الشرق والغرب ما بين أنموذج الدولة القوميّة وما بين الديمقراطيّة المجتمعيّة
شيران زاده
شيران زاده
الدولتيّة الشرق أوسطيّة
نبتدئ بمقتطف لموراي بوكتشين حول هذا الموضوع يقول فيه: (ظهر التحوّل من الهرمية إلى المجتمعات الطبقيّة على مستويين؛ المادّيّ والذّاتيّ، فقد تجسّد الجانب المادّي في بروز المدينة والدولة وتقنيات السلطة والسوق الاحتكاريّة ضمن بوتقة محكمة جدّاً، بالتوازي مع التحوّل الذّاتيّ الذي وجد تعبيره في الوعي والقيم الجسديّة القمعيّة بطرق مختلفة، حيث عملت على عقلنة الخبرة بشكل كلّي بما يتوافق مع أشكال الطاعة القسريّة والأوامر الصارمة، وهذه الذهنيات المبتورة، من الممكن الإطلاق عليها إبيستمولوجية السلطة والحكم.) إذاً نستشف من قوله أنّ الدولة تعتمد على الهرميّة والطبقيّة بالدرجة الأولى، وأساس تواجدها في المدينة، وزادها الاحتكار، ووقودها عقلنة الخبرة أي ترويض الفكر عبر آليات غسيل الدماغ، وآلياته تكمن في العنف الذهنيّ والجسديّ، وشعارها في الحياة هو الهيمنة والسلطة والتسلّط.
فإذا كانت الثورة النيوليتيّة (ثورة المجتمع الطبيعيّ الزراعيّ) أوّل ثورة في الوجود، فستعدّ الدولة الثورة المضادة لها، وقد شيّدها العقلية الأبوية السلطوية، بعد أن سرق آنكي ماءات إينانا، وما أغاني الشعراء والمسرحيين وكتّاب الأساطير السومريّة والبابليّة إلا حنين لذاك المجتمع الأموميّ الطاهر، وما كانت محاولات جلجامش إلا للسيطرة على الطبيعة من خلال السيطرة على آنكي وترويضه وجلبه إلى المدينة وإغوائه بالمرأة التي شوّهتها المدينة بعد أن حوّلتها أمَةً ومومساً في بلاط الأمراء، وما بحث جلجامش عن الخلود إلّا بحثٌ عن الحياة التي فقدت بهاءها بعد أن تحوّلت الإدارة إلى سلطة، فما عاد يهنأ وما عادت حياته تستقرّ إلّأ في البحث عن ماء الخلود، ليصل إلى درجة الحياة التي فقد قيمتها بعد أن بنى الأسوار وتغلّب على الطبيعة وآلهتها.
مازلنا حتّى اليوم نقاد نحن الشرقيين من قبل المنظومة الرهبانيّة السومريّة المشوّهة، ومازالت عقلية الطبقات التي تعدّ عالة على المجتمع لا تستطيع أن تفكّر بعيداً عن بوتقة الرهبان السومريّين التي تحاصر ذاكرة التسلّط والهيمنة.
إنّ السلطة البطريركيّة أيّ السلطة الأبويّة الحاكمة التي سارعت في تقدّمها في الألف الرابع قبل الميلاد (4000ق.م). حيث اكتسبت الحاشية العسكرية قوتها في المجتمع، ورافقها ظهور الصراعات القبلية المتعاقبة والمحتدمة، قد تطوّرت من أحشاء المجتمع الأمومي الطبيعي، وتنامت واستفحلت، حتّى وصلت إلى الحداثة الرأسماليّة، وتعتبر هذه السرقة أسوأ سرقة ونهب في التاريخ، وما مظاهر القتل والدمار والإبادات واستعراض القوّة والشهوة والدمار إلّا استمراراً لهذه السرقة الكبرى حتّى وقتنا الراهن من خلال التجسيد العملي لهذا النهب التاريخي المتجسّد في داعش.
قبل خمسة قرون من الآن رأى فرانسيس بيكون أنّ الفلسفة ما عادت نتفع، فنفى الماضي نفياً قاطعاً، وآمن بالعلم وبقدرته إيماناً مطلقاً على تحسين أحوال البشر، فجعل العلم أداة في يد الإنسان، تعينه على فهم الطبيعة، وبالتالي السيطرة عليها، وآمن بسيادة الإنسان على المخلوقات جميعاً، ثم أدّى فساد العلم إلى فقدان هذه السيطرة، ومن هنا كانت غايته مساعدة الإنسان على استعادة سيطرته على العالم، فكانت وسائل العلم والبحث العلميّ هي الأداة الوحيدة للغرب في تحليل أيّة مشكلّة ووضع الأسباب لها ووضع الحلول قياساً على الاستنتاج الحتميّ لهذه المعادلة الرياضيّة التي تعتمد على وسائل العلم في (الاستنباط، الاستقراء، النظريات والبراهين، الأدلة، العيّنة، التجربة، الاستبيان، الملاحظة، الاختبار…) وكلّ ذلك يعتمد على الإدراك والحواس الخمس، وبات شعار التجربة خير برهان هو الفيصل والحسام الحقيقيّ لكلّ ظاهرة من الظواهر، إذاً أضحى العلم هو السبيل الوحيد للمعرفة، لذلك كان تحليل الأمور ومنها تحليل الشرق الأوسط بهذا المقياس، لذلك ظهرت الأزمة إلى الوجود، ومازالت تلك الأزمة تتجدّد منذ مئة عام على الأقل إلى الآن، لكنّ المجتمع في الشرق الأوسط لم يستسغ هذه الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعرفة، لذلك لم يستسغها.
كان الشرق الأوسط مهد الأيديولوجيّات سواء المفيدة للمجتمع أو التي أثّرت بشكل سلبيّ عليه، لكن الحداثة الرأسماليّة لم تغذِّ سوى الأيديولوجيّات المتطرّفة السلبيّة على المجتمع التي تفكّكه وتخرّبه، كالأيديولوجيّة السلفيّة الإسلاميّة الأصوليّة الراديكاليّة اللاإنسانيّة الرعبيّة الإرهابيّة، وهي تتقاطع مع القومويّة العنفيّة التي لا ترى أمامها سوى صهر الشعوب في بوتقة الأمّة الأكبر عدداً، وبذلك يتحقّق تنميط المجتمع ووضعه في بوتقة واحدة وقالب واحد.
إنّ أنظمة السلطة وأنظمة توزيع الثروة قد اتخذت اليوم طابعاً عالميّاً، وصار مركز النظام المهيمن؛ أميركا، ومركز التجارة العالميّ؛ نيويورك، ومركز المدينة؛ ول ستريت، مقرَّ الرأسمال العالميّ، وكلّ ملفّات الاحتكار العالميّ تُدار من هناك، كما كانت لندن سابقاً وستوكهولم والبندقية وباريس… إنّها المركزيّة التي تقلّد مركزيّة أوروك، أور، بابل، بغداد، دمشق…
وكما قال وارن بوفيه؛ ثالث أغنى أغنياء العالم حينما سئل: عمّا إذا كان هناك صراع طبقي، قال: (مؤكد، هناك صراع طبقي. طبقتي، طبقة الأثرياء، هي الطبقة التي تخوض هذا الصراع، ونحقق الانتصارات. مهمتنا فيما أرى أن نقلب الآية، ألّا نجعل طبقته تنتصر. ولكي نفعل ذلك علينا أن نتخلص تماما من الطريقة النيولبرالية الحاكمة لرأسماليتنا المعاصرة.) مع أنّ وارن بوفيه قد تبرع ب 99% من أمواله ولم يبق سوى على 1% من أمواله لأولاده، وما المعنى من أن يمتلك 1% من أميركا ما يمتلكه 99% من هذا المجتمع، إذاً أدرك بوفيه أنّ الحياة الحرّة هي أن تعيش ضمن 99% من المجتمع، لذلك لم يرتض لأولاده أن يعيشوا ضمن مجتمع 1%، لقد كان يدرك أن هذه 1% تكفي أولاده، وبتصريح منه؛ (لئلا يفسدوا كما فسد هو)، وكذلك جاكي شان الذي تبرّع بكامل أمواله ولم يبق شيئاً لأولاده، وكذلك 9 من 10 من أغنى أغنياء العالم فعلوا نفس الفعل، أي كانوا يدركون أنّ المال مفسد للناس.
إنّ صرخات نيتشه لم تسمع في الغرب، وعلينا كشعب الشرق الأوسط أن نستمع إلى حلوله الميتافيزيقيّة والفلسفية والدينيّة والعلميّة، ليس الحلّ العلميّ أحاديّ الجانب الغربيّ الذي فتح مراكز دراسات ضخمة تحلّل الشرق الأوسط بنظرتها الوضعية وتصرف عليها مليارات الدولارات سنويّاً، وما أولئك العلميّون الوضعيّون الذين ارتهنوا للمخفيّ وجعلوه مجهولاً، لا ينظرون إلا وفق ما تمليه عليهم نظّاراتهم التي صنعتها الحداثة الرأسماليّة، ومازالوا يستهزئون بالذين يصلون إلى الحقيقة والمعرفة عبر زوايا المعرفة الأربعة التي ذكرناها (العلم، الميتافيزيقيا والميثولوجيا، الفلسفة، الدين) وهي النظرة التي يمكن تسمّيتها ب 4D ، وهي الشاشة المستخدمة في بعض دور السينما، التي تمكّن من الإحاطة بالموضوع المعروض أكثر من الصورة أحاديّة الجانب.
يرى إيمانويل والرشتاين أنّ القوة الأميركية تنحو نحو الانحدار، والولايات المتحدة في عالم فوضى؛ ولم يعد يجدي خطاب القوة، وأفول نجم الهيمنة الأمريكية قد خلق مجالاً للصراع على الهيمنة، إذْ يؤكّد والرشتاين أنّ صعود الدمقرطة حتميّ في منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره، بعد تراجُع النزعة الليبرالية، حيث أنّ الأساس في ولادة الليبرالية هي حصر وضبط الطبقات الاجتماعية الخطيرة برأيه، أولاً في دول المركز التاريخي ثم في داخل منظومة النظام العالمي كله، وكان الحل الليبرالي هو في منح هذه الطبقات منفذاً محدوداً إلى السلطة السياسية كما يصور والرشتاين.
لقد أضحى الشرق الأوسط مستنقع الحداثة الرأسماليّة الأوحد في العالم، فتخبّطت وانهزمت كثيراً، على الرغم من صولاتها وجولاتها، وما خلْق حالات الفوضى والدمار والهلاك في العالم الذ ترى أنّها سيّدتها الأولى إلا تعبيرٌ واضح لعجزها، حيث صرفت الكثير الكثير من أموالها التي سرقتها من هذا الشرق الدامي وصرفتها على هذه المنطقة، وقد فشلت الحلول الوضعيّة في هذه البقعة، وبات العقم مسارها.
الشرق الأوسط مخبر التجارب للرأسماليّة العالميّة
إذا ما قارنّا بين ثقافة الحداثة الرأسمالية التي سادت العالم خلال القرنين الأخيرين، وبين ثقافة الشرق الأوسط الممتدّة حوالي ثلاثمئة ألف عام على نحو مركزيّ، فيستحيل الإيمان بانتصار هذه الثقافة الوليدة، واستسلام ثقافة الشرق الأوسط لها، وما خيبات الحداثة الرأسماليّة في الشرق الأوسط منذ ولادتها حتّى الآن إلا دلائل على ذلك.
والحرب في الشرق الأوسط قد تفاقمت بعد أن تجرّعت أوروبا مساوئ الحداثة الرأسماليّة إثر انهيار المنظومة الاقتصاديّة الدولتيّة التي أقصت الشعب وأدخلته في متاهات الماضي والحاضر والمستقبل والإيديولوجيات والحداثة الرأسماليّة، و حروب الإسلام السياسيّ الراديكاليّ والمتوحّش المسخ المتجسّد في داعش وتوابعه والمعتدل وصراعه على السلطة والدولة بعيدة عن هذا الموضوع، فالموضوع هو الصراع الذي خلقه التلاقح بين هيمنة الحداثة الرأسماليّة وبين المجتمع الذي لم يتقبّل هذه الحداثة الرأسماليّة لعمق التاريخ الحضاريّ المجتمعيّ في الذهنيّة الشرق الأوسطيّة، وعلى الرغم من الجيش الإعلاميّ والمعلوماتيّ من قبل العلماء المدرّبين في المدرسة التي تروّج لليبراليّة الغريبة عن ثقافة المنطقة، لذلك نرى من يتمرّد على هذه الحداثة الرأسماليّة بعد أن تقوى شوكته قليلاً فيرى نفسه أعلى من أولئك الغربيّين الغريبين الذين أوصلوه في الأساس إلى سدّة السلطة.
إنّ الرأسمالية تعتبر الشذوذ الاجتماعيّ على مرّ التاريخ البشريّ، والمتعارض مع الديالكتيك الكونيّ للطبيعة، وما كانت لتنتصر في أوروبا لولا انزوائها في جزر بريطانيا بعيداً عن صراعات المذاهب وحروب المغول والعثمانيين والصين المنزوية، والشعب الذي لاقى الويلات من حروب السلطة والدولة، فكان هذا الجو هو المناخ الملائم لانزواء الرأسماليين والبحث عن أرض وأرضيّة جديدة تنقل إليها مالها وتؤسس إمبراطوريتها الكونيّة، وعبر التحالف مع الرأسماليين اليهود اليمينين الحالمين بالعالمية للبحث عن آلية وبيئة مناسبة تنشط فيها فكرها المهيمن على المنطقة، فوصلت إلى نتيجة مفادها (اخلق حالات الفوضى لتستطيع أن تصطاد) وما هذه الفوضى العارمة التي تجري في الشرق الأوسط إلّا المرتع الخصب لنشاط الحداثة الرأسماليّة.
إنّ معاناة الشباب والعمال اليونانيين من وطأة عنف تدابير التقشف في السنوات الأخيرة؛ حيث تمّ تسريح ثلاثمئة ألف عامل من وظائف الدولة، وظهر الانخفاض الحاد في الأجور، وتمّ إغلاق العديد من الخدمات العمومية (المستشفيات والمدارس والجامعات). وانتشرت حالات البؤس الاجتماعي في البلاد؛ كلّ ذلك كان نتيجة الحداثة الرأسماليّة التي دفع الشعب اليوناني ثمناً باهظاً لها رغم الثقافة اليونانيّة التي تعدّ الأقدم في أوروبا، فكانت هذه النكسة الوبال الذي ألمّت بالمنظومة الرأسماليّة العالميّة، وتعدّ النتيجة الكارثيّة من نتائج هذه المنظومة اللاإنسانيّة بل هي الحالة الطارئة على التاريخ البشريّ، فكيف لشخص واحد يستطيع من خلال التلاعب المالي أن يحصل في يوم واحد على أموال تعادل نكسة دولة كاليونان.
لقد كان الهجومُ المدبّر المؤامرتي على برجي التجارة العالميين في نيويورك في 2001 مبادرة لبدء النظام الرأسماليّ بـ”الحرب العالمية الثالثة”، فلجأ إلى الإسلام الراديكاليّ القناع الأيديولوجيّ الجاهز، بعد أن أعلن الناتو أنّه العدوّ الجديد إذْ أنّ السلام يهدّد الحداثة الرأسماليّة دائماً، فسنوات السلم تجلب الانهيار الاقتصاديّ.
فاستخدمت هذا القناع الإيديولوجيّ وضخّمت من حجم طالبان وبن لادن، وبالغت في تصويره غولاً مع أنها كانت تستطيع القضاء عليه في أيّة لحظة كانت، لكنّ المنظومة العالميّة لم تقضِ على بن لادن إلّا بعد أن تحقّقت مآربها في العراق إثر استهداف الدولة القوميّة التي صنعتها في الشرق المدمى مختبر التجارب للرأسمايّة العالميّة، وما هذه الفقاعة المسخيّة المتجسّدة في داعش إلّا النتيجة النهائيّة لهذا المختبر، وهي دلائل عجز هذه المنظومة في البحث عن حلّ تستطيع فيه أن تصدّر مشاريعها الليبراليّة بهدوء دون أزمات وضرائب، فحلّ الحداثة الرأسمالية وأنظمة الدول القومية تُعتَبَرُ بحدّ ذاتها سبب كلّ تلك المآسي والنكبات الكارثية الكبرى المُعاشة، فقد غدت غير قادرة على إعادة طرح نظامها هذا، والأنظمة التابعة له على أنّها الحلّ المرتقب.
إنّ مصطلح الحلّ المجتمعيّ الديمقراطيّ المتجسّد في مفهوم (الأمّة الديمقراطيّ وأداتها الإدارة الذاتيّة) ليس نتاج مصطلح “الدمقرطة وحقوق الإنسان” الذي طوّرته الليبرالية “الأيديولوجيّة الرسميّة للحداثة الرأسماليّة” التي سعت أبداً إلى تمييع مصطلح “الاشتراكيّة وحقوق الفرد”، وكونها غير ديمقراطية، إلّا أنّها تتقمّص الرداء الديمقراطيّ، فهي تعبّر عن أيديولوجيّة النظام الذي يكتسح وينفي حقوق الإنسان، لكنّ نظريّة المجتمعيّة والحداثة الديمقراطيّة تزيل اللثام عن أولئك الملوك المقنّعين، وتظهر كينونتهم الحقيقيّة، الذين لا يفتؤون أن يلجؤوا أبداً إلى حلّ كلّ قضية وطنية وقضية الأقليات تأسيساً على الإكثار اللانهائيّ من سلطات الدولة، بيد أنّ القمع والظلم والحروب والاستغلال اللانهائيّ وشتّى أشكال القضايا الاجتماعية والوطنية تتكاثر مع زيادة عدد السلطات والدول القومية التي هي بمثابة مراكمة رأس المال المؤسساتيّ.
لقد طوّرت نظرية الحداثة الديمقراطية موقفها في هذا الشأن متمثلاً في الأمة الديمقراطية كنتيجة للحلّ الديمقراطيّ؛ فالأمّة الديمقراطية هي قيام الشعب بنفسه بتحقيق تحوّله الوطنيّ والتحول إلى أمة عبر التسيس اللازم لأجل ذلك، دون الاعتماد على السلطة أو الدولة.
إبادة الآثار أعظم مثال على فشل الدولة القوميّة
إنّ تغيير معالم التاريخ في الشرق الأوسط مرتبط بالضرورة بهذين القرنين اللعينين على العالم برمّته، وعلى الشرق على وجه الخصوص، فقد ظلّت الثقافة المتجسّدة في المعابد التاريخيّة والمساجد والقلاع والأوابد… مصادر قلق لمن لا يمتلك أحقّيّة في إنشاء الدول القوميّة التي تعتمد على الأكثريّة في الدول المخترعة.
لا بدّ من الإشارة إلى التفكير البريطانيّ الذي شجّع على الدولة القوميّة في أوروبا والشرق الأوسط على وجه الخصوص؛ لما تحتويه أيديولوجيّة الدولة القوميّة من تراكم للربح، وفائض للإنتاج، ولهذا دأبت الدول في الشرق الأوسط على استخدام هذا النموذج التدميري في إنشاء دولها القوميّة.
لسنا بصدد عرض تاريخيّ لهذه الآفة التي نخرت جسد شعوب الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص الشعب الكرديّ الذي لاقى الويلات على يد الدولة القوميّة، وخاصة الدولة التركيّة، ولماذا الدولة التركيّة على وجه الخصوص؟ هنا لسنا بصدد العدد الكبير للكرد المتواجد في الدولة التركيّة مقارنة بسوريا والعراق وإيران، لكنّ العرق التركيّ الذي يعدّ جوهر الدولة التركيّة مقارنة بالعرق العربيّ والفارسي نجده ضعيفاً جدّاً جدّاً، لا سيّما أنّ هذه الدولة التي تحاول منذ قرن أن تثبت عراقة الشعب التركيّ، غير المطلوب منه أن يقع في هذه الإشكاليّة.
وبما أنّ الشعوب لا تمتلك وسائل وأدوات السلطة المعرفيّة الدولتيّة فلذلك تنقّب الدولة في الآثار والأوابد فتظهر ما يجب أن يقوّي دعائم دولتها، وتخفي ما يجب أن يُخفى، وتزوّر ما يجب أن يزوّر، فتُعرّب تارة، وتُترِّك أحياناً، وتُفرِّس طوراً، لكنّ الدولة العربيّة لم تُلاق الكثير من المشقّات لا سيّما أنّ كل الجوامع والمساجد هي من نتاج الفكر العربيّ الذي دمج الإسلام بالعروبة، وكذلك الفرس الذين لم يُجهدوا أنفسهم في نعت كلّ شيء كرديّ من نتاج اللغة الفارسيّة لأنّها أخت اللغة الكرديّة ومن نفس المنبت، لكن ماذا ستفعل الدولة التركيّة سوى اتّباع خيار الإبادة الثقافيّة والصهر الثقافي، فليس لها حلّ سوى هذا النموذج.
لذلك نرى الدولة التركية تمحو الصروح الحضاريّة العربيّة والفارسيّة والكرديّة، بعد أن أبادت الأرمن عن بكرة أبيهم، وتخلّصت من الروم والآذر…، وصارت اللغة التركيّة دليلاً على الرقيّ والتحضّر، وكلّ من يتحدث غير اللغة التركيّة هو خائن للأصابع الأربعة التي يرفعها أردوغان دائمًا.
فآثار حسنكيف في باتمان في شمالي كردستان الرازحة تحت حكم الدولة التركيّة التي تقع في سلسلة الإبادات الثقافيّة، في كردستان، بحجّة السدود التي بنتها الدولة التركيّة، لتطمر هذه الآثار تحت الماء وتخرج بمشروع زيارة تلك الآثار تحت الماء، وتدميرها علانية قبل فترة مكاناً أثرياً هناك، وفعلت ذلك في معظم كردستان… في ديرسم وأورفا ووان وغيرها من المدن الكردستانية، وقد ألغت حالات التنقيب والكشف في معبد كوبكلي تبه الذي يعود إلى اثني عشر ألف عام، حيث سيغيّر هذا المعبد التاريخ كلّه، فإبادة الآثار أعظم مثال على فشل الدولة القوميّة.
الصراع ما بين ثقافة الغرب والشرق
ظلّ الغرب ينسب مهد الثقافة إلى التاريخ اليونانيّ، وظلّت تلك الأمومة المفترضة هي المنطلق النظريّ لتاريخ الثقافة من وجهة الغرب الذي أثّر على العالم بأسره، وحاولت الحملات الاستشراقيّة ترويج هذه الأطروحة، لتكون قرآن المثقفين، التي تقول: “إنّ الثقافة انقطاع وتحرّر من الدين والميثولوجيا، وأنّ الفلسفة اليونانيّة هي المنطلق لكلّ نظريّة ثقافيّة في الفكر البشريّ برمّته”.
وقد استطاعت الاكتشافات الأثريّة في الشرق الأوسط أن تفنّد هذه النظريّة، وكذلك حضارات أورك وتل حلف وكوبكلي تبه…التي تعود إلى ما قبل بزوغ الحضارة اليونانيّة بآلاف الأعوام، وبات البحث من خلال هذه الحقيقة التاريخيّة يسيراً من قبل بعض المفكّرين الذين لم يروج لهم الغرب في عصر القوّة الغربيّة عن طريق ترسانتها الإعلاميّة أن ظلّت تروّج لنظريّتها في أصالة الغرب في قيادة العالم فكريّاً وثقافيّاً وتنويريّاً…
لا يمكننا إغفال عظمة النهضة الفكريّة الغربيّة التي تعدّ ثورةً في عالم الثقافة، ولا يمكننا المرور مرور الكرام على هذه الثورة الثقافيّة عند الغرب، لكنّ لا يمكننا على الإطلاق بتاتاً أن ننفي أصالة الشرق وأمومته، ولا يمكن نفي التطوّر الثقافيّ البشريّ من تطوّر الإنسان وانتقاله من طور البدائيّة إلى الوصول إلى المجتمع الطبيعيّ قبل نشوء السيطرة والسلطة الذكوريّة، فبالتالي أيّ انتقاص من هذا التاريخ هو نسف للتراكم التاريخيّ المفترض.
ومن جهة أخرى هناك إيقاف لتاريخ التفكير لدى المرأة من خلال احتكار الرجل للفكر والثقافة، وعرقلته تطوّر الفكر الأموميّ أو النسائيّ، وبالتالي باتت الثقافة أحاديّة الجانب، وأصيبت تركيبة الذات والموضوع بالخلل الجدليّ، وبعدم التكامليّة؛ من المفترض أنّها موجودة في الطبيعة، وباتت الثقافة سيطرة على الطبيعة ومنفصلة عنها.
لا يمكن أن ننفي الثقافة عن الدين، ولا يمكن النظر إلى الميثولوجيا على أنّها ابتعاد عن الثقافة، فبصورة أو أخرى لا يمكن أن ننظر إلى أيّة مرحلة من مراحل التطوّر المجتمعيّ بنظرة انعدام الثقافة، لكن الفخّ الذي وقع فيه الشرق هو الانزواء في الدين وعدم التخلّص من مقولات عمرها ألف وأربعمئة عام، ومن هنا ظهرت الدوغمائيّة التي قيّدت الفكر الشرقيّ، وجعله يراوح مكانه، وأعطى فرصة للغرب كي يتحرّر من هذه الدوغمائيّة ليقوم بثورته، لكن بطريقة مبتورة أيضاً، وذلك من خلال التخلّص من الروح وتقديس العلم وتأليهه، ونفي صفة الثقافة عن الدين والميثولوجيا، وكذلك عن الفلسفة أيضاً، وحصر الثقافة في العلم، ممّا جعلت الثقافة تنحو نحو الماديّة الخاليّة من المعنويّة، وتغلغل المعنويّة في الشرق الخاليّة من الماديّة، واستيراد تلك الثقافة الغربيّة، وبالتالي اغتراب الشرق عن أصالته.
فلا ثقافة دون استيعاب بنى الأساطير والدين والفلسفة للمجتمع، ومعرفة الاتحاد المنفعي للتاريخ التراكمي لرأس المال والسلطة التي تثور عليها. وإنّ رسملة وسلطنة العلم وتأليهه، جعل المجتمع يعيش حالة ضياع واغتراب عن جوهره، وظهرت في الشرق التيارات التي باتت تنفي بعضها البعض؛ “فإمّا الانقطاع عن الماضي أو العيش في الماضي”.
الموضوع هو طمس الهوية الثقافيّة لا أكثر
يتّكئُ الديركي البوطانيّ على فراش ذكرياته على الجسر الروماني ليتأمّل الجندرما الأتراك وهم مشدودون إلى جدار الزيف بين غربيّ وشماليّ كردستان والعار لا يعلو جبينهم، بل يتباهون به. حيث يقرّرون عن صاحب الأرض أنّه صاحب الأرض الفعليّ، وأنّ الكرديّ غريبٌ، وهم يريدون أن يطمروا الماء المنبعث من طهر الأرض ليغمروا طهر الأرض المنبعثة من عبق التاريخ، لِيتأمّل الكرديّ الشمالي من هو قابع في الجنوب ولينظر الجنوبي بتحسّرٍ إلى الغربيّ في مثلث برمودا؛ مثلث الإبادة البوطانيّة الذي غيّروا اسمه إلى جزيرة ابن عمرو أو غيّروا اسم ديريك إلى المالكية أو الحنبلية لا أدري أهي طرق صوفيّة أم هو إسلام سياسيّ أصولي يسعى إلى تغيير كلّ أبجديات التاريخ والحضارة والثقافة.
جزيرة بوطان أو جزيرة ابن عمر هي التاريخ الثقافي القديم والقديم جداً، هي التاريخ الذي يقضّ مضاجع القومويين الترك الذين لا مكان لهم في أي أثر ينبش تحت الأرض، فكلّ نبشٍ للتاريخ يعني فناء الدولة التركيّة القومويّة؛ مصدر الهلاك في الشرق الأوسط، حيث لا مكان للترك فيه، فعملية صهر تاريخ الشعوب الأصيلة، أو تغيير ديموغرافيتها، أو تعريبها، أو تتريكها أو تفريسها، أو محو كلّ الآثار الموجودة على جغرافية كردستان هي عمليّة منظّمة تحاول الدولة التركيّة أن تجعلها نبراساً لها، ومبدأ تمشي عليه ابتداء بمنظومة الاتّحاد والترقّي الإبادية الصهرية وصولاً إلى منظومة العدالة والتنمية التي يترأسها سفاح العصور؛ أردوغان.
وهذه العملية الإبادية للثفافة التي طوّرها أردوغان بعد أن نفّذها بشكل متقن في شمالي كردستان من خلال محو المعالم الثقافيّة حول حوض الفرات وتغيير شكلها الثقافي من خلال طمر الأوابد تحت مجرى النهر الجديد؛ عبر السدود التي كانت غايتها الأولى والأخيرة طمس الهوية الثقافية الكردية في شمالي كردستان أي في جنوب شرقي تركيا، وعمليات التهجير المنظّمة والحرب الشعواء على المدن الكردستانيّة (آمد، نصيبين، جزرة، سلوبي، شرناخ…) انتقل إلى روج آفا، ابتداءً بعمليات التطهير العرقيّ في مناطق الشهباء، حيث دمّر معظم القرى الكرديّة هناك، وهجّر الكرد وقتلهم وسجننهم وأذاقهم الويلات سواء عن طريق قوّاته مباشرة من خلال الاحتلال العثمانيّ الجديد لمناطق الشهباء، أو من خلال أعوانه الحاليين قوّات درع الفرات، أو سابقاً من خلال حليفه الذي غدر به؛ داعش الذي طمس كلّ الأوابد حول الفرات ودجلة في غربيّ وجنوبيّ كردستان.
والآن يحاول أن يغّير الإباديّ مجرى نهر دجلة، بعد أن غيّر هو وأسلافه الفرات، والهدف منه غمر الجسر الروماني (جسر بافل)، وهو الجسر الأثريّ الذي يعتبر مرتعاً للذاكرة التي لا تهدأ، وإن كان الجسر يعبّر عن فترة احتلاليّة لا تمتّ إلى كردستان والعدوّ يدرك ذلك، لكنّ ما يقضّ مضاجع القومويين الفاشستيين أمثاله هو طمس الثقافة والتاريخ، فلذلك يسعى منقطعو السلالة إلى قطع كلّ السلالات الأصيلة، وبتر الإنسان عن تاريخه، فالموضوع ليس إبادة الكرد فحسب، وإنّما الموضوع هو طمس الهوية الثقافيّة وطمرها لا أكثر.
حول الإبادة الثقافية والجسدية
يقول قائل: (إنّ ظاهرة الإبادة ظاهرة موجودة في الطبيعة.) لكن الطبيعة تستخدمها حفاظاً على التوازن البيئي الأيكولوجيّ، وهي ظاهرة أخلاقيّة في الطبيعة، لكنّ الإنسان من خلال وصوله إلى السلطة وبحكم القومويّة الضيقة والجشع السلطويّ غير الطبيعيّ البعيد كلّ البعد عن الطبيعة والأخلاق، يستخدمها لأسباب كثيرة تنصبّ كلّها في خدمة لا إنسانيّته وهمجيّته ولا أخلاقيّته بالضرورة، وتدلّ على أنّ السلطة والقومويّة والصناعويّة وفائض الإنتاج عالة على المجتمع وعلى الكون بأسرِه.
إنّ الإبادةُ الثقافية شكل من أشكال التطهير العِرقيّ أكثر تعذيباً وخطورة مقارنة مع الإبادة الجسدية، وتمتدّ على سياق طويل الأمد. حيث أنّ النتائج التي تفرزها أفظع مما هي عليه الإبادة الجسدية، وتعادل أشدّ أنواع الفواجع وأقساها، مما قد يعانيه شعب ما. ذلك أنّ الإجبار عن التخلّي عن الروح – الهويّة؛ أيّ استئصال الذات الجماهيريّة من مضمونها الحياتيّ، وإفراغ المعنى وإعطائها شكلاً لا يمتّ بصلة إلى شكلها البنيويّ المتهشّم.
ولم تكن قبيلة الفَندال أوّل من استخدمت فكرة الإبادة الثقافيّة في سنة 455م بعد اقتحامهم مدينة روما وبعد أن عاثت فيها فساداً وخرّبتها تخريباً عظيماً، لا سيما في الآثار الفنية والأدبية. بل كان الآشوريون وغيرهم من البابليين والسومريين الذين سكنوا موزوبوتاميا قد مارسوا عمليات الإبادة الجسدية والتهجير المنظّم، وقد مارس الأتراك بعد ألفي عام مذابح مماثلة لما فعله الآشوريون وذلك بحقّ الآشوريين أنفسهم، فقد بدأ الأتراك بسلسلة مذابح وإبادات جسدية منها مذابح سيفو وتعرف كذلك بالمذابح الآشورية أو مذابح السريان ، والتي تطلق على سلسلة من العمليات الحربية التي شنتها قوات نظامية تابعة للدولة العثمانية بمساعدة مجموعات مسلحة شبه نظامية استهدفت مدنيين آشوريين/سريان/كلدان أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى. وقد أدت هذه العمليات إلى مقتل مئات الآلاف منهم كما نزح آخرون من مناطق سكناهم الأصلية بجنوب شرق تركيا الحالية وشمال غرب إيران.لا توجد إحصائيات دقيقة للعدد الكلي للضحايا، غير أن الدارسين يقدرون أعداد الضحايا السريان/الآشوريين بين 250,000 إلى 500,000 شخص، كما يضاف إلى هذا العدد حوالي مليوني أرمني ويوناني قتلوا في مذابح مشابهة معروفة بمذابح الأرمن ومذابح اليونانيين البونتيك. لكن على عكسهما، لم يكن هناك اهتمام دولي بمجازر سيفو، ويعود السبب إلى عدم وجود كيان سياسي يمثل الآشوريين في المحافل الدولية السلطويّة المتعاقدة فيما بينها. كما لا تعترف تركيا رسمياً بحدوث عمليات إبادة مخطط لها.غير أن عمليات الإبادة لم تبدأ حتى صيف 1915 عندما دفعت جميع آشوريي جبال حكاري إلى النزوح إلى أورميا كما تمت إبادة وطرد جميع الآشوريين/السريان/الكلدان من ولايات وان وديار بكر ومعمورة العزيز.وقد أدت سلسة المجازر هذه بالإضافة إلى المجازر الأرمنية وعمليات التبادل السكاني مع اليونان إلى تقلص نسبة المسيحيين في تركيا من حوالي 33% قبيل الحرب إلى 0.1% حاليا ونزوح مئات الآلاف من الآشوريين/السريان إلى دول الجوار.
وضع الكرد في ممارسات الإبادة الثقافيّة
يعدّ وضع الكردِ من أكثر أمثلة الإبادة الثقافية تراجيديّة مقارنة مع شعوب الشرق الأوسط، فقد كان نصيبهم الجوع والبحث عن لقمة العيش والألم والضياع والبطالة، وذلك من خلال إخراجهم من كونِهم واقعاً على صعيد الأمة والوطن، في كافّة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية…
وقد وصل الكرد مرحلة باتوا فيها يخافون من لغتهم الكرديّة، بل أضحوا يخجلون منها ويهربون منها، وكأنّ الحضارة والمدنيّة والرقيّ في التخلّص من هذه اللعنة، فصارت الكردياتيّة منحلّة، حتّى أنّهم ابتعد فيها الكرد عن تاريخهم وذكرى مجازرهم، فأصبحوا لا يعلمون شيئاً عن الإبادات المرتكبة بحقهم، فإذا أحصينا عدد الإبادات التي ارتكبت بحقّ الكرد وقارنّاها بأيّة إبادة أخرى لشعب آخر في منطقة الشرق الأوسط فسنرى الفرق شاسعاً، فالشعب الكرديّ يمتلك تاريخاً من مجازر الإبادة، فقد غدا الكرديّ مادّة شيئيّة لا كينونة له، مجرّداً من فرص العمل، مشتّتاً غائباً عن الواقع الاجتماعي والسياسيّ والثقافيّ مع إضافة عناصر الحداثة الرأسمالية الثلاثة الأساسية التي تطبّق على الجميع (نهب الربح الأعظميّ، ظلم الدولة القومية، والدمار الذي تسبّبت به الصناعوية).
لقد بات المجتمع الكرديّ مدمّراً اقتصاديّاً مع أنّه كان صاحب أوّل اقتصاد أمدّ العالم بالغذاء، وتحوّلت المرأة الكرديّة التي كانت مديرة المجتمع وبانية للاقتصاد إلى عاطلة عن العمل كلّيّاً وصارت صاحبة أدنى أنواع الكدح، إنّه مجتمع تشرذم فيه أفراده في كلّ أنحاء المعمورة مجرّداً من هويّته، بل مجرّداً من كينونته.
وكما يؤكّد قائد الشعب الكرديّ عبد الله أوجلان أنّه لم يبقَ للإنسان الكرديّ سوى طريق واحد؛ وهو الانصهارُ في بوتقة الدولة القومية المهيمنة، والتخلي كلياً عن قيمه الأساسية! ولا سبيل للحياة فيما عدا ذلك. ويبدو فيما يبدو، أنّ إبادة الكرد ثقافياً، والتي قد تَصِلُ بين الحينِ والآخرِ حدَّ الإبادة الجسدية، تتصدرُ لائحةَ الأمثلةِ الأكثر مأساويةً ولفتاً للنظرِ في الإشارةِ إلى حقيقةِ الحداثةِ الرأسماليةِ بكلِّ سطوعٍ وجلاء، إذ يعدّ الشعب الكرديّ الضحية الأكبر للصهر في الشرقِ الأوسط. فالإصرار على الكردايتية، يعني تحمُّل سياق يبدأُ بالتخبط في البطالة، ويصل حدّ التطهير العِرقيّ والإبادة. فأيّما كانت المهارات التي يتحلّى بها فرد كرديّ ما، فإذا لم يهضم طوعاً شتّى أنواع السياساتِ الثقافية التي تتّبعها الدولة القومية المسيطرة، فستوصَد على التوالي جميع الأبواب أمام تطوره الشخصيِّ والمؤسساتيّ. فإما أنْ يختارَ الاستسلام طوعاً ليرى كيف تفتح له الأبواب البالغة مرتبة تسنّم منصب رئاسة الجمهورية، أو أن يعرف كيف يتحمّل كافة أنواع البلاء والكوارث التي ستحلّ به، والتي ستصل حدّ التطهير والإبادة في حال اختار المقاومة وعدم الاستسلام.
إنّ الدفاع عن المجتمعِ يعني صون وحماية ثقافة الحياة العظيمة تلك، ودمقرطتها ونيل حريتها تجاه إبادة الحداثة لها. ولدى تفسيرِ تاريخِ المدنية على أنها حروب احتكارية، فستستوعب بنحوٍ أفضل أهمية صون القبائل والجماعات الدينية لوجودها وكينونتها وثقافتها بصفتها أشكال القوة الأساسية في الحضارة الديمقراطية.