التدخل العسكري في السياسة
ولاء عبدالله أبوستيت
ولاء عبدالله أبوستيت
تسمية (التدخل العسكري في السياسة) مسألة حديثة، فالوقائع تشير إلى أن الحكم على مدار التاريخ ذو طابع عسكري, فغالبية قادة الدول هم شخصيات عسكرية أو يمتلكون سمات عسكرية بصيغة ما. والحقيقة أن علاقة ما هو عسكري بما هو سياسي تتباين بتباين الفترات والمحددات التي تحكم كل فترة.
وإذا رأينا أن المسألة في العصر الحديث تختلف في الغرب عنها في الدول النامية، أو بلدان العالم الثالث، فذلك يعود لسبب رئيسي هو أن علاقة الجيوش بالسياسة في دول العالم الثالث لا ترتبط فقط بعوامل داخلية وحسب، إنما ترتبط بعوامل خارجية أيضاً، يأتي في مقدمتها التوسع الاستعماري.
ويمكن القول إن الحالة التي وصل إليها العالم الثالث، الذي ظل تحت الاستعمار بمختلف صوره، أدت إلى صعود القوة المجتمعية الأكثر ثقلاً في مواجهة الوضع الخاص بالاستعمار وغيره مع الأحداث المتوالية, وقد شهدت دول العالم الثالث في خمسينيات القرن الماضي توجهاً عسكرياً متنامياً مع حركة الضباط الأحرار في مصر، التي ما لبثت أن ألهمت عدداً كبيراً من دول العالم الثالث فكرة الثورة على الاحتلال، وسارت على خطاها.
وللتذكير نشير إلى أن قيام تلك الحركة العسكرية التي قدّر لها النجاح بصورة غير متصورة، جاء على خلفية ما جرى من فضيحة في حرب 1948، والتي بسببها ضاعت رقعة عزيزة من الأرض العربية ما نزال نسعى لاستعادتها؛ أو بالأحرى استعادة جزء يسير منها لإعلان دولة فلسطين التي قضت هذه الحرب على وجودها.
الوظيفة العسكرية في مجال السياسة
وإن كان السائد في بلدان الشرق حكم القادة العسكريين، وبروز نفوذهم في أروقة الحكم؛ وقد ذكرنا مثالاً حالة محمد علي باني الأسرة العلوية في مصر، وهو جندي قدم من ألبانيا ضمن قوات الدولة العثمانية، واستطاع الانفراد بالحكم ليشكل حالة ممتدة؛ فإن الاتجاه المعارض للتواجد العسكري في البناء السياسي برز من خلال أفكار الفيلسوف والاقتصادي الفرنسي سان سيمون (1760-1825) أحد منظري ومفكري الثورة الفرنسية، فهو من دشّن لفكرة الطبقات، وكان انحيازه للطبقة العريضة من الشعب، وقد شنَّ هجوماً على طبقة المشرّعين الحاكمة، والطبقة الأرستقراطية، ورجال الجيش، وكان يرى أنها تملك القوة وصناعة القرار، وتشغل أهم الوظائف الحكومية. ويدعو إلى وجوب تسليم السلطة للصناعيين؛ لأنهم هم الرؤساء الحقيقيون للشعب، كما دعا لإلغاء الجيش النظامي واستبداله بجيش الشعب.
وللمفارقة أن أنصار “سيمون” رأوا في دولة مصر، وحكم محمد علي فرصة لتطبيق أفكارهم، لذا فقد سافر الكثير منهم إلى مصر للمساهمة في نهضتها.
هذا مروراً بـ “كانت” الذي تحدث عن علاقة النظام العسكري بالنظام السياسي، وغيره من المفكرين في السياقات المختلفة، وصولًا إلى “مانهايم” الذي اعتبر أن القوات المسلحة من أعظم التنظيمات المعروفة للقوة، لكنه اعتبر أن ضبطها كان يمثل تحديًا للديمقراطية.
ويتحرك الجيش لاستخدام قوته ليصبح قوة سياسية خلال أزمات سلطة الدولة واختفاء الولاء القومي، وهو ما يراه “مانهايم”.
لكن متى اهتم العالم بمسألة توغل التدخل العسكري في الحياة السياسية؟
إن شيوع التدخل العسكري في الحياة السياسية في دول العالم الثالث, دفع العلماء والباحثين في العلوم الاجتماعية إلى دراسة الدور ما فوق العسكري للجيش، وتحليل الظاهرة العسكرية التي تجاوز تأثيرها البيئة المحلية والإقليمية, ومع نهاية الثمانينات شهدت الساحة السياسية الدولية ثلاثة أحداث تاريخية كبرى غيرت مجرى الأمور , وهي:
– الموجة الديمقراطية الثالثة.
– انهيار المعسكر الشرقي.
– نهاية الحرب الباردة.
والحقيقة أن هذه الأحداث المترابطة غيرت جذريًا السياسة الداخلية لدول كثيرة، مما جعل مسألة العلاقة بين السلطة السياسية والجيش تعود للواجهة مجددًا.
وقد نتج عن تزايد الاهتمام العلمي بالظاهرة العسكرية توظيف الانقسام الإيديولوجي في تفسير التدخل العسكري في الشؤون السياسية، وتراوحت الأطروحات بين من يبررها ويريد توظيفها في تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية معينة، وبين من يرفضها نظرًا لتعارضها مع مصالح اقتصادية وسياسية أخرى.
لماذا يتدخل الجيش في السياسة؟
لا يأتي التدخل العسكري فجأة، وإنما يرتبط الأمر بالوضع المعاش، أو الظواهر الأخرى التي يمكن تفسيرها في هذا الإطار, وهو ما يؤكده علم الاجتماع العسكري؛ حيث يختلف تدخل القوات المسلحة في الشأن العام تبعا لعدة عوامل منها:
- تصور الضباط للأوضاع السائدة في المجتمع ودرجة إدراكهم للتهديد الخارجي والداخلي الذي يتعرضون له.
- درجة ثقتهم في السياسيين، إلا أنه من الصعب أن يتحقق الضبط المدني السياسي فوق القوات المسلحة في الدول حديثة النمو؛ لعدم اندماج معيار الضبط المدني في الأخلاقيات العسكرية، ومنه فإن المؤسسة العسكرية تعمل على ممارسة دور فعال في الشأن السياسي خاصة إذا تهددت مصالحها.
لقد أجريت الكثير من الدراسات والبحوث عن المؤسسة العسكرية في العالم الثالث، والدور السياسي العسكري أو النزعة العسكرية على وجه الخصوص، ولم يتم التوصل حتى الآن إلى اتفاق حول خصائص هذه الظاهرة أو العوامل الدافعة التي حدوثها.
وفي هذا السياق يأتي تدخل الجيش في السياسة لأسباب أبرزها؛
أولا: عوامل سياسية
ثانيا: عوامل اجتماعية ومجتمعية
ثالثا: عوامل عسكرية داخل سياق الجيش ذاته
رائد علم الاجتماع العسكري موريس جانويتز (1919 – 1988) ربط التدخل السياسي للجيش بالظروف السياسية التي نشأ في ظلها، حيث يرى أن التشكيلات العسكرية التي نشأت أثناء الكفاح المسلح، من أجل التحرير الوطني، قد تدخلت في الحياة السياسية بصورة واسعة, ويمكننا هنا أن نذكر تمثيلاً لذلك حالة الجزائر، ومصر، وحتى اليمن.
وهنالك من ربط التدخل العسكري في الشؤون السياسية بالبيئة السياسية وصراع “القوى الاجتماعية” والسياسية المختلفة على السلطة، وذلك ناتج عن ظاهرة التسييس العام للقوى الاجتماعية بسبب غياب المؤسسات السياسية الدستورية الوسيطة التي تقنن التنافس على السلطة، حيث تعبر القوى الاجتماعية المختلفة عن مواقفها من الحكم بطرق مختلفة، فيتظاهر الطلاب، ويضرب العمال، أما العسكريون فإن الانقلاب العسكري هو الوسيلة التي تمكنهم من السيطرة والنفوذ، لا بصفتهم المؤسسية ولكن باعتبارهم إحدى القوى التي تعكس البنيان السياسي للمجتمع.
وعن علاقة التدخل العسكري في الشأن السياسي بالحراك الاجتماعي، يؤكد عالم السياسة الأمريكي “روبرت بوتمان” وجود علاقة عكسية, فكلما زاد الحراك الاجتماعي زادت القيود على احتمالات تدخل العسكر في السياسة.
وهناك بحث مميز عن الظاهرة العسكرية في إفريقيا للباحث الجزائري “مولود حمروش” يحدد فيه عدة عوامل للتدخل العسكري، أهمها:
- ضعف البنى الاجتماعية والسياسية بسبب التنوع العرقي والصراعات الجهوية، والتدخلات الخارجية في هذه الصراعات, لأن ضعف المجتمعات يكمن في تفككها وعدم استقرارها لانعدام الارتباطية الاجتماعية الصلبة التي تصمد أمام الأزمات السياسية والعرقية والاقتصادية.
- غياب أطر وقنوات للمشاركة السياسية.
- استخدام الجيش ضد معارضي الحكومة للدفاع عن مصالح الحكام؛ بأن تطلب الحكومة من الجيش التدخل للقضاء على المعارضة، كما حدث في سيراليون عندما طلب رئيس الدولة السيد “مارقي” من الجنرال “لانزانا” أن يتدخل لمنع السيد “استيفنس” زعيم المعارضة من استلام السلطة.
وأخيرًا تظل تلك المسألة شائكة ومحور حديث وجدل وربما صراعات, ومنها تأتي كل محاولات التدخل في الشؤون الداخلية لدول العالم الثالث التي ما تزال مسلوبة الأمر والقرار رغم ما قد يبدو غير ذلك, ليبقى الباب مفتوحاً أمام المطلوب من تلك الدول وشعوبها ومفكريها ومنظّريها ومسؤوليها, في وقت يعيش العالم إرهاصة تحول جديد مرتقب وواضح للعيان, لا سيما في جغرافية الشرق الأوسط الراهنة والتي يراد لها التغيير منذ وقت في إطار ما يسمونه الشرق الأوسط الجديد, وهو شرق مفروض فرضًا، لكن يبدو أن المسألة لن تكون بالسهولة التي يتصورونها.