عبد الله أوجلان
من عظيمِ الأهميةِ النظرُ إلى AKP؛ (حزب العدالة والتنمية) على أنه فرزٌ وتصنيفٌ تمخضَت عنه جميعُ العواملِ الداخليةِ والخارجيةِ لهكذا أحداث. وهو حملةٌ مهمةٌ تُعادِلُ في وزنِها حملةَ الجمهوريةِ في تاريخِ تركيا المعاصر، واسمٌ لتحوُّلٍ بهذا المستوى. فمثلما أنّ CHP هو حزبُ الدولةِ المركزيةِ المتكونةِ في سياقِ فترةِ التنظيماتِ والمشروطيتَين الأولى والثانيةِ وحربِ التحريرِ الوطنية؛ فإنّ AKP أيضاً هو حزبُ الدولةِ القوميةِ المركزيةِ المتكونةِ خلال سياقٍ طويل، إذ غالباً ما بقيَت قوةً معارِضةً في المراحلِ الآنفةِ الذكر، وتساوَمَت مع نظامِ عبد الحميد، وعَمِلَت أساساً بهيمنةِ إنكلترا مقابل الهيمنةِ الألمانية، وطَوَّرَت القومويةَ الإسلاميةَ مقابلَ الوطنياتيةِ العلمانية، وتحالفَت مع التيارِ الكرمشاكي العالميِّ مقابلَ القومويةِ الصهيونية، وجَعَلَت من أيديولوجيةِ الإسلامِ التركيِّ المدعومةِ من قِبَلِ الجيشِ في انقلابِ 12 أيلول ركيزةً لنفسِها، ورأَت النورَ حصيلةَ قيامِ الجيشِ بذاتِ نفسِه بشرذمةِ وتشتيتِ حزبِ نجم الدين أربكان القوميِّ الراديكاليِّ مع مرحلةِ 28 شباط. ومقابلَ كونِ CHP حزبَ المعارَضةِ الأساسيَّ بزعامةِ دنيز بايقال، فإنّ APK بات حزباً متربعاً على كرسيِّ السلطة، صائراً بذلك القوةَ المُنشِئةَ والمُسَيِّرةَ للفاشيةِ التركيةِ الخضراء خلال السياقِ الجديد، ومتحلياً بهويةِ حزبٍ مهيمنٍ واستراتيجيٍّ متأسسِ بزعامةِ رجب طيب أردوغان، ومرتكزاً إلى تاريخٍ مديد، ومتحصناً بمؤازرةِ قوى الهيمنةِ الداخليةِ والخارجيةِ له.
وَسْمُ النظامِ الذي يُعمَلُ على تجسيدِه بزعامةِ AKP بـ”الجمهوريةِ الثانيةِ” أو “الجمهوريةِ الإسلاميةِ المعتدلة”، سيَكُونُ تفسيراً مبكراً. ورغمَ تحويلِ طابعِه الأساسيِّ إلى غايةٍ (فكرةٍ نموذجيةٍ) مُضَمَّنةٍ في الدستور، إلا إنّ النظامَ لَم يبلغْ في أيِّ وقتٍ من الأوقاتِ حالةَ دولةِ قانونٍ ديمقراطيةٍ وعلمانيةٍ واجتماعية، بل ما انفكَّ محافظاً دوماً على طابعِه الفاشيِّ الأوليغارشيِّ منذ أيامِ تأسيسِه. وظلَّ النظامُ الجمهوريُّ بمعناه الكلاسيكيِّ مجردَ اسمٍ، لا غير. وعجزَ عن الوصولِ إلى حالةِ الجمهوريةِ الديمقراطيةِ على وجهِ التخصيص. ومثلما الحالُ إزاءَ نفوذِ CHP، فسيبقى الكفاحُ في سبيلِ الجمهوريةِ الديمقراطيةِ ودستورِها المأمولِ حديثَ الساعةِ إزاءَ نفوذِ AKP أيضاً. بناءً عليه، فوصفُ السياقِ المُعاشِ بالديكتاتوريةِ الأوليغارشيةِ وبنضالِ الجمهوريةِ الديمقراطيةِ المُخاضِ ضده، سيَكُونُ أكثر صواباً. فهو مُصِرٌّ مضموناً على الاستمرارِ بهذا النظامِ الذي اندمجَ فيه، مع وجودِ فارقٍ في اللونِ فقط؛ مهما عُرِضَ على أنه بديلُ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء التي دامَت ثمانين سنة، ومهما حُرِّفَت الحقيقةُ بعنادٍ وبدعمٍ إعلاميٍّ مدروسٍ ومقصودٍ بدقةٍ بالغة. هكذا، فقد أُفسِحَ المجالُ وفُتِحَ الطريقُ أمام نظامِ AKP الفاشيِّ الأخضر، كثمرةٍ طبيعيةٍ للدعمِ الخفيِّ الذي تلقّه تلقاه من النظامِ الفاشيِّ التركياتيِّ الأبيض المُرهَقِ والمُنهَكِ بعدَما فقدَ نسبةً لا يُستَهانُ بها من المساندةِ والدعم، داخلياً وخارجياً على حدٍّ سواء.
إنّ السنواتِ الثمانية الأولى من سلطةِ AKP شبيهةٌ للغاية بالسنواتِ الثمانيةِ الأولى من سلطةِ CHP (1923 – 1931). فنظامُ الحزبِ الواحدِ طاغٍ في كِلَيهما. هذا وترجحُ كفةُ احتمالِ تكثيفِ AKP أيضاً من طابعِه الديكتاتوريِّ وتعزيزِه بدستورِه اعتباراً من انتخاباتِ 2011 (وهو أمرٌ شديدُ الشبهِ بوضعِ هتلر بعد انتخاباتِ 1933)؛ تماماً مثلما تثاقَلَت وطأةُ الفاشيةِ بعد 1931 على يدِ عصمت إينونو ورجب بكر (رغمَ تجربةِ مصطفى كمال في تأسيسِ الحزبِ الجمهوريِّ الليبراليّ). ومثلما كانت الحالُ في عهدِ CHP أيضاً، فمرورُ المرحلةِ بمخاضاتٍ أليمة، وتصاعُدُ التناقضاتِ والنزاعاتِ الداخلية (كما كان الوضعُ بين مصطفى كمال وعصمت إينونو)؛ قد تَجرفُ AKP إلى مساراتٍ مغايرة. وربما تتبدى المشاداتُ بين رجب طيب أردوغان وعبد الله غول. وربما ينفصلُ عنه فريقٌ من المنحازين إلى الوفاقِ الديمقراطيّ. كما وقد يَفرضُ احتمالُ “تركيا ديمقراطية ودستور ديمقراطي” حضورَه ويُبدي وزنَه في الأجندةِ كخيارٍ جاد. ومثلما لَم يُجزَمْ بَعدُ بسلطةِ AKP المهيمنة، فمصيرُ النظامِ الدستوريِّ الديمقراطيِّ أيضاً غيرُ مجزومٍ به بعد. أما مَن الذي سيَجزمُ الأمرَ لصالحِه من بين كِلا الاحتمالَين، فهذا ما سيُحَدِّدُه وضعُ الصراعِ بين القوى المهيمنةِ من جهة، وقوى النضالِ الديمقراطيِّ والاشتراكيِّ في تركيا، والنضالِ الديمقراطيِّ شبهِ المستقلِّ في كردستان من الجهةِ الثانية.
إنّ نظامَ الحربِ الخاصةِ الهادفِ إلى تصفيةِ الوجودِ الكرديِّ وسلبِ حريتِه في عهدِ السلطةِ المهيمنةِ الجديدة سيُعَزَّزُ ويُطَبَّقُ أكثر فأكثر. وبالأصل، فالقضاءُ على الوجودِ الكرديّ (الواقع الوجوديّ الأنطولوجيّ)، والنيلُ من حريتِه (التنظيم والوعي)، والاستمرارُ في إبادتِه ثقافياً؛ إنما يكمنُ في خلفيةِ الوفاقِ الذي أَبرمَه AKP مع الجيشِ كممثلٍ لأصحابِ السلطةِ القديمةِ في النظام. إذ ما كان بالمقدورِ تسليمُ زمامِ السلطةِ إلى AKP بأيِّ شكلٍ آخر، كما أنّ إنكارَ الوجودِ الكرديِّ والقضاءَ العنيفَ على القوى المتمردةِ كان يتسترُ أيضاً وراءَ الوفاقِ السائدِ في 1925 بين القومويةِ الصهيونيةِ والوطنياتيةِ التركية. أما في عهدِ AKP، فلَم يَقتصرْ على قبولِ هذا الوفاقِ كما هو، بل وثابرَ عليه بعدَ توطيدِه بالحججِ والمُقَوِّماتِ الإسلامية. وباقتضاب، فإبادةُ الكردِ ثقافياً تُشَكِّلُ نقطةَ التقاطعِ والمَقامَ المشتركَ للتياراتِ القومويةِ الثلاثةِ الرئيسية (القومويةُ التركيةُ الصهيونية، القومويةُ التركيةُ العنصرية، والقومويةُ الإسلاميةُ التركية). فرغمَ انقلابِ القوموياتِ الثلاثِ على بعضِها البعضِ وتصادُمِها الدمويِّ بين بعضِها البعضِ فيما يتعلقُ بجميعِ المواضيعِ الأخرى؛ إلا أنها تتَّخذُ دوماً المواقفَ المشتركةَ إزاء الواقعِ الكرديّ. وهذه هي الظاهرةُ المسماةُ بـ”القانونِ الفولاذيَّ” في النظامِ الفاشيّ، ولا يُعتَرَفُ بحقِّ الحياةِ ومزاولةِ السياسةِ في كنفِ النظامِ لأيةِ قوة، ما لَم تعترفْ بهذا القانون.
ومثلما لا تتنافرُ الممارساتُ التكتيكيةُ المختلفةُ لهيمنةِ AKP مع الاستراتيجيةِ المشتركة (القضاء على الوجودِ الكرديِّ وحركةِ الحرية)، فإنّها تُشَكِّلُ مناوراتٍ تكتيكيةً يبادرُ إليها بغيةَ تطبيقِ هذه الاستراتيجيةِ بإبداعٍ أفضل وبنجاحٍ موفق. فمثلاً؛ وبعدَ التصريحِ الذي أدلى به رجب طيب أردوغان في ديار بكر أولاً عامَ 2005 حينما قال: “القضيةُ الكرديةُ قضيتُنا نحن أيضاً” حائزاً بذلك على درجةٍ مهمةٍ من دعمِ الشعبِ الكرديِّ له؛ لَم يترددْ بتاتاً عامَ 2006 في إبداءِ المكرِ والاحتيالِ لاستصدارِ القوانينِ التي طالَت الأطفالَ والنساءَ من خلالِ توسيعِ نطاقِ “قانونِ مكافحةِ الإرهاب” (أقسى القوانين المضادةِ للكردِ طيلةَ عهدِ الجمهورية). وما الاعتقالاتُ التي طالت الأطفالَ بنحوٍ واسعِ النطاقِ لأولِ مرة، وتمشيطاتُ KCK، وعملياتُ القصفِ الجويِّ سوى ضرورةٌ من ضروراتِ تلك الاستراتيجية. كما أنّ شتى أنواعِ الحربِ النفسية، والشروعَ في تشكيلِ مجموعةِ رأسِ المالِ الكرديِّ المتواطئة، وتصييرَها مركزَ جذبٍ في المدنِ المهمةِ من جنوبِ وشمالِ كردستان على حدٍّ سواء، وتأسيسَ منظماتِ المجتمعِ المدنيِّ المتظاهرِ زيفاً وبهتاناً بالكردايتية؛ كلُّ ذلك أيضاً على علاقةٍ قريبةٍ مع تلك الاستراتيجيةِ الجديدة. هذا ويجبُ إضافةُ وسائلِ الإعلامِ الكرديِّ المتواطئةِ (وسائل الحرب النفسية) إلى ذلك أيضاً. علاوةً على أنّ العديدَ من الفروعِ الرياضيةِ والفنيةِ أيضاً افتُتِحَت لتسخيرِها في خدمةِ مآرب استراتيجيةٍ مماثلة. ولَربما أنّ الممارسةَ الأنكى من بينِ كلِّ ذلك، هي تجاربُ تشكيلِ تنظيم “حماس” الكرديّ بدلاً من حزب الكونترا. ذلك أنّ الهدفَ الأساسَ للتنظيماتِ ووسائلِ الإعلامِ الدينيةِ السلَفيةِ في آخرِ المطاف، هو تأسيسُ “حماسِ”ـها المتظاهرِ بالكردايتيةِ في وجهِ KCK، وتفعيلُه، وترقيتُه إلى مرتبةِ الصدارة. وعلى سبيلِ المثال، فتنظيمُ “حماس” (الذي كان الموسادُ وراءَ تأسيسِه بغيةَ إضعافِ “منظمةِ التحريرِ الفلسطينية” ، رغم أنه لا علاقةَ له قطعياً بالنضالِ الدائرِ في فلسطين) قد تسبَّبَ اليومَ في إيصالِ “منظمةِ التحريرِ الفلسطينية، وبالأخصِّ حركةِ “فتح”، التي تُعَدُّ فصيلاً أساسياً من فصائلِ المنظمة، إلى حافةِ التصفيةِ والزوال. هذا وتدورُ المساعي لتطويرِ النموذجِ نفسِه في كردستان أيضاً ضد KCK. فالثانوياتُ الدينيةُ المُشادةُ حديثاً، ودوراتُ تعليمِ القرآنِ أيضاً قد شُيِّدَت على عجلٍ لنفسِ الغرضِ مثلما صرَّحَ بذلك المعنيون بذاتِ أنفسِهم. ووزارةُ الشؤونِ الدينيةِ قد سَخَّرَت الجوامعَ بأكملِها لخدمةِ التصفيةِ الثقافية. أي إنّ الدينَ سُيِّسَ كلياً، واختُزِلَ إلى حالةِ أداةٍ تُستَخدَمُ في إنكارِ الوجودِ الكرديِّ والتعتيمِ على نضالِ الكردِ من أجلِ الحرية.
ومئاتُ الممارساتِ المشابهةِ لا تبسطُ للعيانِ نوايا وسياساتِ القوةِ المهيمنةِ الجديدةِ وحسب، بل وتَعرضُ للمَلأِ جلياً مخططاتِها التصفويةَ بالغةَ الخطورةِ أيضاً. ومثلما أنّ CHP هو حزبُ الدولةِ القوميةِ الطامعةِ في القضاءِ بنحوٍ دمويٍّ على المقاومةِ الكرديةِ والوجودِ الكرديِّ فيما بين 1925 – 1940، فـAKP أيضاً هو حزبُ الدولةِ القوميةِ الهادفةِ منذ أعوامِ 2000 إلى القضاءِ على الواقعِ الكرديِّ وحركةِ الحريةِ الكرديةِ بنفسِ المنوال، بل وتأسيساً على ظروفٍ أشدَّ حِدّة. هذا وما من شكٍّ في أنّ بعضَ الأصواتِ الشاذةِ عن العامِّ في داخلِه، وبعضَ الممارساتِ المرحليةِ المختلفةِ لا تُغَيِّرُ شيئاً من أهدافِه الاستراتيجية، بل على النقيض، فهي تؤيدُ صحتَها. فحركةُ التصفيةِ التي نفَّذَها AKP خِفيةً داخل PKK بدءاً من أواخرِ سنةِ 2002 (مبادرةُ التصفيةِ المُنَفَّذةُ مع كلٍّ من أمريكا وسلطةِ جنوبِ كردستان والعناصرِ التصفويةِ المتواطئةِ ضمن صفوفِ PKK)، واللقاءاتُ المتواصلةُ باسمِ الحوارِ اعتباراً من 2006 مع كلٍّ من DTP وممثلي KCK في أوروبا، والتي لاقَت صداها عند عبد الله أوجلان؛ كلُّ ذلك أُفرِغَ من محتواه واصطَدَمَ بجدرانِ الاستراتيجيةِ ذاتِها، رغم النوايا الحسنةِ لبعضِ مسؤولي الدولة. واضحٌ وضوحَ الشمسِ أنّ الحربَ الخاصةَ ستتواصلُ متكاثفةً في كنفِ هيمنةِ AKP الجديدة، ما لَم تُترَكْ هذه الاستراتيجيةُ التصفويةُ المعاديةُ للسلام. كما أنَّ كلَّ موقفٍ وقولٍ وفعلٍ سيُتَّخَذُ ويُبدى إزاءَ الوجودِ الكرديِّ وحركةِ الحريةِ الكردية، لن يذهبَ في معناه أبعدَ من التصفوية؛ ما لَم يُصَرِّحْ AKP والقوى الداخليةُ والخارجيةُ التي يستندُ إليها للرأيِ العامِّ علانيةً عن موقفٍ استراتيجيٍّ بشأنِ السلام، وما لَم يَتَّخِذْ قراراتٍ مُلزِمةً للجميعِ بصددِ سنِّ دستورٍ ديمقراطيّ.
وفي النتيجة، فالحربُ المُخاضةُ ضد الواقعِ الكرديِّ وحركةِ الحريةِ الكرديةِ المعاصرَين في غضونِ القرنَين الأخيرَين، قد تحوَّلَت إلى إبادةٍ ثقافيةٍ متثاقلةِ الوطأةِ تدريجياً. وجَهِدَ الكردُ على المثابرةِ على صونِ وجودِهم والحفاظِ على شغفِهم بالحياةِ الحرةِ تحت نيرِ حملاتِ الإبادةِ المجحفة. فحركاتُ تصفيةِ الإماراتِ والزعاماتِ القَبَلِيّةِ وقياداتِ المَشيَخةِ في كردستان، والتي ابتدأَت في عهدِ الإمبراطوريةِ العثمانيةِ المستحدثة (المتحولة إلى عصرية)، قد انعكَفَت مع مرورِ الوقتِ على تصفيةِ الواقعِ الكرديِّ الثقافيّ. وقد عملَت الفاشيةُ التركيةُ البيضاء على زيادةِ تعميقِ هذه السياسةِ بنشرِها بين صفوفِ المجتمعِ برمتِه، ووصلَت بالكردِ إلى مشارفِ الزوالِ بصهرِهم في بوتقةِ الدولةِ القومية. أمّا المقاوماتُ المتصاعدةُ ضد ذلك، فلم تسفرْ عن أيةِ نتيجةٍ سوى تجذيرِ التصفيةِ والزوالِ أكثر فأكثر، نظراً لطابعِ زعاماتِها وللبنيةِ الاجتماعيةِ التي اعتمدَت عليها. كما وزادَ في عهدِ نضوجِ وازدهارِ الجمهوريةِ تطويرُ المستوِيّاتِ العميلةِ التي حظيَت بالإذنِ لوجودِها بناءً على إنكارِ الحقيقةِ الكردية، وذلك في إطارِ مساعي تعميقِ الإبادةِ الثقافية. أما في عهدِ الانهيارِ والتضعضعِ المبتدئِ اعتباراً من أعوامِ الثمانينات، فسادَ اللجوءُ إلى أساليبِ الحربِ الخاصةِ التي لا نظيرَ لها بدعمٍ ومؤازرةٍ من أمريكا بناءً على مصالحِها هي، وذلك بغرضِ إنهاءِ الكردايتية، ليس على صعيدِ حركةِ الحريةِ فحسب، بل وبوصفِها وجوداً قائماً بذاتِه (وكوجودٍ أنطولوجيٍّ أيضاً، مثلما لوحِظَ في حظرِ اللغة). ومقابل حركاتِ الإبادةِ التي لا مثيلَ لها، فإنّ حركةَ الحريةِ المتصاعدةَ بطليعةِ PKK، ورغمَ العديدِ من نواقصِها وأخطائِها، لَم تَكتَفِ فقط بفرض الوجودِ الكرديِّ الثقافيّ، بل وارتَقَت به أيضاً إلى مستوى مهم باعتبارِه وجوداً متحرراً. كما وطالَت تداعياتُ المستجداتِ البارزةِ في هذا المنحى الأجزاءَ الأخرى من كردستان أيضاً؛ حيث أفضَت في كردستان العراقِ إلى ظهورِ كيانٍ سياسيٍّ يطغى عليه الجانبُ الدولتيُّ القوميّ، في الحين الذي انتَهَت فيه إلى صحوةِ الشعبِ الكبرى ضمن كردستان إيران وكردستان سوريا، وإلى انخراطِه في صفوفِ حركةِ الحرية، وتطويرِه شبهَ استقلاليتِه الديمقراطية.
من المؤكدِ أنّ الحربَ الخاصةَ التصفويةَ التي شنَّتها القوى التركيةُ المهيمنةُ ضد KCK ستؤولُ في المستقبلِ القريبِ إلى مستجداتٍ عظيمةِ الأهميةِ استراتيجياً وسياسياً واجتماعياً. ففي حالِ عدمِ إصدارِ قرارِ السلامِ الاستراتيجيّ، فإنّ أهمَّ احتمالٍ سيتطورُ ميدانياً في كردستان، وسيتنامى تدريجياً في بلدانِ الجوار، هو ارتقاءُ الحربِ الشعبيةِ الثوريةِ إلى أرفعِ المستوياتِ على هدى توجيهاتِ االحداثةِ الديمقراطية، وتطويرُ الإداراتِ الديمقراطيةِ شبهِ المستقلةِ بالتداخلِ مع خوضِ حروبِ الدفاعِ الذاتيّ، وذلك في المجالاتِ الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، القانونية، والدبلوماسية.
إنّ البورجوازيةَ البيروقراطيةَ التركيةَ المتسمنةَ والمتورمةَ طردياً مع تصفيةِ الأقلياتِ منذ عهدِ سلطةِ “جمعية الاتحاد والترقي”، اتَّخذَت من الكادرِ اليهوديِّ واحتكاراتِ رأسِ المالِ اليهوديَّ أساساً لها في الداخل، في حين اتَّجَهت في الخارجِ نحو سياسةٍ تعمَلُ تدريجياً بموجبِ الهيمنةِ الإنكليزيةِ بصورةٍ رئيسية. وبذلك، فالتحالفُ البارزُ إلى الوسط، هو الفاشيةُ أو الفاشيةُ البِدئيةُ التركيةُ البيضاء ذات الشريكَين. ومع اقتطاعِ الموصل وكركوك من الميثاقِ الملليّ، يتمُّ الشروعُ بتطبيقِ مشروعِ إسرائيل البدئيةِ من ثلاثةِ اتجاهات. فالجمهوريةُ التركية، ونظامُ الانتدابِ الإنكليزيِّ في فلسطين، والقومويةُ الكرديةُ في شمالِ العراق؛ لكلٍّ منهم دورُه المشابهُ حسبَ خصوصياتِه. وجميعُهم مجردُ خطواتٍ على الدربِ المؤديةِ إلى إسرائيل. والمشروعُ المُعتَرَفُ به على الأرجح، والسائرُ قُدُماً على الدربِ المؤديةِ إلى تشييدِ إسرائيل، كان بهذا المنوال. فالغيومُ الضبابيّةُ التي تحيطُ بالجمهوريةِ التركية، وتقَوقعُها الشديدُ على نفسِها، والوضعُ الممائلُ المُلاحَظُ في الكيانِ الكرديِّ شمالي العراق؛ كلُّ ذلك على علاقةٍ بقصةِ ظهورِ إسرائيل إلى الوسط. أمّا الشريحةُ الاجتماعيةُ المُكَوَّنةُ تحت اسمِ البورجوازيةِ التركية، فلا علاقة لها البتة بالتركياتيةِ الحقيقية. بل هي كيانٌ أسطوريٌّ بحت. والأمرُ عينُه يَسري على الكيانِ الكرديِّ الذي في شمالِ العراقِ أيضاً. حيث إنه ترجمةٌ من المرتبةِ الرابعةِ للبورجوازيةِ التركية. وهو أيضاً كيانٌ أسطوريّ، لا سوسيولوجيّ. وبالفعل، فقد نُسِجَت الميثولوجيا حول كِلا الكيانَين، اللذَين هما كيانان اصطناعيان لا صِلةَ لهما بالحقائقِ التاريخيةِ – الاجتماعية. ولا يُمكنُنا إدراكُ دورِهما بشكلٍ كامل، إلا ارتباطاً بتكوينِ إسرائيل. إذ دارت المساعي حول إضفاءِ طابعٍ ميثولوجيٍّ على مصطفى البارزاني الكرديّ، مقابل مصطفى كمال التركيّ. إنني أُشَدِّدُ على ذلك بإصرار، ليس بهدفِ استصغارِ كِلتا الهويتَين أو المبالغةِ فيهما، بل بغيةَ تسليطِ الضوءِ على كيفيةِ طمسِ حقائقِ المجتمعَين التركيِّ والكرديِّ ضمن هالاتٍ من الضباب، بحيث يستعصي تحليلُها من الناحيةِ السوسيولوجية. فعندما يَلِجُ الشعبان التركيُّ والكرديُّ سياقَ الدمقرطة، يُسحَبُ عليهما ثانيةً غطاءٌ فاشيٌّ مشحونٌ بالمؤامراتِ والمكائدِ والانقلاباتِ الفريدةِ من نوعِها. وتُجعَلُ الإعداماتُ والاغتيالاتُ والنزاعاتُ الأخويةُ والحروبُ الداخليةُ لا تعرفُ هداوةً ولا نضوباً. هذا وتُفتَعَلُ الصراعاتُ اليساريةُ – اليمينية، والاشتباكاتُ المذهبيةُ والأثنية. موضوعُ الحديثِ هنا هو النضالاتُ الاجتماعيةُ والحركاتُ الشعبيةُ المُحَرَّفةُ عن مجراها، والمُجتَثةُ من أصلِها وفحواها، والمُحَيَّدةُ عن مسراها. ولكن، يُستَشَفُّ تمخضُ جميعِها عن قضايا اجتماعيةٍ وشعبويةٍ متفاقمةٍ ومزدادةٍ وطأةً. ووقائعُ هذه النتيجة، هي أفضلُ مَن يشرحُ لنا منطقَ التآمرِ والانقلابِ والاستفزاز.
يُثابَرُ على تطبيقِ المشروعِ الثلاثيِّ بعينِه مع إعلانِ إسرائيل في 1948، ولكنْ بآفاقٍ أوسع وبمستوى أرقى. ومَن يعارِضُ ذلك، أو يتطلعُ إلى التمسكِ بهويتِه وأهدافِه؛ يُحكَمُ عليه بأشدِّ العقوبات، ويُمسحُ من على وجهِ البسيطةِ دون تمييزٍ بين يمينٍ أو يسار، تقدميٍّ أو رجعيّ، تركيٍّ أو كرديّ. وتتسترُ هذه الوقائعُ المجحفةُ وراء انقلاباتِ أعوامِ 1960، 1971، 1980، 1993، 1997، وكذلك وراء عددٍ كبيرٍ من الانقلاباتِ المُطَبَّقةِ على أرضِ الواقعِ منذ 2002. وغالباً ما لعبَت هذه العقليةُ دورَها أيضاً في ممارساتِ الإفناءِ والتهجيرِ والاعتقالِ والتعذيبِ والصهرِ القائمةِ منذ سنةِ 1925، والتي استهدفَت الكردَ واليساريين والإسلاميين، بل وحتى القومويين الأتراك المُناصرين للألمان. فمع إرساءِ تنظيماتِ الغلاديو التابعةِ للناتو، تمرُّ هذه العقليةُ كالجَرّافةِ فوق كافةِ شرائحِ المجتمعِ الكادحةِ والديمقراطيين والاشتراكيين الأتراك والكردِ على حدٍّ سواء، وتسحقُهم تحت وطأتِها بشكلٍ أرفع مستوى. لا ريب أننا بسردِ هذا التحليلِ تأسيساً على مواكَبةِ الشرائحِ اليهوديةِ – التركيةِ – الكرديةِ العليا ركبَ العصر، لا نرمي إلى النزعةِ المناوئةِ للساميّةِ أو التركياتيةِ أو الكردايتية. بل على العكس، فقد أبدى الديمقراطيون والاشتراكيون اليهودُ – الأتراكُ – الكردُ على مستوى الشرائحِ التحتيةِ آياتٍ عظيمةً من المقاومةِ والصمودِ بتعاضدٍ متينٍ في وجهِ تحالفاتِ شرائحِهم العليا. وما انفكّت النضالاتُ المشتركةُ قائمةً في الأجندةِ على صعيدِ الكادحين والشعوبِ المسحوقة، بما في ذلك الشعبُ اليهوديُّ أيضاً، منذ المشروطيةِ الثانيةِ وحتى يومِنا الحاليّ. وعليه، ليس وارداً إمكانيةُ التفكيرِ بالاشتراكيةِ والديمقراطيةِ من دونِ اليهود، تماماً مثلما الأمرُ عليه في عمومِ أرجاءِ أوروبا وروسيا.
كَم هو غريبٌ أنّ راهنَنا يَشهدُ على دفعِ العلاقاتِ الإسرائيليةِ – الكرديةِ وإقحامِها في مَصَبِّ تحالفٍ تاريخيّ. أي أنّ التحالفَ الإسرائيليَّ – الكرديَّ يدخلُ أجندةَ التاريخِ بدلاً من التحالفِ الإسرائيليِّ – التركيّ، أو بمنوالٍ شبيهٍ به. وللحَيدِ والانزياحِ المُعاشِ في الهيمنةِ داخل الجمهوريةِ التركيةِ منذ 1980، وبالأخصِّ بعدَ عامِ 2000 نصيبُه الوافرُ في ذلك. فحكوماتُ AKP التي أُجلِسَت على رأسِ مهامِّها بدعمٍ إسرائيليٍّ وأمريكيٍّ وأوروبيٍّ بدايةَ الأمر، وتحالفَت مع الدولتَين الإيرانيةِ والسوريةِ بهدفِ عزلِ PKK وتصفيتِه؛ بدأَ تحالفُها ذاك ينُمُّ عن نتائج معكوسة، وتحوَّلَ بالتالي إلى ردودِ فعلٍ واستياءٍ عند إسرائيل وأمريكا وبلدان الاتحاد الأوروبيّ، وإلى كَيلِ الاتهاماتِ على الجمهوريةِ التركيةِ بالحَيدِ عن محورِها الأساسيّ. ومقابلَ التحالفِ المعادي للكردِ بين الحكوماتِ التركيةِ والإيرانيةِ والسورية، بدأَ يتكونُ في المرحلةِ الحاليةِ حِلفٌ معنيٌّ بالقضيةِ الكرديةِ يضمُّ أمريكا وأوروبا وإسرائيل والكرد. ويكمنُ PKK – KCK في مرمى كِلا القطبَين، اللذَين هما على وشكِ تغييرِ الشرقِ الأوسطِ من الجذور. وهنا يبرزُ إلى الميدانِ منهجُ PKK الأيديولوجيُّ والسياسيّ، ومنهجُ KCK العمليُّ الملموسُ والأكثر عينيةً على دربِ الحداثةِ الديمقراطية، ومدى علاقتِهما بالحقيقة. وما سيُحَدِّدُ النتيجةَ في خضمِّ الأحداثِ والمجرياتِ التاريخيةِ – الاجتماعية، هو الحقيقةُ بعينِها، لا الرياءُ الديماغوجيُّ الشنيع. وما يتبدى للعيانِ مرةً أخرى، هو الوجهُ العادلُ والمؤلمُ للحقيقة. وكأنّ التاريخَ ينتقمُ من الديماغوجياتِ والأساطيرِ الميثولوجيةِ المُدوّنةِ باسمِه. بينما يتجلى الواقعُ بنحوٍ أكثر وضوحاً وشفافية، أي كحقيقةٍ ساطعة. هكذا، وبينما يتركزُ التاريخُ في “الحاضر”، فإنّ “الحاضرَ” أيضاً يتأرخُ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وبقدرِ ما يغدو الصراعُ مرحلياً وراهناً على خطِّ أربيل – ديار بكر، فهو مُحاطٌ بهالةٍ من التاريخانيةِ أيضاً. وقلبُ المنطقة، بل وقلبُ العالَمِ أجمع ينبضُ بدقاتٍ متسارعةٍ على هذا الخطِّ بما يدلُّ في معناه على “الحربِ العالميةِ الثالثة”. بمعنى آخر، إنّ قلبَ الثورةِ والثورةِ المضادةِ الذي كان ينبضُ يوماً ما على خطِّ أمستردام – لندن – باريس، وعلى خطِّ بطرسبرغ – موسكو؛ بات ينبضُ اليوم على خطِّ ديار بكر – أربيل – بغداد.
وبقدرِ العقدةِ الإسرائيليةِ – الفلسطينيةِ الكأداء، فإنّ أفغانستان وباكستان، وبالتالي عموم الأراضي الأفريقيةِ الإسلامية، وكذلك على طولِ الثقافةِ الإسلاميةِ الممتدةِ من روسيا إلى الصين والهندِ في القارةِ الآسيوية؛ جميعُها تبحثُ عن مركزِ الحلولِ الديمقراطيةِ لعُقَدِها العُضال. وفي المحطةِ التي تمَّ بلوغُها حالياً، فإنّ الخطَّ المحوريَّ العامِرَ بأوفرِ الحلول، هو خطُّ الحلِّ الثوريِّ الديمقراطيِّ الدائرِ في الحلقةِ العراقيةِ – الإيرانيةِ – السوريةِ والتركية، وبالتالي الذي يَسري في عمومِ الشرقِ الأوسط. وبمعنى آخر، هو خطُّ ديار بكر – أربيل، الذي ينبضُ فيه قلبُ ميزوبوتاميا الشمالية والجنوبية، التي يَعُودُ إليها الفضلُ الكثيرُ في تاريخِ البشرية. فقد عاشَت القبيلةُ العبرانيةُ على هذا الخطِّ أولَ إشكالياتِها المستعصيةِ التي ما فتئَت تعاني منها، وراحَت تبحثُ عن حلٍّ لها ثانيةً في مكانِ ظهورِها بعدَ مرورِ ثلاثِ آلاف وخمسمائة سنة مليئة بالمغامراتِ المذهلة؛ تماماً على غِرارِ المَثَلِ الشعبيِّ القائل: “كلُّ نَباتٍ ينمو على جذرِه”. ويَلوحُ فيما يَلوحُ أنّ القضيةَ اليهوديةَ أيضاً سوف تؤولُ إلى الحلِّ بناءً على جذورِها التي وُلِدَت فيها. أما الشبكةُ المضادةُ للثورة، والتي تَعملُ النُّخَبُ التركيةُ على نسجِها بارتباكٍ هائجٍ بين الحِلفَين المتضادَّين الأمريكيِّ – الأوروبيِّ – الإسرائيليِّ والإيرانيِّ – السوريِّ – العراقيّ (الذي تسعى بذاتِ نفسِها إلى حياكتِه)؛ فلا مجال أمامَها للتحقُّقِ والنجاح. فالقضايا الاجتماعيةُ التي تثيرُها وتؤججُها الحداثةُ الرأسماليةُ في المنطقةِ منذ ما يناهزُ القرنَين من الزمن عوضاً عن حلِّها، قد دخلَت طَوراً لا يُمكنُ حلُّها فيه إلا عن طريقِ الحداثةِ الديمقراطية. وقيامُ KCK بإنشاءِ الأمةِ الديمقراطية، يُعتَبَرُ شُعلةً منيرةً على هذه الدرب، وصوتاً مناشداً للسيرِ عليه.