لشعب آمن نفذه المتلاعبون بالإسلام من جند الله المزيفون ومعهم الإرهابي العالمي أردوغان المزيف وهم يخادعون الله ورسوله وما يخادعون إلا أنفسهم.
وفي العُرف الدولي وحقوق الإنسان، يُعتبرُ التغيير الديموغرافي جريمةَ حرب إذا حدث بالقوة والإكراه ودون رضى المهجرين. ففي عفرين الجريحة والتي تجري فيها اليوم واحدة من أفظع الجرائم العالمية ضد شعب آمن لم يرتكب أي جُرمٍ بحق أحد، وإنما هو الظلم وجرائم السفاح أردوغان المليء بالأحقاد والشوفينية وعدو الشعب الكردي رقم واحد، إنّ ما يجري في عفرين اليوم هو خلاصة ما قلناه حيث تعجز الكلمات عن وصف ما تعرض ويتعرض له هذا الشعب الآمن من الإبادتين الثقافية والجسدية ودونما ذنب ارتكبه، فهل يجعلنا ذلك أن نصدق فيلسوف السلطة (هوبز) هنا حينما يقول: الإنسان ذئب لأخيه الانسان!. كلا فحزب العدالة والتنمية وحده يحوي الذئاب، وبقية الناس هم أخوة متحابون. ومثلها بل أكثر منها جرت في كردستان باكور أفظع جرائم الإبادتين الجسدية والثقافية بحق الكرد والأرمن، وجرت هناك أفظع التغييرات الديموغرافية بحق هذين الشعبين الآمنين ولاتزال تجري في وضح النهار وتحت سمع وبصر العالم الحر، ووسط صوت دولي مطبق…!
وعلى العموم كان التغييرُ الديموغرافي في كردستان يرافق دوماً الإبادة الجسدية والثقافية معاً. وعن التطهير العرقي وتعريفه يقول المحامي العالمي بيتروفيتش: (يعد التطهير العرقي سياسة واضحة المعالم لجماعة محدودة من الأشخاص، لإقصاء جماعات أخرى بصورة ممنهجة عن أرض معينة، بناء على أصل ديني، أو عرقي، أو قومي، وتشتمل السياسة من هذا على العنف، وترتبط في أغلب الأحيان بعمليات عسكرية، وهي ما يجب أن يتحقق بالوسائل المتاحة من التمييز وصولاً إلى الإبادة وتستلزم انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي)(6).
المصادر
(1) – لقمان يوسف – قرية تل شعير
(2) – د. آزاد علي – الحزام العربي في الجزيرة السورية – ص – 3.
(3) – المصدر السابق- ص – 4
(4) – د. باديني، رضوان، أكراد سوريا موعد مع التاريخ – ص – 90
(5) – الاحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة – م. اوسى – ص-3
(6) – الكسندر تكريجور وراينجر – الأصول العرقية وسياسات النزاع – ص – 311.
……………………………………………………………………………………
فيما يلي النص الكامل المرسوم التشريعي رقم ــ49ــ تاريخ 10/9/2008
الجمهورية العربية السورية
رئيس الجمهورية
بناء على أحكام الدستور
يرسم ما يلي
المادة
(1)
تعدل المواد التالية من القانون رقم ( 41 ) تاريخ 26/10/2004 وتصبح على النحو التالي:
المادة 1)ـ لا يجوز إنشاء أو نقل أو تعديل أو اكتساب أي حق عيني عقاري على عقار كائن في منطقة حدودية أو إشغاله عن طريق الاستئجار أو الاستثمار أو بأية طريقة كانت لمدة تزيد على ثلاث سنوات لأسم أو لمنفعة شخص طبيعي أو اعتباري إلا بترخيص مسبق سواء كان العقار مبنياً أم غير مبني واقعاً ضمن المخططات التنظيمية أم خارجها . المادة 4 )– أ – لا تسجل الدعاوى المتعلقة بطلب تثبيت أي حق من الحقوق المنصوص عليها في المادة ( 1 ) من هذا القانون ولا توضع إشارتها ما لم تكن مقترنة بالترخيص وترد كافة الدعاوى القائمة بتاريخ نفاذ أحكام هذا القانون إذا كان الترخيص غير مبرز في اضبارة الدعوى مع مراعاة أحكام المادة ( 31 ) من القرار رقم (186 ) لعام 1926 .
ب – تنفذ قرارات القضاة العقاريين المتعلقة بأعمال التحديد والتحرير للعقارات الكائنة في مناطق الحدود وتسجل في الصحائف العقارية على أن تثقل عند التسجيل بإشارة تقضي بعدم جواز إعطاء سند التمليك أوتنفيذ أي عقد أو إجراء أية معاملة إلا بعد الحصول على الترخيص .
المادة 5 )– تخضع معاملات نزع الملكية الجبري للعقارات الكائنة في مناطق الحدود التي تنفذها دوائر التنفيذ بوزارة العدل بالمزاد العلني للترخيص المذكور وفي حال عدم حصول المزاود الأخير على هذا الترخيص تبطل الإحالة القطعية حكماً ويطرح العقار مجدداً للبيع بالمزاد العلني.
المادة 6 )- في حال عدم تقديم طلب الترخيص خلال ثلاثة أشهر من تاريخ أيلولة الحق العيني العقاري على عقار في منطقة حدودية أو من تاريخ إشغاله عن طريق الاستئجار أو الاستثمار أو أية طريقة كانت لمدة تزيد على ثلاث سنوات يعتبر الإشغال باطلاً .
المادة 7) -آ – في حال إشغال عقار في منطقة حدودية عن طريق الاستئجار أو الاستثمار أو بأية طريقة كانت لمدة لا تزيد عن ثلاث سنوات يتعين على من شغل العقار المذكور إعلام الجهة الإدارية المختصة في موقع العقار خلال المهلة المحددة في المادة السادسة من هذا القانون.
ب – لا تخضع اكتساب الحقوق العينية العقارية على عقار في منطقة حدودية أو حقوق إشغاله عن طريق الإرث أو الانتقال إلا لشرط إعلام الجهة الإدارية المختصة المنصوص عليه في الفقرة السابقة .
ج – على من يستخدم مزارعين أو عمالاً أو خبراء في الحالات المشمولة بهذا القانون إعلام الجهة الإدارية المختصة عن كل ما يتعلق باستخدامهم وفق الإجراءات الواردة في التعليمات التنفيذية .
المادة 10 )– لا تطبق أحكام هذا القانون في الحالات التالية:
آ – أيلولة الحق العيني العقاري أو حقوق الاستئجار أو الاستثمار لصالح الجهات العامة.
ب – معاملات الإفراز وتصحيح الأوصاف .
المادة
( 2 )
يلغى كل نص مخالف لأحكام هذا المرسوم التشريعي.
المادة
( 3 )
ينشر هذا المرسوم التشريعي في الجريد الرسمية.
دمشق في 10/9/1429 هــ الموافق لــ 10/9/2008
رئيس الجمهورية
بشار الأسد