زاخو زاغروس
طرح قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” العديد من النظريات الفلسفية الجديدة المعنية بالقضايا الاجتماعية وبجرأة لا مثيل لها، الى جانب توجيهات فتحت السبيل أمام الثورة الاجتماعية وثورة المرأة، ومن اهم هذه النظريات “قتل الذهنية الذكورية “الرجولة”، الانفصال الابدي، ايديولوجية تحرر المراة، نظرية “علم المراة ” والذي يعني باللغة الكردية “jineoloji “.
قبل أن أتناول ماهية علم المرأة، أود التطرق بايجاز الى المقصود من النظريات الانفة الذكر، لأن جميع هذه المصطلحات مازالت جديدة في علم الاجتماع، لذا سيكون من المفيد ادراكها بصواب وشمولية. لقد تم طرح نظرية “قتل الرجولة” في عام 1996 من قبل قائد الشعب الكردي “عبدالله أوجلان” كمبدأ اساسي من مبادئ الاشتراكية، حيث أكد من خلاله على أهمية التوقف على علاقة الرجولة المشيدة مع السلطة، العنف، العبودية، استغلال وغصب كدح المرأة وغيرها من المصطلحات الاخرى. إذا كانت الاشتراكية تعني تحقيق مساواة وحرية كل انسان، فيجب قتل الرجولة المشيدة من قبل الجنسية الاجتماعية، أي يجب العمل على تخطي أسس الرجولة التقليدية والرجعية التي تقتل وتضطهد الملايين من النساء يوميا وتحولت إلى بلاء على رأس البشرية. ابتعدت الانسانية عن جوهرها عبر ثقافة الاعتداء التي باتت تهاجم المجتمع وتؤدي الى ارتكاب مجازر يومية بحق النساء وحطت بالاخلاق إلى الحضيد. إن جشع الرجل في الحصول المال والنساء والسلطة اودى بالمجتمع البشري الى منحدر فظيع. فهل بامكاننا الحديث عن جيل حر ورجال احرار ضمن مجتمع تعاني فيه النسوة اقصى درجات الظلم والاضطهاد والتشرد والحرمان والاهانة والاعتداء الجنسي ومتجردن حتى من أبسط حقوقهن! وهذه هي العقدة الكأداء ونقطة السقوط التي تنهش يوميا في حقيقة مجتمعاتنا. لذلك يؤكد القائد “أوجلان” على أهمية البحث والتحقيق في الوضع الذي يعانيه الرجولة في مجتمعاتنا، ويرى بأنه ومن أجل تحقيق حياة اجتماعية حرة متساوية، هناك حاجة في البداية إلى التخلص من الأسس التي تعتمد عليها الرجولة في راهننا، وأيضا يجب وكمبدأ أولي القضاء على هذه الرجولة الهشة والمتعفنة التي تُفرز يوميا من قبل المجتمع الجنسوي وتعرض في الاسواق بأرخص الأشكال. بالطبع عندما نقول قتل الرجولة لا نقصد قتل الرجل جسديا، بل القضاء على جميع الخصائص البالية للنظام الذكوري السلطوي المستبد. وعندما تطرق قائد الشعب الكردي الى نظرية الانفصال الابدي فانه شمل كلا الجنسين والذي يعني انفصال كل من المرأة والرجل عن ذهنية المجتمع الجنسوي والتخلص من الادوار المكلفة بها من قبل هذه الذهنية. المقصود هنا، إذا لم يتم التخلص والانقطاع من القوالب الذهنية التي تفرض العبودية على المراة والسلطوية كوظيفة للرجل ومن جميع الادمانات بدءا من الرؤية الدونية اليومية وحتى ماتحت الشعور، ولم يتم تهذيب وتربية الذات وفق أخلاق الحرية الذي يرفض الخنوع، الانحطاط، اللارادة، العنف، الظلم وغيره من السمات البعيدة عن طبيعة الانسانية، لا يمكن بتاتا التحدث عن علاقة حرة بين المرأة والرجل. لذلك وكشرط أساسي من شروط التحرر هو العمل على تحرير الذات من جميع آثار الذهنية البالية وانعكاساتها على السلوكيات والعلاقات اليومية.
هذا وكإستمرارية لإستراتيجية دمقرطة العائلة وفتح الطريق أمام حياة جديدة طرح قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” ايديولوجية تحرر المرأة في 8 أذار عام 1998. نعلم جيداً بأن جميع الايدولوجيات اسُتخدمت في خدمة تسلط الرجل على المرأة، ومعظمها عملت بشكل أو بآخر على شرعنة عبودية المرأة. حيث نرى بأن اغلب الفلاسفة والأنبياء تناولوا مسالة الرجل والمراة على اسس إطاعة المرأة للرجل، وبأن المرأة هي استمرارية للرجل لانه المركز واما المرأة فهي التي تسير في فلكه، اي الرجل هو الجوهر والمرأة هي الشيء، وقد تم سرد ذلك في قصة آدم وحواء بكل شفافية عندما يُذكر بان حواء خلقت من ضلع آدم. لقد وصل الامر بالمراة الى الاقتناع بانها اقل شأناً من الرجل، لتتحول هذه الرؤية إلى عقيدة مع الزمن، وتعتبر مناهضة هذه الرؤية نفاقا وخروجا عن الدين. هكذا انقلبت الحقائق رأسا على عقب. لذا فان ايديولوجية تحرر المرأة تعتبر بداية جديدة من أجل التحقيق في الايديولوجيات الموجودة، بالاضافة إلى وضع هذه الايديولوجية مبادئ الحياة التي ستعمل المرأة على خلقها ونسجها. وبذلك وحده ستتمكن المراة التحرر من التفكير وفق فكر الرجل او العمل بتوجيهاته. في الحقيقة كانت هذه الاطروحات بمثابة ثورة فكرية بالنسبة للمجتمع الكردي، حيث تم تحقيق تغيير كبير في النسيج الاجتماعي الكردي وخاصة بالنسبة للعلاقات الاجتماعية بين المرأة والرجل. ان وصول الحركة النسائية الكردستانية إلى هذه الدرجة من النشاط والحيوية، المشاركة الفعالة والادارية في كل مجالات الثورة، وقيامها بدور الطليعة على مستوى المنطقة والعالم، الوصول الى درجة تطبيق نظام الرئاسة الثنائية في الكثير من الاحزاب والمؤسسات الكردستانية، يعود وبشكل لا يمكن لأحد إنكاره إلى التحول والتغيير الذي خلقه القائد “أوجلان” في المجتمع الكردستاني.
في الحقيقة لم تنحصر الجهود الفكرية والفلسفية للقائد “عبدالله أوجلان” بصدد المرأة والعائلة ضمن هذا النطاق فحسب، بل استمرت من بعد اعتقاله في سجن امرالي ايضا. حيث تناول قضية الحياة الحرة بشمولية وطرح نظرية علم المراة، ليتمم بذلك ما قام علم الاجتماع الحالي بإهماله وتهميشه الى راهننا.
لم ترى القضايا الاجتماعية الهامة النور بعد بسبب اعتماد علم الاجتماع على الوضعية وتناولها وفق النظرية الجنسوية
. بالرغم من تفرع علم الاجتماع وبحثه فيما يعانيه المجتمع البشري من مشاكل، إلا إنه وللأسف الشديد لم يتوقف على قضية المرأة بعمق ولم يجد الحاجة لمعالجتها بوسائل علمية، فهناك الكثير من العلوم إلا إن العلم المتعلق بالمرأة لم ياخذ مكانا له ضمن المجالات العلمية. اي يتناول علم الاجتماع قضية المراة بسطحية او على انها جزء من قضية الرجل.
تم ابتعاد المراة عن المجال العلمي مثل ابتعادها عن جميع الميادين الحياتية الاخرى، في حين كانت مبدعة وخلاقة في جميع الميادين الحياتية وكشفت سر الطبيعة ووضعت اسس الاخلاق الاجتماعية وحققت ثورة الزراعة وكانت اولى الالهة. نرى بأن المرأة لم تطرد فقط من مجمعات الآلهة بل إنها طردت أيضا من مختبرات العلوم البدائية أيضا، ليتم استعمار كل ما قامت باختراعه. في الحقيقة إذا ما بحثنا في كتب التاريخ، سنرى اثر المراة ووجودها في كل مكان رغم سياسة التعتيم والانكار. بمكان كل من يزور المتاحف أن يلاحظ وفي أول نظرة بأن النساء كُنَّ العالمات الأوائل، حيث جميع تماثيل مجتمع العصر الحجري الحديث والذي يعود تاريخها إلى ما قبل 12 ألف قبل الميلاد هي تماثيل النساء، كونهن لم يكن ينجبن فحسب، بل العماد الذي يؤسس عليه الكلان أو نواة المجتمع البشري. يقدس المجتمع كل شيء يمنح للحياة استمرارية الوجود. ولأن المرأة كانت تعبر عن الهوية الاجتماعية في العصر النيولوتي فكانت مقدسة، اما بعد أن تطورت وسائل الانتاج واستولى الرجل على القيمة الزائدة وتطورت ثقافة الصيد، تم الحط من قيمة المراة، ليستولي الرجل على كل القيم التي خلقتها المرأة بكل جشع . يمكن لنا وبسهولة رؤية الصراع بين الالهات والالهة في الأساطير السومرية وغيرها من أساطير بابل واليونان. الصراع بين الإلهة إينانا والإله أنكي على 104 الماءات العائدة للمجتمع الطبيعي وطرد إينانا من مجلس الآلهة كما هو مكتوب في اللوحات السومرية ، أيضا قتل الإله ماردوك لأمه الآلهة تيامات في أسطورة بابل من الامثلة التاريخية التي تعبرعن نمط الصراع انذاك. الجدير بالذكر، إنه وبالرغم من وجود صراع حاد في تلك الأساطير ولكن جميع العلماء كانوا من النسوة. بعد أعوام 2000 قبل الميلاد نرى بأنه تم دفع المراة الى خارج الحياة اليومية وتهميشها، لذا لا يمكننا ايجاد اي تمثال للمراة يعود الى تلك المرحلة.
بالإضافة إلى ذلك سلب الرجل جميع القيم الخاصة بالمراة، ليصل إلى درجة أن تكتب الأساطير اليونانية بأن إبنة الإله زوس “أثينا” قد ولدت من جبينه. فيقوم بذلك جعل الانجاب الخاص ببيولوجية المرأة كخاصية لبيولوجية الرجل. بالطبع سار الفلاسفة اليونان أيضا على نفس منوال أساطيرهم، إذ نرى بأن الفيلسوف افلاطون لا يعترف بحق المواطنة للمراة ويصنفها ضمن صفوف العبيد، كما لم تحتل المراة مكانتها في مدينته الفاضلة ايضا. كذلك ارسطو ايضا الذي عرف المراة على انها الرجل العاق. كما فرض كل من بوذا وكونفوشيوس الطاعة على المراة في فلسفتهم الاخلافية على خلاف الفيلسوف زردشت الذي احترم ومجد المراة في تعاليمه. من هنا نرى بأن الفلاسفة الأوائل سواء الشرقيون منهم أم الغربيون، لم يتخلصوا من النظرة الدونية للمرأة واعتمدت فلسفتهم على عبودية المرأة وتسلط الرجل.
هذا وقد استمرت هذه النظرة للمرأة في الأديان التوحيدية أيضا، فنرى بأنه بدءا من سيدنا إبراهيم الذي ينكر زوجته سارة حينما يهاجر إلى مصر ويقدمها للفراعنة على إنها أخته، أيضا سيدنا موسى الذي يرى المرأة على إنها ملك للرجل، وبأن الرجل هو المسؤول عن بكارتها، كما تم احترام السيدة مريم ليس لانها كانت امراة قوية بل لانها كانت ام سيدنا عيسى. يمكننا ايضا قول نفس الشيء بالنسبة للإسلام الذي يؤكد على إطاعة المرأة لزوجها، ويشرع العنف ضد المرأة ويحرمها من الميراث وغيره من الحقوق الحياتية الذي ينبغي ان يكون متساوية فيها مع الرجل. وما يثير الدهشة في الاديان التوحيدية هو سعيها الى اقناع النسوة بان اللامساواة مع الرجل قانون الهي لا يمكن الوقوف ضده لانه سيؤدي الى الكفر. أي إن المرأة باتت تقبل بالانحدار الاجتماعي الموجود بين المرأة والرجل على إنه قدر إلهي محتوم لا يمكن تغييره قطعا.
في الحقيقة لم تتحرر العلوم العامة أيضا من العقلية الذكورية، وتناولت قضية المراة بسطحية بالغة، الى جانب اهمال الكثير من الجوانب الرئيسية الذي كان من المستوجب تناوله بشمولية. وبمكاننا ملاحظة ذلك في نظرية داروين التي تؤكد على أن القوي يملك حق الحياة ويقضي على الضعيف، كذلك في العلوم الوضعية التي تؤكد على وجود الشيء والجوهر، وفي علم النفس وخاصة في شخص فرويد، حيث يربط كل العقد النفسية لدى المرأة بالفرق الفيزيولوجي الموجود بين الجنسين، وكذلك في علم البيولوجيا الذي يتناول الفرق بين حجم دماغ المرأة والرجل على إنه نقص. كلها تؤكد على إن العلم سعى وباستمرار على تغذية الذهنية التسلطية للرجل من خلال التاكيد على ان المرأة ضعيفة لذا فهي لا تستحق الحياة، المراة شيء والرجل جوهر، لذا فهو الاصل، كما ان المرأة تملك عضوا تناسليا خاملا وهذا ما يشكل عقدة نقص فيها، وإذا كانت عبودية المرأة فطرية فلا حاجة للنضال، إذا كان حجم دماغ المرأة اصغر من دماغ الرجل فهو اذكى منها. لا تنبع جميع هذه النظريات من فراغ، بل ديماغوجيات تخدم سلطة الرجل وترسخ العبودية لدى المرأة. من هنا نرى ب
إن الايديولوجيات الذكورية استخدمت كل من الأساطير، الاديان، الفلسفة والعلم لترسيخ المجتمع الجنسوي
. لأننا نعلم جيدا بأنه إذا ما كانت الحقيقة ساطعة فبامكان الكل التحري والبحث عنها وبلوغها مهما كلف الامر من ثمن. سعى الرجل الى اخفاء وقلب الحقائق رأسا على عقب، حتى تبقى المراة عبدة بلا حول ولا قوة.
في الوقت الذي حاول فيه علم الاجتماع التطرق الى القضايا الاجتماعية، لكنه بقي بعيدا عن تحليل قضية المراة تحليلا صحيحا وشاملا، بالاضافة الى عدم ايجاد توجيه صحيح للحل او التخلص من المفهوم الجنسوي في التقرب من هذه القضية. فالنظرة الوضعية، السطحية والضيقة مازالت سائدة. حيث لا يوجد بحث شامل في هذا الموضوع، وكل المؤشرات في علم الاجتماع تبين بان المشكلة تنبع من الفقر والتخلف والعنف، ولكن لا يبحث عنها في المجال الايديولوجي والسياسي والاقتصادي والنفسي والاجتماعي والاخلاقي، وهذا بدوره ما يؤدي الى تعريف ناقص لقضية المراة. لذا يمكننا تشبيه الحلول الذي يطرحه علم الاجتماع كمن يعالج مرض السرطان بالاسبرين، وهذا ما يماطل الحل ويؤجج تعقيد القضية لتتحول الى عقدة عمياء.
نستنتج من كل ما سبقنا ذكره، يجب تعريف قضية المراة تعريفا علميا شاملا لاجل الوصول الى حلا جذريا، كون قضية تحرر المراة تعني قضية تحرر العائلة والمجتمع، وبقدر ما يكون التشخيص صحيحا سيكون الحل سليما.
بقدر ما يعتبر طرح علم المراة نقدا لما يعانيه علم الاجتماع في راهننا، فانه يشكل جوهر علم الاجتماع الحر ايضا
. لعلم المراة دور هام في الكشف عن الحقائق التي طالما سعت الذهنية الرجولية والمجتمع الجنسوي الى اخفائها.
قد يعتبر علم المراة نظرية جديدة ولم يتم دراسة جميع فروعاته ولكن هذا لا يشكل عائقا امام دراسة جميع الجوانب وعلى جميع الاصعدة، ومنها الجانب التاريخي، الاجتماعي، السياسي، الاخلاقي والاقتصادي، وذلك لاعادة تدوين التاريخ الطبيعي للمجتمع الانساني بعيدا عن الذهنية الذكورية المهيمنة. ومن المحاور الاساسية التي ينبغي مناقشتها ودراستها مليا هو علم المعرفة وعلم الوجود وعلم البيولوجيا وعلم السكان. إننا وحتى الآن نحلل المسائل وفق نظرية حفنة من رجال العلم التابعين وبشكل فظيع لسلطات الدول ويسيرون وفق إمرة المؤسسات العسكرية. في الوقت الذي كان العلم في خدمة المجتمع ، نرى بأنه يخدم الآن سياسة الاستغلال والاستعمار. ابتعد كل شيء عن جوهره، في الوقت الذي يجب أن يعمل فيه العلم على ترفيه حياة الانسان وتحريره، نرى بأن جميع الاختراعات والتقنيات تستخدم في البداية من أجل الحرب وأمن الانظمة واستخباراتها وربحها. فكل ما يتم تعليمه وتدريسه لا يخلو من التمرير في مصفاة البنتاغون، الناتو والأكاديميات التابعة لقوى الهيمنة، لذا فلا يخلو من التحريف والتشويه لانه يخدم النظام الراسمالي ومصالحه فحسب ويقضي على كل شيء يشكل خطرا عليه. ان الهدف من هذه السياسة هو تشكيل مجتمعات مقموعة الارادة وخاضعة للنظام الراسمالي. بما ان المعلومات المتمحورة حول المراة لا تتخطى حدود فرض عبوديتها، لذا فانها معلومات مشوهة ومنحرفة حتى تبقى المراة بعيدة عن معرفة ذاتها وحقيقتها، وحتى تبقى مقيدة ضمن حدود مصالح النظام الذكوري الذي يمثله الحداثة الراسمالية في راهننا. ونرى ذلك تكرارا ومرارا في المناقشات الدائرة علنا حول بدن المراة وعملية الاجهاض، من دون ان يكون لرايها اي اعتبار بالرغم من انها صاحبة المسالة والمعنية الاولى بالموضوع. تسن قوانين يوميا بخصوص بدن وحياة المراة ولكنها لا تملك حق الكلمة في اي قرار بحقها. مثلا، في تركيا هناك مناقشات تدور حول منع الاجهاض والتشجيع على انجاب ثلاثة اطفال فقط من قبل اردوغان بالرغم من احتجاج جميع الحركات النسوية على قرار كهذا. لا يهم حكومة أردوغان رأي النساء ولا أبدانهن، المهم هو كيفية تمتين سلطتها فحسب. ان تقوية السلطة يمر اولا من فرض السلطة على المراة، كون التحكم ببدن المراة يعني التحكم ببدن المجتمع. الشيء المثير للدهشة هو إن الأطباء الأتراك والتابعون لحزب أردوغان كانوا يظهرون يوميا على الشاشات التلفزيونية من أجل الدعاية لهذه الهراءات والتقدم بالحجج الطبية من دون أن يشعروا بالخجل. وكان الوزراء يصرحون يوميا بأنه لو تم الاعتداء على إمرأة ما، فعليها أن تنجب الطفل وستقوم الدولة باخذه والتكفل برعايته. لذلك يعتبر تحرير العلم من أيدي هؤلاء شرطا أساسيا لتكون للمراة حق الكلمة والقرار بحق نفسها بعيدا عن هيمنة الرجل. بقدر ما تتعرف المراة على ذاتيتها بمكانها ان تكسب الثقة في القدرة على التحرر من كافة البراثين التقاليدية البالية وتتوجه صوب الحرية.
من جانب اخر ان المراة رمز الخصوبة لانها قادرة على الانجاب وتكسبها خاصيتها البيولوجية هذه سمات تفوق بدن الرجل وهذا ما تم اثباته علميا، عكس ما ادعته الذهنية الذكورية التي تسعى الى الحط من شأن بدن المراة على انه بدن خامل ولا ينفع شيئا سوى اشباع الغريزة الجنسية للرجل وبدن ناقص يجب أن يكون دائما تحت حاكميته. لقد سعى الرجل دوما على الترويج لايديولوجيته هذه حتى تفقد المراة ثقتها بنفسها وتتيقن علم اليقين بانها كذلك بالفعل. نستنتج بانه كلما تطور علم المرأة ستنكشف قناع جميع المعلومات الخاطئة والمنحرفة بحق المراة.
كذلك من النقاط الهامة التي ينبغي ان يتوقف عليها علم المراة هو البحث والتحري في تاريخ واسباب ظهور الحركات الفامينية وفي القضايا التي تعانيها وسبل معالجتها. بالطبع قامت الحركات الفامينية وخاصة في القرنين الأخيرين بالكشف عن الكثير من القضايا التي تعانيها المرأة، وكشفت حقيقة السياسة المتبعة ضدها في الكثير من جوانبها. الى جانب تضحية الكثير من النسوة بحياتهن في سبيل منح كل من المراة والرجل ادوارهم الحقيقية في الحياة بعيدا عن هيمنة احداهم على الاخر. وإذا ما تحولت قضية المراة الى قضية اساسية فيعود الفضل الى جهود الملايين من النسوة والحركات الفامينية المناضلة ضد ذهنية النظام الذكوري المستبد.
الى جانب ذلك يعتبر بحث علم المراة في النواقص المؤدية الى انسداد وتدجين الحركة الفامينية امرا اخلاقيا ومسؤولية تاريخية. بالطبع بالرغم من ما تم ذكره من ايجابيات بحق الحركة الفامينية، إلا إنها عاجزة اليوم عن القيام بدور الطليعة وصنع البديل. في الحقيقة افتقار الحركة الفامينية لمبادئ إيديولوجية مشتركة اودى بها الى الضعف التنظيمي ايضا. كما ان عدم القيام بتعريف مشترك لقضية المراة وحقيقة الرجل والقضايا الاجتماعية، ادى الى تشتت صفوف الحركة، وانقسامها الى تيارات مختلفة ومنها الفامينية الثقافية، الليبرالية، الراديكالية، الآنارشية، الوجودية، الاسلامية، الاشتراكية وغيرها من التيارات الاخرى. لقد حصل كل ذلك بسبب التعاريف المختلفة والمتجزئة لقضية تحرر المراة والرجل. ادى الانقسام الفكري هذا الى تشتيت وحدة الصفوف التنظيمية والنهج العملياتي لهذه الحركات، لان الاولويات تتغير وفق كل تيار جراء هذا التشتت والاختلاف. وهذا بدوره خدم النظام الذكوري والمجتمع الجنسوي بشكل لا حدود له، كونه ينتج نضالا مجزءا وضعيفا. أيضا لم يتمكن أي تيار من تحقيق تأثيرا جماهيريا واسعا نتيجة ذلك، حيث ونتيجة السياسة الخاطئة لهذه الحركات وعدم تخلصها من الخواص الطبقية والعرقية والمذهبية والقومية، بالاضافة الى سياسة الانظمة الذكورية المعادية لها، بقيت كنخبة منقطعة عن المجتمع وعن الجمهور النسوي. هذا بالاضافة إلى إن الحركة الفامينية وكجميع الحركات الاجتماعية الأوربية الأخرى، لم تحرر نفسها من النظرة المركزية الأوروبية والنظرة الاستشراقية. حيث ينظر الى المجتمع الشرقي كمجتمع متخلف ونسائه متخلفات وعبيدات على عكس المراة الغربية الحرة، من دون التحري في حقيقة النظام الغربي الذكوري المهيمن وفي ذهنية المراة الغربية التي تدور في فلك الذهنية الذكورية المهيمنة. بالإضافة إلى الكثير من الأخطاء الحياتية الأخرى، حيث يتم التقرب من قضية المراة كأنها قضية جنس فحسب، ويتم انفصالها عن القضايا الاجتماعية الاخرى، وهذا بدوره ادى الى رفض الرجل رفضا تقليديا فظا بعيدا عن تحليل ذهنيته ومؤثراته على المراة، الى مستوى عدم رؤية سوية عبودية الرجل. فقد كان يتخذ من مقاييس الرجل كمقياسا للحرية وكأن بلوغ المراة الى هذه المقاييس يعني وصولها الى الحرية. وهنا نلاحظ عدم تحليل قضية السلطة وذهنية الدولة بشكل جذري. حيث استهدفت الحركة الفامينية الى بلوغ السلطة والدولة كما الرجل. لذلك قيام علم المرأة بتحليل كل هذه النواقص والأخطاء وأيضا وضع التوجيه المطلوب من أجل تجاوزها، سيؤدي إلى خلق البديل بالنسبة للحركة الفامينية الراهنة، وسيفتح الطريق أمام الانسداد والركود التي تعيشه الحركة النسوية عموما.
ينبغي ان يكون لـ علم المراة بحثا عميقا في مجال الاقتصاد ايضا، لانه يعتبر من الميادين الحياتية الهامة. تعاني المراة اقصى درجات الفقر والحرمان اقتصاديا ومحرومة من كافة حقوقها الاقتصادية ومسلوبة الجهد تحت ظل النظام الراسمالي الذكوري، رغم انها خلقت اولى المؤسسات الاقتصادية تاريخيا، وذلك عبر تطوير الزراعة وتدجين الحيوانات واختراع انواع عديدة من الآلات. يتم استغلال جهد المراة من قبل النظام الراسمالي، لانه يعتبرها من ارخص الايادي العاملة. الى جانب ذلك نرى بان النسوة يشكلن اكبر نسبة من البطالة في العالم. هذا وقد حول النظام الرأسمالي المرأة إلى مادة للتسلع، يتم استخدامها بأبخس الأشكال للدعاية والاعلان حتى يستطيع بيعها بارفع الاسعار. لا يمنح القيمة لجهود الأمهات اللواتي يرعن اطفالهن ليل نهار، ولا للنساء العاملات في المنازل، كذلك تفقد المراة الى فرص العمل، وإذا ما وجدت فرصة للعمل فانها لا تحصل على القيمة المالية التي تستحقه عكس الرجل. هناك إجحاف كبير بحق المرأة، ففي الوقت الذي لا يقوم رجال الأعمال بأي جهد، يكسبون الملايين ويصفونهم بالاقتصاديين ورجال اعمال، اما النسوة فيتهمن بالتطفل والاصراف رغم عملهن المتواصل ليل نهار. لذا يجب على علم المراة ان يحرر علم الاقتصاد من الذهنية الجنسوية.
يعتبر البداغوجية اي علم التربية من الفروعات العلمية الهامة التي ينبغي لعلم المراة البحث فيه. فعلى سبيل مثل الشاعر القائل ” الام مدرسة إذا اعدتها، اعدت شعبا طيب الاعراق”، اي الام هي المدرسة التربوية الاولى. لكننا إذا ما تحرينا في هذا الفرع ايضا سنرى هيمنة الذهنية الجنسوية، حيث تعمل هذه المؤسسة على تربية الاجيال وفق قوالب الذهنية الجنسوية التي لا تعني سوى تعميم العقول بالعبودية واللامساواة. يبدأ هذ التعليم من دور الحضانة والى اعلى درجات الدراسة بترسيخ تربية جنسوية قائمة على ان الرجل قوي والمراة ضعيفة. ففي المناهج المدرسية الرجل يكون قائدا، معلما، طبيبا، بطلا ،عالما …. إلى آخره، في حين تكون المرأة أما ممرضة ، او طباخة او تعني بشؤون الأب. يتربى يوميا الملايين من الشباب والشابات بهذه العقلية المتسممة باللاديمقراطية واللاتحررية. لذلك يعتبر إنشاء نظام تربوي معتمد على أخلاق الحرية من المهام الأساسية التي يجب أن يهتم بها علم المرأة. بما إن أول غزو على المرأة والمجتمع الطبيعي كان الغزو الذهني، لذا فان البدء من هذه النقطة سيكون من الخطوات الاولية للقضاء على الذهنية البالية التي ترسخها الحداثة الرأسمالية عن طريق التربية الجنسوية.
نصل إلى نتيجة إن كل ما هو مرتبط بالحياة والكون فهو بنفس الوقت مجال اهتمام علم المرأة، لذلك عندما نقول علم المرأة لا يعني البحث في الشؤون المعنية بالمراة فحسب، بل بقدر ما يتم الكشف عن حقيقة المرأة سيتم التعريف للرجل أيضا. ابتعد الرجل عن حقيقته كانسان بقدر تغرب المراة عن حقيقتها. يتم الحديث اليوم عن تأنيث الرجل وهذا واقع ملموس، كون عملية التشييء هذه لم تقتصر على المرأة فقط، بل باتت تسود المجتمع بأكمله، فالرجل جوهر والمرأة شيء، الرجل الضعيف والفقير شيء والرجل القوي والغني جوهر، المجتمعات الفقيرة أو الشرقية هي شيء والمجتمعات الغربية هي الجوهر، ويمكننا تعداد الكثير مثل هذه الثنائيات. إلا إن المهم هو إن كل ما هو موجود على وجه البسيطة قد بات يأخذ مكانه ضمن هذا القانون والفلك في راهننا. سيساهم علم المرأة في وقف هذه الدوامة و وضعها في مجراها الصحيح، لإن كل من ثنائيات الروح والمادة، المادية والميتافيزيقيا، الأنا والآخر طرق وأساليب تشرعن من استعباد المرأة والانسان. ففي البداية تم إعلان المرأة كمادة لا تملك الروح أو تعتبر شيء، ومن ثم تم تطبيق نفس القانون على الطبقة الفقيرة، بعدها على الطبيعة واليوم على الرجل أيضا، ليتم إطالة هذه السلسلة إلى ما لا النهاية. هذه البراديغما هي التي فتحت الطريق أمام تحكم الرجل بالمرأة لأنها مادة، شيء، جامدة او ميتة. كون المادة وفق هذه البراديغما شيء ميت لا يملك الارادة و بالطبع التحكم به يعتبر أمر طبيعي . لذلك يتم اليوم ووفقا لهذا المفهوم الكوني لدى النظام الرأسمالي الذي يشكل قمة النظام الذكوري تطبيق أفظع التجارب على الطبيعة بدءا من التجارب النووية وحتى الكثير من التدخلات الأخرى، لأن الطبيعة بالنسبة لهم جماد ويمكن التصرف بها كيفما يشاء. والقنبلة الذرية التي تهدد العالم اليوم هي نتيجة لما يعانيه العلم من انحراف ويعبر عن مدى تحوله إلى آلة بيد الرأسماليين وأصحاب السلطة. لقد تحول العلم في الوقت الراهن إلى مصيدة بالنسبة للإنسانية وإلى ثورة مضادة . ان العمل على تطوير علم بديل يخدم المجتمع ومنقطع عن السلطة والربح وعلى أخلاق الحرية يحمل أهمية حياتية ليس بالنسبة للمرأة فقط بل إنه حاجة ماسة من أجل الرجل ومن أجل البشرية جمعاء.
بالطبع ستدور مناقشات هامة اكثر حول علم المراة مستقبلا، لأنه يعتبر مصطلح جديد ولانه معني بالكثير من القضايا الحياتية. لذلك من المهم جدا العمل على مناقشته بشكل سليم، لإننا بقدر ما نفهم محتواه بشكل صحيح سنكون قد وضعنا أسس صحيحة لحياتنا.