أبحاث ودراساتأحمد زردشتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 65

مستقبل المملكة العربية السعودية في ظل سياسة التغيير والانفتاح

أحمد زردشت

أحمد زردشت

مقدمة

لا بد للمرء أن يعتمد في تحليله للسياسات التي تنتهجها العائلة الحاكمة في الخليج على ما يراه, إذ يتمّ التكتّم بعناية على المشاورات الداخلية التي لا تتّضح إلا عبر نتائجها الملموسة. لقد بانت في السنوات الأخيرة نتيجة مهمة في المملكة العربية السعودية, فقد نجحت عائلة آل سعود الحاكمة في تجاوزها للمهمة الصعبة بطبيعتها والمتمثلة، في إعادة هيكلة دوائر السلطة وتمريرها من أبناء المؤسس إلى أبناء الأبناء، وانتقت الوجه الريادي للجيل الثالث, ونجح الملك سلمان بن عبد العزيز في دمج السلطات ومنحها لابنه, فقد بات محمد بن سلمان ولياً للعهد وفي قبضته مصير المملكة العربية السعودية.

إن عملية ترقية محمد بن سلمان كانت سريعة ولكن لم تمرّ من دون أن تخلّف جدلا, وقد ضربت بعادات وممارسات تقليدية ـ لطالما تقيّدت بها العائلة المالكة ـ عرض الحائط, في طريقها إلى شق مسار محمد بن سلمان كوريث للعرش. وعلى وجه التحديد، تم تجاهل مبدأ مراعاة الأكبر سنًا في عائلة آل سعود الكبرى وعائلة الملك سلمان الصغرى, كما لم يتم التقيّد بتقليد بناء توافق الآراء، ولا سيما عبر تقاسم المناصب الوزارية الرئيسية، إذ عمد الأمير الشاب ووالده إلى تهميش المنافسين, وإلى حصر السلطة ضمن نطاق مركزي عبر اللجوء الاستراتيجي إلى التكنوقراط والهيئات العليا.

وفيما إذا كانت هذه النتيجة تلبي تطلّعات المملكة العربية السعودية والمنطقة على نطاق أوسع وتعزز استقرارها, فذلك يتوقف على آراء القائد الجديد ورغبته في إجراء تغييرات سريعة, وفي كلتا الحالتين من المرجح أن عملية تعزيز وتوحيد حكمه المستقبلي ستجلب المزيد من السياسات التي تم استعراضها في السنة الأولى من ولاية الملك سلمان, والتي تحرص على بسط النفوذ السعودي في الخارج.

تسوية المنافسة على قيادة الجيل الجديد

كان محمد بن نايف وزير الداخلية السعودي، المنافس الأقوى لمحمد بن سلمان على قيادة الجيل القادم, وعندما تولى الملك سلمان مقاليد الحكم في عام 2016، أثبت محمد بن نايف نفسه في وقت مبكر جدًا كشخصية عامة ومرجعيّة ملكيّة يصعب تجاوزها عند تحديد خط الخلافة, وقد ارتكز قرار تعيينه كوليّ عهد على الاحترام الذي يحظى به في الدوائر الاستخباراتية الدولية، في حين أنّ منصبه على رأس وزارة الداخلية السعودية النافذة, أتاح له مدّ الجسور مع شبكات استخباراتية داخلية هائلة.

في العام المنصرم منح الشعور المتزايد بعدم الارتياح في صفوف الشعب السعودي لتوجهات محمد بن سلمان التحررية, قاعدة اجتماعية مؤيدة للعديد من الحركات الإسلامية غير الرسمية والكثير من المؤسسات الدينية في البلاد, ومع ذلك، وبالتزامن مع تعيين محمد بن نايف وليًا للعهد، بدأ الملك سلمان وابنه بتقويض قاعدة محمد بن نايف السياسية. تولّى ولي العهد منصبه في الوقت الذي كان ديوان مكتبه منحلاً، مما حرم محمد بن نايف من مصدر نفوذ ورعاية, وأدى تشييد كل من مركز الأمن الوطني ومركز دولي لمكافحة الإرهاب المرتبطَين بالديوان الملكي، إلى انتزاع قاعدة محمد بن نايف التقليدية التي تقوم على النفوذ والخبرة. تبددت أذرع تهويل هائلة عندما حُرمت الشرطة الدينية التي تشرف عليها وزارة الداخلية من صلاحياتها بالاعتقال في شهر نيسان عام 2016.

وفي نهاية المطاف، ليست عملية عزل محمد بن نايف سوى شكليات، فقد سبق أن انتقلت صلاحياته إلى مواقع أخرى وأصبحت شبكات نفوذه مقيّدة, ولا تفسح موافقته الواضحة على إعفائه مجالًا واسعًا أمام أية معارضة من جانب العائلة المالكة، وتقدّم صورة واضحة عن الاتجاه الذي ستسير فيه البلاد في المستقبل.

ويأتي تعيين محمد بن سلمان ولياً للعهد ضمن مجموعة من المراسيم الملكية الأخرى التي تضع قواعد جديدة للخلافة في المستقبل وتكشف عن التعيينات الملكية الجديدة, ويسير كلاهما في الاتجاه غير الاعتيادي إلى حد ما الذي يقوم على تمكين أمراء الجيل الثالث، والذي ظهر جلياً في آخر رزمة من المراسيم الملكية. وتشغل مجموعة منوّعة من الأمراء الأصغر سنًا مناصب بالإنابة في وزارات وحكومات إقليمية، مزوِّدة محمد بن سلمان بقاعدة دعم متنوعة في صفوف أفراد العائلة المالكة الشباب. ويشير تقييم سريع للتعيينات إلى مراكز قوة نسبية في صفوف فرع عائلة بن نايف وفرع عائلة بن سلطان بالإضافة إلى فرع عائلة بن سلمان، أي جميع أحفاد السديريين السبعة الذين سيطروا على حكم الجيل الثاني من عائلة آل سعود.

والجدير بالذكر أن وزارة الداخلية قد سُلّمت إلى الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف، وابن أخ محمد بن نايف (الذي لا يمتلك أي وريث ذكر) وابن حاكم المنطقة الشرقية، الأمير سعود بن نايف, مما يضمن بقاء هذين المنصبين، اللذين يشكّلان ركنين من أركان الأمن الداخلي، في قبضة فرع عائلة بن نايف. ولكن حتى في هذه الحالة، لا يخفى على أحد النفوذ الذي يتمتع به محمد بن سلمان. يعمل عبد العزيز منذ ستة أشهر تحت إشراف محمد بن سلمان في الديوان الملكي ووزارة الدفاع, ومن غير المرجح أن تعاد السلطات التي انتزعت من وزارة الداخلية ونقلت إلى مؤسسات جديدة تحت سلطة الديوان الملكي. تضمن التعيينات الجديدة داخل وزارة الداخلية مشاركة تكنوقراط فعّالين وممثلين عن أقارب بن سلمان.

وتشير كافة المعطيات إلى أنّ هذه علامة غير مسبوقة على مركزية السلطة في المملكة العربية السعودية, وفضلًا عن سلطة محمد بن سلمان الشاملة كولي للعهد وصاحب السلطة المهيمنة داخل الديوان الملكي، يتمتع بسلطة واضحة على الاقتصاد عبر مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية والمجلس الأعلى لشركة أرامكو السعودية، بالإضافة إلى الدفاع على الصعيدين الداخلي والخارجي، عبر وزارة الدفاع وأجهزة الأمن ومكافحة الإرهاب الجديدة.

إلا أنّه ثمة تغيير جديد يعيق مسار هذا الانتزاع التاريخي للسلطة, وهو تعديل قانون الحكم الأساسي الذي يمنع احتكار محمد بن سلمان وذريته للسلطة، عبر سنّ قانون يشترط أن يتحدّر الملك وولي العهد من فروع مختلفة من العائلة الحاكمة، باستثناء التشكيلة الحالية, ممّا يعني أنّ ولي العهد المستقبلي قد لا يكون من فرع عائلة بن سلمان، وهي استجابة للتخوفات التي تساور البعض إزاء استبعادهم جراء تضخم مركز السلطة بشكل سريع. ويبدو أن هذا التنازل هو بمثابة إقرار بالتخوفات من الإقصاء الملكي، ولربما قد أدى دورًا في كسب الموافقة الملكية على استبدال محمد بن نايف بمحمد بن سلمان. وأفادت التقارير بأن 31 إلى 34 من أفراد العائلة المالكة في هيئة البيعة، التي تأسست على يد الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز بغية تحديد من سيتولى الخلافة في المستقبل، قد قدموا دعمهم لهذا القرار, فلو تم التأكيد على هذا التغيير في دستور المملكة العربية السعودية، فقد يشرّع الباب أمام نظام ينصّ على تقاسم السلطة في المستقبل بين فرع عائلة بن سلمان وربما مع فرع عائلة بن نايف شبهًا بما يحدث في التبادل بين فروع العائلات الحاكمة منذ فترة طويلة في الكويت. ومع ذلك، ليس هناك الكثير مما قد يمنع الملك محمد بن سلمان المستقبلي الذي سيتمتع بالقوة والمناعة من تغيير قانون الحكم الأساسي مرة أخرى. فهو في سن الحادية والثلاثين وقد يبقى في السلطة لوقت طويل.

مستقبل المملكة العربية السعودية

من المرجح أن تشهد المملكة العربية السعودية، في ظل توحيد السلطة بشخص محمد بن سلمان، استمرارًا لأكثر السياسات حزمًا التي اتخذت على أراضيها خلال عهده, وتعتبر هذه السياسات عصارة النزعة إلى الحكم والظروف الإقليمية والمحلية. وقد أظهر محمد بن سلمان استعدادًا دائمًا لاستثمار الفجوة الإقليمية الناجمة عن انهيار بعض الحكومات وعن تراجع النفوذ الأمريكي نسبيًا في المنطقة، والذي عزّزته الحاجة الملحوظة إلى دحر المكاسب الإيرانية, وقد أصبحت أوجه السلطة هذه واقعًا بفضل الشراكة المتينة التي أقيمت مع الإمارات العربية المتحدة، التي قد تكون أبرز تطور في سياسات الخليج في السنوات الخمس الماضية. وساهم هذا الاقتران في توسيع نطاق النفوذ الخليجي في كل من مصر واليمن، وفي الخطوات الصارخة التي اتخذت مؤخرًا لتحييد قطر كي لا تبقى منافسًا إقليميًا.

كما أنّ النفوذ الإماراتي ملحوظ أيضًا على الصعيد المحلي، إذ يستفيد ولي العهد الذي عيّن حديثًا من الخبرة الإماراتية وأمثلتها في التنوع الاقتصادي وبناء روح وطنية جديدة. إلّا أنّ النموذج الإماراتي لا يتماشى مع نظام المملكة التي لا تمتلك كمية الموارد عينها التي تكفي لابتكار صناعات جديدة, والتي تعتمد بشكل أكبر على الدين الإسلامي كأساس للسلطة وكركن من أركان الشرعية. ومع ذلك، لا يخفى على أحد أنّ الخطوة التي تتخذ نحو موقف مشبع أكثر بالحس القومي، القائم على القيادة السنية، تبدو جلية في المنظمات الوطنية والعابرة للحدود التي تنضوي تحت سلطة محمد بن سلمان. ومع مرور الوقت، قد تصبح هذه المنظمات بمثابة وسيلة جديدة في خدمة سلطة آل سعود، فتقلّل من اعتماد العائلة على الشبكات الإسلامية غير الرسمية وحتى إلى حد ما على المؤسسة الدينية للتمتع بالشرعية. ولن تقلّ تحديات تحويل الاقتصاد المبنيّ على الرؤية السعودية 2030 أهمية عنها، بما في ذلك الخطوة غير المسبوقة نحو خصخصة شركة أرامكو جزئيًا، وهي خطوة تخوّف منها التكنوقراط المحافظون الذين يشرفون على الاقتصاد السعودي.

مدخل البحث

يفاجئ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان منذ أن تسلم مهامه قبل 7 سنوات، العالم بقراراته وبطريقة تعاطيه مع الملفات الداخلية والخارجية, إذ ينجح في تحمل المسؤوليات الجسام واتخاذ القرارات الصعبة والحساسة، حيث وضع موضوع الاستقلال الكلي للقرار السياسي السعودي ضمن أولوياته، وواجه في سبيل ذلك مواقف عدائية كثيرة على المستوى الإقليمي والدولي، لكنه تمكّن من تحقيق هذا الهدف. كما عقد سلسلة من التحالفات والاتفاقيات الدولية الكبرى، حاملاً شعار «السعودية العظمى» ومصلحتَها في أولويات هذا التوجه. وعلى صعيد بلاده أقرّ الأمير محمد بن سلمان رؤية شملت كلّ الأهداف لتحقيق التنمية في البلاد، ومن الصعب حصرها, فقد طالت كل الأنشطة من منطلق أنّ النجاح الداخلي والاستقرار الوطني سيعطي نتائج على الصعيدين الداخلي والخارجي معاً لكي تلعب السعودية دوراً بارزاً ومؤثرا على المسرح العالمي.

السعودية إلى أين؟

السعودية اليوم دولة تتطلع إلى المستقبل لتكون عضواً فاعلاً في صناعة التحولات في منطقة الشرق الأوسط متطلعة لتغيير النماذج التاريخية وقصص الماضي التي صبغت بها منطقة الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

تدور التطورات السياسية الحاسمة في السعودية حول خلق مسار سياسي متوازن ومتكيف مع التحولات الدولية المحيطة, على أن يكون ذلك مبنياً على التغيرات التي تشهدها السعودية وخاصة في المشروع الاستراتيجي الرئيس المتمثل في رؤية 2030، وهي رؤية طموحة لجعل السعودية فضاءً استثمارياً على جميع المستويات، فعلى المستوى المحلي توجب ذلك خلق دائرة من القيادات الشابة المؤهلة والقادرة على ترجمة الأفكار إلى واقع منظور، وهذا يمثله فريق ولي العهد، أمّا على المستوى الدولي فيتمثّل في الأهمية القصوى التي تعطيها رؤية المملكة للمستثمرين في جميع المجالات.

الخطاب التطويري التنموي للسعودية يركّز فعلياً على التكنولوجيا وعلى استثمار الشباب وخلق التحول الاجتماعي المتزن, وتعزيز الرابط التاريخي بين القيادة والمجتمع وتجاوز التحديات الصلبة, عبر وضع المجتمع السعودي في مسار دولي يتوافق مع إمكاناته كمجتمع طموح راغب في التطور، وقيمه الراسخة نحو دور دولي فاعل، وهذا يعني أنّ السعودية وعلى جميع المستويات سوف تؤدي أدواراً أكثر محورية إقليمياً ودولياً وفق سياسيات حازمة تتعامل مع الجميع وفق مفهوم سياسي واضح في تقديراته.

مواجهة التغييرات الهيكلية في القواعد الاقتصادية والاجتماعية تتطلب الكثير من الجهود والأبنية التطبيقية التي حملتها رؤية السعودية 2030 وهي التي سمحت للعالم الخارجي أن يشعر بقوة بحجم التحوّل الذي حدث في السعودية، والتحول في المفهوم السعودي مصطلح يعنى التطور والنفاذ إلى مسارات تساهم في بناء نموذج تنموي سعودي قادر على مقاومة اللا ثبات في سياسات العالم الاقتصادية والثقافية والسياسية، وهذا التحول تُوِّج في بداياته على سبيل المثال بالسماح للمرأة بقيادة السيارة في العام 2018، وكان ذلك القرار عنواناً تاريخياً أن السعودية تسير نحو تحقيق إنجازات متوازنة وغير مسبوقة.

لقد كانت حملة محاربة الفساد العنوان الأكبر والخطوة الجريئة التي لقيت القبول الاجتماعي بشكل أفقي مفتوح، وهذه الخطوة سهّلت كشف الكثير من المسارات التي كانت تتحايل على الأنظمة, ومكّنت القيادة من إرسال رسائل مباشرة إلى الداخل والخارج لتؤكد أن هذا النهج مرتبط وبشكل كبير بدوافع جيوسياسية واقتصادية سعودية سوف تجد طريقها إلى السياسة الخارجية للسعودية، فليس من المنطقي أن تشهد السعودية كل هذا التحوّل الجذري في مسارها الداخلي, عبر برامج التطوير والتحول التي تقودها رؤية السعودية 2030 دون أن ينعكس ذلك فعلياً على النمط الجيوسياسي السعودي الراغب في لعب دور محوري كقوة دولية متوسطة قادرة على تحقيق الإنجازات.

ولأنّ السعودية هي الأكبر تأهيلاً في هذه المنطقة، وخاصة بعد مرور المنطقة بكل هذه العواصف الشرسة التي لحقت بمنطقة الشرق الأوسط وكان آخرها الثورات العربية، فقد استوجب الوضع صناعة مفهوم سياسي جديد يعيد تشكيل الاهتمام ويفتش بشكل جريء عن تلك الثقوب السوداء التي كانت تستهلك الكرم السعودي, وتبتلع ما يجود به دون أن ينعكس ذلك على الواقع الذي منحت من أجله، سواء كانت أموالاً أم مبادرات سياسية أم ثقافية، بمعنى دقيق؛ النهج السعودي القادم من هذه الأرض يجب أن تُبنى لها طرق صحية وصحيحة، لكي يؤتي ثماره.

عندما صرح وزير المالية في المنتدى الاقتصادي العالمي بقوله: “نحن نغير الطريقة التي نقدم بها العون والمساعدات الإنمائية، فقد اعتدنا أن نقدم المنَح والودائع المباشرة دون قيود ونحن نغير ذلك الآن”، هذا النهج الاستراتيجي شكل منعطفاً مهماً للسياسة السعودية الخارجية، فالرسالة الحيوية تقول إن الأهم هو رؤية انعكاس حقيقي لرؤية السعودية بترك بصمتها على سياساتها الخارجية، ولذلك يجب أن يفهم ذلك كونه مساراً طبيعياً لفكرة التطور الشامل وليس المختزل, بعيداً عن التفسيرات الناقصة حول مقوّمات الاستراتيجية السعودية القادمة وفضائها الجيوسياسي, ودورها الفعلي كدولة لديها القدرة على قيادة المنطقة بشكل فعلي وتشاركية متزنة لخدمة المنطقة الشرق أوسطية.

الدول تتطور وتتحوّل والكثير لن يتقبل ببساطة أن تقود السعودية المنطقة بمنهجية تطورية متقدمة تتجاوز الكثير من القيم المعتادة عن دول الشرق الأوسط، فالسعودية تمتلك الحق المكتسب لها عندما تصيغ نموذجها الجيوسياسي وفقاً لإمكاناتها, فهي ذات تأثير جغرافي صنعه موقعها بين ثلاث قارات، ثانياً هي الدولة الإسلامية الأكثر أهمية بين دول العالم الإسلامي، ثالثاً هي الدولة ذات الاقتصاد المتطور وتمتلك قيادة سياسات الطاقة في العالم, ولديها مسؤولية إبقاء أسعار الطاقة دولياً في ميزان مقبول، رابعاً هي عضو فاعل في مجموعة العشرين؛ الاقتصادات الأكبر في العالم.

تعزيز الهويّة الوطنية

سعت الحكومة السعودية بقيادة ولي العهد، إلى تعزيز الهوية الوطنية بزخم غير مسبوق، في ضوء برامج تعزيز الثقافة والتراث وتمكين «وزارة الثقافة»، فضلاً عن البرامج والمشروعات الاقتصادية ذات البعد الذي يعزّز الهوية التاريخية، على غرار منطقتي العلا شمالي البلاد، والدرعية العاصمة الأولى للدولة السعودية.
ويظهر ذلك المسعى في معرض إجابة ولي العهد عن سؤال حول مشروع (الصحوة) الذي كان سائداً: (استطعنا خلال سنة واحدة أن نقضي على مشروع أيديولوجي صُنع على مدى 40 عاماً، وسنعود بالسعودية إلى الإسلام المعتدل). وأضاف في تصريحٍ آخر، أن (الهويّة السعودية قويّة وتزداد قوة وتطوراً بالانفتاح، وإن أصحاب الهوية الضعيفة هم من يقلقهم الانفتاح على العالم).

مكافحة الفساد

دخلت البلاد بعد انطلاق (رؤية 2030) في ورشة عمل تنموية وبرامج إصلاح اقتصادي جذرية، كان في مقدّمتها فعلياً خطط مكافحة الفساد المالي والإداري، ومكافحة الهدر المالي في أروقة الحكومة على أعلى مستوى تحت مظلّة (اللجنة العليا لمكافحة الفساد) التي تأسست في (تشرين الثاني) 2017، برئاسة ولي العهد السعودي، وقامت بحصر المخالفات والجرائم والكيانات المتعلقة بقضايا الفساد.

 11 برنامجاً للتحقيق و96 هدفاً استراتيجياً للرؤية:

في طريقها إلى تحويل الـ96 هدفاً استراتيجيّاً للرؤية إلى واقع بحلول عام 2030، عملت برامج تحقيق الرؤية الـ11، وأبرزها ((التحول الوطني، وجودة الحياة، وصندوق الاستثمارات العامة)) عملت خلال السنوات الست الماضية، على تحقيق التكامل بين المحاور الرئيسية في خطة الإصلاح الاقتصادي ((المجتمع الحيوي، والاقتصاد المزدهر، والوطن الطموح)) لتنطلق في عام 2021 من مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ.

تقوية مركز الدولة:

صدر عدد من التشريعات في سبيل تعزيز مركز الدولة الذي بات أقوى بوجود رؤية تنموية تتكامل فيها جهود هياكل الدولة طِبقاً لمتابعين، واستدل على ذلك ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، خلال مقابلة تلفزيونية في أواخر (نيسان) من عام 2021، قائلاً: (بسبب ضعف مركز الدولة، وعدم وجود سياسة عامة، لم تتمكّن وزارة الإسكان من أن تحوّل مبلغ 250 مليار ريال رُصدت لها في 2011 و2015 إلى مشروعات على الأرض). واستطرد: (لا يستطيع وزير الإسكان النجاح دون أن تكون هناك سياسة عامة للدولة بالتنسيق مع البلديات، والبنك المركزي، والمالية، وسن التشريعات والقطاع الخاص إلى آخره، فمثلاً الـ250 مليار أُعيدت للخزينة وصرفت ميزانية سنوية؛ لكن كانت نتائج ذلك ارتفاع نسبة الإسكان من 47 في المئة إلى 60 في المئة في 4 أعوام فقط، وهذا يشير إلى أين نحن متجهون).

ارتفاع الإيرادات غير النفطية والناتج المحلي:

ركّزت السعودية على تنمية الإيرادات غير النفطية، وتقليل الاعتماد الكلّي على النفط، لتعلن عن أكبر ميزانية في تاريخ البلاد عام 2018، بإنفاق تخطى 1.1 تريليون ريال، وبإيرادات بلغت 975 مليار ريال.
وبدعم مباشر من برامج ((رؤية 2030))، سجّلت الإيرادات غير النفطية للميزانية العامة في الربع الثالث من عام2017 ما يقارب 48 مليار ريال، محقّقة ارتفاعاً بنسبة 80 في المئة عن العام السابق طبقاً لأرقام وزارة المالية، بينما ارتفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من التأثيرات الاقتصادية العالمية، ليحقق أعلى نموّ بين دول مجموعة العشرين، ويتعدّى حاجز التريليون دولار أميركي بنسبة 8.7 في المئة لعام 2022، بعدما كان -0.07 عام 2017 حسب البنك المركزي.

المرأة إلى جانب الرجل في مسيرة التنمية:

فضلاً عن طرح ملف (قيادة المرأة للسيارة) عن طريق الإصلاح الداخلي، من خلال الأمر الملكي بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، فقد توسّعت مساهمة المرأة في التنمية، وتبوّأت مناصب حكومية ودبلوماسية كبرى، وتضاعفت مشاركتها في سوق العمل، لتحقق السعودية أسرع نسبة نمو في مشاركة المرأة في العالم، فقد قفزت نسبة المنشآت التي تقودها النساء من 21.5 في المئة لعام 2016، لتبلغ 45 في المئة لعام 2022، من إجمالي الشركات الناشئة، وفقاً لإحصاءات رسمية.

الحوكمة ورقمنة الخدمات:

انتقلت الحكومة السعودية إلى تأسيس واقع جديد لتعاملاتها عبر مبدأين: الأول الحوكمة في مجالس إدارات القطاعات المستحدثة والبرامج الجديدة المنبثقة عن (رؤية 2030)، وثانياً (الحكومة الرقمية) التي غيّرت من شكل التعاملات القديمة، وساهمت في التقليل من البيروقراطية التقليدية التي كانت سمة قديمة في القطاعين العام والخاص، وفقاً للمستخدمين.
ووافق مجلس الوزراء على إنشاء (هيئة الحكومة الرقمية) في آذار عام 2021، في نقلة نوعية نحو تعزيز الأداء الرقمي داخل الجهات الحكومية، ورفع جودة الخدمات المقدمة، وتحسين تجربة العملاء مع الجهات الحكومية.

إطلاق المشروعات الكبرى:

ولتدعيم التوجّه نحو تنويع مصادر الدخل الوطني، عمل ولي العهد ـ رئيس مجلس إدارة (صندوق الاستثمارات العامة)، على تنفيذ توجيهات خادم الحرمين الشريفين، بتأسيس منظومات وقطاعات جديدة باسم (المشروعات الكبرى)، وهي تعتمد على التقنية والمعرفة، وتعزز من استخدامها في السعودية، وتسهم اكتساب الهوية السعودية والإرث المحلي التاريخي زخماً غير مسبوق.
وصُمِّمت هذه المشروعات حسب الصندوق (لتحفيز الاقتصاد، وتمتد آثارها الإيجابية إلى ما هو أبعد من قطاعي التطوير العقاري والبنية التحتية، مما يساعد في تنويع الاقتصاد، من دون الاعتماد على النفط؛ خصوصاً بسبب ضخامتها، وستكون بمثابة مشروعات ضخمة داعمة للإلهام والاكتشاف والمشاركة للأجيال القادمة). وتتمثّل المشروعات الخمس الكبرى لدى الصندوق في: (نيوم، والبحر الأحمر، والقدية، وروشن، والدرعية.(
وإضافة إلى التغيير الاقتصادي والاجتماعي الذي تمرّ به البلاد، ساهمت هذه المشروعات الكبرى في جعل السعودية في مقدّمة الدول الجاذبة للاستثمارات والسياح، فضلاً عن ترشيح البلاد ومنافسة ملفاتها على استضافة الفعاليات الدولية الكبرى، منها «إكسبو الرياض 2030»، و«كأس آسيا لكرة القدم 2027»، و«دورة الألعاب الآسيوية الشتوية 2029» في تروجينا بنيوم، وغيرها.

الاستراتيجيات الوطنية:

أطلقت الحكومة السعودية عشرات البرامج والاستراتيجيات الوطنية، لإعادة هيكلة وتنظيم القطاعات الحيوية في البلاد، والقطاعات الجديدة والمستحدثة، بما ينعكس على أداء تلك المنظومات، على غرار (الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، واستراتيجية قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات، والاستراتيجية الوطنية للاستثمار، والاستراتيجية الوطنية للسياحة) فضلاً عن استراتيجيات المناطق وتأسيس هيئات التطوير التي من شأنها استحداث الفرص الاستثمارية والتنموية، وتعزيز الجهود لدعم اقتصاد المدن، بالاستفادة مما تزخر به من مقومات طبيعية ونوعيّة. وانعكس ذلك على تمكين عدد من القطاعات، كالسياحة، وأظهرت نشرة لوزارة الاستثمار أن إنفاق السياح الدوليين في السعودية قفز إلى 27 مليار ريال في الأشهر الستة الأولى من عام 2022، بعد زيادة في عدد السياح بإجمالي 46 مليون سائح أجنبي ومحلي، لتتقدم السعودية إلى المرتبة 33 في مؤشر تنمية السياحة والسفر، كما أحرزت المركز الأول ضمن دول مجموعة العشرين بالنسبة لتعافي قطاع السياحة بعد جائحة كوفيد-19.

قيادة الحقبة الخضراء القادمة

في الوقت الذي يواجه الكوكب فيه خطر الاحتباس الحراري والتصحّر وتقلبات المناخ، أخذت السعودية زمام المبادرة من كونها منتجاً للنفط ولاعباً رئيساً في سوق الطاقة، وأطلقت وعداً بــ (قيادة الحقبة الخضراء القادمة داخل السعودية وخارجها).
أعلن ولي العهد السعودي في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، إطلاق مبادرة ((الشرق الأوسط الأخضر)). وتستضيف السعودية مقرّ الأمانة العامة للمبادرة، وتنظّم القمة المرافقة التي تأتي وفقاً لبيان إطلاقها ((لرسم خريطة إقليمية لحفظ الحياة ورفع جودتها، في بادرة تقدمها السعودية لصنع الفارق العالمي في حفظ الطبيعة والإنسان والحيوان، ومواجهة تحديات التغير المناخي))، بهدف تقليل الانبعاثات الكربونية في المنطقة بأكثر من 10 في المئة من الإسهامات العالمية، وزراعة 50 مليار شجرة في المنطقة. وخلال افتتاحه أعمال القمة في نسختها الثانية في مدينة شرم الشيخ في مصر، في نوفمبر الماضي، أعلن الأمير محمد بن سلمان عن مساهمة بلاده بمبلغ 2.5 مليار دولار لدعم مشروعات مبادرة ((الشرق الأوسط الأخضر)) على مدى السنوات الـ10 المقبلة.
وفي الوقت ذاته، أطلق ولي العهد مبادرة ((السعودية الخضراء)) التي ينبثق عنها عدد من البرامج والمشروعات، وتُشرف على تنفيذ خطة مستدامة وطويلة الأجل للعمل المناخي. وتسترشد المبادرة بثلاثة أهداف شاملة، هي تقليل الانبعاثات الكربونية، وتشجير السعودية، وحماية المناطق البرية والبحرية، ممّا يساهم بالضرورة في تحقيق مستهدف زراعة 10 مليارات شجرة داخل السعودية، و40 مليار شجرة في جميع أنحاء المنطقة، الأمر الذي سيخفض الانبعاثات الكربونية حول العالم بنسبة 2.5 في المئة.
وفي جانب آخر، تلقى المحميّات الملكية المؤسّسة نتيجة للأمر الملكي الصادر في 2018 بإنشاء مجلس للمحميات الملكية، اهتماماً من ولي العهد ـ رئيس مجلس المحميّات الملكية؛ حيث تحافظ على الغطاء النباتي في تلك المناطق، وتحفظ حياة فصائل المخلوقات النادرة في البلاد، عبر تنظيم رسمي غير مسبوق.

تطوير الخدمات العامة

وحقّقت بقية قطاعات الخدمات الحكومية تقدّماً بارزاً في عدد من المجالات، انعكاساً للأثر العام للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية التي يقودها ولي العهد السعودي. وجاء من أبرز نقاط التحول في قطاع التعليم في السنوات الأخيرة؛ تأسيس وتطوير التعليم عن بُعد والتعليم الإلكتروني، من خلال منصة ((مدرستي)) لتصبح ضمن أفضل 4 نماذج عالمية في التعليم عن بُعد، وتوثيق تجربتها من قبل ((اليونيسكو))، كما أقرّت وزارة التعليم عدداً من التغييرات والإجراءات التي تضمّنت تطوير المناهج والمقرّرات والخطط الدراسية، وانخفضت نسبة الأمية إلى 3.7 في المئة.
وفي القطاع الصحي، وافق مجلس الوزراء على إعادة هيكلة القطاع الصحي في البلاد ليكون نظاماً صحياً شاملاً وفعالاً ومتكاملاً، يقوم على صحة الفرد والمجتمع، عبر إنشاء برنامج «تحول القطاع الصحي». وأكّد ولي العهد أن علاج وتعليم المواطن منصوص عليهما في النظام الأساسي للحكم أن يكونا (مجاناً)، لافتاً إلى أنّ السعودية تتجه لخصخصة جزء من المستشفيات، وأنّ العلاج المجاني للمواطن سيستمر عبر التأمين الطبي للمواطنين من خلال الوظائف في القطاعين الحكومي والخاص.
من جانبها، توسّعت خدمات الرعاية الصحية المتخصصة، لتحسين جودة وكفاءة نظام الرعاية الصحية، مع توسيع نطاق تغطية الخدمات. وأظهرت إحصاءات رسميّة أن نسبة رضا المرضى عن خدمات المستشفيات فاقت 82 في المئة في عام 2020، وزاد متوسط العمر المتوقع للسكان من 72 سنة في عام 2000 إلى 75 في عام 2018.
وحققت إجراءات وزارة الصحة خلال جائحة كوفيد-19 إنجازات أشادت بها دول ومنظمات عالمية، على رأسها منظمة الصحة العالمية، إضافة إلى مساهمة السعودية في إيصال اللقاحات إلى الدول النامية وضعيفة الدخل.

إصلاح منظومة القضاء:

تعكس الخطوات الجادّة في السنوات الأخيرة لمنظومة القضاء، تطوّر البيئة التشريعية ومنظومة التشريعات المتخصصة، من خلال استحداث وإصلاح الأنظمة. وأعلن ولي العهد رئيس مجلس الوزراء في فبراير (شباط) من عام 2021، إعداد مشروعات لـ4 أنظمة: «مشروع نظام الأحوال الشخصية، ومشروع نظام المعاملات المدنية، ومشروع النظام الجزائي للعقوبات التعزيرية، ومشروع نظام الإثبات» في موجة إصلاحات عدليّة غير مسبوقة، اعتبر ولي العهد أنها سوف «تُسهم في إمكانية التنبؤ بالأحكام، ورفع مستوى النزاهة وكفاءة أداء الأجهزة العدلية، وزيادة موثوقية الإجراءات وآليات الرقابة، كونها ركيزة أساسية لتحقيق مبادئ العدالة»، معلّلاً بأنّ “غياب هذه التشريعات أدّى إلى تباينٍ في الأحكام وعدم وضوح في القواعد الحاكمة للوقائع والممارسات، وقد كان ذلك مؤلماً للعديد من الأفراد والأسر، لا سيما للمرأة، ومكّن البعض من التنصل من مسؤولياته، الأمر الذي لن يتكرر في حال إقرار هذه الأنظمة وفق الإجراءات النظامية”.
وتجد كثيراً من القطاعات الحكومية والخدمات في السعودية نفسها في قلب ورشة عمل تطوير وتحديث تدور عجلتها كل يوم، ومن ذلك قطاعات العمل والزراعة والرياضة وغيرها، في إشارة إلى الطموح العالي لتغيير حال البلاد على كافة المستويات، منذ تولي الأمير محمد بن سلمان منصب ولاية العهد ثم رئاسة مجلس الوزراء، ليقود خطط التنمية التي أكّد أن عدداً من أهدافها ضمن «رؤية 2030» تقترب من التحقُّق قبل حلول 2030.

يصعب حصر الدلائل والمؤشرات التي تعكس الثقل الاستراتيجي المتنامي الذي تتمتع به المملكة العربية السعودية في العلاقات الدولية، والمسألة هنا لا تقتصر على دور المملكة المؤثر والفاعل في منظمة (أوبك) وتكتل (أوبك+) ولكنّ القوة الاقتصادية للمملكة، التي أهّلتها للعب دور كبير في إطار “مجموعة العشرين” (G20)، أكبر تكتل اقتصادي في العالم، والتي تضم الدول والاقتصادات الأكثر تأثيراً عالمياً، وتمثل نحو 90 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، فضلاً عن حوالي 75 في المئة من التجارة العالمية، وثلثي سكان العالم، وتلعب المملكة دوراً حيوياً فيها حيث يحتل الاقتصاد السعودي المرتبة الـ16 بين اقتصادات دول المجموعة من حيث الناتج المحلي الإجمالي وفقاً لإحصاءات عام 2021. أضف إلى ما سبق انضمام المملكة إلى منظمة شنغهاي للتعاون، التي تقودها الصين، كشريك حوار، في خطوة تعكس حسابات الدبلوماسية السعودية الجديدة في عالم ما بعد أوكرانيا.

والمؤكد أن المملكة لا تستند في أدوارها، إقليمياً ودولياً، على كونها مركز ثقل اقتصادي واستثماري فقط، بل تترجم قدراتها وإمكانياتها ومواردها إلى عمل دبلوماسي نشط يعكس صورة نمطية جديدة للمملكة، تحظى بإعجاب وتقدير واحترام دولي واسع النطاق.

في ضوء ما سبق، تحوّلت المملكة في الآونة الأخيرة إلى وجهة للاهتمام تجذب أنظار العالم، اقتصادياً وتجارياً وسياسياً ودبلوماسياً وثقافياً ورياضياً، وفي إطار ذلك يأتي الحديث الإعلامي المتزايد عن مساعٍ تبذلها الولايات المتحدة من أجل التوصل إلى اتفاق سلام سعودي ـ إسرائيلي، والمسألة هنا لا تتعلق بالموضوع نفسه، وما يثار بشأنه من تكهنات إعلامية يصعب تأكيدها أو نفيها في ظل السمات التي تتمتع بها الدبلوماسية السعودية، التي تتحرك في جميع ملفات علاقاتها الدولية في إطار من الهدوء والكتمان، بما يضمن تحقيق المصالح والأهداف الاستراتيجية للمملكة في كل تحرّكاتها بعيداً عن الأقاويل والتكهنات والضجيج الإعلامي، وقد شاهدنا ذلك واقعاً أثناء المفاوضات التي جرت عبر مراحل زمنية وإجرائية عدة بين الدبلوماسيتين السعودية والإيرانية، وبدأت بوساطة عراقية وتوِّجت بوساطة صينية في خطوة حظيت باهتمام دولي واسع النطاق.

الدبلوماسية السعودية

الدبلوماسية السعودية  في المرحلة الراهنة بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بما يمتلك من نشاط وذكاء ونضج وقدرة على المناورة والتعامل مع الملفات والقضايا الشائكة، قادرة على بناء توافقات في تحالفاتها الدولية والإقليمية, وبالتأكيد تعرف المملكة العربية السعودية، وتعرف قيادتَها جيداً ماذا تريد من علاقاتها الإقليمية والدولية؟ وبات ولي العهد السعودي يتمتع باحترام وتقدير دولي متنامٍ في ظل قيادته لبلاده نحو تحوّل نوعي تاريخي على المستويات والأصعدة كافة، وفي ظل هذا الانفتاح المثير للإعجاب الذي تشهدُه المملكة، تبدو السعودية موضع اهتمام كل دول العالم، ومن بينها إسرائيل، والأمر هنا يتعلّق بحسابات مصالح استراتيجية وتعاون مشترك بعيداً عن الشعارات والأهواء، فالواقعية والحسابات الاستراتيجية الدقيقة، التي تحكم الدبلوماسية السعودية في تحرّكاتها خلال العامَين الأخيرين نحو إيران وتركيا وسوريا واليمن, وغيرها من الملفات التي ترتبط بالسياسة الخارجية للمملكة بشكل مباشر أو غير مباشر، هي نفسها التي نتوقع أن ينظر بها صانع القرار السعودي إلى الملفات جميعها سواء تعلق الأمر بإقامة علاقات مع إسرائيل أو غيرها.

باتت المملكة العربية السعودية قوة مركزية لا غنى عنها في بناء الأمن والاستقرار سواء على الصعيدين الشرق الأوسطي أو الدولي، وتدرك جيداً أن موقفها تجاه بقية الأطراف الإقليمية عامل شديد التأثير في المعادلات والحسابات الجيوسياسية، وإذا أضفنا إلى ذلك وضع المملكة استراتيجياً على الصعيدين الروحي/الديني والعربي، لأدركنا أن المسألة لا تتعلق باتفاق لتطبيع علاقات أو غير ذلك، بل بمجمل الأوضاع الإقليمية، حيث تجري عملية إعادة هندسة التحالفات والروابط والعلاقات إقليمياً ودولياً، في إطار سعي المملكة نحو تحقيق أهداف “رؤية 2030” الطموحة، وهو ما يتطلب بيئة إقليمية مواتية وديناميكيات جديدة للعلاقات الإقليمية، تضمن تحقيق المصالح الاستراتيجية السعودية بعيداً عن الصراعات والتوترات مع أيّ طرف، وجميعها أمور تتطلب المضي وسط كم هائل من الحساسيات والتعقيدات والتناقضات، وبما يضمن تفادي أيّ أثر سلبي ومراكمة عوائد استراتيجية نوعية للدبلوماسية السعودية الطموحة.

تعكس الدبلوماسية السعودية سياسات المملكة كلاعب إقليمي مهمّ ذي دور مؤثّر في الاقتصاد العالمي، وبالتالي تبني شراكاتها الاستراتيجية الدولية مع حلفائها وفق أسس تراعي التنوع والتعددية، وتتفادى الدخول كطرف في أيّ صراع دولي على الهيمنة والنفوذ، وكذلك تفعل إقليمياً، وبالتالي فإن مناقشة علاقاتها مع الأطراف الإقليمية كافة تخضع لحسابات براغماتية تتعلق بمصالح المملكة الاستراتيجية, وتراعي كذلك دورها القيادي في العالمين العربي والإسلامي، وبالتالي فإن بناء الجسور مع أيّ طرف إقليمي سيتحقق في حال وجود ما يكفي من معايير تضمن تحقق هذه المصالح.

خاتمة

كما سبق الإشارة إلى إن الدبلوماسية السعودية في المرحلة الراهنة, تضع ثقلاً كبيراً على بناء توافقات في جميع تحالفاتها, آخذة في الاعتبار ما يضمن تحقق مصالح جميع الأطراف المتحالفة معها بما يعود بالنفع على الجميع، وتوفر البيئة الاستراتيجية اللازمة للأمن والاستقرار وبناء شرق أوسط جديد خال من الصراعات والتوترات, شريطة أن تدرك بقية الأطراف الإقليمية أن قواعد اللعبة الإقليمية والدولية قد تغيرت, وأنّ عليها أن تتصرف بناءً على ما يتطلّبه تحقق الاستقرار في منطقة متأزّمة تمتلك من عوامل التوتر وأسبابه الكثير, وهذا الأمر يتطلب طاقات دبلوماسية هائلة وحلولاً خلاّقة وتفكيراً جديداً ينأى بالجميع عن الصراعات ويضمن التعايش والسلام في المنطقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى