فوّاز أيّو
لمعرفة كيفية تكوّن الدول القومية، لا بدّ من الرجوع إلى التاريخ، وبداية تشكّل المجتمعات البدائية لنرى بأنّ الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي قطيعي يجتمع مع بني جنسه في مكان معين، ومن هنا بدأت تتشكل أولى الحضارات الإنسانية مع تزايد جماعة من الجماعات في مكان من الأمكنة .
كتصور للمرحلة البدائية يمكن القول بأنّ الجماعات البدائية كانت تتكاثر بالتلاقي الطبيعي والتزاوج، وكان أفرادها يمارسون مختلف المهام بشكل مشترك لضمان الحماية الذاتية الفطرية وتأمين احتياجات الحياة، ونتيجة هذا الاحتكاك المستمر مع بعضهم البعض ولّد لدى كل جماعة ثقافة مشتركة ولغة مشتركة، ثم تطور الوعي الإنساني ليعرف الإنسان نفسه كمواطن ضمن المجتمع الذي يعيش فيه وبات ينتمي إليه. هذا المجتمع البدائي اتخذ فيما بعد أشكال عدة منها ظهور الدولة القومية أو الأمة القومية .
هذا الشكل في إدارة المجتمع تطور حتى طغى على سمة المجتمعية الفطرية وامتلك أدواته الخاصة به للحفاظ على ديمومته، ومن أهم تلك الأدوات “السلطة”.
لا يمكن قبول آراء المؤرخين القائلين بظهور شكل الدولة القومية في الألفية الثانية بعد الميلاد، لأن التاريخ يطرح أمثلة واضحة للدولة والأمة القومية منذ آلاف السنين، فإن لم يكن السومريون والفراعنة والفرس والآشوريون والميديون والإغريق والبيزنطيون شكلاً من أشكال الأمة القومية فماذا هي إذاً ؟!
بل يمكن القول إن الحضارات التاريخية تلك كانت بمثابة إمبراطوريات عابرة للحدود الجغرافية الضيقة وتحاول السيطرة على العالم المعروف آنذاك بأكمله، وربما إن فشلها أدى إلى ظهور القومية الحديثة المنطلقة نحو جغرافية أصغر نسبياً ومجتمعات أكثر اندماجاً.
الدولة القومية المعاصرة :
مع بداية القرن الميلادي الثاني عشر ظهرت ملامح تشكل دول ذات حدود وطنية وأعراق بشرية منحدرة من أصول متقاربة، واستمرت في التطور لتصل إلى شكلها الحالي. ولا يمكن تجاهل دور بروز الصناعية الرأسمالية في ترسيخ وجود الدولة القومية الحديثة، كونها الشكل الأنسب والأكثر مرونة في تلبية حاجات ومصالح الرأسمالية. وبذلك أصبحت أوروبا تقود الحضارة الإنسانية ولم تكتفِ بتصدير بضائعها إلى العالم وإنما ثقافتها وشكل الحكم فيها أيضاً عن طريق البعثات القنصلية والتجار والمستشرقين و جيوشها .
الشرق الأوسط جزء مهم من هذا العالم من ناحية موقعه الجغرافي، لذلك نراه أول المتأثرين بالنظرية القومية، وما ساعد في نجاح هذا الأمر هو توفر البيئة القومية الملائمة في الشرق بوجود شعوب تتمتع بخصائص تميزها عن باقي الشعوب المتواجدة؛ فكان الفارسي يتغنى بفارسيته والعربي بعروبته والكردي بكرديته قبل تشكل الدول القومية في أوروبا، ويكفي الاستشهاد بعبارة ( إنّا أنزلناه قرآناً عربياً ) لإثبات هذه الحقيقة. والغريب في الأمر أنه رغم ذلك كان ظهورُ الإسلام هو السبب الرئيسي في عدم ظهور الدولة القومية في الشرق الأوسط حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك بسبب خصائصه الأممية القائلة ( لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ) .
هذا الانفتاح الذي وفره الإسلام نظرياً لشعوب المنطقة والقوة العسكرية التي تمتع بها جعلته يمنع ظهور أي شكل من أشكال الدولة القومية لقرون طويلة .
إذا كانت الدولة القومية تعني منطقة جغرافية تتميز بأنها تستمد شرعيتها السياسية من تمثيلها أمة أو قومية مستقلة وذات سيادة، فذلك يصطدم بإرادة الله والخوض فيه محرم وإن كانت الدولة القومية “كيان ثقافي وإثني جيوسياسي موحد فستكون عائقاً أمام انتشار الإسلام، ما يستوجب العداء.
دور المستشرقين في بناء الدولة القومية في الشرق الأوسط ودواعي ذلك ؟
المستشرق صفة عالم متمكن من المعارف الخاصة بـالشرق ولغاته وآدابه. يذكر المستشرق رودنسون أن كلمة مستشرق ظهرت في اللغة الإنجليزية نحو عام 1779 كما دخلت كلمة الاستشراق معجم الأكاديمية الفرنسية في عام 1838 وفيها تجسدت فكرة نظام خاص مكرس لدراسة الشرق. ويعتمد المستشرق الإنجليزي آربري على تعريفه من قاموس أكسفورد الجديد بأنه “من تبحر في لغات الشرق وآدابه”. وقد ورد في موسوعة لاروس تعريف المستشرق في مادة Orientaliste بأنه «العالم المتضلع في معرفة الشرق وثقافته. (ويكيبيديا )
لقد عملت البعثات الثقافية والتعليمية المتبادلة بين الشرق والغرب بشكل فعال على نقل النموذج الغربي ومحاولة تقليده في الشرق، وكانت أفكار الغرب من حيث الديمقراطية والحريات العامة وفصل الدين عن الدولة والدولة القومية وحقوق المرأة- رغم قصورها عن وقتنا الحالي- مدعاة انبهار لدى رواد النهضة العربية، حتى أن أمير الشعراء العرب (الكردي) “أحمد شوقي ” تغنى بالدولة القومية مفتياً بأن إقامتها لا يغضب الله قائلاً :
وجـه الكنانة ليس يغضب ربكـم *** أن تجعلـوه كوجهه معبودا!
هذا الانبهار بالغرب دفع بالغرب للاستفادة منه سياسياً وعسكرياً ضد السلطنة العثمانية، من خلال تأليب الشعوب المنضوية تحت لوائها عليها، وإقناعها بالفوائد التي ستجلبها عليها بناء دول خاصة بهم وكانت الشعوب تلك تبحث عن البديل نتيجة مظالم الدولة العثمانية .
إن أبرز النماذج التي تؤكد ضلوع المستشرقين بدور فعلي في بناء الدول القومية في الشرق الأوسط هو نموذج لورنس العرب، الذي وصل إلى سوريا كمساعد لعالم آثار و نجح فيما بعد بقيادة الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين .
يقول لورنس :
“أخذت أفكر طيلة الطريق إلى سوريا وأتساءل هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية؟
هل يغلب الاعتقاد الوطني المعتقدات الدينية؟
وبمعنى أوضح هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني ؟
القومية التركية (الطورانية)… كيف بدأت؟!
يقول الباحث عبدالله عزام ( منظّر تنظيم القاعدة سابقاً ) إنها بدأت من ناحيتين:
أولهما: الأكاديمية العسكرية باستانبول، حين جاء الألمان ليدربوا الأتراك على أحدث أساليب القوى والقتال، وكانت ألمانيا تتبنى حينها سياسة دعوة الشعوب الإسلامية إلى الجهاد المقدس ضد بريطانيا التي كانت تحتل معظم البلاد الإسلامية !
وثانيهما: هجرة اللاجئين من المجر وبولندا إثر فشل ثورتهم، ودخولهم في الإسلام فيما بعد .
يقول برنارد لويس: “لقد عمل يورزيسكي على نقل القومية البولونية ووضعها في قالب تركي. وساعده على هذا العمل ما عرضه من أعمال المستشرقين الغربيين الباحثين في الشؤون التركية… وكان لها تأثير هام في تقدير التاريخ التركي القديم، والاعتقاد بالهوية المميزة ، كان يورزيسكي هذا ضمن اللاجئين!
ثم يشير الكاتب مرة أخرى إلى جمعية الاتحاد والترقي التي كانت اليد المحركة فيها هم يهود سالونيك، وأن جميع أعضائها من اليهود. يقول ستون وتسون: (إن الحقيقة البارزة في تكوين جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية). أثرت تلك الدعاوى إلى القومية في الشعب التركي فبدأ في التجمعات السرية من أجل الاستقلال .
مهما يكن فالدول القومية تشكلت في الشرق الأوسط واتخذت النموذج الغربي من حيث الشكل والدستور والهيكلية، لكنها لم تجلب لنفسها ولمواطنيها إلا المزيد من الآلام والنكبات والأزمات .
لقد دغدغت فكرة الدولة القومية مخيلة المفكرين ومشاعر البسطاء، لكنها لم تجلب لهم إلا المزيد من التعاسة والحزن، إذ انشغلت معظم الكيانات القائمة بمعارك داخلية وخارجية وبينية أنهكت المجتمع وأشعرت الفرد بعدم الانتماء .
هذه الحالة متواجدة أيضاً في النموذج الغربي من الدولة القومية، لكن الغرب وبعد حربين عالميتين طاحنتين عدّل كثيراً في دساتيره وقوانينه ليمنح عدالة أكثر لمواطنيه، عكس الدول القومية في الشرق الأوسط التي اعتمدت النظام المركزي الديكتاتوري الرافض لوجود أي تنوع، وهذا ما أوصلها إلى انسداد في الأفق نشهده منذ ما سمي بالربيع العربي .
هنا يجب أن لا ننسى، أن الدولة القومية الغربية يدعمها النظام الرأسمالي الساعي لتجديد نفسه باستمرار من خلال امتصاص خيرات شعوب الشرق الأوسط وهذا ما لا تملكه الدولة القومية في الشرق! .
رغم ذلك وبعيداً عن الويلات التي جلبتها الدولة القومية لشعوبها، لازالت هناك قضايا حقوقية غاية في الأهمية لا يجرؤ أحد الإشارة إليها !
معظم دول أوروبا مبنية على أسس اندماج قسرية لمكونات تطمح إلى أن يكون لها كيان خاص بها، لكن الظروف السياسية والاقتصادية تمنعها من ذلك، ترى ذلك في بريطانيا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا وإسبانيا ..
كما نجد ذلك في أمريكا بولاياتها المتحدة قسراً … كأنها على فوهة بركان لا ندري متى يثور ؟!
الخاتمة يلخصها محمد قره سو عن أوجلان :
من أكثر المصطلحات التي يتوقف عليها السياسيين وعلماء الاجتماع في القرن العشرين هما مصطلحا – الأمة والقومية – إن التاريخ لم يَعرِف مصطلحاً أستخدمَ أكثر من هذين المصطلحين. ولا نُبالِغ إذا قُلنا بأن أغلب المسائل الإنسانية يكمن حَلَّها في فهم واستيعاب هذين المصطلحيين (الأمة والقومية)، كما أن القائد الكردي عبدالله أوجلان في مرحلة تعمقه الفكري داخل سجن إمرالي قَدَّمَ تقييماً و تحليلاً علمياً لكلٍ من هذين المصُطَلَحين، وظاهرة الدولة فماذا يعنيان للانسانية؟، وتوقف عليها بكل جدية ودقة ملفتة للانتباه، حتى أن العديد من علماء الاجتماع أكدوا بأن الدولة والقومية هما الواقعة التي أوصلت القضايا الإنسانية إلى وضعٍ مُعقّد، ونتيجة عدم تقييم هذين المصطلحيين بالشكل العلمي وفق المصالح الإنسانية، فإن عواقب هذه العقدة ظاهرة للعيان، وخاصة ما يعاش من قضايا صعبة ومعقدة في الشرق الأوسط، فإن حلها يُكمَن في أخذ هذه العواقب مَحْمَل الجد والبدء بمحاولة إيجاد الحلول المناسبة والصحيحة لها. حقيقة هذه المصطلحات وما عاشته من ديالكتيك عبر المسيرة التاريخية للإنسانية، ألحقت بالإنسانية آلاما ً فظيعة، ولكن مع وصول الإنسانية إلى مستوى كبير من الوعي والمعرفة عَبَّرَت عن مقدِرتها لتجاوز هذه الآلام والمعاناة وذلك بتحقيق ذهنية الأمة الديمقراطية. ولهذا سنعمل على عرض كيفية تشخيص هذه المصطلحات في يومنا الراهن. مثل مصطلح (الدولة الوطنية)، (القومية) والدور الذي ستقوم به هذه المصطلحات والنتائج المترتبة عليها سواءً اجتماعياً أو اقتصادياً أو ثقافياً.