بقلم: د/ جلال زناتى/
أستاذ التاريخ والفكر السياسى
كلية التربية – جامعة الاسكندرية
لاشك أنه منذ أحداث ثورات الربيع العربى التى عصفت بمنطقة الشرق الأوسط ، والمشهد السياسى فى المنطقة العربية يأخذ مساراً يتسم تارة بالهدوء وبالضوضاء تارة أخرى، ما بين مطالب لقوميات وأقليات سعت لنيل حريتها أو لشعوب طالما آثرت أن تحصل على حريات كثيرًا ما سلبت منها فى ظل أنظمة سادت أو تلك التى قدر لها أن تتغير بقت أو بقدر محدود ولاسيما فى المنطقة العربية والتى تزخر بأطماع استعمارية لكل من تركيا وإيران.
والمتتبع للأحداث فى المنطقة يلاحظ أنها تزخر بنوع من الصراع بين ثلاثة مشروعات تتناحر فيما بينها، بين مشروع رجعى يرتدى عباءة دينية قدر له أن يفشل فى مصر على أيدى جماعة الإخوان المسلمين، وليس له الآن سوى امتداد فكرى بين تركيا أردوغان وملالى إيران، وبين مشروع قومى اتسم أتباعه فى يومنا هذا بالخطابات الرنانة دون الفكرة التى ربما يتكسب منها جل المنتمين إليه فى هذا المشروع القومى، وبين مشروع ثالث يهتم بالضرورة بالحقوق والمصلحة المشتركة بين دول المنطقة ونبذ العنف من أجل بناء دولة وطنية تؤمن بالمشاركة والتوافق بين جميع أركان المنطقة ، والتى مثلت مصر نموذجًا رائدًا فى ذلك فى ظل قيادتها الحكيمة ومؤسساتها الوطنية ولا سيما منذ ثورة 30 يونيه 2013، ولاسيما دار صراع خسرته تركيا ونظام أردوغان القمعي فى كل مرة ونجح الرئيس عبد الفتاح السيسى فى ذلك فى البداية بالحصول على مقعد لمصر فى مجلس الأمن، ثم ترؤس لجنة الإرهاب، ثم التصدى لقرار ترامب بشأن القدس العربية وإحداث توافق بين القوى السياسية فى فلسطين، وانتهى ذلك بأهمية التوافق على المسألة السورية فى ضوء القوى الوطنية السورية الكردية والتى نجحت فى التصدى لعمليات القوات التركية فى عفرين وغيرها وداعش وتحقيق انتصارات على مشروع أردوغان التوسعي فى المنطقة فى ظل نجاحات الدولة المصرية في القضاء على البؤر الإرهابية، وفى بسط النفوذ المصرى على شرقى البحر المتوسط.
ومن بين تلك القوميات التى ينبغى أن تكون قوى داعمة للمنطقة العربية القوى الوطنية الكردية، فالشعب الكردي في المنطقة العربية والشرق الأوسط جزء من أمة عظيمة هي (الأمة الكوردية)، المجزأة والمغبونة تاريخيًا وسياسيًا، حيث يبلغ عدد نفوس هذه الأمة ما يقارب 40 مليون نسمة، موزعة بين خمس دول. وهو شعب تواق للحرية والحياة الحرة القائمة على أساس حقوقه الثابتة في الديانات والمواثيق الدولية، وحقوق المواطنة، والتطلع نحو المستقبل المشرق في تحقيق أمانيه القومية الثابتة والمشروعة، وهو شعب عاشق للجبال لأنها ملاذه الآمن من سلاح العنصرية، ومن اضطهاد الفكر الشوفيني الضيق، ومن ممارسات مختلف الأنظمة التي تعاقبت على أرض الشرائع في المناطق التى ينتشر بها أبناء تلك الأمة .
وقد كان للطبيعة الوعرة والجبلية الجبال أصدقاء الكورد دائمًا في المحن وعند الشدائد، إلا أنها لم تكن وحدها في قلوب الكثيرين من محبي هذا الشعب، والمدركين لقضاياه المصيرية، وحقوقه الثابتة تاريخيًا. وقد حان الوقت إلى قيام مصر لتوطيد أواصر العلاقات بين الشعبين العربي والكردي وخاصة في سوريا، لما من ارتباط بين تاريخنا العربى والكردى معًا. ولا شك أن هذه الخطوة تعد من الخطوات المهمة الأساسية لفهم الآخر، وبناء السلام والتعايش الأخوي بين كل القوميات ومكونات الطيف العربى الكردى قوميًا ودينيًا وفكريًا، وفق أسس التسامح واحترام الآخر، وبصورة متساوية ومتكافئة . والحوار المطلوب هو حوار الأخوة والقائم على حسن النوايا، لأن الجميع، وبخاصة شعب كردستان، تعرضوا إلى أبشع صور الاضطهاد.
ومما يذكر فى هذا الشأن محاولة قوى إعلامية موجهة من إعلام الجزيرة القطرية لاستغلال هذا الخلاف والترويج لزيارات عدة قام بها نشطاء يمثلون أطياف من الأكراد نذكر منها تلك الزيارة التى أفردت لها الصحافة العبرية تفصيلات من زيارة الصحفى الكردى السورى سروان كاجو ودعوته لانشاء منطقة عازلة بعيدًا عن نظام الأسد فى سوريا، وتوسيع العلاقات بين دولة الكيان وكردستان سوريا، وقد انطلقت العديد من الأقلام والتي تتخوف من التحولات الديمقراطية، ومن نيل الكورد لحقوقهم بعد نضال وتضحيات طويلة، وذلك بنشر العديد من تلك الأخبار باتهام الكورد بإيواء الوجود الإسرائيلي في كردستان، من خلال استثمارات أو شراء الأراضي، أو من خلال الادعاء بتوطين اليهود العراقيين، الذين هم من أصل كوردي، في كوردستان، أو الزعم بوجود عملاء للموساد الإسرائيلي يقومون بتدريب مليشيات كوردية، للقيام بعمليات تخريبية، أو اغتيال شخصيات علمية، أو بحجة التجسس على بعض دول الجوار، وغيرها من التهم التي لا صحة لها ولا دليل عليها .
ولاشك أن مصادر هذه الاتهامات معروفه دوافعها للجميع ، التي تتلقف هذه الأخبار (وإن كان بعض الأطراف فرادى يحاولون إجراء تلك الاتصالات )، وتوظفها ضد الإخوة الكرد فى سوريا ، في محاولة منها لتشويه صورتهم إقليميًا ودوليًا، وبالتالي فإن مثل هذه التصرفات غير المسؤولة، تسيء إلى الأخوة العربية – الكردية، مما يوجب التصدي لها.
وعلى المثقفين العرب مسؤولية أخلاقية وإنسانية في فضح هذه الادعاءات الزائفة، وعدم السماح مطلقًا لكل ما يسيء إلى الأخوة العربية – الكوردية. لأن الوحدة الوطنية وهذه الأخوة هي من الخطوط الحمراء التي لا يجوز بتاتًا المساس بها .
كما أنني بكل حياد أرى الهدف من وراء الحملة الظالمة ضد الكرد، هو خلق حالة التوتر بين الشعبين الكردي والعربي، وكذلك الشعب الكردي، لا يمكن أن يضحي بالعلاقات والروابط التاريخية والمصيرية مع الشعب العربي، ولا يمكن أن يحرجوا، أو يجرحوا المشاعر العربية. إذ ليس من الحكمة التضحية بهذه الروابط الأخوية التاريخية رغم أن الجميع يعلم بوجود العلاقات الرسمية وغير الرسمية، بين العديد من الدول العربية ودولة إسرائيل. وأملي الكبير من المثقفين العرب في الانتباه إلى مثل هذه المحاولات الهادفة إلى الإساءة للأخوة العربية – الكردية، وضرورة الارتفاع إلى مستوى المسؤولية الوطنية، فالكرد هم جزء من الأمة الكوردية المجزأة، والمغبونة تاريخيًا.
وكانت الحركة التحررية الكوردية تناضل من أجل إثبات الهوية للشعب الكردي، والدفاع عن الوجود، ضد حملات الإبادة. ولذلك نحن مع الكورد في خياراتهم، ومعهم في تقرير نوع الشراكة في الوطن، وإلى جانب حقهم في تأسيس الصيغة الفيدرالية للحكم كضمان لوحدة الدولة السورية.
كما تنبغى الإشارة إلى أنه لا يمكن نسيان الدماء التي سالت من العرب والكرد في حروب ومعارك فلسطين، ومن أبطال النضال الذين نعتز بهم كانوا من الكرد صلاح الدين الأيوبي من القادة الكرد الذين دخلت أسماؤهم التاريخ ،وهو يقود العرب والكورد فاتحا القدس إبان الحروب الصليبية. ولا يمكن نسيان دور العلماء الكورد، في مختلف العلوم، وبخاصة في علم اللغة العربية، والعلوم الشرعية، والثقافات والعلوم الأخرى.
إن مستقبل العلاقات بين أكبر شريكين في وطن واحد، وهما: (الكرد و العرب)، يوجب على مصر لما لها من ريادة عربية توحيد الجهود لبناء دولة المؤسسات الدستورية، واحترام الحقوق المشروعة للكرد، وكذلك الاعتراف بحقوق جميع الأقليات الأخرى، وتطبيق القانون بصورة عادلة بما يحقق المساواة وفي احترام حقوق المرأة ،وتعديل وضعها الحقوقي، وفي إطلاق الحريات العامة، ومعاقبة كل من ارتكب ويرتكب جرائم ضد الكرد والقوميات الأخرى، وفقًا للقانون، وبضرورة تعويض كل الأشخاص الذين تضرروا من الجرائم الدولية التي ارتكبت ضدهم من طرد وتهجير، ومصادرة الأملاك، وقتل وغيرها، وإعادة المهجرين والمهاجرين للعراق، وفي ضرورة وضع سياسة تعليمية جديدة من المراحل الدراسية الأولى، تشيع ثقافة حقوق الإنسان ونبذ العنف، وترسيخ التسامح وقيم الفضيلة، وفي تعليم اللغة الكردية في المناطق العربية، وتدريس اللغة العربية في المناطق الكوردية، وفي فتح قنوات تلفزيونية ووسائل الإعلام الأخرى، ناطقة باللغة الكردية في المناطق العربية.
فى نفس الوقت فإن القوى الاستعمارية ومنها تركيا وإيران تحاول أن تستغل تلك الأوضاع لتحقيق نوع من النفوذ على حساب العرب والأكراد فى المنطقة، ولاسيما فى ظل الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس الأمريكى ترامب التى تبشر بنتائج وخيمة على الخريطة السياسية فى الشرق الأوسط على وجه التحديد.
وبناءً على ما سبق لدينا عدد من المقترحات لبناء أسس الحوار الناجح في ظل اتحاد اختياري وشراكة عادلة نجملها فى النقاط التالية :
- يتعين على الشعب العربي أن يحترم حق الشعب الكردي في تقرير المصير، وأن يؤمن بأن الشعب الكردي هو جزء من الأمة الكردية، وأن الكرد يعيشون على أرضهم منذ آلاف السنين، وأن للكرد خصوصية، تاريخية، وقومية، واجتماعية، ولغوية، يجب احترامها.
- إن الشعب الكردى هو جزء من الأمة العربية لسانًا، وإن هناك روابط تاريخية ولغوية ودينية وجغرافية مشتركة بين الشعبين وبين الأمتين تحتم عليهم مواجهة تلك القوى فى المنطقة مثل داعش التى تجاوز تعداد مقاتليها إلى 31 ألف فرداً رغم 135 ألف طلعة جوية لم يتم القضاء عليها نظرًا لموءامات المصلحة بين القطبين الروسى والأمريكى فى المنطقة وغيرها من التنظيمات الارهابية التى تهدد بقاء دول بأكملها.
- ضرورة التخلص من الفكر العنصري الضيق، الذي جلب الكوارث على البلاد والعباد، والتخلي عن سياسة إلغاء الآخر وصهره، ولا بد من الإيمان بقيم التسامح، ولاسيما في ظل العولمة واحترام حقوق الإنسان وبناء الديمقراطية والمجتمع المدني .
- تقع على العرب والكرد مسؤولية تطوير العلاقات وتنميتها والاعتراف بالآخر، وأن من حق الكورد الاستقلال إذا رغبوا في فك الشراكة والاتحاد الاختياري، لأنه حق مشروع قانونًا لهم إذا استحال العيش المشترك. ولا يمكن اللجوء إلى القوة لفرض التعايش، فالشراكة لا تقوم إلا بالتراضي والفهم المتبادل، والأهم من ذلك هو خيار الشعب الكردي في تحديد نمط العلاقة داخل الوطن الواحد بالرجوع إليه، لأنه هو المرجعية في هذا الميدان.ولابد من الاعتراف أن الذي يستفتى على نمط العيش والشراكة هم الكرد .
- إقامة ندوات توعية متواصلة عن مفاهيم الفيدرالية، والعيش المشترك، وحقوق الإنسان والثقافة الجديدة غير العنصرية .
- منع تداول مصطلحات تضر بالأخوة العربية – الكردية مثل وصف البشمركة بالمليشيات، ووصف الأحزاب الكوردية بالجماعات ، بينما هي جزء من حركة تحررية قدمت الآلاف من الضحايا من اجل قضية الكورد.
- الابتعاد عن النسب والمحاصصة في الوظائف والمناصب، والتركيز على الأكفاء لأن الكرد شركاء في وطن وتاريخ شراكة عادلة ومنصفة .
- تقع على المثقفين العرب، ووسائل الإعلام العربية، واجبات أخلاقية وإنسانية في تطوير العلاقات بين الشعبين العربي والكردي في العراق وسوريا، وفي نقل الحقيقة كما هي وفقًا لقواعد أخلاقيات المهنة في العمل الصحفي، ووفقًا لدور المثقفين العرب في ضرورة ترسيخ قيم التسامح والتفاهم، واحترام الخصوصيات لكل شعب. فقد عانى الكرد من التعتيم الإعلامي، والغبن الكبير من وسائل الإعلام العربية – وحتى الإسلامية – وهو تقصير واضح يمس شرف المهنة .
كما نقترح بإعداد ميثاق شرف للشراكة العادلة، وللحوار العربي / الكوردي تتبناه جامعة الدول العربية، من أجل توثيق العلاقات العربية / الكوردية، وبناء السلام والديمقراطية والمجتمع المدني، في ضوء قواعد الاتحاد الاختياري في العراق الجديد.
هذه الاقتراحات لو أراد العرب والكرد العيش معًا بتحكيم العقل وإلا لن يتبقى لكلا الطرفين أوطان قد عاشوا بها وتفتت أو أوطان حلموا بها ولن تتحقق تلك الأحلام.
ومن الممكن بعد هذا الطرح الذى يبتعد عن الخطب الجوفاء ويعتمد على العقل وما هو متاح وفقًا للمشهد الحالى أن يكون للدولة المصرية دور فى رأب الصدع فى المنطقة بالاعتماد على تقريب وجهات النظر بين دول الجوار شركاء المنطقة مما يبعد شبح الحرب التى حاولت بعض الأطراف اذكائها على أساس تحررى تارة وطائفى تارة أخرى، مما يجعلنا أمام مسؤولية تاريخية للأجيال القادمة للإعمار وليس الفتن وابعادًا فى نفس الوقت للأطماع التركية والإيرانية فى المنطقة، والتى نثق بحق فى قدرة الدولة المصرية على تبنى حق الأكراد في سوريا فى دعم الدولة السورية ولاسيما أن الهدف واحد والعدو مشترك.