أبحاث ودراساتاسماعيل خالد اسماعيلافتتاحية العددمانشيتملف العدد 65

الضوابط السياسية والأخلاقية وأساليبها في الفلسفة الأوجلانية “قراءة في سوسيولوجيا الحرية”

إسماعيل خالد

 

إسماعيل خالد

اسماعيل خالد اسماعيل
اسماعيل خالد اسماعيل

مقدمة:

بات من المعلوم وفي عالم السياسة والأخلاق، ومع تداخلاتها الكبيرة والمعقدة, أنه لا يوجد خيار بين الطرق الملتزمة والطرق المحايدة، وبات من المعلوم أيضاً أن كل سوسيولوجيا تناقش قضايا المجتمع ولا تلتزم ببؤس البشر؛ هي سوسيولوجيا مستحيلة، والبحث عن موقف محايد من الوجهة الأخلاقية والسياسة المبنية على الأخلاق المجتمعية,  إنما هو مجرد بحث بدون جدوى.

وعلى الرغم من أنّ الأخلاق تعتبر من أساسيّات بناء المجتمعات, وحيث لا وجود للمجتمعات بلا أخلاق تدعو إلى التكامل بين الأطروحات والمواقف العملية، والتي يسلكها المجتمع, والمجتمع السياسي  الملتحم مع (القيم والتوجهات والفلسفات الأخلاقية) يشكّل القواعد الأخلاقية, ولا يمكن الفصل بين هذين المصطلحين.

من خلال بحثنا هذا سنحاول تسليط الضوء على المقاربة الأوجلانية للضوابط السياسية والأخلاقية المجتمعية، وهو الذي عرّف القضية الاجتماعية بـ “كومة قضايا”, ورغم قناعته بأن أهم دور لجهاز السلطة والدولة وعلاقاتهما تتمثل في إبقاء المجتمع بلا قوة أو حماية ودورهما يتحقق بالنهش والتهشيش الدائم لأنسجته الأخلاقية والسياسية، والتي هي لوازم وجود المجتمعات, وفي حال إسقاط هذه اللوازم يكون المجتمع عاجزاً تماماً عن القيام بعمله أو أداء دوره.

إن المجتمع لا يستطيع الاستمرار في وجوده دون مساحة الأخلاق والسياسة، حيث يتجسد الدور الرئيس للأخلاق في:

– تعبئة المجتمع بالقواعد والضوابط لتأمين ديمومته والحفاظ على ثباته.

– تمكين المجتمع من تطبيق تلك القواعد.

ويتجسد دور السياسة في:

– تأمين الضوابط الأخلاقية اللازمة للمجتمع, المادية والذهنية.

– جعل المجتمع حيوياً ومنفتحاً من خلال السياسة المجتمعية التي تزيد القدرة على قوة القرار

– إدارة المجتمع لنفسه وتدبير شؤونه بنفسه بالاعتماد على مهارات الإدارة.

وفي سوسيولوجيا الحرية التي طرحها وبعمق وتمعّن, وبدراسة حثيثة رأينا أن حقيقة المجتمع الأخلاقي السياسي لا تنعش ذكريات العصور الماضية، ولا تمثّل يوتوبيا مستقبلية جديدة مشرقة، ولا عروض قوة التخطيط تفيد في كلا الموضوعين، لأن ذهنيات المجتمعات مشحونة بهكذا تعاملات “تلك الذكريات واليوتوبيات”، ولا تسهم في عرض الحقيقة؛ حقيقة المجتمع الأخلاقي السياسي سواء تم تناولها بالأساليب الوضعية أم الميتافيزيقية.

تقدم الإنسان على بناء القرى والمدن حتى عندما كان يعيش على شكل قبائل وكلان اعتماداً على مبدأ الأخلاق, أي الحسن والصواب وفق مصالح المجتمع, لكن القوى الحاكمة والدولتية استولت على هذه الجهود حتى ضللت مستقبل المجتمعات. من بعد ظهور الدولة على مسرح التاريخ استمرت الشعوب بإحياء مبادئها الأخلاقية والسياسية على شكل العشيرة، العائلة، القرية، الطرائق والمذاهب والعقائد وإدارة ذاتية ثقافية إلى يومنا الراهن, وابتعدوا عن تدخلات الدولة في فلسفة حياتهم وأعمالهم بقدر المستطاع، لكن كانت الهجمات مستمرة بقدر استمرارية مقاومتهم.

وبسبب تعاظم قوة المهاجمين تلقّت القيم الاجتماعية ضربات بليغة مع مرور الزمن, حيث نُسجت الغربة بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والمجتمع، لأنه لو لم يغترب الإنسان عن الإنسان والرجل عن المرأة وعن الطبيعة والمجتمع ما كانوا ليستعمروا ويقتَلوا  ويعادي بعضهم البعض, وما كان ليتحول المجتمع إلى ساحة ربح لصالح القوى الحاكمة أو تتواجد السلطة الهرمية والدولة. إن عزل المجتمع عن جميع مقوماته الحياتية ومكوناته بالكامل يُعتبر خطراً على حياة قوى المصالح أيضاً، لذا أرادت إيقافه ـ أي المجتمع ـ ضمن الحدود المرسومة له.

ولكن المجتمعية في الشرق الأوسط خاصة أصرّت في وجودها عبر انبعاث انطلاقات أخلاقية وسياسية عديدة لمصلحة المجتمع, وبالطبع نجحت بالبقاء أخلاقياً وسياسياً, وأغلبية هذه الانطلاقات كانت تحت ستار الدين والأيديولوجيات الإقليمية مهما كان نوع هذه الانطلاقات، لكن جميعها مقاومات أخلاقية في الجوهر.

مشكلة البحث:

يمكن القول إن المشكلة الأساسية التي بُني عليها هذا البحث هو طرح المفكر عبد الله أوجلان للقضايا المجتمعية, والتي من ضمنها قضايا المجتمع الأخلاقية والسياسية؛ موضوع بحثنا.

والإشكالية المجتمعية الناجمة عن الأبعاد المتضخمة للقضايا الذهنية والأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والديموغرافية والجنسوية والقوموية والدينوية والأيكولوجية، وهذه تشكل صلب مواضيع علوم الاجتماع.

ومن الأسئلة الأكثر أهمية ويمكننا طرحها في هذا البحث هي:

ما مخاطر تقسيم القضايا كما وصفها المفكر عبد الله أوجلان التي ربطها بخطر فقدان الحقيقة؟

لماذا تشكل السلطة والدولة منبع القضايا الاجتماعية وتتربّعان فوق المجتمع بكل قوتهما؟

كيف تفقد المجتمعات المحرومة من الضوابط الأخلاقية والسياسية القدرة على تطبيقها في ظل هيمنة السلطة والدولة؟

أهداف البحث:

يمكن توضيح أهداف البحث في:

ـ تسليط الضوء على الممارسات الحداثية لقوى الهيمنة في إبعاد المجتمعات عن الضوابط الأخلاقية والسياسية كما وضّحها المفكر عبد الله أوجلان في سوسيولوجيا الحرية.

ـ شرح أجهزة وأدوات السلطة والدولة في غزو المجتمعات وإسقاطها وإخراجها من كينونتها واستغلالها.

أهمية البحث:

إن أهم دور يمكن الحديث عنه في بحثنا هذا هو القضايا الاجتماعية التي سلط المفكر عبد الله أوجلان الضوء عليها واعتبرها “كومة قضايا” وهي التي تمسّ المجتمعات بشكل مباشر, باعتبار أنّ السياسة والأخلاق تعتبران من تقاليد الفكر الجمعي المجتمعي وأهم محرّضات ومنتجات القوة الفكرية وإنتاج الأفكار الخلاقة, وإدراك المجتمع استحالة إنتاج الفكر السياسي دون الاعتماد على الأخلاق كمصدر أساسي وكإرث فكري.

مصطلحات البحث:

السلطة والدولة، السياسة، الأخلاق, علم الاجتماع الأوروبي المركّز

السلطة والدولة:

يذهب بعضهم إلى أن علم السياسة أقرب إلى علم السلطة منه إلى علم الدولة، إذ مفهوم السلطة أقدم  وأوسع نطاقاً من مفهوم الدولة. ثمة اتجاهان أساسيان يتنازعان علم السياسة اليوم: أحدهما يرى فيه وسيلة لمعرفة الدولة كجملة كلية أو وحدة عينية من الأرض والشعب والسلطة السياسية أو النظام العام، والآخر يرى فيه علماً للسلطة ووسيلة لدراسة آليات عملها بوصفها إدارة عامة.

الدولة في أساسها سلطة متميزة بالسيرورة عبر تمأسسها, وبينما تُعتبر مؤسسة الدولة الأداة الأخطر – ربما – في التاريخ، فهي ماتزال تصون خاصيتها كظاهرة لم تُستَوعَب إلا قليلاً. وتلعب الثقافة التي تتضمنها وتنوع المنافع التي فيها الدورَ الرئيس في ذلك, فكل شيء مكتوب أو مُقال عنها يزيد من لغزها غموضاً، ويساهم في استعصاء فهمها أكثر. وبقدر ما تُعتَبر رؤية الدولة بأنها مجرد أداة عنف رؤية خاطئة وتتضمن المغالطة؛ فإن النظر إليها كسلطة مقدسة، واصطلاحها على هذا النحو، يفيد بنفس القدر في مواراة ما يجري فيها حقاً.

فالدولة بحسب الاتجاه الثاني، لم تعد تحتكر ممارسة السلطة؛ إذ ينتج المجتمع تنظيمات تحتية في إطار الدولة تولِّد ظواهر السلطة، وتولد من ثم رؤية جديدة لماهية الدولة التي يغدو من الصعب فهمها من دون معرفة تنظيماتها. هذا الاتجاه الثاني الذي أسس له “ميشيل فوكو” بتوسيع مفهوم السلطة، يرى أن السلطة ليست بنية ولا مؤسسة، وليست ممارسة لقدرة ما منحت للبعض، بل هي “الاسم المستعار لوضع استراتيجيّ معقّد داخل مجتمع معين”.

إنّ السلطة موجودة في كل مكان، وهذا لا يعني أنها تبتلع كل شيء فحسب، بل يعني أنها تأتي من كل شيء. ففي اللحظة التي يُفكَّر فيها في السلطة على طريقة الحقوقيين, نصل إلى تفجير حقيقي ينطلق من نقطة مركزية (الدستور أو الحكومة) ليمتدّ داخل قنوات عدة في جسم المجتمع (الإدارة / الإدارات الخاصة)

السلطة، بل السلطات التي تنبع من النشاط الاجتماعي (من الفاعلية أو الحركة التي تولد مختلف القوى)، اقتصادياً كان هذا النشاط أم ثقافياً أم مهنياً أم نقابياً أم سياسياً, تدل محصّلتها النهائية على قوة المجتمع التي ينبغي أن تعيّن حدود السلطة السياسية، وتعيّن من ثم الحدود بين سيادة الدولة التي لا تتجزأ، وبين سلطاتها المرتبطة بوظائفها الاجتماعية المختلفة والنابعة من حاجات المجتمع وإيقاع سيرها؛ إذ لا يجوز أن تكون السلطة السياسية شيئاً مستقلاً عن الوظائف الاجتماعية، سواء تلك التي يقوم بها المجتمع بنفسه، أو التي يقوم بها عن طريق الدولة، أي عن طريق مندوبيه ومفوّضيه وموظفيه.

السياسة:

كلمة السياسة مشتقة في اليونانية من Police المدينة/الدولة، ولكنّها قديمة قدم المجتمع الطبيعيّ، لكنّها تحوّرت وتحوّلت، فالسياسة لم تكن تُدرَك عند اليونان إلا على أنها مشاركة في حياة المدينة/الدولة، وجملة من الحقوق والمسؤوليات والالتزامات يضطلع بها المواطن الحر الذي هو أساس الدولة. وصارت السياسة في الأزمنة الحديثة تحتوي على ما هو عام ومشترك بين جميع مواطني الدولة وجميع طبقاتها وفئاتها الاجتماعية، أي على العلاقات الموضوعية التي تربط الأفراد، وبين الفئات والطبقات الاجتماعية في الدولة المعنية، وعلى العلاقات الموضوعية التي تربط بين مختلف الأمم والشعوب والدول, ومن ثم فإنّ معنى السياسة وثيق الارتباط بمعنى المواطنة، وعلم السياسة وثيق الصلة بنظرية الدولة.

بالإضافة إلى ذلك يمكن القول: إنّ السياسة هي فن وإبداع وأسلوب راقٍ للوصول إلى الحقيقة التي نبحث عنها, والسياسة تتطلب الفكر والتحليل السليم للوصول إلى الهدف الذي نريد, والسياسة في فكر المفكر عبد الله أوجلان هي فن الإدارة والحرية والمساواة للوصول إلى مجتمع أخلاقي وحرّ, والسياسة تتطلب فكراً حراً وديمقراطياً ومتنوعاً, لأن السياسة قابلة للتغيير مع مرور الزمن.

الأخلاق:

الأخلاق هي الذاكرة السياسية للمجتمع, أما السياسة فهي إيجاد الأعمال اليومية الجيدة للمجتمع, والأخلاق هي ممارسة تلك الأعمال, وهي الذاكرة المجتمعية بما تحويها من قيم وفضائل تشكّل الحاضنة الرئيسة لتبلور السياسة في إنشاء مجموعة هيكلية كون الإدارة والمؤسسات هي التي تنتج سلوكاً فكرياً لخدمة المجتمعات.

وتعتبر الأخلاق عملية تنمية الشعور الجماعي, وتلعب الأخلاق كذلك دوراً أساسياً في تنمية الشعور الجماعي بالآخرين في التنظيم بين الأفراد, وهو الأمر الذي يقوّي من أواصر المتجمع ويزيد من ألفته ومن تعاونه وتماسكه وبالتالي من قوّته, تعتبر الأخلاق القاعدة الأساسية لبناء المجتمعات حيث من المفترض أن تبنى عليها جميع القوانين والأحكام.

علم الاجتماع الأوروبي المركّز:

حسب أنطوني غيدنز ، فقد ظهرت الرأسمالية لأول مرة في التاريخ في أوروبا، وما من شك أن علماء الاجتماع الأوروبي يتشاطرون آراء مشابهة, فحسب هؤلاء لم يظهر تطور مصادف في أي عصر أو مكان آخر من التاريخ, والرأسمالية المذكورة هي رأسمالية “أمستردام هولندا ولندن انكلترا” وهي المتنامية كمركز لقوى الهيمنة العالمية في القرن السادس عشر, ويكمن نصيب الواقعية من ذلك في كون أمستردام ولندن قد استلمتا فعلاً مركز الهيمنة العالمية الكلاسيكية اعتباراً من ذلك القرن.

 

الفصل الأول ـ المراحل التي مرت من خلالها السياسة

أولاً: مرحلة الفكر السياسي الأخلاقي:

منذ فجر التاريخ وما يزال الإنسان يقوم على بناء القرى والمدن حتى عندما كان يعيش على شكل قبائل وكلان اعتماداً على مبدأ الأخلاق, أي الحسن والصواب وفق مصالح المجتمع.

إن لظهور المجال السياسي باعتباره مجالاً فريداً خلفية معقّدة في مجال الأفكار, وقد انبثقت السياسة بوصفها ظاهرة يمكن تمييزها عن الدولة وعن الحياة الاجتماعية, في البداية كانت كتابات أرسطو والذي ربما يكون الأكثر تأثراً بالثقافة الهيلينية من بين المنظّرين والفلاسفة اليونانيين, وما زلنا مع أرسطو نتعامل من حيث الارتباط الإنساني على مستوى المدنية, أو لنكن أكثر دقة على مستوى مدينة بوليس والتي يساء ترجمتها بشكل شائع باعتبارها الدولة والمدنية بحلول منتصف القرن الخامس قبل الميلاد, حين كانت الديمقراطية الأثينية تقترب من ذروة تطورها كان من الملحوظ أن مفهوم الدولة باعتبارها الجهاز البيروقراطي المحترف المستخدم في السيطرة الاجتماعية بات غائباً ولا تحتوي (الأتيكية) اللهجة اليونانية القديمة على مصطلح الدولة, والمصطلح لاتيني في أصله وجذوره.

لا ينبغي اختزال هذا التمييز في اختلاف بسيط في نقاط الأفضلية تجاه ظاهرة مشتركة, وفي الواقع يبحث أرسطو ومنظرو علم الاجتماع المعاصرون في عالمين مختلفين للغاية حيث تصبح الاختلافات واضحة جداً في الجزء السابع من كتاب “السياسة” لأرسطو حين تجري مناقشة الحجم المناسب لدولة المدينة المثالية, ويتفق أرسطو ومنظرو علم الاجتماع المعاصرون على أن المجتمع الصغير جداً مهدد باحتمالية عدم كفاية سكانه لوسائل الحياة, ناهيك عن توفير حياة جيدة إذا كان يعتمد بشكل أساسي على موارده الخاصة. كيفما اختار المرء أن يفسر تلك العبارة التي تمثل إشكالية كبرى وعن بصيرة, فإن أرسطو يقلل من قيمة الرأي القائل بأن عظمة المجتمع يُحكم عليها من خلال حجمه الجغرافي والإقليمي.

ومهما كانت أهمية الأرقام والموارد فإنه لا يمكن لدولة مدنية كبيرة جداً في تعداد سكانها وحجمها الجغرافي أن تحظى بحكومة قانونية, فجدية القانون هو شكل من أشكال النظام ويجب أن يعني القانون الجيد  نظاماً جيداً, ولكن الأرقام المبالغ فيها لا يمكن أن تشارك في النظام, ولا شك أن إخضاعها للنظام سيتطلب تسخير القوة الإلهية التي تجعل الكون متماسكاً, وبالتالي فإن الدولة المدنية الأفضل ستكون تلك التي تلتزم بالحجم الذي يتألف من المبادئ المحددة المذكورة أعلاه, وصحيح أن الجمال عادة ما يتمثل في العدد والحجم؛ لكن هنالك حدوداً للحجم المناسب للدولة المدنية كما هي الحال في كل الأشياء الأخرى مثل الحيوانات والنباتات والأدوات, وإلا فإننا سنفقد طبيعتها الحقيقة, وكذلك قابليتها للعمل, ولتلخيص تلك المجموعة الكبيرة من المفاهيم يقول أرسطو: إنّ أفضل مبدأ محدد للدولة المدنية يمكن أن يؤخذ في الاعتبار؛ هو أقصى قدر ممكن من التوسع السكاني بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي.

السياسة الأخلاقية في الفكر الغربي ( نيكولا مكيافيلي):

في فكر نيكولا مكيافيلي أن على الأمراء في عصره ـ وهذا بالتأكيد شيء واجب تطبيقه في وقتنا ـ أن الأمير كما يعدّ نفسه وارثاً للحكم قابع على عرشه يراقب حال الرعية من هناك؛ فعليه أن ينزل عن ذاك العرش حتى يكون بين العامة ويراقب أعمال الموظفين ممن هم دونه.

يعدّ الحكام القدماء المسيطرين على الحكم أبًّا عن جد من أقوى الحكام الذين يصعب محاربتهم, فعند أي غزو خارجي وإن وقع منهم الحكم, فإن أي غلطة من العدو كفيلة بعودته إلى عرشه, إلا أن الصعوبة تكمن في الممالك الجديدة التي تنقسم ما بين حاضرتين؛ حديثة وقديمة, بمعنى أنها تعدّ مزيجاً بين المملكة الحديثة والمملكة القديمة, فقد يتمرد الشعب ضد حكومتهم على أمل إقامة دولة جديدة ترضخ لرغباتهم وتحقق تأملاتهم, وفي حال اندثار طموحاتهم قد يعودون أدراجهم للحكم القديم وبذلك يصبح الطرف الحاكم أمام مشكلتين: أولاهما معاقبة المتمردين وسنّ قوانين تجري عليهم بحيث يكونون مراقَبين في تحركاتهم, والمشكلة الثانية هي استمالة الأطراف المؤيدة لهم منذ البداية ومحاولة الحفاظ على الصورة المشرقة في أنظارهم لكيلا يتبدلوا في مواقفهم. أما في حال بقاء الدولة الجديدة وعدم زوالها فهي الأخرى تصبح أمام أمرين لا بد من تنفيذهما، أوّلهما القضاء على الأسرة الحاكمة القديمة لضمان عدم تجدد حركتهم لاسترجاع أراضيهم، أما الثانية فهو الإبقاء على القوانين والضرائب المتعلقة بتلك البلاد حتى لا يلاحظ الشعب أي تغيير فيتمرد, وبذلك تضمن الأسرة الحاكمة الجديدة بقاءها واستمراريتها.

هذا كان بالنسبة لفلسفة مكيافيلي للنظم السياسية الأخلاقية, أما لو تبحّرنا في آراء “أبو الحسن بن يوسف” الملقب بالعامري فسنجد كيف يتحدث عن الرئيس والمرؤوسين؟ وكيف يصنف الرئاسة إلى طبيعية أو عرفية، عامية أو خاصية، شريفة أو خسيسة؟ والرئاسة عنده  تشرَّف بثلاثة أشياء؛ ألا وهي فضل الرئيس وشرفه, والثانية شرف المرؤوسين أو كثرتهم, والثالثة أن تجري على إصلاح المرؤوسين وأن تتماشى مع مصالحهم. والرئاسة عنده ثلاثة أنواع:

أولها رئاسة ملكية: و فيها إما أن يكون الملك صالحاً يهدف إلى إقامة مصالح شعبه أو أن يكون فاسداً يبحث عن كل ما يصبّ في مصلحته الشخصية.

والثانية هي الحكومة الأرستقراطية التي تُعرف  بتوزيع الخيرات بالتساوي والعدل بين أفراد الشعب, ومن ثم تنتقل تلك الرئاسة إلى الأقليات الإقطاعية التي تحتكر تلك الخيرات لنفسها.

والثالثة هي رئاسة العامة بعد أن يتحول الحكم إلى حكم ديكتاتوري, فيبدأ الأفراد بحكم أنفسهم بأنفسهم بمعنى حكم ذاتي ( ديمقراطي).

 

ثانياً: مرحلة السياسة الواقعية ـ مرحلة الحداثة

في الواقع يتناقض الحراك الاجتماعي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر بشكل حادّ مع الركود الاجتماعي في العالم الكلاسيكي، وارتبط العامة الأثرياء عبر الزيجات والتجارة, وقدم الأرستقراطيون  الألقاب والأنساب في مقابل الثروات والأمن المادي الذي يوفره التجار.

كما صيغت تحالفات جديدة ليس بين العائلات التي تنتمي إلى الطبقة الاجتماعية ذاتها فقط, بل أيضاً بين العائلات التي تنتمي إلى طبقات اجتماعية مختلفة، ولم يحظَ المزج بين الطبقات الاقطاعية والبرجوازية بشكل رئيس بالاهتمام الذي يستحقه إلا مؤخراً وكان له الأثر الكبير على ما يسمى بالثروات البرجوازية و التي تميّز بها القرن الثامن عشر.

وهنا نواجه أمراً جديداً إلى حد كبير وهو الكومونات التي تتميز بالحياة الاجتماعية الثرية, ولديها سياسة شعبية متأصلة في النقابات والطوائف وأنظمة المساعدة المتبادلة والشعور القوي بالولاء المجتمعي.

السياسة الواقعية ـ منهج السياسة: إن للحوادث والمظاهر التي تتناولها السياسة طابعاً غريباً نوعاً ما يجعلنا بعيدين بعض الشيء عن الوصول إلى التنبؤ بالحقائق والأحداث قبل حدوثها, وهذا ما يدفع علماء السياسية للجوء إلى مبدأ (تنظير النظرية).

وعلى هذا الأساس تصبح الدراسات المنهجية المتعلقة بتحديد المفاهيم المنظمة وتبويب الوقائع وترتيبها والجهد  المُمارس على تلك الوسائل, أمرًا ضرورياً للوصول إلى تطوير النظرية السياسية وتقدّمها.

السياسية والقيم الإنسانية:

وبتلك المنهجية تصبح السياسية شبه علم رغم التعقيدات التي تكتنفها, فمن حوادثها النموذجية ما يرتبط بالعقلانية, ومنها ما يتعارض مع العقل ومنها ما هي معروفة ومنها ما هو مجهول، علماً أن محاولاتنا مهما بلغت ذروتها؛ ستظل السياسية بعيدة عن التحقيق ومرهونة بالتقييمات والنظريات, وأنها لا ترضخ للثوابت وإنما هي في عملية قلقلة دائمة تعتمد على المواقف الذاتية إلى جانب الموضوعية، وكل ذلك عائد على الإنسان الذي بجوهره الحر قادر على التمييز والتوفيق بين كل ما يتعلق بمعطيات الحياة من حوله سواء كانت موضوعية أوذاتية أو رهينة بالتدخلات الخارجية أو متأثرة بالأوهام البشرية أو بعادات الأسلاف, وبالتالي فهو قادر على ربط تلك الأدبيات بحقوقه وتحصيلها، غير أن السياسة الواقعية تواجه بعض المشكلات نذكر منها:

التناقضات:

ممّا تعاني منه النظرية السياسية هو مجموعة التناقضات التي تمنع من اعتبارها علماً, كالتناقض بين فكر الإنسان السياسي ومخيلته وبين الحقائق المغشوشة الكاذبة, والتنافر بين العقلانية المنظمة واللاعقلانية, والتردد في نفس الإنسان بين نظرته السياسية وبين الناس المحيطين وعدم قدرته على التمييز بين المصلحين, بحيث قد يظهر له الناس العداء, وبذلك نجد أن السياسة ليست علماً دقيقاً.

المطلق و الوهم والتنبؤ:

أيضاً تواجه السياسة مشكلة الإنسان الذي حاول خلق نوع من الفوضى في الحالة السياسية، بحيث يتبنى مبدأ وهمياً قد يكون ذا قيمة أو لا، ويعمل على نشره وترسيخه، حيث أن السياسة ليست علماً دقيقاً بمفاهيم ثابتة، وإنّما هو علم قائم على الاستنتاجات.

 

ثالثاً: مرحلة انتهاء النظام العالمي ثنائي القطب:

أتت التغيّرات  السياسية والجغرافية العميقة  في أوروبا بين عامي 1875-1945, وفي هذه الفترة  تم عكس كل هذه الخصائص التي كانت سائدة بسيطرة إمبراطوريات داخل أوروبا المركز, وبعد ذلك حدثت تحولات كبيرة حيث تحدت دول أخرى السيادة البريطانية, فتزعزع ميزان القوى في أوروبا، مما أدى إلى حربين عالميتين. حلّ نظام الحماية محل التجارة الحرة, وفي النهاية تم التخلي عن معيار الذهب وتفتت الاقتصاد العالمي إلى تكتلات اقتصادية. كانت فترة غير مهيمنة وبها تغيرت الصورة الاجتماعية القائمة من خلال سيطرة نظم اجتماعية كانت للرأسمالية البرجوازية الدور الأكبر في ترويض تلك المجتمعات, فظهرت مصطلحات الطبقية.

نشوء النظام العالمي المهيمن:

بعد الحرب العالمية الثانية، أسست الولايات المتحدة نظاماً عالمياً مهيمناً جديداً كان هيكله الأساسي مشابهاً لبريطانيا العظمى في منتصف القرن التاسع عشر، ولكن مع المؤسسات والمذاهب التي تتكيف مع اقتصاد عالمي أكثر تعقيداً, في حين أنّ المجتمعات الوطنية أكثر حساسية للتداعيات السياسية للأزمات الاقتصادية.

ـ تبلور النظام العالمي أحادي القطب منذ العام 1965وحتى الآن:

في هذه المرحلة ما بين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، أصبح من الواضح أن النظام العالمي القائم لم يعد يعمل بشكل صحيح, وخلال السنوات التي تلت ذلك ظهرت ثلاثة احتمالات للتحول الهيكلي للنظام العالمي:

–  إعادة بناء الهيمنة مع توسيع سياسات الإدارة على غرار الخطوط التي تصورتها اللجنة الثلاثية.

– تفكك أكبر للاقتصاد العالمي حول المجالات الاقتصادية المتمركزة في القوى العظمى.

– نشوء القوى المضادة التي قام بها العالم الثالث والتي كانت بمثابة مقدمة للمطلب المشترك لنظام اقتصادي دولي جديد.

لقد كانت مسألة القطبية قائمة منذ القدم، فقبل أن يظهر الغرب (أوروبا المركزية) والولايات المتحدة كلاعب أساسيّ في سياسة العالم, كانت المملكة المتحدة وقبلها فرنسا وروسيا وإسبانيا، وبالتالي نلاحظ أن القوة المهيمنة لم تكن حكراً على أحد، ولكن خلال القرن العشرين برزت ظاهرة التعدّدية القطبية وذلك نتيجة أنه لم يعد بإمكان الولايات المتحدة تحمّل أعباء تلك الهيمنة لوحدها على شتى الأصعدة.

فقد ظهرت قوى أخرى من الناحية العسكرية وأخرى على الصعيد الاقتصادي وأخرى تقدمت تكنولوجياً, وبذلك تحوّلت القطبية الأحادية التي تحلّت بها السياسة ما بعد الحرب الباردة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي إلى التعددية القطبية.

لقد بدأت الشكوك مثار جدل بالنسبة للنظام الدولي القائم بعد الحرب الباردة وخاصة فيما يتعلق بنمطية النظام الأمريكي, فالنظام الدولي بات يشهد مرحلة جديدة في تحول القوة العالمية وتصاعد التحديات بين القوى الفاعلة, وإعادة هيكلة الاستراتيجيات الدولية والتعريف بقوى كبرى من شأنها  الظهور على الساحة الدولية وإثبات وجودها عبر نسق دولي متعدد الأقطاب, وهذا يضع الولايات المتحدة أمام موقفين أولهما أن تقف على قمة النظام الدولي وبهذه الطريقة ليس بالضرورة أن توافق الدول عليه, وثانيهما أن تكون متفرّدة في إدارة هذا النظام.

ما تبين للدول الغربية وللولايات المتحدة أن التوسع الصيني وتمدده عبر استيراد كميات كبيرة من الموارد الأولية والمعادن الاستراتيجية من أفريقيا وأمريكا الجنوبية على مدى عشرين عاماً, من شأنه أن يضع الصين في مواجهة تلك القوى وتأثيرها في النظام الدولي, ما دفع بتلك الدول إلى العمل بتناغمية لإقامة العرقلة في الارتباط الصيني الروسي, وبالتالي القضاء على الخطر الذي يهدد القطبية الأحادية المتمثلة بالولايات المتحدة على خلفية الدول الغربية, وكان ذلك بعد أن أصبحت روسيا والصين والهند تستوعب القوى التي من شأنها أن تزيح الهيمنة الغربية, وتحويل قيادة العالم إلى آسيا التي انتقلت منها مع الثورة الصناعية.

 

رابعاً: الشأن السياسي وقضايا المجتمع الأخلاقية حسب آراء بعض المفكرين

لقد اكتشف “كارل ماركس” أن أفكار الطبقات المهيمنة تميل إلى أن تكون مهيمنة، فعلى مدار قرنين من الزمن على الأقل كان منظرو المشروعات والأطروحات الرأسمالية هم من يديرون ويسيطرون على العالم، وكانوا يرسمون نطاق البدائل التي تنحصر فيها مسارات الحياة البشرية, ومن ثم رؤيتهم للعالم والعالم نفسه الذي تشكل وأعيد تشكله وفق تلك الرؤية هي ما كانت تغذّي الخطاب المهيمن وتؤكد حقيقته.

لماذا المجتمع الذي عاش فترة طويلة بالقواعد الأخلاقية يقف الآن على حافة نسيانه؟ وكيف يمكن ذلك إذا لم تعانِ الذاكرة الاجتماعية من أية أضرار؟ هل يمكن التلاعب بجينات المجتمع؟ إذا كانت الحقائق الاجتماعية حقائق منشوءة, فالجواب نعم يمكن التلاعب بها, وهذا هو بالذات ما يفعله نظام الحضارة الدولتية منذ خمسة آلاف عام. تطور المجتمع الهرمي والدولتي والنظام السلطوي ضد الأخلاق، وسعى دوماً إلى وضع القوانين والدساتير, أي الحقوق بدلاً منه.

وهذا له صلة باحتكار سلطة ورأسمال الدولة، حيث لا يمكن للسلطة أن تطور الرأسمال من دون استعمارية المجتمع وتحطيم قوته في القرار والمناقشة والتفكير.

لهذا السبب فإن الدولة في جوهرها هي مؤسسة فصل المجتمع عن الأخلاق والسياسة, وهذا هو سبب ظهورها ووجودها. لأجل هذا دافع الفيلسوف الانكليزي Godwin الذي أدرك هذه الحقيقة في أحد مؤلفاته المشهورة بعنوان “العدالة السياسية” “Political Justice” عن فكرة إنهاء مؤسسة الدولة لأنها تفسد الأخلاق الإنسانية. وإن الآراء المشتركة لكل من ستينر، توكر، تولستوي, فورير، برودون، باكونين وكروبوتكين والخ على علاقة مع حقيقة الدولة.

 

الفصل الثاني ـ المقاربة الأوجلانية للضوابط السياسية والأخلاقية  المجتمعية

أولاً: السياسة المجتمعية وشرح المفكر عبد الله أوجلان لأسلوب علم الاجتماع الأوروبي المركّز  ومخاطره

قبل الحديث عن علم الاجتماع الأوروبي المركّز يمكننا عمل بحث تاريخي بسيط لتوضيح لماذا ركز المفكر عبد الله أوجلان على القرن السادس عشر وما تلاه, وفي فترة الكشوفات الجغرافية الكبرى والاتصالات بين أجزاء العالم.

لماذا اتجهت الدول الأوربية الناشئة إلى الكشوف الجغرافية؟

هناك عدة عوامل جعلت القارة الأوروبية تتجه نحو حركة الاكتشافات الجغرافية ومنها:

العوامل السياسية:

حيث أن الدول الأوروبية القوموية تبنت فكرة سياسية تقول بأن التفوق والهيمنة على الصعيد العالمي مرتبطان بقدر ما تملكه من مستعمرات جديدة, وهذه شجعت الدول المهيمنة  لتحقيق ذلك الهدف.

وكانت من أبرز التغييرات السياسية نتيجة الكشوف الجغرافية البحرية الأوروبية تشكيل إمبراطوريات كبرى للدول الأوروبية مثل إسبانيا والبرتغال وهولندا في أمريكا وأجزاء من أفريقيا وآسيا, وكذلك لبريطانيا وفرنسا في آسيا وأفريقيا و أمريكا الشمالية, وقد تسببت في حروب عنيفة بين دول أوروبا بسبب المنافسة على استعمار الأراضي المكتشفة والبحث عن أسواق جديدة لتصريف المنتجات  الأوروبية.

العوامل الاقتصادية:

وكانت بسبب حاجة الدول الأوروبية المتزايدة للمنتجات إلى موارد وبضائع المستعمرات, وهذا  دفعها إلى كشف طرق جديدة بعيدة عن سيطرة القوى المنافسة الأخرى والمدن الإيطالية لاحتكارهما المتاجرة بها.

وكان من أبرز نتائج تلك الكشوف الجغرافية الأوروبية:

انتقال مركز التجارة الخارجية ومركز النشاط الاقتصادي السياسي للتجارة الأوروبية من الشرق ومن البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي الذي أصبح طريق التجارة العالمية فيما بعد ذلك وصول مصادر ومنتجات وثروات الشرق كالمعادن الثمينة إلى أوروبا, فأسهم ذلك في الطفرة  الاقتصادية، وزيادة النشاط التجاري وتضاعف رأس المال, مما أدى إلى سيطرة الرأسمالية الأوروبية التي أخذت تؤثر بشكل مباشر على الأوضاع الاقتصادية.

العوامل الدينوية:

حيث شجعت الكنيسة المسيحيين في دول الهيمنة الأوروبية  للقيام بالكشوف الجغرافية للتبشير بين المسيحيين وبين الأمم الأخرى  وغيرهم, فحاولت الكنيسة المسيحية القضاء على الأفكار والمعتقدات التي كانت تشكل حجر عثرة في طريق نشر الدين وخاصة  بعد فشل الحروب الصليبية.

التقدم العلمي:

لقد أدّى التطور العلمي في الفلك والجغرافيا والرياضيات إلى حدوث ثورة كبرى في الملاحة البحرية وصناعة السفن, ممّا شجّع الأوروبيين إلى استكشاف العالم والمستعمرات الجديدة. كان من نتائج ذلك تطور علمي كبير في مختلف نواحي الحياة, وقد أثبتت الكشوف الجغرافية علمياً الكثير من النظريات العلمية التي ظهرت في عصر النهضة كإثبات كروية الأرض على سبيل المثال, لكن من جانب آخر هدم الأوروبيون بعض الحضارات العريقة كالأزيتك والمايا.

لقد كانت الحداثة الثقيلة عصراً لغزو الأرض، إذ ضربت الثروة والسلطة بجذور الأرض أو استقرت في عمق طبقاتها في أحجام ضخمة كبيرة وثابتة كطبقات خام الحديد والفحم, وهكذا انتشرت الإمبراطوريات لتحتوي كل شبر من الكرة الأرضية, وما كان لأحد أن يضع حدوداً لهذا التوسع سوى الإمبراطوريات العظمى أو المتكافئة.

أما كلّ ما يقع بين المستعمرات النائية البعيدة للممالك والإمبراطوريات المتنافسة, فكانت تعد أرضاً يباباً لا يملكها أحد ويابسة تنتظر أن يكتشفها أحد الممالك وقوى الهيمنة والتي استمرت على هذا المنوال قروناً إلى ما وصلنا إليه في العصر الحالي.

الصراعات السياسية والطبقات الاجتماعية:

إن تاريخ كلّ مجتمع حتى عصرنا الحاضر هو تاريخ صراع الطبقات، هذه العبارة الشهيرة التي نادى بها أنصار البيان الشيوعي الذي صدر عام 1848م، وهي لا تعبّر عن فكرة جديدة كل الجدة كما يتوهم البعض, فكثيرون قبل كارل ماركس ذهبوا إلى أنّ الصراعات السياسية إنما يولّدها التفاوت بين الفئات الاجتماعية, وهذه الفئات الاجتماعية المتفاوتة تشكل الطبقات الاجتماعية بالمعنى الواسع للكلمة.

إنّ الزخمَ الثقافيَّ المادي والمعنويَّ الجديد، الذي اكتسَبَ القدرةَ على القيامِ بحملةٍ جديدةٍ عظمى في أوروبا خلال القرن السادس عشر؛ يرتكز أساساً إلى ذاك الأصلِ التاريخي وتلك النسخِ المعدلة المشتقة منه. أمّا التفكيرُ في التاريخِ بمعزلٍ عنها، والابتداءُ به من أوروبا؛ فلن يَكُون إلا من خلالِ ابتكارِ ميثولوجياتٍ وأديانٍ جديدةٍ تبدو عاجزةً عن الإقناع منذ البداية. فعملياتُ الإنشاءِ الفكري المعمولُ بها تحت اسم الوضعية والعلمانية والليبرالية، بل وحتى الاشتراكية، ورغمَ احتضانها الجديدَ في ثناياها؛ إلا أنها أُنشِئَت في ظلِّ التأثير الغائر للمصدر التاريخي الأم. فالغالبيةُ الساحقة من اصطلاحاتها ومضامينها قد صِيغَت في النماذج الأسبق منها. بالتالي، لا يمكن إيضاحُ عصرِ النهضة والإصلاح والتنوير في أوروبا.

إن القوى المهيمنة ضمن تنافر مع أساسيات المجتمع وتشهد تنامي المجتمع المدني الذي يعتمد على المدنية، الطبقة والسلطة, ولا يمكن إحياء المجتمع الأخلاقي والسياسي إلا بالتوجه بشكل جذري نحو مشروع الأمة الديمقراطية الذي من مبادئه إحياء وإعادة اكتساب المجتمع للأخلاق والسياسة الديمقراطية.

إنّ الذي وصلت إليه قوى الهيمنة الرأسمالية العالمية التي تمثلها الأحادية القطبية الأمريكية بشكلها المعاصر، والذي تضمن في تكوينه المستحدث ليس فقط تحكماً بوسائل وعلاقات الإنتاج والثروة، وإنما أيضاً تحكماً شبه مطلق بكل مصادر الإعلام والسلطة عبر تحوير كيانات الدول البيروقراطية وأدواتها الترويضية للمجتمعات إلى ملكية شبه حصرية، لذلك النمط المنبثق عن الرأسمالية العولمية المتوحشة التي نسميها اليوم بالليبرالية الجديدة، وكيانات عابرة للقارات أصبحت صاحبة الحل والربط على شكل حكومة كونية غير معلنة، يلتقي أباطرتها في لقاءات سنوية كالذي يجري في دافوس بسويسرا وغيرها من مراكز صناعة القرار, لاتخاذ القرارات والتوجيهات التي لا بد للعالم وشعوبه من اتباعها، سواء بإرادتهم أو بالقوة والترهيب والتهديد بالحصار، أو حتى الحديد والنار إن اقتضت الحاجة.

وفي الواقع لا تستطيع الاستراتيجيات المحددة بمصالح الرأسمال المسيطر أن تقدم شيئاً للشعوب التي لا تعترف أصلاً بهذه المصالح. إنّ مجمل السياسات التي تتبعها قوى السيطرة الرأسمالية لم تنتج إلا البؤس والفقر والموت لملايين البشر، وليست الشعوب وحدها ضحايا هذا النظام، فخضوع المجتمعات لمنطق الربح الأقصى للرأسمال المسيطر, ينتج أعداداً غفيرة من العاطلين عن العمل، والمفقَرين والمهمَّشين والمبعَدين حتى في مراكز تلك الدول نفسها.

 

ثانياً: الدور الرئيس للأخلاق ولوازم وجود المجتمعات حسب المفكر عبد الله أوجلان

يقول المفكر عبد الله أوجلان: “بمقدورنا إدراجُ الأزمات المعتمِدةِ على العَوَز والفاقة أيضاً في نفسِ الفئة. أي، فرضُ التخلي المقصود عن إنتاجِ السلع والبضائع، أو جعلُ الناسِ يأملون المددَ والعَونَ ليأسِهم وعجزِهم عن مكافحةِ الأمراض والآفات. حيث يستحيل التفكيرُ بمجاعةٍ جديةٍ أو أمراضٍ جماعيةٍ جماهيرية، فيما لو فُعِّلَت التقنياتُ والتجهيزاتُ الموجودة. ولكن، عندما يَكُون الهدفُ حمايةَ وجودِ النظام السلطوي المهيمن، يتم اللجوءُ إلى هذا النوعِ من الأزمات المصطنعة، واستخدامُ الأمراضِ والكوارث كورقةٍ رابحة. ومرةً أخرى نستطيع ملاحظةَ وتفسيرَ روابطِ الجهازِ المسمى بـ “المجتمع والاقتصاد الرأسمالي” مع القوةِ المدنية الرسمية المهيمنة. الطريقةُ هي نفسها: اترُكْه جائعاً، واستغلّْ حالةَ الأمراضِ والكوارث لديه, بل وتَكُون حينها قد برهنتَ فوق ذلك كلِّه أنك الملاك، بل والإله المنقذ. وليشكرْكَ العبادُ جزيلَ الشكر.

وتعتبر الرأسماليةُ عدوُّ الأخلاقِ والقِيَمِ المعنوية أيضاً، باعتبارها من أهمِّ مبادئِ الاقتصاد. حيث يستحيل على البشرية تدبيرُ احتياجاتها الاقتصادية إلا عبر المبادئِ الأخلاقية. وإلا، فستُصاب بالتضخمِ مثلما هي حالُ النمل على سبيل المثال، ولن تكفيَها حينئذ عشرةُ كواكبٍ مثل الأرض. وإنْ غابت الأخلاق، فسيتحولُ المجتمعُ إلى “مجتمعِ أُسُود”. وعندئذ، لن تبقى قطعانُ مواشي أو حيواناتٌ تُؤكَل. وبالتالي، لن يبقى للأسد أيضاً عالَمٌ يعيشُ فيه. أي، إنْ لَم يتم وضعُ حدٍّ للرأسمالية، فإما أنها ستُحَوِّل المجتمعَ إلى “مجتمعِ النمل”، وستبلغ به شفيرَ الهاوية والانهيارِ.

لدى تعريف الأخلاق كما يراها المفكر عبد الله أوجلان والتي وصفها  بأنها ذاكرة المجتمع بما تحتويه من عادات وتقاليد وقيم وموروثات. وهذه هي الضوابط اللازمة لتأمين ديمومة المجتمعات والحفاظ على ثباتها وفي تمكينها من تطبيقها, والمجتمع المحروم من ضوابط وجوده ومن القدرة على تطبيقها يعني أنه تحول إلى مجموعة حيوانية, وهو في هذه الحالة يدل على استخدامه واستغلاله كما يراد.

لقد حافظت الأخلاق على وجودها إلى وقتنا الراهن، لكنها ضعفت وتم حصارها في أهم ميادين الحياة واحتلت الحقوق والقوانين مكانها بنسبة عالية، واستُخف بشأنها وكأنها ” ظاهرة ميتافيزيقية” فحسب، وأبعد من ذلك فإن اغتراب المجتمعات عن تاريخها وهويتها الثقافية هو أمر كظاهرة لا علاقة لها بالميادين الاقتصادية والسياسية والديمقراطية والعائلية والدينية وما شابه ذلك.

أما في الحقيقة فإن الحياة الأخلاقية تعدّ الأصل لجميع هذه الميادين, حيث فُرض قبول الأخلاق على المجتمعات والشعوب كظاهرة محصورة بالمرأة ومتعلقة بالشرف في نهاية المآل. في حين مع بقاء المجتمع وجهاً لوجه أمام التشتت واللا أخلاقيات؛ يتهمون النساء أو الشباب باللا أخلاقية من جراء أدنى سلوك ويشوّهون القضية حتى يتستروا على الاستعمارية، إن هذا لا يدل إلا على نصب فخ فات عليه الدهر.

كما أن هذه القضية مرتبطة بمحاصرة الأخلاق أو إعادة اتساع الميدان بحرية والكفاح ضد اللا أخلاقية.

“إن البحث عن حياة حرة يعني البحث عن مجتمع حر” وبالتالي عدم وجود المجتمع يعني عدم وجود الحياة. حيث لا يمكننا تسمية الحياة المتمحورة ضمن نطاق بيولوجي فقط بحياة إنسانية, وبهذا المعنى فإن كل قائد يصنع شعبه. خطّ القائد “أوجلان” جميع خطواته نحو المجتمعية منذ نعومة أظفاره, إنه لم يخن أحلامه الطفولية.

إن حماية الروح الطفولية البريئة وعدم المتاجرة بها وعدم خيانة الأحلام الطفولية هام للغاية. الإصرار في عذرية الروح أمان كبير ضد كافة أنواع القذارة التي تنجم من نهج الحياة المتمحورة حول الدولة. وبالأصل فإنه كان غاضباً من نهج الحياة في المجتمع الذي ترعرع فيه فيزيولوجياً وأدرك ضمن هذا الإطار بأن الأرضية الاجتماعية الموجودة كمثل “سرير الموتى”. ثم قرر مع هذا الإدراك ألّا يسبح في هذا المستنقع، ولن يحيا مثل الذين يتنفسون في مثل هذه الأجواء.

إنّ قيام النظام السياسي لا يتوقف على المصادفة كسائر المؤسسات, إنما تحددها عوامل كثيرة وتحددها عوامل اجتماعية واقتصادية, وهناك نظريتان كبيرتان تتعارضان في هذا المجال.

فالماركسيون فيذهبون إلى أن الأنظمة السياسية صورة طرائق الإنتاج وهم ينكرون على هذا الأساس أن يكون للمؤسسات السياسية أو لغيرها أي استغلال ولا يرون لها إلا شأناً ثانوياً.

وأمّا الغربيون فإنهم بعد أن غالوا في اعتبار السياسة مستقلة عن الاقتصاد، أخذوا يعدلون نظرياتهم الأصيلة في هذا الصدد, وأخذوا يسلّمون شيئاً فشيئاً بأن هناك صلة وثيقة بين النظم السياسية ومستوى النمو.

الخاتمة:

في محصلة بحثنا هذا وكما يرى المفكر عبد الله أوجلان أن الإنسان كائن نصف معنوي، أما تناوله ككائن عقلاني مادي فقط، فيعني عدم إدراك حقيقته, حيث لا يعيش الإنسان بشكل عيني دائماً، لأنه يعيش مجرداً على الأغلب، أي الإنسان هو قليل من الخيال، الأمل، المثالية، الهدف، الحلم.

إنّ المجتمعية حقيقة الإنسان ولا يمكنه البقاء خارج هذه الحقيقة، وإذا ما فقدها سنُفقد، وهذه من أكبر الحقائق أيضاً أن الإنسان يُخلق قبل المجتمع بجميع سماته الشخصية والبنيوية وبكفاءاته وقدراته ومخاوفه, أي بجميع الخصائص السلبية والإيجابية.

وعندما ينقطع الإنسان عن مجتمعه فإنه ينقطع عن إنسانيته وعن جميع مميزاته المنشودة من قبل المجتمع، أي ينقطع عن حقيقته الإنسانية.

وإن من أكبر العقوبات هو فصل الإنسان عن المجتمع العام وعن مجتمعه الخاص مادياً ومعنوياً وعزله اجتماعياً, وهذا ما يقال عنه الحكم باختيار طريقة الموت.

السؤال الذي طُرح مراراً كيف حافظت الذاكرة الاجتماعية على وجود المجتمع بوجود الأخلاق والسياسة؟

وحيث استمرت الذاكرة الاجتماعية بحياتها نقول لولا الأخلاق، لم يكن الاستمرار في الحياة إلى الآن، ولمت كانت الاستطاعة في حماية  الإنسان من حفنة تجار طامعين عبر آلاف السنين.

حيث يقول المفكر عبد الله أوجلان : “لو لم يتم خلق درع جديد عبر الدين حتى أصل به إلى الناس، كانوا سيقطعون في كل مرة جزءاً مني تحت اسم التحديث. عشت بالأخلاق وعايشتني. تحولت إلى أخلاق وتحولت الأخلاق إلى ذاتي. فكلّ قوة استعمارية أرادت إبادة مجتمع ما، سعت في البداية إلى تفسيد أخلاقه. وكلّما قضت على الأخلاق في الذهنية وفي كل عملية اجتماعية غرّبوني عن هويتي. لو قضوا على أخلاقي كانوا سيقضون عليّ أيضا”.

المصادر والمراجع:

  • الأمير . نيقولا مكيافيللي ، ترجمة: أكرم مؤمن دارالنشر :مكتبة ابن .سينا،دمشق
  • تحضر بلا مدن صعود المواطنة وانحدارها، موراي بوكتشين، ترجمة عبد العزيز الشرفي، شلير للطباعة والنشر الطبعة الخامسة 2021م.
  • سلسلة السيولة، سيمجمونت باومان، ترجمة حجاج أبو جبر،الشبكة العربية للابحاث والنشر،بيروت 2019م.
  • عالم ما بعد الأحادية القطبية جدلية العلاقة. بین الاقتصادي والعسكري والسياسي، مجلة آفاق استراتيجية العدد ٥ ،نصر محمد عارف جامعة القاهرة،2012م.
  • الفكر السياسي والأخلاقي ، أحمد عبد الحليم عطية ،دار الثقافة للنشر ، دمشق 1991م
  • مانفسيتو الحضارة الديمقراطية، المدنية الرأسمالية، عبد الله أوجلان، ترجمة زاخو شيار ،المجلد الثاني، شلير للطباعة والنشر الطبعة الخامسة 2023م.
  • مانفسيتو الحضارة الديمقراطية، سوسيولوجيا الحرية، عبد الله أوجلان، ترجمة زاخو شيار ،المجلد الثالث، شلير للطباعة والنشر الطبعة الخامسة 2023م.
  • مدخل إلى علم السياسة ، موريس دوفرجيه،ترجمة جمال الأتاسي، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع.
  • الواقعية السياسية، ملحم قربان،المؤؤسة الجامعية للدراسات والنر ،دمشق،1981م.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى