أبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 65هاشم احمد

العلاقات العشائرية والإدارة المستقلة عن السلطة

هاشم أحمد

هاشم أحمد 

مقدمة:

ما إن يأتي ذكر الشرق الأوسط حتى يتبادر إلى ذهن المتلقي عدة أشياء منها الآثار القديمة والحضارات المتعاقبة على المنطقة, والنفط والاقتتال العشائري والطائفية والقبلية والعشائرية والنظام القبلي والعشائري, كأحد مكونات المجتمعات في الشرق الأوسط وخاصة في دول الخليج واليمن والعراق ودول بلاد الشام.

لقد ظهر التأثير القبلي بشكل كبير في العراق وسوريا وخاصة في العقد الأخير من القرن الحادي والعشرين, بسبب الصراع الذي دار في المنطقة، وكان النصيب الأكبر لهذه الأحداث في سوريا حيث تقطن قبائل وعشائر متنوعة في شمال وشرق سوريا.

ولا بدّ من سرد قدوم واستيطان هذه القبائل في المنطقة العربية منها والكردية حيث كانت هذه القبائل هي الكفة الراجحة في أي صراع أو تسوية سياسية.

مشكلة البحث:

يمكن تلخيص مشكلة البحث في السؤالين التاليين:

1- ما الدور الذي يمكن أن تلعبه العشيرة في ظروف الأزمات وغياب الاستقرار السياسي ووجود أزمات وظروف أمنية غير مستقرة تعيشها المنطقة؟

2- إلى أي مدى يمكن للقبيلة والعشيرة أن تلعبا أدوارهما في بلورة صورة المجتمع المدني بمفهومه الحديث, وتشارك في حماية وحفظ النسيج  والأمن المجتمعي وتساهم في قيم التعايش؟

أهداف البحث:

تتجسد أهداف البحث  في:

1- معرفة إطار المعطيات التي تمنح القبيلة والعشيرة الأهمية بذاتها كوحدة اجتماعية, أو حتى العشائرية كمصطلح.

2- مفهوم ودور العشيرة في حماية النسيج الوطني والمحافظة على الثوابت المجتمعية، التي تتجاوز بحث العشيرة في بعض الأحيان عن أمنها بمعزل عن المحيط الذي يستهدف وجودها ومستقبلها, في ظل التغيرات الكبيرة التي تطال مجمل نواحي الحياة والسياسة, وهنا تبحث العشيرة عن ذاتها في المساحة والمكان عبر الصيغ الاجتماعية والقانونية التي تحفظ لها أمنها وحريتها وتطورها الثقافي, وتشبّثها في آن بالأرض ومساهمتها في حفظ المجتمع من كل الأخطار.

أهمية البحث:

تأتي أهمية البحث في الأخذ بعين الاعتبار أن البنية العشائرية هي أحد أبرز المكونات الاجتماعية التي نشأت منها مجتمعات منطقة الشرق الأوسط وبلدانها, والتي تفرض بوجودها مؤثرات قادرة على التحكم بصيغة العلاقات المختلفة الاجتماعية منها والسياسية والمعيشية في المجتمع، وذلك من خلال أنساق منظمة لسلوكيات تلزم أفراد القبيلة التمسّك  والإقرار بها وبمبادئها.

ومن مبدأ الوقائع الاجتماعية التي بنيت عليها تلك التركيبات الاجتماعية والتي لعبت العوامل الجغرافية الدور الكبير في انتشارها, وأيضاً التاريخ في تأطير تلك الوقائع الاجتماعية بقوانين تتحكم بنشوئها وصياغتها، وفرضت عليها حالات وقوالب وأطر لا يمكن الخروج منها، هو العيش في إطار مجموعة قوانين شكلت بمجملها نسيجه الاجتماعي.

مصطلحات البحث:

العصبية القبيلة، العرف القبلي

العصبية القبيلة: من خلال ما ذكره ابن خلدون بيّن الدور المهم للقبيلة  في نشوء الدول والكيانات واستقرارها, أو تدهورها واندثارها، وتقوم العصبية القبيلة عنده إما على رابطة الدّم أو رابطة الدّين أو أي رابطة اجتماعية أخرى في جميع مراحل الدولة، لا سيما في العصر الوسيط، وهي رابطة دموية جمعت بين القبائل وشكلت منهم حلفاً قوياً لمواجهة قساوة الحياة والعدوان الخارجي.

العرف القبلي: العرف القبلي يعدّ بمثابة الثابت والقانون، وتتكون القبيلة عادة من عدة بطون وعشائر, وغالباً ما يسكن أفراد القبيلة نطاقاً جغرافياً  مشتركاً، ولهم ثقافة متجانسة أو تضامن مشترك.

تعتبر القبيلة الوحدة المجتمعية المتكاملة والمتماسكة والتي تضم بداخلها عدداً كبيراً من الأفراد والعائلات المتفرقة, والذين يجتمعون دائماً على العادات والتقاليد الواحدة والراسخة في داخل الجميع, والمتوارثة من قديم الزمان, وتمتلك القبيلة العديد من الأبعاد المختلفة بها والتي تتفاعل فيها, وتشمل الأبعاد الاقتصادية والأبعاد الثقافية والاجتماعية المميزة.

الفصل الأول ـ العلاقات بين العشائر والأنظمة المتعاقبة في سوريا

أولاً: دور القبائل في سوريا:

أول قدوم أو هجرة للقبائل العربية إلى مناطق شمال وشرق سوريا في العصور الحديثة كان في بداية القرن السابع عشر, وكان وراء هذه الهجرة سببان, الأول هو القحط في مناطق شبة الجزير العربية وخاصة في نجد, والثاني هو بأمر من السلطان العثماني عبد الحميد الذي قام بتهجير بعض القبائل العربية من العراق وذلك من أجل إعمار منطقة الرقة بعد أن دمّرها المغول في عام 1261 ميلادي, وأصبحت مأوى للصوص وقطاع الطرق, وأراد السلطان العثماني توطين القبائل لهذا السبب, والسبب الثاني لمواجهة هجمات قبائل عنزة وشمر التي قدِمت إلى مناطق سوريا وقامت بمهاجمة نقاط العثمانيين, وذلك بسبب المجاعة وإهمال العثمانيين  لهذه المناطق وفرض الضرائب والجبايات على الأهالي دون تقديم أي شيء لهم, فشهدت المنطقة معارك كثيرة بين الدولة العثمانية والقبائل كانت سجالاً بين الطرفين, حيث عمد العثمانيون إلى طرق خبيثة منها تقسيم هذه القبيلة إلى عشائر وتنصيب مشايخ موالين للسلطان العثماني, مكلفين بجباية الضرائب وفرض الأتاوات على السكان, فأغلب الأحيان تتم المواجهة بين قبائل المنطقة من أجل إضعاف الطرفين وتسهل السيطرة عليهم, وهناك العديد من حالات قتل واغتيال واعتقال لشيوخ القبائل.

وبالنسبة للقبائل الكردية فينطبق عليها ما ينطبق على القبائل العربية, حيث استقرت بعض المجموعات القبلية الكردية الكبيرة في مناطق في شمال سوريا قادمة من الأناضول, وأكبر هذه المجموعات القبلية كان اتحاد رشوان، الذي كان مقره في البداية في منطقة أديامان, ولكنه استقر في النهاية أيضًا في جميع أنحاء الأناضول, وسجل التاريخ معارك كبيرة بين هذه القبائل والدولة العثمانية, وعملت فيها ما عملت في القبائل العربية من تقسيم القبيلة إلى عشائر, وخلق زعامات لهذه العشائر بعد أن ثارعليها زعماء القبائل.

علاقات القبائل مع الفرنسيين:

نهج الفرنسيون نهج الأتراك بعد احتلالهم لسوريا في عام 1920 حيث عمدوا في البداية إلى كسب ودّ شيوخ القبائل والعشاير من خلال تكليف بعضهم بجباية الضرائب والأتاوات, وكذلك تعيين بعضهم في البرلمان, ومن لم يدخل في العباءة الفرنسية كان يتم اعتقالة أو نفيه خارج سوريا.

في شباط 1946 أقرّ مجلس الأمن الدولي جلاء القوات الفرنسية من سوريا، فتحقق ذلك الجلاء في الـ 16من نيسان 1946، واعتبر يوم السابع عشر من الشهر نفسه عيداً للجلاء.

في الـ22 من شباط 1958 تمت الوحدة بين سوريا ومصر تحت مسمى “الجمهورية العربية المتحدة”  وبعد قيامها بمدة قصيرة أصدر رئيسها جمال عبد الناصر قانون الإصلاح الزراعي رقم 161 لعام 1958 القاضي بالاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي رأى بأنها تجاوزت سقف الملكية، ضمن شروط حددها القانون ترتبط بمعدلات هطل الأمطار بالنسبة للأراضي البعلية، ووفق مصادر المياه بالنسبة إلى الأراضي المروية.

بعد انتهاء الوحدة مع مصر وخروج عبد الناصر من سوريا، في أيلول 1961، صدرت مراسيم تشريعية عدلت في القانون السالف ورفعت سقف الملكية, وحين تسلّم حزب البعث السلطة صدر المرسوم التشريعي ذو الرقم 145 لعام 1966 الذي ألغى التعديلات وعاد لمتابعة سياسة الاستيلاء.

وأثناء ذلك كانت غالبية عمليات الاستيلاء على الأراضي وتوزيعها على غير مالكيها تتم بدوافع انتقامية واضحة لها غايات طائفية وعرقية وقبلية, كون أغلب تلك الأراضي تعود ملكيتها لعائلات من الطائفة السنية في المناطق الساحلية أو الغربية من سوريا, وفي المنطقة الشرقية والجزيرة السورية كانت تعود ملكية أغلب الأراضي لشيوخ القبائل العربية والكردية, إذ تجاوز تطبيق الاستيلاء ليشمل حتى المنازل والعقارات والسيارات أيضاً.

القبائل والعشائر خلال فترة سيطرة حزب البعث على السلطة في سوريا:

كانت الضربة الموجعة الأكبر للمجتمع القبلي والعشائري التي تلقاها هي أثناء سيطرة حزب البعث على السلطة, حيث انتهج البعثيون نهج المحتل العثماني والفرنسي في تخريب بنية المجتمع القبلي والعشائري, والذين كان لهم الدور الأكبر في إصدار قرارات مصادرة أراضي وأملاك شيوخ القبائل والعشائر منذ عام 1693 بما يسمى ثورة الثامن من آذار, التي  تعتبر فترة تاريخية في سوريا من أسوأ المراحل التي مرت بها في العصر الحديث, من أهم سماتها تخريب النسيج المجتمعي والتغيير الديمغرافي في سوريا, فأصبح شيخ القبيلة والعشيرة متسولاً على أبواب السلطة البعثية بعد أن قامت بمصادرة أراضيه وأملاكه بحجة محاربة الإقطاع.

وأصبح دخول البرلمان بالنسبة لشيوخ القبائل لمن هم فقط في فلك السلطة والموالين لها, حيث حُرم شيوخ القبائل من مصدر قوتهم ونفوذهم بين أبناء قبليتهم بعد مصادرة أراضيهم وأملاكهم, وهناك مثل شعبي يقول المشيخة (بدها صينة ودبوس) أي بمعنى المشيخة تحتاج إلى مال ورجال، فوجدت سلطات البعث شيوخاً موالين لها ليس لهم أي احترام أو تقدير أو مكانة, ولكن منحتهم سلطة ونفوذاً من خلال إدخال بعضهم إلى البرلمان.

وفي بداية الصراع في سوريا كان هناك استغلال للقببيلة والعشيرة من كافة أطراف الصراع في سوريا, حيث عمد كل طرف إلى خلق شيوخ جدد موالين له, وذلك أدى إلى حدوث شرخ كبير في البنية المجتعية وإيجاد صراع بين أبناء القبيلة والعشيرة الواحدة.

ثانياً: الدور المتبادل للعشائر في الحفاظ على الأمن المجتمعي والسلم الأهلي:

تلعب القبائل والعشاىر دوراً كبيراً في بنية مجتمع شمال وشرق سوريا كون أغلبها متواجد في هذه البقعة الجغرافية, ويظهر هذا الدور في معظم حياة أبنائها من زواج وطلاق وفضّ النزاعات وفي الأفراح والأتراح, وكثير من القضايا وحالات الخصومة يتم حلها عن طريق العرف القبلي والعشائري, لذلك يتبين أن المجتمع القبلي يشكل سلطة ثانية إلى جانب السلطة الحاكمة في شمال وشرق سوريا, وهناك حالة من الاندماج الواضح بين القبيلة والسلطة, حيث أعطيت المشيخة مكانتها ودورها الفعال الصحيح الذي كانت تقوم به على مرّ العصور, وظهر هذا الدور على سبيل المثال من خلال إعطاء شيوخ القبائل والعشائر الحق في كفالة عناصر داعش من أبناء المنطقة من الذين لم تتلوث أيديهم بدم السوريين في كفالتهم والإفراج عنهم.

 

الفصل الثاني ـ العشائر والعرف القبلي والإدارة المستقلة عن السلطة:

لقد عمل ابن خلدون على فكرة الوازع عندما تتدرّج من السلطة المعنوية لشيوخ القبائل وكبارهم، إلى السلطة المادية, وبصفة عامة يعدّ الوازع بالنسبة له وازعاً اجتماعيّاً؛ باعتبارها سلطة اجتماعية تستمدّ خصائصها من نوع الحياة الاجتماعية السائدة، فهو لا يهتمّ بالوازع الذاتي كالأخلاق والدين رغم أنّ الدين له دور في تقوية الروابط الاجتماعية في ظروف خاصة.

إنّ يقظة العصبيّة تشترط وجود تهديد، وتشتدّ فاعليتها عندما تمسّ المصلحة المشتركة للجماعة، وهي المصلحة التي تتشكّل فيها أمور المعاش؛ فهو العنصر الرئيسي والفعال.

يرى ابن خلدون “أنّ الصراع من أجل البقاء يقع نتيجة قلة الموارد، لأنّ الناس في اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت، بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه”.

أولاً: أسس التعايش الاجتماعي والسياسي لدى قبائل سوريا

إنّ التعايش المجتمعي في دول العالم وشعوبه مبني على حالة التنوعات العرقية والدينية والمذهبية والقومية والأثنية، وقد شكّل هذا التنوع عبئاً على بعض الدول فوصل الأمر إلى حالة من الصراعات ذهبت ضحاياها الآلاف، وقد أوصل بعضها إلى حالة الانقسام.

والمشكلة هنا ليست في التنوع بحد ذاته، إذ يمكن أن لا يعد عاملاً سلبياً وضعفاً في الواقع المجتمعي لو تمت إدارته بحكمة ومشاركة الجميع من خلال التأسيس لمبدأ المواطنة الذي يتساوى من خلاله الجميع في الحقوق والواجبات، فتتحقق المشاركة السياسية والثقافية والاقتصادية للجميع بغضّ النظر عن انتمائهم .

يعبر الفرد والمجتمع بما يحتويه من قبائل ومؤسسات ونظم مجتمعية متنوعة من خلال الإيمان  بقيمة التعايش عبر إنسانيته وأخلاقه ومستواه التربوي والثقافي، إذ لا يمكن أن يؤمن بالتعايش إلا من انطلق في مواقفه وسلوكه من إطار ديمقراطي يؤمن بحقوق الإنسان، وحقه في الاختلاف عن الآخرين واختيار دينه وطائفته دون إكراه .

ويُعتبر التعايش عملية تفاعل وقبول اجتماعي واعتراف متبادل بين الأنواع الاجتماعية والثقافية والدينية والطائفية خارج أطر النبذ الاجتماعي أو الاقصاء السياسي والحرمان الاقتصادي, وهو رؤية لبناء الحاضر والتأسيس للمستقبل برؤية إنسانية يشترك فيها الجميع دون استفراد أو استحواذ، واحترام الخصوصية لكل جماعة دون تقديم لتنازلات عن هذه الخصوصية للطرف الآخر، بل إيجاد قاعدة مشتركة ومنطقة وسط يلتقي الجميع عليها لبناء الواقع ومغادرة ما هو قائم من عدوانية أو تعصب.
يحتاج التعايش إلى أطر دستورية وقانونية تنظمه وتحميه وتوفر له بيئة من السلم الاجتماعي المحمي قانونياً.
لايمكن أن يكون هناك تعايش حقيقي دون وجود منظومة مجتمعية قوية تحترم الإنسان وتصون كرامته وتحمي معتقده، وهي دولة لا تتبنى معتقداً أو ديناً أو طائفة أو غير ذلك.

ثانياً: التحديات المعاصرة التي تواجه وجود العشائر واستمرار النسيج الفكري الخاص بها:

يمكن الحديث عن تحديات كثيرة تستهدف وجود واستمرارية وتأثير العشائر في مواجهة الحداثة التي تحاول وبأساليب مختلفة تقويض المشاركة المجتمعية الحقيقية وتدفع بها إلى الانعزال والانكفاء.

وتعزى المشاكل والتحديات التي تواجه العشائر جزئياً إلى التوجّهات السلطوية على كلّ مستويات المجتمع، بدءاً من الدولة إلى القطاع الخاص ونزولاً إلى مستوى العائلة والعشيرة, لذلك من الضروري أن تجد المنطقة طريقةً للتخفيف من هذه التوجّهات في عالمٍ يتطلّب بشكل متزايد حلولاً إبداعية على جميع المستويات، ومن جملة التحديات التي يمكن الحديث عنها:

تحديات سياسية: تشمل هذه التحديات التغيرات الكبيرة في العلاقات والتداخلات السياسية بين دول وأطراف, وخاصة في ظل تصاعد حدة الصراعات والأزمة في سوريا, وهذه أدت إلى الدفع ببعض القبائل والعشائر إلى الانخراط في قضايا سياسية لا تخدم المصالح العامة للبلاد، وبقاء عشائر أخرى على الحياد، وكذلك اتخذت مجموعة كبيرة من العشائر العمل الوطني وساهمت في تأسيس الإدارة الذاتية.

يمكن القول إنّ القبائل كانت عبارة عن دولة مصغّرة في الشرق ولها قوانينها وأعرافها، فلكلّ قبيلة قانونها الخاص الذي يُلزِم أفراد القبيلة، وتتّسع الدائرة لتضمّ في بوتقتها عدداً من العشائر التي ترضخ للقانون الخاص بالقبيلة، فتسود بذلك قبيلة على كلّ القبائل.

ربما تجاوزت بعض الدول في الشرق الأوسط مرحلة العشائرية، بسبب تركيبتها الاجتماعية المتنوعة كما هو الحال في العراق وسوريا، فسوريا تجاوزت مرحلة العشائرية؛ كون مجتمعها يتكوّن من عدد من المكونات المختلفة كالعرب والكرد والآشوريين والشركس والأرمن، وقد ظهرت بعض التحركات العشائرية لكنها أخفقت أمام التنوع الاجتماعي في سوريا، وقد كانت تطمح بالنهج الذي سارت عليه القبائل في شبه الجزيرة العربية.

– تحديات اقتصادية واجتماعية: تشمل هذه التحديات الضغوطات التنافسية التي تسبّبها التطورات في عالم الاقتصاد، وزيادة ندرة المياه والنزوح من الأرياف إلى المدن بسبب تغيّر المناخ، بالإضافة إلى الضغوطات الناتجة عن قلة العمل بسبب التغيرات الديموغرافية, وأيضاً تغيرات في التركيبة البشرية بسبب الحروب والأزمات والهجرات والغزو الثقافي الغربي وما إلى ذلك.

– الافتقاد إلى المأسسة والحوكمة: تعاني معظم القبائل والعشائر ضمن دول المنطقة عجزاً كبيراً في ترسيخ الحياة المؤسسية والمشاركة الفعالة في عمليات مثل الحوكمة، وتشمل هذه النقاط المؤسسات الضعيفة، والعلاقات المتوتّرة بين الدولة والسكان، والأنظمة الاقتصادية الإقصائية، بالإضافة إلى العلاقات الهشّة بين الكيانات بسبب ظروف الاقتصاد.

ولكي تتجاوز العشيرة هذا التحدي ينبغي عليها اعتماد نهج جديد في مسائل المشاركة في  الحوكمة والتنمية، من خلال التركيز على تطبيق تحسينات تدريجية والمشاركة الحقيقية، وتعزيز الشفافية والمساءلة، بالإضافة إلى خلق مساحة لمشاركة الأفراد بطريقة هادفة ضمن مؤسسات الإدارة والحكومة.

أخيراً، يتسبّب الضعف المؤسّساتي بتدهور العلاقات بين الدول في أنحاء المنطقة, ومعظم التحديات التي تواجهها القبائل بطبيعتها تتطلّب تعاوناً عوضاً عن ذلك، فقد أدّت التدخلات الإقليمية في الشأن السوري إلى عرقلة التقدّم في المنطقة, حيث استنزفت الصراعات الداخلية المواردَ والإمكانيات المتاحة وتسببت بموجات كبيرة من النزوح والهجرات, مما تسببت في مشكلات أخرى تبعياتها ما تزال مؤثرة.

ثالثاً: الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا والعشائر:

من خلال السنوات الثلاث عشرة المنصرمة منذ اندلاع الأزمة السورية وما تلاها من أحداث عميقة ساهمت في رسم معالم جديدة للمنطقة ولسوريا على وجه الخصوص؛ كانت هناك حالات متكررة من إعطاء الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا الدور الكبير لهذه الشريحة الواسعة من المجتمع في أكثر من مناسبة ومجال, حيث تم عقد العديد من اللقاءات مع شيوخ ووجهاء القبائل والعشائر وكذلك مساهمة أبناء القبائل في القرار السياسيّ والإداريّ ضمن مؤسسات الإدارة الذاتية, وتم شغل مناصب عالية من قبل أبناء القبائل بدءاً من رأس الهرم بالقرار السياسي لمجلس سوريا الديمقراطية والمجالس التنفيذية إلى القوات العسكرية المتمثلة بقوات سوريا الديمقراطية.

هذا إنّ دل على شيء يدل على أن أصحاب القرار في إقليم شمال وشرق سوريا يدركون تماماً أن النهوض بالمجتمع سواء على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري, يجب أن يقوم به كافة شرائح المجتمع, لا بتهميش البعض على حساب البعض, مع الإدراك الكامل أن العمق التاريخي الكبير لهذه الشريحة في المجتمع تمثل اللبنة الثانية التي تقوم عليها المجتمعات المتماسكة بعد الأسرة, فمنذ آلاف السنين تتكون مجتمعاتنا من القبيلة والعشيرة, وكثير من الدول والممالك كانت في بداياتها قد تأسست من قبيلة ثم تحالفات قبلية إلى تأسيس دول أو ممالك, مثال ذلك دول وممالك الخليج والهاشميون في الأردن والعراق وسوريا, وهذا يدل على أن القبيلة تشكل مملكة أو دولة مصغرة يمكن أن يزداد نفوذها بحسب الظروف المحيطة والتحالفات التي تقوم بها.

ويتعدّى ذلك أحياناً إلى زيجات ومصاهرات، والقارئ للتاريخ يدرك أنّ ما تعرض له المجتمع القبلي من محاولات للتهميش أو تغيير بنية القبيلة مثل ما قام به العثمانيون أثناء احتلالهم للمنطقة, بتقسيم القبيلة إلى عشائر ليسهل السيطرة عليها, جميعها باءت بالفشل وقوبلت بظهور تحالفات قبلية هددت العثمانيين، مثل حصار شيخ قبيلة العمارات من عنزة ابن هذال لبغداد في بداية القرن التاسع عشر، وذلك بعد أن أجرى العديد من الاتفاقات والتحالفات مع شيوخ القبائل الذين كانوا ناقمين على سياسة العثمانيين.

في حين تم إحياء دور أبناء القبائل وشيوخها في إقليم شمال وشرق سوريا من خلال منحهم مساحة كافية في فضّ النزاعات التي تحدث وعقد الصلح بين المتخاصمين, وحتى كفالة الكثير من عناصر التنظيمات المتطرفة  ممن لم تتلطّخ أيديهم بدماء السوريين, مثلما ذكرنا سابقاً, وإخراجهم من الإصلاحيات، وهذا يشكل تحالفاً قوياً للإدارة الذاتية, وهذه الشريحة من المجمتمع متمثلة باتحاد كونفدرالي بين القبيلة والإدارة لخلق مجتمع متماسك متين ضد أي تدخلات خارجية تريد العبث بأمن مناطقه واستقراره.

الخاتمة:

يمكن للقبائل والعشائر وعبر نظمها الثقافية والأخلاقية وتأثيراتها المباشرة على الشعوب, التعايش وإضفاء قيمة ثقافية مكتسبة يحصل عليها كل من يعيش في المنطقة من بيئته الاجتماعية بدءاً من الأسرة وصولاً إلى جميع مفاصل الحياة المجتمعية.

ربما نستطيع أن نقول: إنّ أهم المهام الملقاة على عاتق القبائل والعشائر هي الصناعة والمشاركة في ترسيخ عوامل السلم الأهلي والأمن المجتمعي, وإقامة السلم الاجتماعي والتعايش بين المختلفين, والعمل على صناعة عقل يستطيع التعايش مع الجميع، عقل غير عدواني. واليوم نحتاج إلى إعادة تأهيل عقل الإنسان وإنقاذه مما ترسب فيه من قيم ومفاهيم إقصائية, وهذا لا ينفي وجود تحديات تواجه الحياة القبلية، أبرزها المناطقية بما تمثله من تهديد للنسيج الاجتماعي السوري.

المراجع:

  • جوزيف ياكوب، ما بعد الأقليات، بديل عن تكاثر الدول، ترجمة حسين عمر، بيروت، المركز الثقافي العربي ،2004م.
  • عباس العزاوي، عشائر العراق وأنسابه، مطبع المعارف، بغداد2016م
  • عبد الجليل الظاهر، العشائر والسياسة، الدار العربية للموسوعات ، 2005م
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى