أبحاث ودراساتافتتاحية العددجميل رشيدمانشيتملف العدد 65

مشروع “طريق التَّنمية”.. بين التَّجاذبات السِّياسيَّة وآفاق النَّجاح والفشل

جميل رشيد

جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

تمهيد:

تعدَّدت في الألفيَّة الثّالثة المشاريع الاقتصاديّة في الشَّرق الأوسط، والتي رسمت خطوطها ومخطَّطاتها في الدّول الغربيّة، لتُعيدَ تقسيم مناطق نفوذها وفق معايير ومفاهيم جديدة. وعلَّمنا التّاريخ أنَّه لا يمكن أن نُفرِّقَ بين السّياسة والاقتصاد، فكُلٌّ منهما يُكمِّل الآخر، بل يترافق أحياناً مع فرض للقوَّة العسكريّة، لتُمهِّدَ الطريق أمام تنفيذ تلك المشاريع التي أقلُّ ما يُقال عنها إنَّها “استعماريَّة”، تهدف للسَّيطرة على مُقدَّرات الشُّعوب وثرواتها، بأساليب مراوغة يَتُمُّ تحديثها بشكل دائم، عبر عقد الاتّفاقيّات الاقتصاديّة مع أنظمة المنطقة، أو ربط اقتصاديّاتها بها، وكذلك إغراقها في الدّيون عبر المؤسَّسات الماليَّة العظمى التي تتحكَّم بها مثل صندوق النَّقد الدّوليّ والبنك الدّوليّ.

فإن كان الاستعمار القديم عمد إلى استخدام القوَّة العسكريّة واللجوء إلى الحروب في السيطرة على البلدان؛ فإنَّ المعادلة قد تغيَّرت في القرن الواحد والعشرين، حيث تعمل الدّول الرأسماليّة على الدّخول والسَّيطرة على مختلف الدّول عبر الاقتصاد بالدَّرجة الأولى، في ظِلِّ حاجة الدّول، وخاصَّةً النّامية منها إلى رؤوس الأموال والتكنولوجيا لتحقيق تنمية معقولة في بلدانها.

وإن كانت الحروب وسيلة لتحقيق أهداف وأغراض اقتصاديّة؛ فإنَّ الاقتصاد بدوره يموِّل الحروب ويستنزف طاقات وقدرات البلدان والشُّعوب، هذا إضافة إلى إلحاقها أضراراً بالبيئة. فالتَّخريب والدَّمار المرافق للحروب يطال العمران وكذلك الطبيعة، هذا عدا عن التلوّث الكيماويّ والجرثوميّ وحتّى تَسَرُّب الإشعاعات النَّوويَّة، فتحوَّلت دول الرَّأسماليَّة العالميَّة مع هذه المشاريع إلى أدوات مُدَمِّرة للبيئة، وتساهم في وقوع الكوارث الطبيعيَّة العديدة، مثل الأعاصير والزلازل والبراكين وارتفاع درجة حرارة الكُرة الأرضيَّة وذوبان الجبال الجليديَّة في القُطبين المتجمِّدين الشّمالي والجنوبيّ وارتفاع منسوب المياه في البحار والمحيطات، إضافة إلى زيادة مساحة التَصَحُّر وهطول الأمطار الحامضيَّة التي تقتل المزروعات، وتراجع في المساحات الخضراء، نتيجة القطع الجائر للأشجار وتراجع الزِّراعة مقابل زحف الصّناعة والمدن الصناعيَّة التي تزيد من نسبة التلوّث في طبقات الجوّ العليا. كُلّ هذا الدمار وراءه الجشع وتحقيق أرباح طائلة من وراء مشاريعها القاتلة.

السَّرديّة التي أتينا إليها آنفاً، هي فقط للتَّعريف بالمخاطر الجديَّة المُحدقة بكُرتنا الأرضيَّة، جرّاء المشاريع الاقتصاديّة للرَّأسماليَّة العالمية التي تبحث عن الرِّبح، وفقط عن الرِّبح، غير آبهة بمصير البشريَّة.

ومشروع “طريق التَّنمية” هو جزء من تلك المشاريع الرَّأسماليَّة الباحثة عن تطويع ثروات المنطقة لصالح أهداف استعماريَّة واقتصاديّة صرفة، دون أن يعود ناتجها بالفائدة على شعوب المنطقة.

فالمشروع طرحه العراق وتبنَّته تركيّا، كمخرج لها من أزماتها المُستدامة، وبهدف تحقيق مشروعها القديم – الجديد؛ “الميثاق الملّي”، بالتمدُّد جغرافيّاً واقتصاديّاً في المنطقة، خصوصاً في دول الجوار، مثل العراق وسوريّا، وإقامة نوع من التَّوازن مع إيران الحاملة لمشروع دولتها القوميَّة “الفارسيَّة”.

فإن كان مشروع “الشَّرق الأوسط الجديد” الذي طرحته وزيرة الخارجيَّة الأمريكيّة السّابقة “كونداليزا رايس” في إسرائيل عام 1996، ولا تزال الولايات المتّحدة تعمل عليه، يعيد رسم خرائط المنطقة وفق مصالحها، ويعمّم نظام العولمة، في ظل الثورة الرقمية والتكنولوجيا المتقدمة، وخاصة الذكاء الاصطناعي، فإنَّه في ذات الوقت يواجه عوائق عديدة، ويصطدم بإرادات شعوب منطقة الشَّرق الأوسط الرّافضة لكُلِّ مشروع لا يتوافق مع توجُّهاتها المستقبليّة ومصالحها، رغم أنَّ العديد من أنظمة المنطقة منخرطة في المشروع، لكنَّ ثورات ربيع الشُّعوب لم تأتِ بالنتائج التي توخَّت منها الولايات المتّحدة وحلفاؤها، وبدأت برسم مسارات وسياقات جديدة، تَحُدُّ من اندفاعتها نحو رسم المشروع على الأرض.

ومشروع “الممر الهندي” الذي أطلقته الولايات المتّحدة مع حلفائها في سبتمبر/ أيلول 2023 في العاصمة الهندية “نيودلهي”، يعد إحدى إسقاطات “الشَّرق الأوسط الجديد”. ورغم مشاركة العديد من الدّول العربية والشَّرق أوسطيّة فيه، فإنَّه يواجه صعوبات عديدة في تحويله إلى واقع فعليّ، والبدء بتنفيذه. وكذلك مشروع “الحزام والطريق” الصّينيّ يواجه معارضة شديدة من الولايات المتّحدة والدّول الأوروبيَّة، فيما “المشروع الأوراسيّ” ربما صار من الماضي، بعدما تمكَنت الدّول الغربيّة من إغراق روسيّا وإشغالها بحربها في أوكرانيا.

وتركيّا التي وجدت نفسها مغبونة من جميع المشاريع الغربيّة في المنطقة؛ انبرت هي الأخرى إلى الانخراط في مشروع “طريق التنمية” الذي طرحه العراق، الذي يعتبره البعض أنَّه في إحدى جوانبه مشروعاً يتحدّى المشاريع الغربيّة في المنطقة.

سنحاول دراسة تفاصيل هذا المشروع، وشرح أبعاده السِّياسيّة والاستراتيجيّة في تركيّا والمنطقة، وهل فعلاً يملك المشروع مقوّمات الصمود أمام قوَّة اقتصاديّات الدّول الغربيّة، أو هل سيدع الغرب تركيّا تنافسها على ثروات المنطقة، وتتحوّل إلى قوَّة إقليميّة لا يمكن ضبط سلوكها الاقتصاديّ والعسكريّ والسِّياسيّ لاحقاً، كما هي إيران، خاصَّةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنَّ لدى تركيّا طموحات كبيرة لتَشُقَّ طريقها في المنطقة لوحدها، بمعزل عن حلفائها الغربيّين التقليديّين، بعد سيطرة النَّزعة “الدّينيَّة – القوميَّة” على الفكر السِّياسيّ لدى النُّخب الحاكمة في تركيّا، خاصَّةً مع وصول تيّار حزب العدالة والتَّنمية إلى السُّلطة عام 2002.

الهدف من البحث:

بحث آفاق مشروع “طريق التَّنمية”، وتداعياته على شعوب المنطقة، خاصَّةً على الشَّعب الكُرديّ وحركته التحرُّريَّة الوطنيَّة. وسنلجأ إلى أسلوب طرح عدد من الأسئلة، والإجابة عليها خلال استعراضنا.

منهج البحث:

سنعتمد منهج التحرّي والبحث في الوثائق المتعلّقة بالمشروع، إضافة إلى إجراء مقارنات عديدة مع غيرها من المشاريع في المنطقة، إضافة إلى اتّخاذ جانب الموضوعيَّة في طرح القضايا الخلافيَّة المتعلّقة بمواقف الدّول والشُّعوب من المشروع، عبر إظهار ردود الفعل المُعارِضة والمتوافقة معه، إضافة إلى إمكانيَّة رؤية المشروع النّور، بعد أن تراجع الدَّور التُّركيّ في المنطقة إلى حَدٍّ كبير، ودخوله في طور “استجداء” أنظمة ودول المنطقة في سبيل إنقاذ نفسها واقتصادها من عنق الزُّجاجة، على اعتبار أنَّ تركيّا تعتبر نفسها حجر الأساس في المشروع.

أسئلة البحث:

1 – ما تفاصيل المشروع؟

2 – ما الدّول المشاركة فيه؟

3 – ما مواقف الدّول الغربيّة من المشروع، وخاصَّةً الولايات المتّحدة الأمريكيّة؟

4 – هل أهداف تركيّا من وراء المشروع اقتصاديّة فقط، أم تتجاوزها إلى الجانب الأمني والسِّياسيّ والتوسُّعيّ؟

5 – ما مدى تعارض المشروع مع المشاريع الأخرى المطروحة من قبل الدّول الغربيّة والصّين في المنطقة؟

6 – ما أهم التحدّيات الإقليميّة والدّاخليَّة أمام تنفيذ المشروع؟

7 – هل البُنية الاقتصاديّة العراقيّة مؤهَّلة لتنفيذ المشروع؟

8 – هل هناك معارضة داخلية عراقيّة للمشروع؟

9 – ما موقف حكومة إقليم كُردستان من المشروع؟

10 – كيف يؤثِّر تواجد قوّات حزب العُمّال الكُردستانيّ على مستقبل المشروع؟

وغيرها من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في سياق البحث

مشروع طريق التَّنمية:

يُعتبر مشروع “طريق التَّنمية” إحدى المشاريع التي طرحها العراق في البداية، كطريق استراتيجيّ يربط دول الخليج ودول شرق آسيا بما فيها الصين، مع أوروبا. وأطلق العراق في البادية عليه اسم “القناة الجافّة”، وكذلك أطلق البعض عليه اسم “طريق الحرير العراقيّة”، فيما أطلقت عليه تركيّا اسم “طريق الحرير التُّركيّة”. إلا أنَّ الطريق البرّيّة السَّريعة وخطُّ السكك الحديديّة يمرّان عبرَ أراضٍ صحراويَّة في العراق، وينتهيان عند حدود إقليم كُردستان العراق مع تركيّا. فهو يبدأ من ميناء مدينة “الفاو” في العراق، وينتهي عند نقطة ومعبر “فيش خابور” مع تركيّا.

وقد أعلنت وزارة الخارجيَة العراقيّة تفاصيل مشروع “طريق التَّنمية”، وهي:

1 – الطريق يَضُمُّ خطّ سكك حديد مزدوجاً يعمل بالطّاقة الكهربائيَّة.

2 – الطريق يبدأ من مدينة الفاو، وينتهي بمدينة فيش خابور بطول /1200/ كم.

3 – خطُّ السكك الحديديّة يمرُّ بـ/10/ مدن عراقيّة.

وأضافت الخارجيَّة العراقيّة أنَّ “إنجاز المرحلة الأولى من مشروع طريق التَّنمية سيكون عام 2028 حسب المخطط، إلا أنَّ المشروع له ثلاث مراحل، ومن المتوقَّع أن تُنجز المرحلة الثّانية منه عام 2028، والمرحلة الثّالثة عام 2050”. وتبلغ تكلفة المشروع الإجمالية ما بين /17/ إلى /20/ مليار دولار أمريكيّ.

وخط السّكك الحديديّة يَمُرُّ من أربعة مدن عراقيّة، وكذلك الطريق البرّيّة السَّريعة، لكن لكُلٍّ منهما مسار، ولا يلتقيان إلا في شمال محافظة “كربلاء”، ويستمرّ مسارهما متقاربين حتّى معبر “فيش خابور”. ولكن تركيّا تحاول تجنّب مرور خطوط النَّقل عبر أراضي إقليم كُردستان العراق، لأسباب سياسيّة، سنأتي على ذكرها لاحقاً، فهي طرحت في عام 2023 إنشاء معبر جديد مع العراق باسم “أوفا كوي” التّابع لمحافظة نينوى بالعراق. والمعبر يُطِلُّ مباشرة على مدينة “سلوبي” من الجانب التُّركيّ.

ومشروع “طريق التَّنمية” يتضمَّن إنشاء مشروعين متوازيين، أحدهما طريق برّيَّة سريعة تمتدّ من “الفاو” وتمرُّ من مدينة البَّصرة، والثاني خط سكك حديديَّة، على أن تكون حلقة الوصل بين الخليج العربيّ جنوباً، وتصل عبر العراق وتركيّا إلى أوروبا شمالاً، لنقل البضائع، وكذلك المسافرين. وطول الطريق نحو /1200/ كم فقط في الأراضي العراقيّة.

وتمتدُّ الطريق البرّيّة السَّريعة من الجانب التُّركيّ في عِدَّةِ مدن حتى يصل إلى الموانئ التُّركيّة ومنها عبر البحر يصل إلى البرّ الأوروبيّ. فالطريق تربط بين مدينة “رُها/ أورفا” ومعبر “أوفاكوي”، وسيبلغ طول الطريق السَّريعة التي تمرُّ عبر تركيّا 1912 كيلومتراً، فيما يبلغ طول خط السكك الحديديّة في تركيّا فقط نحو /2/ ألف و/88/ كم. ومن المتوقَّع أن تصل الطريق وخط السكك الحديديّة إلى ميناء ميرسين التُّركيّ، ليختصر مُدَّةَ السَّفر بين آسيا وأوروبا عبر تركيّا.

وتأمل كُلٌّ من العراق وتركيّا تحقيق فائدة اقتصاديّة كبيرة من المشروع، حيث من المتوقَّع أن يستطيع المشروع تشغيل نحو مليون من اليد العاملة، ما ينعكس إيجاباً على مستوى التَّنمية في البلدين، وخروجهما من أزماتهما الاقتصاديّة الخانقة.

وبحسب مسؤولين عراقيّين، فإنَّ المشروع يقسَّم إلى ثلاثة مراحل، على أن يبدأ العمل بالمرحلة الأولى في عام 2024، ومن المزمع أن ينتهي العمل فيه خلال أعوام، 2028 و2033 و2050. وقد وصف رجال أعمال وصنّاع قرار عراقيّون المشروع المرتقب بـ”بوّابة العراق الاقتصاديّة المنفتحة على العالم عبر تركيّا”، كما ينظر إليه المسؤولون العراقيّة بأنَّ المشروع “يُعَدُّ أحد الخيارات البديلة في حالة نشوب صراعات أو حروب محتملة، لعدم مرور طريق “الحرير الصّينيّ” مباشرة عبر العراق”. إلا أنَّ التجارب التي مَرَّت بها المنطقة وخاصَّةً العراق، تؤكّد أنَّ أيَّ دولة في المنطقة لا يمكنها تجنّب الكوارث في حال اندلاع حرب واسعة، أقلُّها الحرب بين إسرائيل وإيران، فستغدو أراضي العراق مسرحاً رئيسيّاً للمواجهة بين الطرفين.

ورغم أنَّ كلّاً من العراق وتركيّا تعتبران أنَّ المشروع استراتيجيّ بالنسبة لهما، إلّا أنَّه في ذات الوقت باهظ التَّكاليف، ولا يمكن إنجازَه دون تمويل دوليّ، وهو عقدة كبيرة أمام رؤية المشروع النّور. والعديد من الخبراء يربطون نجاحَه وفشله بمسألة التمويل، فلا العراق ولا تركيّا لهما القدرة على تمويل المشروع، والدّول الخليجيَّة المشاركة فيه لديها مخاوف من تحوّل المشروع إلى أداة سياسيّة تستخدمها تركيّا ضُدَّهم وتبتزَّهم في فرض شروط سياسيّة عليهم، من قبيل مطالبتهم بدعم احتلالها في سوريّا والعراق، ومشاركتها في محاربة حركة التحرّر الوطنيَّة الكُردستانيّة بقيادة حزب العُمّال الكُردستانيّ، حيث عمدت في الفترة الأخيرة إلى طلب المساعدة والتَّعاون معها في هذا الصدد. وما هو واضح أنَّ تمويل المشروع خاضع للشّروط السِّياسيّة للدّول الغنية، مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة ودول الاتّحاد الأوروبيّ والصّين، وهي حتّى الآن لم تعلن صراحة عن مواقفها إزاء المشروع “التُّركيّ – العراقيّ” المبهم وغير واضح المعالم والتوجُّهات بالنسبة لهم.

الدّول المشاركة في المشروع:

رغم أنَّ العراق أوَّل من طرح مشروع التَّنمية أو الطريق الجافَّة، إلا أنَّ عدّة دول في المنطقة أبدت استعدادها للمشاركة فيه. حيث وقَّعت كُلٌّ من “تركيّا، العراق، الإمارات وقطر” على مذكَّرات تعاون واتفاقيّات للمساهمة في المشروع، لما يعود عليها بالفائدة، رغم أنَّ عدداً منها تشارك في مشاريع أخرى في المنطقة، مثل مبادرة “الحزام والطريق” الصّينيّة، وكذلك مشروع “الممرّ الهنديّ” الذي أطلقته الدّول الصناعيَّة في سبتمبر/ أيلول الماضي بمدينة نيودلهي العام الماضي. في حين ينظر عدد من الخبراء الاقتصاديّين أنَّ مشروع “طريق التَّنمية” هو جزء مكمِّل للمبادرة الصّينيّة “الحزام والطريق”. في حين يرى آخرون بأنَّ المشروع يُعَدُّ جزءاً من المشروع الأمريكيّ الكبير “الشَّرق الأوسط الجديد”، وقد طرحته الولايات المتّحدة الأمريكيّة على تركيّا والعراق لمواجهة المشروع الإيرانيّ الاستراتيجيّ في المنطقة “الهلال الشّيعيّ”.

ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، إذ يعتبرون أنَّه لولا الموافقة الأمريكيّة على المشروع؛ لما انخرطت فيه تركيّا بقوَّة، رغم التوجّهات التُّركيّة الخاصَّة في التمدّد الإقليميّ وتحقيق مشروعها القديم – الجديد المتمثّل بـ”الميثاق الملّي”، حيث تعتبر أنَّ حدودها تَمتدُّ إلى الموصل وكركوك، ومنها إلى حلب في سوريّا وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسّط.

هدف قطر من المشاركة في المشروع:

توغَّلت قطر قبل عدّة سنوات اقتصاديّاً في العراق، وتمكَّنت من إقناع الحكومات العراقيّة المتعاقبة بجدوى استثماراتها في العراق. فكانت السبّاقة في الانخراط بمشاريع استثماريَّة في العراق مقارنة بأشقّائها الخليجيّين، حيث تستحوذ على نسبة 30% من مشروعات شركة “توتال” الفرنسيَّة” في العراق، إضافة إلى توقيعها عقداً مع الحكومة العراقيّة بقيمة /27/ مليار دولار لتنفيذ مشروعات النَّفط والغاز والطاقة المتجدّدة.

ويبدو أنَّ التَّحالف السِّياسيّ بين كُلّ من قطر وتركيّا، تحت مظلَّة التَّنظيم العالميّ لـ”الإخوان المسلمين”، يدفعهما إلى التَّشارك في مشروع “طريق التَّنمية”، وكذلك في مشاريع أخرى في المنطقة، مثل الاستثمار معاً في جزيرة “سواكن” بالسّودان، ولكن بعد الإطاحة بالرَّئيس السّابق “عمر البشير”، ألغت الحكومة السّودانيّة الحالية اتّفاقيَّة الاستثمار مع تركيّا.

تحاول قطر مسك العصا من المنتصف، فهي قادرة على تغيير لونها وشكلها كالحرباء، وتُبدي مرونة للتلاؤم مع مختلف الظروف في المنطقة والعالم، وترسم استراتيجيّاتها وفقها. فلا ضيرَ لديها من المشاركة في جميع المشاريع الاقتصاديّة والسِّياسيّة في المنطقة، على غرار “الممرّ الهنديّ” و”طريق التَّنمية”، فتبحث عن كُلّ الطرق لإيصال صادراتها من الغاز إلى تركيّا ومنها إلى أوروبا، عبر العراق أو أيّ طريق أخرى. فهي أصبحت مركز الاهتمام الدّوليّ بعد انقطاع الغاز الرّوسيّ عن أوروبا، إثر الحرب الرّوسيَّة في أوكرانيا. وقطر قادرة على إقناع إيران بجدوى مشروع “طريق التَّنمية” واستمالتها للمشاركة فيه، نظراً لعلاقاتها السِّياسيّة والاقتصاديّة المتينة مع الأخيرة. وتجنُّب معارضة إيران للمشروع؛ إنَّما يُمثِّل مسألة مهمَّة وحيويّة، ورُبَّما نجاحه من فشله يتوقّف عليها.

كذلك قصر المسافة التي يصل فيها الغاز القطريّ إلى الأسواق الأوروبيَّة، يسيل لعاب قطر، فهي ستقلّل من تكاليف إيصال غازها المسال إلى أوروبا عبر الطرق البحرّيّة، التي تستغرق وقتاً أطول في حال مرورها من قناة السويس أو رأس الرَّجاء الصالح. كما أنَّ لدى قطر القدرة على تمويل المشروع بكُلِّ مراحله، إضافة إلى أنَّ موقعها المالي لدى المؤسَّسات الماليَّة الدّوليّة؛ يؤهِّلها لتوفير التَّمويل اللّازم لإنجاز المشروع.

ولكنَّها هي الأخرى مثل تركيّا، تحاول أن تُجيّر المشروع لصالح توجُّهاتها السِّياسيّة ومَدِّ نفوذها السِّياسيّ في العراق، عبر تقوية ذراع التيّارات السُنّيّة الموالية لها في مفاصل الدّولة العراقيّة، ومؤسَّساتها السِّياسيّة والاقتصاديّة. في حين أنَّها، وعلى غرار تركيّا، لا يمكنها أن تنخرط بشكل فعّال في مشروع “طريق التَّنمية”، دون نيلها الموافقة من الدّول الكبرى في العالم، وخاصَّةً الولايات المتّحدة. فالتدخُّلات القطريَّة في ثورات شعوب المنطقة، إنَّما جاءت على هَدْيِ الدَّور المرسوم لها من قبل الدّول الغربيّة، خصوصاً الولايات المتّحدة وبريطانيا، وكذلك تبنّيها ودعمها اللا محدود لتنظيم “الإخوان المسلمين” في معظم الدّول، حسبما كشف عنه رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة السّابق “حمد بن جاسم” في تصريحات سابقة له.

وتنتظر قطر نهاية الحرب في غزَّة وما ستؤول إليه الأوضاع، خاصَّةً وأنَّ لها دوراً فعّالاً فيها عبر دعمها حركة “حماس” الجناح السِّياسيّ لحركة “الإخوان المسلمين” في فلسطين، لأنَّها – أي الحرب – بالتأكيد ستُفرز مستجدّات وأوضاعاً مختلفة عمّا هو سائد الآن، وهي تحاول ترويض حركة “حماس” للقبول بالشّروط الإسرائيليَّة والغربيّة في حَلِّ الدّولتين، وإنهاء الحرب، وتصفية الجناح العسكريّ للحركة “كتائب عزّ الدّين القسّام”. بالتَّوازي مع ذلك تلعب – ولعبت سابقاً – دوراً مؤثّراً على المعارضة السُّوريّة، بالتّعاون مع تركيّا، وتسعى إلى فرض حَلٍّ للأزمة السُّوريّة، وفق شروطها، ليسود نوع من الاستقرار في المنطقة، والشّروع بإعادة إعمار ما أتت عليه الحرب طيلة السنوات الماضية، ومنها مشاركتها في مشروع “طريق التَّنمية”.

هدف الإمارات من المشروع:

تسعى الإمارات العربيَّة المتّحدة الظهور على المسرح السِّياسيّ والاقتصاديّ والأمني في المنطقة كقوّة إقليميّة، ولعب أدوار لافتة في العديد من الملفّات السِّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة السّاخنة، كدورها في سوريّا، حيث كانت الدّولة الأولى التي بادرت إلى تطبيع علاقاتها مع الحكومة السُّوريّة بعد الحرب في سوريّا. كما أنَّها برزت كدولة فاعلة في التَّفاهمات الإقليميّة بخصوص فلسطين والحرب في اليمن وغيرها من الأزمات والحروب في منطقة الشَّرق الأوسط.

وحسب خبراء ومتابعين للدَّور الإماراتي في المنطقة؛ ورغم أنَّها “موَّلت إعادة بناء وتحديث ميناء الفاو العراقيّ، إلا أنَّ تركيّزها انصبَّ على ميناء “أم القصر”، كبديل لميناء الفاو، محاولة فتح منافذ لها على العالم، عبر مَدِّ أنابيب نفطها وغازها عبر هذه الطريق وإيصالها إلى الأسواق الأوروبيَّة والعالميَّة”.

ولكن يبدو أنَّ الإمارات لن تستطيع التَّوفيق بين مشاركتها في مشروعين، “الممرّ الهنديّ”، و”طريق التَّنمية”، رغم ميلها للمشاركة في الأخير؛ نظراً للفائدة المباشرة التي ستجنيها من ورائه، بسبب عدم وجود اشتراطات سياسيّة وتعقيدات كثيرة لجهة مشاركتها، رغم إمكانيّة تمويل المشروع من جانبها ومن جانب قطر. إلا أنَّها تتخوَّف من معارضة السّعوديَّة لمشاركتها، نظراً للثّقل الاستراتيجيّ للأخيرة في المنطقة ودورها المحوريّ في المشاريع المطروحة.

كذلك تشعر الإمارات بعدم الارتياح للعمل مع تركيّا، لجهة تغليب الأخيرة الجانب السِّياسيّ والأمنيّ على الاقتصاديّ، ومحاولة وضع المشروع برُمَّته في خدمة مصالحها الخاصَّة في المنطقة، دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الدّول الأخرى المشاركة فيه.

ويرى الباحث في شؤون الطاقة عامر الشوبكي أنَّ “لكُلِّ دولة من هذه الدّول اهتمامات مختلفة ومصالح مختلفة مع هذه المشاريع، لكنَّ مشاركة الإمارات في كلا المشروعين مستغرَبة منذ البداية، وأعتقد أنَّ مشروع طريق التَّنمية هو الأقرب إلى التطبيق حالياً، لكن بعد انتهاء الحرب الإسرائيليَّة على غزَّة، وبعد اتّفاقيَّة السَّلام التي ستحدث – رُبَّما – بين السّعوديَّة وإسرائيل، هناك العديد من العقبات التي ما زالت أمام مشروع الممرّ الاقتصاديّ الذي أعلن عنه.

أي أنَّ مشاركة الإمارات في مشروع “طريق التَّنمية” مشروطة بتطبيع العلاقات الدّبلوماسيَّة بين إسرائيل والسّعوديَّة، ومن المتوقَّع أن تبدأ بعد أن تضع الحرب في غزَّة أوزارها، بل لولاها لقطع الجانبان – الإسرائيليّ والسّعوديّ – شوطاً كبيراً على طريق التَّطبيع.

إلا أنَّ الإمارات تجنح إلى لعب أدوارها بهدوء دون إحداث ضجيج إعلاميّ كبير، وتبحث عن المساحات المناسبة بعيداً عن الحروب والصراعات، لتمرِّرَ مصالحها. وحسب المؤشرات المتوفّرة والمحيطة بأجواء ومناخات مشروع “طريق التَّنمية”، تبدو أنَّ فرصتها في الاستمرار والمشاركة ضعيفة؛ نظراً للتَّجاذبات السِّياسيّة في العراق وتركيّا، وكذلك انعكاس خلافاتها مع إيران حول جزيرَتي “طنب الصغرى والكبرى” التي تحتلُّهما إيران، ومن المتوقَّع أن تواجه الإمارات معارضة من إيران للمشاركة في المشروع، أو أنَّ أدوات إيران في العراق ستحاول استبعادها من المشاركة.

 

الأهداف السِّياسيّة والأمنيَّة والاقتصاديّة التُّركيّة من المشروع:

تَهدُف تركيّا إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجيّة طويلة الأمد من وراء المشروع، والتمدُّد في دول الجوار لتنفيذ مشاريعها التوسّعيّة، ليس أقلّها وضع مشروع “الميثاق الملّي” قيد التَّنفيذ، إلى جانب محاولة إشراك الدّول المساهمة في المشروع للقتال ضُدَّ حركة التحرُّر الوطنيَّة الكُردستانيَّة بقيادة حزب العُمّال الكُردستانيّ، وإيهام تلك الدّول أنَّ نجاح المشروع يتوقَف على “استئصال مقاتلي الكُردستانيّ/ الكريلا من المنطقة”، كإحدى شروط الأمن والاستقرار في المنطقة، وضمان سير العمل على الطريق البرّيّة السَّريعة، وكذلك على خطّ السكك الحديديّة، خاصَّةً أنَّ الطريقَين يمرّان من مناطق الدِّفاع المشروع التي تقع تحت سيطرة مقاتلي الكُردستانيّ.

وحسب وزير التّجارة التُّركيّ “عبد القادر أورال أوغلو” في مقابلة مطوَّلة مع موقع الجزيرة نت، فإنَّ “مشروع طريق التَّنمية ليس مجرَّد مشروع للنَّقل والطاقة أو الاتصالات”، وهو يلمّح إلى أهداف تركيّا السِّياسيّة والأمنيَّة من المشروع، وهو أمر غير خافٍ على أحد.

إنَّ الهاجس الأمنيّ يدفع تركيّا أكثر من الدّوافع والمرامي الاقتصاديّة في تنفيذ المشروع والمشاركة فيه بكُلِّ قوَّة. وهي تعوّل عليه كثيراً في حَلِّ ملفِّ القضيَّة الكُرديّة وطَيّه، وللأبد. ولكن قبل انخراط تركيّا في هذا المشروع؛ كانت حكومة الرَّئيس التُّركيّ الراحل “تورغوت أوزال” قد طرحت مشروع “الغاب” في عام 1983 ضمن إطار مشروعها الاستراتيجيّ القديم “إصلاح الشَّرق”، تأمّلت من خلاله حَلّ ملفّ القضيَّة الكُرديّة، من خلال إقامة نحو /22/ سدّاً على نهرَي “دجلة والفرات” وإنشاء مشاريع اقتصاديّة كبيرة في مناطق باكور/ شمال كُردستان، يمكن لها أن تمتصَّ نقمة الكُرد تجاه الدّولة التُّركيّة، وبالتالي تقضي على كفاح ونضال الشَّعب الكُرديّ من أجل نيل حقوقه. ومثلما فشل مشروع “الغاب” في إنهاء النِّضال الكُرديّ، كذلك سيكون مصير مشروع “طريق التَّنمية” الذي تحاول تركيّا من خلاله تصفية نضال الكُرد، وكذلك تقويض حكومة إقليم كُردستان رغم العلاقة الوثيقة بينها وبين الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ الحاكم في هولير/ أربيل.

كما أنَّ استبعاد تركيّا من مشروع “الممرّ الهنديّ” الاقتصاديّ، دفع حكومة حزب العدالة والتَّنمية بقيادة الرَّئيس رجب طيّب أردوغان إلى تبنّي المشروع العراقيّ بقوَّة وزخم كبيرَين، للانتقام من الولايات المتّحدة والدّول الغربيّة والسّعوديّة وإسرائيل، إضافة إلى محاولاتها الحثيثة للعب دور إقليميّ أكبر وأوسع والتمدّد في المنطقة.

فيما يعزو خبير الشؤون العراقيّة في مركز دراسات الشَّرق الأوسط في أنقرة، الدّكتور “بلجاي دومان”، أن “الاهتمام التُّركيّ بالمشروع العراقيّ يأتي ضمن إطار أوسع من تغيّر أولويات السّياسة الخارجيَّة التُّركيّة التي باتت تركّز على التَّعاون مع دول الإقليم ونبذ الخلافات”.

ويؤكِّدُ العديد من الخبراء الاقتصاديّين أنَّ تركيّا تحاول من خلال المشروع أيضاً “تقوية اقتصادِها الذي يعاني من أزمات عديدة”.

فالتدخُّلات السّافرة لتركيّا في الشؤون الدّاخليَّة لعِدَّةِ بلدان في المنطقة، وخاصَّةً دول الجوار، مثل سوريّا والعراق، انعكس سلباً على اقتصادها وقيمة اللّيرة التُّركيّة التي تَمُرُّ بأحلك مراحلها. فرغم أنَّ تركيّا كانت في المرتبة /13/ من بين أقوى الاقتصادات تقدّماً في العالم، إلا أنَّ اقتصادها تراجع بعد تورّط تركيّا في عدد من الدّول، كذلك الحرب التي تقودها في كُردستان ضُدَّ الشَّعب الكُرديّ وقوّات حزب العُمّال الكُردستانيّ، تستنزف الكثير من الموارد الاقتصاديّة في تركيّا. فلقد زاد حجم الإنفاق العسكريّ في تركيّا بسبب السِّياسات الخارجيّة والدّاخليَّة الخاطئة التي تنتهجها حكومة حزب العدالة والتَّنمية المتحالفة مع حزب الحركة القوميّة. ومع الحروب والتدخّلات البهلوانيَّة والعشوائيَّة لأردوغان في سوريّا، العراق، أذربيجان، ليبيا، اليمن وفلسطين، وإقصاء قطّاعات اقتصاديّة واسعة من العمل في تركيّا، واضطرارها للهروب برؤوس أموالها للعمل والاستثمار خارج تركيّا، نظراً للأوضاع الأمنيّة المتوترة وغير المستقرّة في تركيّا، وانقسام المجتمع التُّركيّ بين موالٍ لأردوغان وآخرين معارضين لسياساته، حدا بالاقتصاد التُّركيّ ليصل إلى حافة الهاوية ويستنجد أردوغان مساعدة وتدخّل حلفائه لإنقاذه من الانهيار.

لذلك تجد تركيّا في مشروع “طريق التَّنمية” متنفّساً لها وآخر محاولة لإخراج اقتصادها من عنق الزُّجاجة.

فيما يروِّج الموالون لأردوغان للمشروع في وسائل الإعلام التّابعة له، ويدَّعون أنَّ “نصف المشروع متحقّق بالفعل، فتركيّا تملك البُنية التَّحتيَّة اللّازمة التي يحتاجها المشروع على الجانب التُّركيّ، وما تبقّى هو تأهيل وبناء البُنية التَّحتيَّة في الأراضي العراقيّة”. ولكنَّهم في ذات الوقت يتجاهلون الأوضاع الأمنيَّة المتوتّرة في تركيّا، وحالة المعارضة الشَّديدة لأردوغان من قبل شرائح واسعة من الشَّعب التُّركيّ والكُرديّ، وهو ما تُرجِم من خلال نتائج الانتخابات المحلّيّة الأخيرة التي جرت أواخر شهر مارس/ آذار الماضي، حيث مُنِيَ حزب العدالة والتَّنمية وحليفه في السُّلطة حزب الحركة القوميّة بخسارة فادحة، ما يؤكّد حالة الامتعاض الشَّديدة من سياسات أردوغان. فترى أردوغان يبحث عن حلول لأزماته خارج حدود بلاده، عبر التورّط في ملفّات ساخنة وحروب، وكذلك الانخراط في مشاريع اقتصاديّة هنا وهناك، ومن ضمنها مشروع “طريق التَّنمية”.

وحسب متابعين؛ أنَّ كلّاً من العراق وتركيّا لا تملكان القدرة على تمويل المشروع، بل يحدوهما الأمل أن تستفيدا من عوائد المشروع أكثر من مساهماتهما في تمويله. حيث أنَّ عقدة التمويل جدّيَّة بالنِّسبة لإنجازه، وإن لم يتوفّر التّمويل بالشَّكل المطلوب، فإنَّ كُلّ الاتّفاقيّات والتَّفاهمات التي جرت حتّى الآن لن تكون أكثر من حبر على ورق، ومحاولة يائسة من قبل تركيّا التي تُشجّع دولاً أخرى للمشاركة في المشروع مثل السّعوديّة ودول الخليج الأخرى كسلطنة عُمان أيضاً.

ويؤكّد وزير التّجارة التُّركيّ بأنَّ المشروع “يختصر وقتاً بما يقارب 15 يوماً بالمقارنة مع السُّفن التي تسافر إلى أوروبا عبر قناة السّويس، من خلال ربط ميناء الفاو بالحدود التُّركيّة عبر خطّ سكك حديديّة وطريق سريع بطول 1200 كيلومتراً، وسيفتح المشروع باباً جديداً للتِّجارة الإقليميّة، وهذا المشروع له قيمة لا تقدّر بثمن بالنسبة لنا”. أي يشير إلى أنَّ مشروع “طريق التَّنمية” سيكون بديلاً لممرّ قناة السّويس المصريّ، ما يضع مصر تعارض المشروع وتسعى إلى عرقلته بكُلّ قوَّتها.

ويذهب الوزير التُّركيّ في نظرته المتفائلة بخصوص دور تركيّا في المشروع بعيداً، فيقول “منذ اندلاع الحرب الرّوسيَّة – الأوكرانيَّة اتّجهت الدّول الأوروبيّة إلى البحث عن مصادر طاقة بديلة عن روسيّا، وهذا ما زاد من أهميَّة طرق التّجارة الدّوليّة التي تربط بين منطقة الشَّرق الأوسط مع أوروبا التي تسعى لتوفير تدفّق آمن للطاقة”.

ويضيف “تلعب تركيّا دوراً مُهمّاً في مشروع طريق التَّنمية، إذ ستكون بوّابة دول الخليج إلى أوروبا، ما يؤكّد أهميَّتها الجيوسياسيّة نظراً لقربها من احتياطيّات الطّاقة في الشَّرق الأوسط والقوقاز، ومحاذاتها للدّول الأوروبيَّة”.

ويذكر الوزير التُّركيّ المنافسة العالميَّة على طرق نقل الطّاقة، ولكنَّه يبرز موقع تركيّا من تلك المنافسات والصراعات، بالقول “هناك منافسة غير معلنة ذات طابع اقتصاديّ بين التَّحالفات الدّوليّة، تتركَّز بشكل رئيس على الممرّات التِّجاريَّة، سواء كانت برّيَّة أم بحريَّة، وهنا تبرز أهميَّة مشروع طريق التَّنمية الذي سيتيح لتركيّا أن تكون عُقدَةَ رَبط مُهمَّة بين الشَّرق الأوسط وأوروبا”.

فإنْ كان المشروع في الأساس مشروعاً عراقيّاً من حيث الفكرة؛ فلماذا هذا التَّهافت الشَّديد من قبل تركيّا والتَّرويج له، والادّعاء بأنَّها تملك الإمكانيَّات الهندسيَّة والتقنيَّة لإنجاز المشروع؟ والمقاربة التُّركيّة وعنجهيّتها تشبه إلى حَدٍّ ما المقاربة الإسرائيّليّة من مشروع “الشَّرق الأوسط الكبير” الذي طرح رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق “إسحاق رابين”، حينما عدَّدَ مقوّمات مشروعه، على الشَّكل التّالي:

1 – خبرة وتقنية إسرائيليَّة.

2 – أموال ونفظ وغاز خليجيّ.

3 – يد عاملة مصريَّة وسوريَّة.

4 – مياه تركيّة.

5 – أسواق كُلّ بلدان المنطقة لتصريف البضائع.

ولكن هل لدى تركيّا القوَّة لمنافسة المشاريع العملاقة التي تقف وراءها اقتصاديّات عالميَّة كبيرة؟ يبدو أنَّ وضع تركيّا أصبح كالغريق الذي يتعلَّق بقشَّة، وتسعى بشتّى الوسائل إلى إنقاذ نفسها من الأزمات العميقة التي تَمُرُّ بها. إلّا أنَّ الثّابت أنَّ حَلَّ أزماتها سياسيّ داخليّ قبل أن يكون اقتصاديّاً، وهي التي طالما اعتبرت أنَّها من خلال تحسين الأوضاع الاقتصاديّة قادرة على خداع مواطنيها، وهو ما سيفشل فيه أردوغان وحزبه كما فشل أسلافه.

 

معارضة الكويت للمشروع:

الكويت هي من بين الدّول الخليجية المعارضة لمشروع “طريق التَّنمية”. فمن جانب عبَّر عدد من النوّاب الكويتيّين عن استيائهم من استبعاد الكويت من المشروع، ومن جانب تحدوها مخاوف من المشروع، خاصَّةً فيما يتعلَّق بميناء “الفاو” الذي يسعى المشاركون في المشروع لأن يكون بديلاً لميناء “مبارك” الكويتيّ. ويبدو أنَّ العداء التّاريخي بين البلدين إلى فترة حكم “صدّام حُسَين” وغزوه الكويت لا تزال تسيطر على ذهنية بعض النُّخب السِّياسيّة في الكويت، ولا تستطيع التحرُّر منها وتغييرها.

فالخلاف بين الكويت والعراق حول استجرار الثّانية النَّفط من الآبار التي تقع في أراضيها، لا يزال مستمرّاً رغم مرور عقود عليها، وهي ما انفكَّت تُطالب العراق بعوائدها، وهي نقطة الخلاف الرَّئيسيَّة التي جعلتها تنأى بنفسها عن المشاركة في مشروع “طريق التَّنمية”. كما أنَّ سلوك والسِّياسة الخارجيَّة للكويت تختلف نوعاً ما عن باقي نظيراتها من دول الخليج، فهي تحافظ على سياسة متّزنة عنوانها عدم الانخراط في الأحلاف والاصطفافات الإقليميّة والدّوليّة، إلّا بقدر ما تحفظ لها مصالحها، واتّخذت سياسة عدم الانحياز إلى أيّ من الأطراف المتنافسة في المنطقة، بقدر ما تحافظ فيها على مصالحها.

 

معوّقات المشروع والخلافات بين المشاركين:

مشروع “طريق التَّنمية” مثله مثل العديد من المشاريع الاقتصاديّة والتنمويَّة يحمل في طيّاته أهدافاً سياسيّة وأمنيَّة، وله ما يعرقله ويَحُدُّ من إنجازه، أو حتّى نسفه وكأنَّه لم يكن. ولا يمكن حصر تلك المعوّقات في دولة واحدة دون غيرها. فأيُّ مشروع استراتيجيّ من هذا القبيل تشترك فيه عِدَّةُ دول إقليميّة، أوَّل ما يحتاجه، هو المناخ الإقليميّ والدّوليّ الآمن والمستقرّ، ويتطلَّب تخفيف حِدَّةِ الصراعات والحروب بين أطراف وقوى عديدة في المنطقة، وهو غير متوفِّر حاليّاً. إضافة إلى العراقيّل المتعلِّقة بالإمكانيّات الماديَّة والتمويل، فضلاً عن ضرورة وجود بنية وهياكل مؤسَّسات متطوّرة في الدّول التي سيُنفَّذ فيها المشروع، وهذا أيضاً غير متوفر، على الأقلّ في العراق، الدّولة الأساس والمركزيَّة في المشروع. كما أنَّ الاستقرار الأمنيّ في العراق وتركيّا، يُعَدُّ العامل الأوَّل في عرقلة المشروع، وكذلك التَّنافس الكبير بين الدّول التي لها مشاريع تتعارض مع مشروع “طريق التَّنمية”، والذي يمكن أن يؤدّي إلى نسفه من أساسه.

ويقول الدّكتور “مثنّى العبيدي” أستاذ العلوم السِّياسيّة والدراسات الدّوليّة بجامعة تكريت في دراسة له بعنوان: “مشروع التَّنمية في العراق.. ما له وما عليه”، “لا ريب في القول: إنَّ تنفيذ مشروع طريق التَّنمية لا يأتي في بيئة داخليَّة وخارجيَّة مواتية، أو حتّى اعتياديَّة بقدر ما فيها من التعقيد الكثير، وقد يواجه هذا المشروع تحدّيات وعقبات عِدَّة، منها ما هو نابع من الوضع العراقيّ بكُلِّ ما يحمل من تعقيدات وتأزّم، ومنها ما هو نتيجة لمتغيّرات الوضع الإقليميّ وما فيه من محفّزات وكوامن للتَّنافس والصراع وتضارب المصالح”.

ويرى الدّكتور “العبيدي” إنَّ تهالك البُنى التَّحتيَّة في العراق، نتيجة الحروب التي خاضتها منذ عام 1980 وحتّى الآن، يُشكّل أكبر عائق أمام المشروع. ولا يمكن لمموّلي المشروع أن يعيدوا تأهيل كُلّ البُنية التَّحتيَّة في العراق، لتكون مؤهَّلة لخدمة المشروع، حيث أنَّ المشروع غير محصور بالطريق البرّيّة السَّريعة وخَطِّ سكك الحديد، بل كُلّ الطرق الفرعيَّة في العراق مرتبطة بها، بشكل مباشر أو غير مباشر، وتؤثّر على عمل الطريق وخط السّكك الحديديّ.

كما أنَّ الخلافات والتَّجاذبات السِّياسيّة الدّاخليَّة، وانقسام العراق بين الولاءات السِّياسيّة والدّينيَّة، وعدم نيل المشروع تأييد غالبيَّة القوى السِّياسيّة، لجهة وجود كتل وقوى سياسيّة كبيرة معارضة له، يعرقل تنفيذ المشروع. حيث وصف النّائب في البرلمان العراقيّ، “حسن سالم”، من كتلة (صادقون) الممثِّلة لحركة (عصائب أهل الحق)، المشروع بأنَّه: “وصمة عار في تاريخ ساسة العراق”، وأضاف أنَّه يمثّل: “فاتورة أخرى يدفعها الشَّعب العراقيّ بسبب الطبقة السِّياسيّة التي تشبّعت بفيروس الفساد”، فيما توجد قوى سياسيّة أخرى معارضة، ومؤيَّدة لمشروع “الحزام والطريق” الصّينيّ كبديل له.

يعدّ الفساد الإداريّ والماليّ والمحسوبيّات المستشرية ضمن معظم مؤسَّسات وإدارات الدّولة العراقيّة وسيادة البيروقراطيَّة فيها، يُعَدُّ من أهَمِّ التحدّيات أمام المشروع. ومعظم المشاريع في العراق تشهد تدخّلاً من قبل القوى العسكريّة والفصائل المتعددة المنتشرة. وانتشر في الأوساط السِّياسيّة العراقيّة أنَّ دراسة جدوى المشروع قد أحيلت إلى الشَّركة الإيطاليَّة “Progetti Europa & Global S.p.A” جاء بضغط من بعض الفصائل المُسلَّحة التي مارست تأثيراً مباشراً على الحكومة. أي أنَّ المشروع وهو لا يزال في بداياته يخضع للمحسوبيّات والابتزاز داخليّاً، فكيف إن دخل المشروع قيد التَّنفيذ وضُخَّت له أموال ضخمة، وهذه المسألة تثير مخاوف الدّول المشاركة فيه.

ولعلَّ تعقيدات الوضع الأمنيّ، وعدم استقرار الأوضاع في العراق وتركيّا، يُشكّل هو الآخر أكبر التحدّيات أمام المشروع. حيث وجود خلايا لتنظيم “داعش” الإرهابيّ في بعض المناطق؛ يُهدِّدُ أمن واستقرار العراق، إضافة إلى وجود الميليشيّات المرتبطة بإيران في جنوب العراق، والتي لها مصالح اقتصاديّة وأجندات مذهبيَّة تتعارض مع أهداف المشروع، فضلاً عن انتشار ظاهرة “السِّلاح خارج سيطرة الدّولة”، يجعل من العراق بيئة غير آمنة، ولن تجازف الدّول المشاركة في المشروع وغيرها التي تنوي نقل بضائعها ومسافريها عبر العراق على المخاطرة وتحمل تَبِعات الفلتان الأمنيّ في العراق، بل هي تنظر إلى العراق “كمناخ غير ملائم للاستثمار”.

كما أنَّ النَّقص في موارد الطّاقة لدى العراق، يُشكل هو الآخر سبباً آخراً لعزوف الدّول المشاركة عن الاستمرار، فلن تستطيع تلك الدّول تَحَمُّل تكاليف توفير الطّاقة الكهربائيَّة اللّازمة لتنفيذ المشروع وتشغيله بعد الانتهاء منه، وإعادة تأهيل البُنية الكهربائيَّة في العراق يتطلَّب أموالاً إضافية باهظة ووقتاً طويلاً، لن تتحمَّل نفقاتها الدّول المشاركة. فلا تزال مناطق عديدة في العراق تعاني من أزمة انقطاع كهرباء مزمنة على غرار سوريّا. ولمعالجة هذه المعضلة يتطلَّب التعاقد مع شركات أجنبيَّة واستقدامها لتنفيذ مشاريع إعادة تأهيل البُنية التَّحتيَّة الكهربائيَّة في العراق بشكل كامل، وهذا يرتّب على المشروع تخصيص أموال إضافيَّة طائلة لن يكون بمقدور أحد تَحمُّل تكاليفها.

كما أنَ الشروط التَّعجيزيَّة التي تضعها تركيّا أمام المشروع، والمتمثّل بمشاركة العراق بالدَّرجة الأولى، وكذلك الدّول الأخرى، بمحاربة حزب العُمّال الكُردستانيّ، إحدى أكبر العراقيّل لإتمام وإكمال المشروع. رغم أنَّ الحكومة العراقيّة تحاول التنصُّل من تلك الضغوط التُّركيّة. ففي الاجتماعات المكثَّفة بين مسؤولي البلدين، والتي تُوِّجَت بزيارة الرَّئيس التُّركيّ أردوغان لبغداد، حاولت تركيّا نيل موافقة الحكومة العراقيّة وإشراكها في العمليّات العسكريّة ضُدَّ قوّات حزب العُمّال الكُردستانيّ في مناطق الدِّفاع المشروع بإقليم جنوب كُردستان، ولم ترضخ الحكومة العراقيّة لجملة الضغوط التُّركيّة، بل على العكس من ذلك، دعت عِدَّةَ أطراف سياسيّة تركيّا إلى سحب قوّاتها من شمال العراق/ إقليم جنوب كُردستان واعتبرتها “قوّات احتلال”، خاصَّةً من جانب بعض القوى الشّيعيّة. ورفض العراق وصف حركة حزب العُمّال الكُردستانيّ بـ”حركة إرهابيَّة” نزولاً عند الرَّغبة التُّركيّة، بل اكتفت بالقول أنَّها “حركة محظورة في العراق”.

كما أنَّ تركيّا عمدت إلى تحويل العراق إلى سوق لتصريف بضائعها وسلعها، حيث انتشرت فيها الشَّركات التُّركيّة، وخاصَّةً في إقليم جنوب كُردستان، وهي بالظاهر شركات استثماريَّة، إلا أنَّها تقوم بأعمال استخباراتيَّة لصالح الدّولة التُّركيّة، وهذه الحقيقة يتوجَّس منها العراق وكذلك القوى المعارضة للتَّواجد التُّركيّ في العراق، بل إنَّ بعضاً منها اشترطت مشاركة تركيّا في المشروع بسحب كُلّ قوّاتها المتواجدة على أراضيها وإزالة قواعدها العسكريّة المنتشرة كالفطور السامَّة في معظم مناطق إقليم جنوب كُردستان.

يُشكِّلُ التحدّي الإيرانيّ والمشاريع الإيرانيّة الخاصَّة في العراق، عقبةً كبيرة للمُضيّ في تنفيذ المشروع، وهو ما يثير المخاوف لدى دول عديدة مشاركة في المشروع، وخاصَّةً الإمارات العربيَّة المتّحدة، وكذلك السُّعوديَّة التي تقف وراءها. فارتباط العراق بإيران عبر مشاريع اقتصاديّة ضخمة، يَحُدُّ من اندفاعتها – أي الإمارات – للاستمرار في تنفيذ مشروع “طريق التَّنمية”. فهناك حالة تبعيَّة سياسيَّة واقتصاديَّة لإيران لجهة إمدادها العراق بالطّاقة الكهربائيَّة والغاز، كما أنَّ المشروع السّككي الثُّلاثي بين إيران والعراق وسوريّا، يتناقض مع مشروع “طريق التَّنمية”، وأجندات المشروع السِّياسيّة وأيضاً الاقتصاديّة تتعارض مع الأجندات الإيرانيّة في العراق، وبالتَّأكيد ستحاول إيران عرقلة مشروع “طريق التَّنمية”. والكُلُّ يدرك قوَّة إيران في العراق من خلال أدواتها والميليشيّات التّابعة لها، وهي قادرة على تعطيل أيّ مشروع يتعارض مع مصالحها في العراق.

ويرى مراقبون آخرون أنَّ انخفاض تكاليف النَّقل البحريّ مقارنة بالنَّقل البرّيّ، يُعَدُّ هو الآخر تحدّياً كبيراً أمام مشروع “طريق التَّنمية”، إذ يتطلَّب الثاني تكاليف تشغيل إضافيّة، من قبيل تفريغ السُّفن من الحاويات وإعادة تحميلها في القاطرات أو سيّارات الشَّحن، وإعادة تحميلها بالسُّفن في الموانئ التُّركيّة (ميناء ميرسين) مرَّةً أخرى، فيما تحميل البضائع والحاويات في السُّفن ومرورها عبر قناة السّويس لا يرتّب على البضائع تكاليف زائدة. وهذا ما يجعل قناة السّويس تحتفظ بأهميَّتها ولا يستطيع مشروع “طريق التَّنمية” منافستها، وهذه الحقيقة تدركها معظم الدّول.

 

المعارضة الأمريكيّة الضُّمنيَّة للمشروع:

لم تفصح الولايات المتّحدة عن معارضة صريحة لمشروع “طريق التَّنمية”، وهي التي تمسك بمعظم خيوط اللُّعبة الاقتصاديّة والسِّياسيّة والعسكريّة في منطقة الشَّرق الأوسط، لكنَّها في ذات الوقت غير متشِّجعة له، وتجد فيه تحدّياً لمشاريعها في المنطقة، وخاصَّةً “الممرّ الهنديّ”.

وبحسب المعارض العراقيّ المقيم في تركيّا “مازن السّامرائي”، أنَّ المشروع لن يرى النور، “لأنَّه يعارض سياسة الولايات المتّحدة في المنطقة”، واعتبر أنَّ العراق “بحاجة للتشاور مع واشنطن وطهران قبل الشروع بتنفيذ المشروع. وتوقَّع “بألا تتخلّى الولايات المتّحدة عن العراق، لأنَّها تُعَدُّ بمثابة دجاجة تبيض لها ذهباً”، وفق توصيفه.

ومعارضة واشنطن للمشروع تأتي من زاويتين اثنتين، أوَّلها أنَّ المشروع – أي مشروع طريق التَّنمية – يُعَدُّ جزءاً متمّماً للمبادرة الصّينيّة “الحزام والطريق”، وفق رؤيتها. وهناك تكهُّنات بأنَّ المشروع برُمَّته ما هو إلا جزء متمِّم للمبادرة الصّينيّة “الحزام والطريق”. وقد نُقِلَت معلومات بأنَّ شركات صينيَّة بدأت بتحديث ميناء “الفاو”. وثاني أسباب اعتراض الولايات المتّحدة للمشروع، يتمثَّل بعدم إفساح المجال لإيران للمشاركة في المشروع والاستفادة منه. ولكن ما يشغل تفكير واشنطن بالدَّرجة الأولى هو عدم إشراك إسرائيل في المشروع، فهي تنظر إلى أيّ مشروع في المنطقة دون إسرائيل بأنَّه فاشل ويجب أن تعارضه. وهي العقيدة التي تؤمن بها الولايات المتّحدة، حيث تحاول دائماً إدماج إسرائيل في الشَّرق الأوسط، عبر إنشاء تحالفات لا تستبعدها، إلى جانب المُضيّ في عمليّات التَّطبيع بينها وبين الدّول العربيَّة، وكذلك إشراكها في جميع المشاريع الاقتصاديّة والتَّنموية في المنطقة.

ورغم الخلافات العميقة بين الولايات المتّحدة وتركيّا بشأن العديد من القضايا في الشَّرق الأوسط، أوَّلها الملفُّ السُّوريّ، ودعم تركيّاً وتبنّيها تنظيم “الإخوان المسلمين” العالميّ ومن بينها حركة “حماس”، وكذلك الموقف من الإدارة الذّاتيَّة في شمال وشرق سوريّا والقضيَّة الكُرديّة عموماً، إلا أنَّ الحوار بين الجانبين لم ينقطع ضمن ما أطلق عليه اسم “الشَّراكة الاستراتيجيّة”، وتحاول تركيّا نيل موافقة الولايات المتّحدة على مشروع “طريق التَّنمية”. وفي هذا الصدد تروِّج تركيّا بأنَّ الأولى أعطت الضوء الأخضر لمشروع “طريق التَّنمية”، حسب المحلّل السِّياسيّ التُّركيّ “سليمان سيفي أوغون”، الذي أكَّدَ أنَّ “هناك اتّصالات مكثَّفة تجري بين الولايات المتّحدة وتركيّا في الآونة الأخيرة وتشير إلى أنَّ الجانب الأمريكيّ قد أعطى الضوء الأخضر لمشروع “طريق التَّنمية” العراقيّ الذي يربط تركيّا وأوروبا شمالاً والخليج العربيّ جنوباً”، وهو ما لم تؤكِّدُه الولايات المتّحدة رسميّاً.

وذكر معهد “كارنيجي” الأمريكيّ للأبحاث – وهو معهد مُقرَّب من الحكومة الأمريكيّة ويعكس في دراساته وجهة نظر ومواقف الحكومة الأمريكيّة – في تقرير له حول مشروع “طريق التَّنمية”، أنَّ “فكرة تحويل الحدود إلى نقاط ربط بين الدّول والقارات ازدهرت خلال السَّنوات الأخيرة، والكثير من هذه المشاريع، التي تُحرِّكها حسابات داخليَّة ومغلَّفة بخطاب قوميٍّ شعبويٍّ، قد تؤدّي في نهاية الأمر إلى تعزيز المنافسة ومفاقمة الصراعات، بدلاً من أن تعزِّزَ التَّكامل الاقتصاديّ”. وقال التَّقرير عن مشروع “طريق التَّنمية”، “يبدو المشروع جذّاباً من النّاحية النَّظريَّة، إلا أنَّ “الشَّيطان يكمن في التفاصيل”، ومشروع طريق التَّنمية ليس مفهوماً جديداً، وأنَّ الفكرة متداولة منذ سنوات عديدة”. وذهب إلى حَدِّ الاعتقاد بأنَّ “منتقدي المشروع يرَون أنَّه قد يكون مُجرَّد غطاء جديد للفساد السِّياسيّ، وبأنَّه سيَتُمُّ استغلاله من أجل تمرير أرباح غير قانونيَّة إلى الأحزاب السِّياسيّة الحاكمة ورجال الأعمال المرتبطين بالأحزاب”.

 

موقف إيران من المشروع:

هناك غموض وضبابيَّة حول الموقف الإيرانيّ الرَّسميّ من مشروع “طريق التَّنمية”، ولا يزال محصوراً في طور التكهُّنات من قبل العديد من المراقبين والخبراء السِّياسيّين في المنطقة والعالم، رغم صدور بعض ردود الفعل المعارضة والرّافضة للمشروع من قبل بعض التيّارات السِّياسيّة الموالية لها في العراق، وخاصَّةً الشّيعيّة.

إنَّ قبول إيران بالمشروع، يفضي إلى دفن مشروعها “الهلال الشّيعيّ” المُمتدّ من أراضيها إلى العراق وسوريّا ولبنان، إضافة إلى تراجع نفوذها في العراق بالدَّرجة الأولى، وإلغاء مشروعها المزمَع المباشرة به “مشروع الرَّبط الثُّلاثي لسكك الحديد بينها وبين العراق وسوريّا”. هذا الموقف سينعكس على تراجع نفوذها في منطقة الشَّرق الأوسط بأكمله.

ومن المتوقَّع أن تلجأ إيران إلى توسيع تحالفاتها في العراق، وتقوية نفوذها عبر زيادة دعمها للتيّارات الموالية لها والرّافضة لمشروع “طريق التَّنمية”، ومن غير المستبعد أن تعمد إيران إلى الإطاحة بالحكومة الحالية التي تسعى إلى تعزيز التَّعاون مع تركيّا التي تُعلّق آمالاً كبيرة على هذا المشروع. ولكن لن تذهب إيران إلى مواجهة مفتوحة مع القوى الدّاعمة والمشاركة في المشروع على الأراضي العراقيّة، بلد ستحرّك أدواتها، وتسحب البساط من تحت المتشّجعين للمشروع داخل العراق.

وإيران تفكِّر وتعمل بشكل استراتيجيّ، ولكن “من غير المرجَّح أن تسمح إيران لتركيّا بتنفيذ مشروع يمكن أن يُهدِّدَ نفوذها في العراق”. وتفضّل إيران أن تكون المبادرة الصّينيّة “الحزام والطريق” بديلاً لمشروع “طريق التَّنمية”، لأنَّها دولة أساسيَّة فيه.

فيما يعتقد البعض أنَّ هناك أملاً ضئيلاً في أن توافق إيران على المشروع، بشرط حصولها على فوائد كبيرة، من قبيل ربط شبكة السِّكك الحديديّة المُمتدّ من أراضيها إلى إقليم كُردستان بشبكة السّكك الحديديّة للمشروع، أي تدفُّق سلعها وبضائعها إلى الأسواق العالمية، وهذا مرفوض في ظِلِّ العقوبات الأمريكيّة والغربيّة المفروضة على إيران.

 

موقف حكومة إقليم كُردستان من المشروع:

تُبدي حكومة إقليم كُردستان مقاربات حَذِرة من مشروع “طريق التَّنمية”، في ظِلِّ التشابكات والحسابات السِّياسيّة المعقَّدة التي تَلفُّ المشروع، إلى جانب التوتُّرات التي تشهدها علاقاتها مع الحكومة المركزيَّة في بغداد بين الحين والآخر، حول تصدير النَّفط وعائداته، وكذلك بخصوص الميزانيَّة الخاصَّة للإقليم من الميزانيَّة الفيدراليَّة، والمناطق المُتنازع عليها وفق المادّة /140/ من الدّستور العراقيّ الفيدراليّ. ودائماً تَنفُثُ تركيّا في تلك الخلافات، لإحداث شرخ بين الطرفين، لِتُضعِفَ معها حكومة الإقليم.

وترى حكومة الإقليم أنَّها مغبونة لأبعد الحدود لاستبعادها من المشاركة في مشروع “طريق التَّنمية”، حيث تُصِرُّ تركيّا على عدم مرور الطريق البرّيّ السَّريع، وكذلك خطّ السّكك الحديديّة من أراضيها، وبالتّالي حرمانها من عائدات مرور البضائع والسّلع. وأهمُّ من ذلك؛ إقصاء حكومة الإقليم من أيّ تحالفات واصطفافات سياسيّة، لأنَّ أهداف المشروع ودوافعه سياسيّة قبل أن تكون اقتصاديّة وتنمويَّة.

وبناء خطُّ السكك الحديديّة بين إيران وتركيّا عبر أراضي إقليم كُردستان؛ يتطلَّب موافقة تركيّا الأخيرة عليه؛ حيث يفضّل الإقليم أن ينتهي الخطُّ الحديديّ عند معبر “إبراهيم الخليل”، فيما ترغب تركيّا بأن ينتهيَ عن معبر “فيش خابور”.

وزيارة الرَّئيس التُّركيّ أردوغان إلى إقليم كُردستان، ورغم أنَّه لم يُفصَح عن فحواها كثيراً، إلا أنَّ أردوغان لم يتعهد فيها بإشراك حكومة الإقليم في المشروع، وهو ما فسَّرته زيارة رئيس الإقليم “نيجيرفان بارزاني” إلى إيران وطلب مساعدتها لتنفيذ مشروع بناء خطّ سكّة حديد يربط بين إيران وتركيّا عبر أراضي الإقليم، وهو ما يُعَدُّ تحدّياً لمشروع “طريق التَّنمية”.

إلا أنَّ تنفيذ خطّ سكّة الحديد المطروح من قبل حكومة الإقليم هو الآخر يواجه مشاكل التَّمويل، فلا قدرة ماليَّة لدى الإقليم لتمويل المشروع، بعد أن جمَّدت تركيّا تسليم الإقليم عوائد النَّفط المُصدَّر عبر أراضيها سابقاً، وتوقَّف التَّصدير حاليّاً لخلافات بين الإقليم والحكومة المركزيَّة.

وحسب بعض المصادر الإعلاميَّة والاقتصاديّة في الإقليم، بأنَّ مشروع سكّة الحديد “لا يزال في المرحلة التَّمهيديَّة المبكّرة”، رغم أنَّ “حكومة إقليم كُردستان أعدَّت تقريراً عن الجدوى عن المسار بالتَّعاون مع شركة إسبانيَّة، ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح متى سيَتُمُّ الانتهاء من عمليَّة التَّصميم والمناقصة”.

وفي رَدٍّ رسميٍّ من حكومة إقليم كُردستان على استبعادها من المشاركة في مشروع “طريق التَّنمية”؛ قال وزير النقل في حكومة إقليم كُردستان “أنو عبدوكا” أنَّ “هكذا مشروع لن يبصر النور من دون إقليم كُردستان”. وحذَّر “عبدوكا” من أنَّ شبكة النَّقل المُخطَّط لها يجب أن تتجنَّب “التمييز” ضُدَّ أيّ عراقيّ. فيما رَدَّ عليه المتحدّث باسم الحكومة العراقيّة “باسم العوّادي” أنَّ “حكومة إقليم كُردستان لم يَتُمّ إشراكها “لأسباب فنيَّة بحتة”، وتضاريس إقليم كُردستان الجبلية غير مناسبة لتنفيذ المشروع، ورغم ذلك هناك خطط لإشراك كُردستان العراق في نهاية المطاف”.

وتنفي حكومة إقليم كُردستان أنَّ تكون القضايا الفنيَّة والتَّضاريس هي العقبة الرَّئيسيَّة أمام إشراك حكومة إقليم كُردستان في المشروع وأنَّ “طريق التَّنمية هو مسعى سياسيّ يهدف إلى الحَدِّ من النّفوذ الاقتصاديّ والسِّياسيّ لأربيل من خلال إنشاء رابط مباشر بين العراق الاتّحادي وتركيّا”.

ولدى حكومة إقليم كُردستان هواجس عديدة حيال سعي الحكومة المركزيَّة العراقيّة وتركيّا من رفضهما مشاركة الإقليم في مشروع “طريق التَّنمية”. وفي هذا الصدد قال النّاطق باسم حكومة إقليم كُردستان “بيشاوا هوراماني” إنَّ “الحكومة العراقيّة تحاول عرقلة حصول إقليم كُردستان على مميّزات مشروع تطوير الطرق”. وأضاف: “لا ينبغي استبعاد مدن إقليم كُردستان من هذا المشروع. نحن عازمون على بذل كُلّ الجهود الممكنة لضمان عدم حصول ذلك”.

فيما قال مدير المكتب الإعلاميّ لوزارة النَّقل في الحكومة المركزية العراقيّة “ميثم عبد الصّافي” إنَّ “إقليم كُردستان هو جزء من هذا المشروع، ومنطقة “فيش خابور” هي نقطة الرَّبط في الطريق، حيث أبلغت الوزارة حكومة الإقليم والجانب التُّركيّ بهذا الصدد”. إلا أنَّ الواقع يدحض هذه التَّصريحات، والثّابت أنَّ هناك فيتو تركيّ بالدَّرجة الأولى على مشاركة الإقليم، مبعثه مخاوف تركيّا من تحول الإقليم إلى قوَّة يمكن لها أن تتحوَّل مستقبلاً إلى منافِسٍ حقيقيٍّ لها في المجال الاقتصاديّ وحتّى السِّياسيّ، وهي – أي تركيّا – تنظر إلى مسألة مشاركة الإقليم في المشروع من زاوية قوميَّة بحتة، لأنَّها تُعادي كُلّ التطلّعات الكُرديّة، وفي جميع أجزاء كُردستان، حتّى وإن كان لها علاقات اقتصاديّة وأمنيَّة واسعة مع حكومة الإقليم.

 

حزب العُمّال الكُردستانيّ وأوهام تركيّا:

تُلوِّحُ تركيّا دائماً بورقة تواجد قوّات حزب العُمّال الكُردستانيّ (الكريلا) في المناطق الشّماليَّة بجنوب كُردستان/ إقليم كُردستان العراق، وتُهدِّدُ بها جميع الأطراف، وتسوِّقُ لمزاعم بأنَّ تواجده في تلك المنطقة الجيوسياسيّة الحسّاسة، إنَّما يؤثّر على أمن واستقرار المنطقة، وتبحث عن شركاء لها في حربها المستمرّة ضُدَّ قواعد الكريلا في تلك المنطقة، وتَشُنُّ طائراتها الحربيَّة والمُسيَّرة غارات يوميَّة على المناطق الواقعة تحت سيطرة الحزب، إضافة إلى هجماتها البرّيّة.

وقبل طرح فكرة إقامة مشروع “طريق التَّنمية” بفترة بعيدة؛ توغَّلت تركيّا عسكريّاً في مناطق جنوب كُردستان، وأقامت فيها أكثر من /40/ قاعدة عسكريَّة لها، هذا عدا المقار الاستخباراتيَّة المنتشرة في معظم مدن جنوب كُردستان. وإن كانت تركيّا تهوّل كثيراً ممّا تزعمه من خطر وجود قوّات حزب العُمّال الكُردستانيّ في تلك المنطقة؛ فإنَّ قواعدها العسكريّة المنتشرة في معظم مناطق إقليم كُردستان تُهدِّدُ أمن واستقرار الإقليم والعراق برُمَّته. ومنذ اليوم الأوَّل لدخول القوّات العسكريّة التُّركيّة فيها، لم ينعم العراق بالأمن والاستقرار، فتواجدها أكبر تهديد على مستقبل العراق وحاضره. وطالب العراق مرّات عديدة تركيّا بسحب كامل قوّاتها من أراضيها، في حين وصفته معظم القوى السِّياسيّة بأنَّ تواجد القوّات التُّركيّة على الأراضي العراقيّة هو “احتلال مكشوف”، حتّى أنَّ الحشد الشَّعبيّ طالب بمقاومة القوّات التُّركيّة، ويُنفِّذ بين الحين والآخر عمليّات استهداف لتلك القواعد.

والحكومة العراقيّة لا تنظر لوجود حزب العُمّال الكُردستانيّ في تلك المنطقة خطراً يزعزع أمن واستقرار العراق، بل هي قدَّمت ضمانات لتركيّا، بأنَّها إذا سحبت قوّاتها من الأراضي العراقيّة، فإنَّ حزب العُمّال سيكون جزءاً من أمن واستقرار المنطقة والعراق.

وتسعى تركيّا إلى تحقيق عِدَّةِ أهداف من خلال المشروع، منها:

1 – فرض الحصار على قوّات حزب العُمّال الكُردستانيّ في مناطق تواجده، وإشراك دول إقليميّة في حربها معه.

2 – تغيير مسار الطريق البرّيّة السَّريعة وخَطِّ السّكك الحديديّة من معبر “فيش خابور” إلى معبر “آفاكوي”، وهدفها فرض طوق مُحكَم على الإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا، وقطع أيّ تواصل لها مع العالم الخارجيّ، حيث أنَّ معبر “سيمالكا” و”تل كوجر” هما المنفذان الوحيدان للإدارة الذّاتيّة مع الخارج، وبالتّالي قطع أيّ تواصل للإدارة مع حكومة الإقليم أيضاً.

3 – محاولة تمركز قوّاتها العسكريّة على حدود إقليم كُردستان مع روجآفا وشمال وشرق سوريّا، وإعادة تقطيع أوصال المناطق الكُرديّة، ممّا يُسهّل عليها التَحكُّم بحركة التنقّل عبر حدود البلدين.

4 – إقناع الحكومة العراقيّة بنشر قوّاتها في المناطق التي تسيطر عليها الكريلا، وأيضاً في مناطق إقليم كُردستان، لإضعافها أو الضغط عليها لقبول الإملاءات والشُّروط التُّركيّة للمشاركة في محاربة قوّات حزب العُمّال الكُردستانيّ.

5 – شرعنة تواجد قوّاتها العسكريّة في المنطقة تحت مزاعم حماية “طريق التَّنمية”، فيما الهدف الأساس محاربة حزب العُمّال الكُردستانيّ، حيث أنَّ منطقة المثلَّث الحدوديّ بين كُلٍّ من العراق، سوريّا وتركيّا، له أهميَّة كبيرة في الحسابات التُّركيّة المتعلّقة ببسط سيطرتها على كُلٍّ من العراق وسوريّا.

وتحاول تركيّا إقامة حزام أمنيّ في العراق بعمق يتراوح بين /30/ و/40/ كيلومتراً على غرار ما تفعل في سوريّا، كجزء من مشروعها “الميثاق الملّي”. وتسوّق للمشروع عبر الادّعاء بأنَّها تحاول قطع الصّلة بين حزب العُمّال الكُردستانيّ والإدارة الذّاتيَّة في شمال وشرق سوريّا، رغم أنَّ الأخيرة نفت مراراً أنَّها غير مرتبطة بحزب العُمّال الكُردستانيّ، بل هي تتّخذ قراراتها بشكل مستقلّ.

وقد صرَّحت أنقرة مراراً أنَّها تسعى إلى قطع ممرّ الإدارة الذّاتيَّة مع إقليم كُردستان، وذلك من خلال فتح معبر “آفاكوي”، إضافة إلى أنَّها تريد “الوصول إلى المناطق السُنّيَّة والتُّركمانيَّة في شمال العراق، مثل الموصل، حيث تقع قاعدة “بعشيقة” العسكريّة التُّركيّة، وأيضاً كركوك، حيث يعيش فيها عدد من التُّركمان”. وتخطِّط تركيّا لتعزيز مواقع التُّركمان والعرب السُنّة في إقليم كُردستان والعراق بشكل عام من خلال هذا المشروع، وخاصَّةً في الموصل.

كما تحاول تركيّا من خلال هذا المشروع ضرب التَّحالف القائم بين الإدارة الذّاتيَّة وحزب الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ في إقليم كُردستان، وحاولت مراراً استهداف عناصر من الإدارة في مدينة “السُّليمانيَّة” الواقعة تحت سيطرة الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ، مقابل دعمها للحزب الديمقراطي الكُردستانيّ لزيادة نفوذه في الإقليم. كما تهدف تركيّا إلى ضرب تجربة الإدارة الذّاتيَّة في شنكال، وإعادتها إلى سيطرة الحكومة المركزيَّة العراقيّة، أو إلى حكومة إقليم كُردستان، ليكون شعبها الكُرديّ الإيزيديّ وجهاً لوجه مع مخاوف وقوع مجازر جديدة ضُدَّهم، على غرار المجزرة التي ارتكبها تنظيم “داعش” الإرهابيّ بحقّهم في أغسطس/ آب 2014.

ومشروع “طريق التَّنمية” له بعد أمني بالنسبة لتركيّا أكثر من البعد الاقتصاديّ، فهي الآن تُخطّط لِشَنِّ عمليَّة برّيَّة واسعة ضُدَّ قوّات حزب العُمّال الكُردستانيّ في الصيف القادم، رغم أنَّ حربها ضُدَّ الحزب لم تتوقَّف منذ أكثر من ثلاث سنوات، بل تحاول إضفاء هالة إعلاميَّة مضخَّمة على عمليّاتها، للاستهلاك الدّاخليّ بالدَّرجة الأولى، بعد أن مُنِيَ حزب العدالة والتَّنمية بقيادة أردوغان بهزيمة مدوّية في الانتخابات المحلّيَّة الأخيرة.

الخاتمة:

يبقى مشروع “طريق التَّنمية” في النِّهاية خاضعاً للديناميكيّات السِّياسيّة أكثر من الاقتصاديّة، فيما أيّ تطوّر عسكريّ “حرب، عدم الاستقرار الأمنيّ”، قد ينسف المشروع برُمَّته، خاصَّةً في منطقة مثل العراق وتركيّا التي لم تشهدا يوماً استقراراً أمنيّاً، نظراً لحجم الأزمات السِّياسيّة والأمنية والانقسامات بين أطياف من يُديرون اللُّعبة السِّياسيّة فيها، وتفضيل النُّخب الحاكمة فيها مصالح أنظمتها على مصالح شعوبها.

كما بات يقيناً أنَّ أيَّ مشروع اقتصاديّ أو سياسيّ إن كان يريد أن يُبصِرَ النّور، يجب أن يحظى بقبول دوليّ، وعلى رأسها موافقة الولايات المتّحدة التي تمسك بتلابيب وخيوط اللُّعبة السِّياسيّة والاقتصاديّة في الشَّرق الأوسط، وهي لا تزال تلتزم الصَّمت، الذي يوحي إلى عدم ارتياحها من مشاريع اقتصاديّة تشارك فيها قوى إقليميّة تسعى لتصدُّر المشهد السِّياسيّ والأمنيّ في المنطقة.

كما أنَّ استبعاد حكومة إقليم كُردستان من المشاركة في المشروع، قد يترتَّب عليه تَبِعات، أقَلُّ ما يمكن القول عنها أنَّها ستعرقل المشروع وفق إمكانيّاتها. فحكومة الإقليم حينها سيكون أمامها هامش للمناورة، من خلال إمكانيَّة انخراطها في تحالف مع حزب العُمّال الكُردستانيّ، وتخفيض حِدَّةِ التوتُّر معه، بل حتّى التَّنسيق معه في تشكيل ضغط أمنيّ وعسكريّ على تركيّا، وبالتّالي عرقلة المشروع. ومن جهة أخرى ستسعى للدُّخول في تحالفات وتوافقات مع إيران من خلال حزب الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ الذي يحتفظ بعلاقات ودّيَّة جيَّدة مع إيران. ويمكن أن تُشكِّلَ هذه عوامل كبح لدى الدّول الموقِّعة على المشروع، وتنكفئ وتلغي مشاركتها فيه.

إنَّ احتمالات وعوامل فشل المشروع هي أكثر من عوامل نجاحه، بل إنَّه يحمل عوامل فشله معه.

 

المراجع:

_________________

 

1 – بيان لوزارة الخارجيَّة العراقيَّة.

2 – مقالة للباحث في شؤون الطاقة “عامر الشوبكي”.

3 – مقابلة لوزير التّجارة التُّركيّ “عبد القادر أورال أوغلو” في مقابلة مطوَّلة مع موقع الجزيرة نت.

4 – مقالة تحليليّة لخبير الشؤون العراقيّة في مركز دراسات الشَّرق الأوسط في أنقرة، الدّكتور “بلجاي دومان”.

5 – دراسة للدّكتور “مثنّى العبيدي” أستاذ العلوم السِّياسيّة والدراسات الدّوليّة بجامعة تكريت بعنوان “مشروع التَّنمية في العراق.. ما له وما عليه”.

6 – تعليق لنّائب في البرلمان العراقيّ، “حسن سالم”، من كتلة (صادقون) الممثِّلة لحركة (عصائب أهل الحق).

7 – مقالة للمعارض العراقيّ المقيم في تركيّا “مازن السّامرائي”.

8 – تحليل للمحلّل السِّياسيّ التُّركيّ “سليمان سيفي أوغون”.

9 – تقرير لمعهد “كارنيجي” الأمريكيّ للأبحاث – وهو معهد مُقرَّب من الحكومة الأمريكيّة ويعكس في دراساته وجهة نظر ومواقف الحكومة الأمريكيّة – حول مشروع “طريق التَّنمية”.

10 – تعليق وزير النقل في حكومة إقليم كُردستان “أنو عبدوكا” على مشروع “طريق التَّنمية”.

11 – تصريح المتحدّث باسم الحكومة العراقيّة “باسم العوّادي”.

12 – تصريح النّاطق باسم حكومة إقليم كُردستان “بيشاوا هوراماني”.

13 – تعليق مدير المكتب الإعلاميّ لوزارة النَّقل في الحكومة المركزية العراقيّة “ميثم عبد الصّافي”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى