الحداثة الرأسمالية… ماهيتها ونتائجها
صالح مسلم
الحداثة الرأسمالية هي آخر ما توصل إليه النظام الطبقي على مدى التاريخ البشري. وهي نظام متكامل لا يعني بالاقتصاد فحسب، بل يتحكم بكل مناحي الحياة البشرية مجتمعاً وأفراداً من حيث العلاقات والسلوك، بحيث يتسرّب إلى داخل خلايا المجتمع البشري بهدف ضبط الفرد والمجتمع، بما يتناسب مع متطلبات الحداثة الرأسمالية.
كان نشوء البشرية على شكل مجموعات جمعتها حاجيات أفرادها من أجل البقاء، ثم التمّ شمل هذه المجموعات على شكل كِلانات للغرض ذاته، إلى أن تحوّلت إلى مجتمعات مستقرّة تسودها المساواة والعدالة لوفرة الغذاء والمأوى المشترك، أي نشأت علاقات مجتمعية بين البشر تتضمن التقسيم الطبيعي للمهام والوظائف بشكل متكامل لتضمن احتياجات المجتمع من الكلأ والمأوى والحماية، وبناءً عليه نشأت العلاقات بين الأفراد والمجموعات على أسس تسمى بالمنظومة الأخلاقية، لتكون معيار التعامل فيما بينها. هذه المنظومة الأخلاقية أصبحت دستوراً للتعامل ضمن المجتمع، ممّا عزّزتْ من العلاقات المجتمعيّة، وحافظت على تماسك المجتمع وتكافله.
لم يشهد المجتمع البشري أيّ نوع من الاستغلال أو الاحتكار في تلك المرحلة، ممّا ترك مثالاً للحياة الحرة الكريمة العادلة في الذاكرة المجتمعية. وتلك كانت اليوتوبيا التي باتت حلماً يبشرّ بها كل المصلحين والأولياء الذين حاولوا إصلاح المجتمعات تحت اسم “الجنة” بعد أن ساءت الأوضاع البشرية. وميزة ذلك المجتمع هو أنّ الذكر يهتم بالصيد والقِطاف، والأنثى مقدّسة لأنها تمنح الحياة، وهي مركز ونقطة ارتكاز تجمّع الكلان أو المجتمع فيما بعد، وقوانينها سارية إلى درجة القدسية بل إلى درجة الألوهية.
كان أول احتكار في التطور البشري على شكل احتكار للسلطة من جانب الذكر القوي الماكر الذي اكتسب خبرة من عمله في الصيد، واستطاع فرض احتكار السلطة بالقوة الجسدية والعنف على الأنثى إلى درجة نزع القدسية منها مع نهايات الحضارة النيوليتية، وبدايات العهد السومري. وبدأ دور المرأة التي هي نصف المجتمع بالتراجع مع انتشار المجمّعات السكانية وصولاً إلى المدن ومن ثم دولة المدن. وتوسَّع احتكار السلطة ليصل إلى احتكار الموارد وفائض الإنتاج حيث تأسست الزيغورات التي رسخت أسس الدولة على شكل احتكار للسلطة والثروة.
الزيغورات ضمت ثلاث طبقات مجتمعية هرمية. على رأس الهرم تأتي طبقة الرهبان التي يظهر منها الراهب الأكبر الذي أصبح الملك الإله فيما بعد. ثم تأتي الطبقة التي تدير شؤون المجتمع وهي الوسيطة بين طبقة الرهبان العليا والطبقة الدنيا التي هي المجتمع، والطبقة الحاكمة هذه مكلفة بتنفيذ ما يصدر من الأعلى وتطبيقها على أرض الواقع سواء كانت توجيهات إيديولوجية للتحكم بميول وتوجهات المجتمع أو عملية تطبيقية بشأن الممارسة العملية لتوفير مزيد من الإنتاج وفائض الإنتاج لتعزيز الطبقتين في الأعلى. ثم هناك الطبقة الثالثة في قاع الهرم وهي المكلّفة بالإنتاج وتوفير حاجيات المجتمع من الكلأ والمأوى والحماية.
تأسست هذه الهرمية مع العصر السومري التي شكلت أساس ما يسمى بالدولة إلى يومنا الراهن مروراً بكل أشكال الحكم في المجتمعات البشرية. كانت دول المدن وكل منها مثلت احتكاراً للسلطة والثروة وتنازعت فيما بينها على الاحتكارات فأزالت الأضعف لتبقى الأقوى وتتوسع لتضمّ إلى جوارها، فتتعاظم مع الزمن لتصبح دولاً بل إمبراطوريات عبودية واسعة دون تغيير في هرمية الدولة رغم تغيير إيديولوجياتها من دولة الرهبان إلى دولة الآلهة الملوك ثم الملوك الإقطاعيين والقبائل والسلالات وصولاً إلى الدولة القومية والوطنية في يومنا الراهن.
إنّ الأمر الملفت في هذا التطور التاريخي هو ترافق احتكار السلطة والثروة، فالسلطة تحتكر الثروة أيضاً أي أن أصحاب الثروة من تجار وإقطاعيين كانوا تابعين ومرادفين للحكام دائماً. والانعطاف التاريخي حدث مع بدايات الثورة الصناعية واختراع المحركات البخارية، ممّا أدى إلى توسع التجارة والاستعمار لتتشكل شركات رأسمالية مملوكة لأشخاص أو مجموعات قادرة على التحكم بمصير المجتمعات بما فيها احتكارات السلطة. وبذلك تغيرت المعادلة بين احتكارات السلطة والثروة، فقد كانت احتكارات السلطة تتحكم في الثروات ولكن مع ظهور الرأسمالية باتت احتكارات الثروة تتحكم في احتكارات السلطة وتوجهها حيثما تريد.
تسببت الثورة الصناعية التي دخلت التاريخ في تبدلات جذرية في المجتمعات البشرية أيضاً، فالتاجر الذي لم يكن يحظى بمكانة اجتماعية بات من وجهاء المجتمع، وجحافل العبيد والأقنان الذين كانوا يباعون ويشترون في سبيل تأمين قوتهم اليومي باتوا يبحثون عن الحرية ووسائل أخرى لتأمين لقمة العيش، حيث كانت الشركات والمصانع الكبيرة تحتاج إلى أعداد هائلة من الأيدي العاملة، وصغار الصناع والكسبة والحرفيين باتوا يتطلعون إلى إنشاء مصانع وشركات أكبر للتجارة، مما أدى إلى ظهور طبقات إجتماعية حديثة مثل البرجوازية الوطنية التي تكافح ضد البرجوازية الاستعمارية مثلما ظهرت تسميات البروليتاريا والكادحين.
إنّ الأمر الأهم في هذه الحقبة هو الاستعمار، فالشركات تعاظمت لدرجة أنها لم تعد تكتفي بالأسواق المحلية وباتت تبحث عن المواد الخام وأسواق تصريف سلعها خارج حدود الدولة التي تنتمي إليها، ونظراً للعلاقة الوثيقة بينها واحتكار السلطة استطاعت توسيع نفوذها على شكل مستعمرات في كافة أرجاء العالم. وباتت احتكارات الثروة تتحكم في مصير المستعمرات مثلما تتحكم باحتكارات السلطة في بلدانها.
من الجانب الآخر ومثلما كل فعل يجلب معه رد الفعل، تطورت مع هذا النظام العالمي الجديد حركتان كرد فعل؛ أولهما حركات البروليتاريا أو الطبقة العاملة لدى احتكارات الثروة، فالوعي البشري الذي تنامى أدرك أنّ كدحهم يجلب مزيداً من الأرباح لأصحاب الشركات والمصانع التي يعملون فيها، فقاموا بطلب زيادة أجورهم وتحسين ظروف معيشتهم مثلما أدركوا أن حقوقَهم لن تتحقق إلا بتنظيم أنفسهم، فقاموا بتأسيس نقاباتهم وأحزابهم السياسية للدفاع عن حقوقهم. أمّا ثانيهما فقد كانت حركات التحرر الوطنية في المستعمرات للتخلص من الاستعمار وأدواته من شركات ومؤسسات استعمارية، وأغلب تلك الحركات التي كانت بقيادة البرجوازية الوطنية التي تبحث عن موقع قدم لها بين احتكارات السلطة والثروة التي يغتصبها المستعمر. ومع الوصول إلى بدايات القرن العشرين تعاظمت القوى المناهضة للرأسمالية والاستعمار أي قوى الطبقة العاملة مع التحرر الوطني، مما أدى باحتكارات الثروة والسلطة إلى البحث عن سبل ووسائل جديدة لاستمرار نفوذها ومصالحها.
شهدَ النظام العالمي تطوّرات كبيرة ونوعية نتيجة للصراعات التي دارت، ففي السابق كان الصراع بين احتكارات السلطة والثروة لزيادة النفوذ والأسواق ثم تطور إلى صراع طبقي داخل الكيان الواحد أو الدولة. وبين الدول المستعمرة والشعوب التي تكافح من أجل الاستقلال. مما دفع الرأسمالية إلى إصلاحات تلبّي مطالب الطبقات الكادحة وإنْ جزئياً، ومن الجانب الآخر اضطرت إلى التخلي عن المستعمرات. لكنّها لجأت إلى جعل اللص من أهل الدار، أي جاءت بسلطات مرتبطة بها بشكل من الأشكال، وحتى اشترطت الحفاظ على مصالحها بعد منحها الاستقلال.
نتيجة لاحتدام الصراع بين القوى الرأسمالية العالمية خاضت البشرية حربَين عالميتين طاحنتين مما دفع بتلك القوى إلى البحث عن وسائل تعمل على عدم تكرار تلك الحروب المدمرة مثل هيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها، ونظراً لأن المؤسسين كانواً دولاً؛ فقد عقدت معاهدات تحافظ على مصالح الدول وليس مصالح الشعوب والأمم. ممّا حافظ على كيانات الدول القائمة، وحالت دون تدخل الدول الأخرى ونشوب الحروب بين الدول، لكنّها لم تتمكن من إنهاء الصراعات الأخرى التي يتم خوضها بالنيابة.
كما نرى في جميع الأنظمة التي تناوبت على البشرية ابتداء من دولة الرهبان السومرية والدول العبودية ثم الإقطاعية ثم الرأسمالية، كانت لها قوانينها وقوالبها الإيديولوجية التي تمكنها من الحفاظ على هيمنتها وخنوع المجتمع لها، والرأسمالية التي تطورت في القرن العشرين باتت تضع قوانينها وإيديولوجيتها لتؤسس الحداثة الرأسمالية التي هي موضوعنا. ولهذا فإنّ الحداثة الرأسمالية هي نظام عالمي متكامل تتطلع إلى التحكم بالبشرية جميعاً وليس في دولة واحدة أو بقعة جغرافية محددة، ولهذا فهي شأن يهم جميع البشرية. وكما في الأنظمة السابقة التي استفادت من تجارب من سبقها في كيفية الحفاظ على احتكاراتها بل وتطوير تلك الأساليب والوسائل فإنّ الحداثة الرأسمالية أيضاً استفادت بل وطوّرت تلك الوسائل بشكل هائل ومعقد جداً لدرجة يصعب على عامة الشعب فهمها مسبقاً، بل وتجد نفسها جزءاً منها أو ضحية لها دون أن تعلم.
يمكننا القول ممّا سبق: إن الحداثة الرأسمالية هي أكثر وأحدث أشكال استغلال البشرية وأكثرها تطوراً على صعيد احتكار السلطة والثروة، فقد استطاعت التسرّب إلى كل خلايا المجتمع بل والأفراد أيضاً. تستخدم أساليب ووسائل ناعمة ومغلفة مثل الدواء المر المغلف بطبقة محلاة، لكنّها ليست بدواء..
قبل كل شيء ليس للحداثة الرأسماليّة اسم أو عنوان يمكن مخاطبته، أو تسميته، ففي سومر كان هناك الراهب، وفي العصر العبودي كان هناك السيد أو الملك الإله ومن ثم الملك أو الإمبراطور وفي عصر الإقطاع هناك الإقطاعيون، والإقطاعي الأكبر كان على شكل الملك أو السلطان أو الخليفة، وفي العصر الرأسمالي كان هناك الأثرياء ومن يمثلهم من ملوك أو حكام، أمّا في الحداثة الرأسمالية فليس هناك مخاطب، بل تكتل عالمي يمثل احتكارات الثروة التي تتحكم باحتكارات السلطة في العالم. وتلك الطبقة لا تتجاوز 1% وتتحكم بأكثر من 70% من ثروات العالم حسب إحصائياتهم. وبهذه الثروة ووسائلها تبيع وتشتري احتكارات السلطة وتوجهها حسب مصالحها في سائر أنحاء المعمورة. بل فتحت حدود الدول القومية أمام التجارة الحرة وتعمل على إزالة كافة المعوقات أما التجارة وانتقال رأس المال.
على الصعيد الإيديولوجي تدعي الحداثة الرأسمالية الليبرالية التي تعني الحرية أو التحرر وتدعي انتهاء عصور الإيديولوجيات، بينما الحقيقة هي أن الإيديولوجية تعني تفسير الفرد للظواهر الكونية وترابطها وبناء عليه التوصل إلى معرفة مسار الحياة البشرية ومآلاتها، واتّخاذ المواقف اللازمة للمساهمة في تطوّر المجتمع البشري، ولهذا فإن الليبرالية بحد ذاتها إيديولوجية مثلها مثل الإيديولوجيات المثالية أو العلمانية التي لها مبادئ ومنطلقات، لكنّ الليبرالية لدى الحداثة الرأسمالية تعني توفير الحرية اللازمة لتحقيق الربح الأعظمي لها دون قيود ولا مبادئ أخلاقية. وأهم الميادين والوسائل التي تعتمد عليها الحداثة الرأسمالية هي:
العلموية
تلعب العلوم بكافة فروعها وتشعباتها دوراً رئيساً في تطور البشرية وإنجازاتها وتطوير حضاراتها على مر التاريخ. بينما نجد أنّ الحداثة الرأسمالية قد أصبحت تحتكر العلوم لخدمة أغراضها وتطوير الوسائل التي تمكّنها من ضبط المجتمعات حسبما يعزز احتكاراتها. ولهذا نجد أنّ الحداثة الرأسمالية تستقطب أمهر الشخصيات العلمية في مشاريعها مقابل رواتب مغرية وحياة مرفهة لاستخدامها في أغراضها. لذلك تستخدم الحداثة الرأسماليّة أساتذة العلوم الاجتماعيين والأطباء النفسيين في دراسة المجتمعات ونفسياتها وكيفية التأثير في توجهاتها وميولها لتخدم مصالحها. وخلق مجتمع استهلاكي قطيع. ومن خلال الترويج والدعايات المدروسة تدفع الإنسان إلى شراء واستهلاك ما لا يحتاجه. وتستخدم أمهر الميكانكيين والمهندسين في تطوير الأسلحة الحربية التي تتسبب في تدمير البشرية، وتستخدم أمهر الاقتصاديين في كيفية تسويق منتجاتها وتحقيق الربح الأعظمي. وهكذا دواليك.
الصناعوية
الصناعة تعني تطوير وسائل استفادة البشرية من الموارد الطبيعية دون إلحاق الضرر بالمجتمعات والبيئة البشرية. وبما يلبّي حاجة المجتمعات. ولكن وبما أن هدف الحداثة الرأسمالية هو الربح الأعظمي فإن الصناعة تدخل في مسار الصناعوية التي تلحق الضرر بالبيئة وتؤثر في ميول المجتمعات الاستهلاكية. مما يهدّد الحياة البشرية برمتها ومنها ثقوب طبقات الأوزون، وزيادة حرارة الكرة الأرضية نتيجة الاحتباس الحراري، والبلاستيك المنتشر في البيئة والمحيطات ويختلط بغذاء البشر وينفذ إلى خلايا جسمه ليتسبب في السرطان، ناهيك عن الملوثات الصناعية التي تنتشر قي الهواء والمياه والبحار لتقضي على كل الكائنات الحية.
الجنسوية
تعدّ الحداثة الرأسمالية من منتجات الذهنية الذكورية التي ترى المرأة سلعة في خدمة المجتمع الذكوري، لهذا يمكن استخدام هذه السلعة في تفكيك العلاقات المجتمعية، وتدنّي القيم التي تحافظ على كرامة البشر وأخلاقياته التي تحافظ على تماسك المجتمع. فالمرأة هي نصف المجتمع أي أن السلطة الذكورية التي أنشأت الدولة بكل أشكالها استطاعت الرأسمالية التقليدية إصابة نصف المجتمع بالشلل عندما أبعدت المرأة عن المساهمة في بناء المجتمع وحولتها إلى سلعة، ولم يترك أمامها مجالاً سوى العمل من أجل تلبية متطلبات المجتمع الذكوري. بينما أكملت الحداثة الرأسمالية هذا المسار، ووجدت فيها مصدراً للعمالة الرخيصة، بالإضافة إلى جعلها وسيلة للترويج والدعاية والإغواء.
الرياضوية
كانت الرياضة دائماً وسيلة للحفاظ على الصحة البدنية للمجتمع، والمسابقات الرياضية بما فيها ألعاب الكرة كانت للمنافسة والترفيه بين المجتمعات، لكن من خلال تدخل الحداثة الرأسمالية جعلتها وسيلة للربح، فأصبح الرياضيون ونواديهم يباعون ويشترون بالمال، ويحققون أرباحاً طائلة لاحتكارات الثروة، بينما الناس الذين يريدون التمتع برؤية أبطالهم أو فرقهم بات عليهم دفع مبالغ كبيرة لمتابعة الأنشطة الرياضية، ومن خلال الدعاية المكثفة ووسائل الترويج تحولت الألعاب الرياضية وكرة القدم بشكل خاص تشغل المجتمعات عن شؤونهم ومعاناتهم اليومية، أي تحريف الرأي العام عن ممارسات احتكارات السلطة والثروة.
الدينوية
مثّلت الديانات عبر التاريخ ثورات البشرية على فساد المجتمعات والاستبداد، وحاولت إعادة البشرية إلى الأخلاق التي تحافظ على المجتمعات، وربطت كل ذلك بقوى خارقة تستطيع محاسبة الجبابرة والمستبدين والمفسدين يوم الحساب، ولم تكن الديانات وسيلة للسياسة عند نشوئها، بل تعلقت بالعلاقة بين الإنسان وربه بهدف إصلاح المجتمع الموبوء بالفساد. لكن عندما تدخلت احتكارات السلطة والثروة في الأديان فتسترت بقدسيتها وجعلتها وسيلة لتبرير تسلطها واستبدادها، ثم وسيلة لتحشيد الشعوب من أجل غزواتها، إلى أن جاءت الحداثة الرأسمالية لتجعلها وسيلة لتناحر الشعوب إضافة إلى ما سبق من التحكم بذهنية الناس من خلال التحريف وتغليف الفظائع التي ترتكبها بحق المجتمعات بقدسية دينية.
الاقتصادوية
الاقتصاد بمعناه العام يعني ترتيب شؤون البيت أي معادلة الموارد والمصاريف، وضبط الإنتاج حسب حاجيات المجتمع، ومنع الاحتكار كي لا يكون وسيلة لإخضاع المجتمع. فالأخلاق البشرية ومن ثم الشرائع والقوانين أدانت الاحتكار والمتاجرة بأرزاق الناس. ولم تكن مهنة التجارة مرغوبة في المجتمع، ولا كان مزاولوها يوماً من المرغوبين لدى البشر، لكن مع تطور احتكار السلطة وحاجتها إلى المال والثروة جعلت هذه الطبقة أي احتكارات الثروة قريبة من السلطة، مثلما أصبحت احتكارات السلطة تزداد اهتماماً بالثروات لجعلها وسيلة للتحكم بالمجتمع. وخاصة مع الثورة الصناعية وتضخم فائض الإنتاج. وعندها تنامت طبقة طفيلية أخرى لجأت إلى جعل المال وسيلة لكسب المال، أي التعامل بالربا وأسست بنوكاً لهذه الغاية.
تلك البنوك التي تم تأسيسها بهدف الفائدة شكلت الحجر الأساس لتعاظم الحداثة الرأسمالية التي تعاني منها البشرية في يومنا الراهن. فهذه البنوك مولت الشركات التي تسعى إلى تحقيق الربح الأعظمي بكافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة، خلال مرحلة الاستعمار المكشوف أو الاستعمار المخفي تحت ستار الدولة القومية. فنهبت ثروات وخيرات البلدان وعبثت ببيئتها دون أي اكتراث بأحوال شعوب تلك البلدان مهما كانت معاناتهم من الفقر والجوع في أوطانهم، والهجرات التي يشهدها العالم في يومنا الراهن هو نتيجة لهذا العبث من جانب سلطات محلية فاسدة مرتبطة بأرباب الحداثة الرأسمالية في العالم. أما الذين يحاولون التمرد على هذه الأوضاع فيتعرضون للحصار والعقوبات الاقتصادية.
الحداثة الرأسمالية بشكلها الراهن
عندما نتحدث عن الحداثة الرأسمالية فإننا نشير إلى طبقة من البشر مجهولة الملامح والإقامة، تتحكم بالاقتصاد العالمي وباحتكارات السلطة من خلال البنوك والمؤسسات المالية بوسيلة الرأسمال الريعي (الربا) . وتعداد هذه الطبقة لا تتجاوز 1% من سكان المعمورة البالغ تعدادهم ما يقارب ثمانية مليارات من البشر. وهذه الطبقة تملك وتتحكم بنسبة 70% من ثروات العالم. ووضع بعض منظريهم نظرية الحفاظ على مليار واحد من البشر السعداء والتخلص من الباقي!!!!.
شبكة البنوك العالمية والبنوك المحلية المرتبطة بها بما فيها البنوك المركزية الوطنية هي الوسيلة الأهم للتحكم بقدر البشرية، وبعض المؤسسات الدولية مثل مؤسسة النقد الدولية والبنك الدولي تمنح القروض للدول، وتفرض شروطها السياسية ورقابتها عليها، بما فيها رفع سعر الخبز والخدمات في الداخل لضمان استرجاع قروضها. ومن الناحية الأخرى يتم تمويل كافة المشاريع التي تلحق الأذى بالبيئة والطبيعة وتغيير الملامح الجغرافية من طرف هذه الوسيلة أي البنوك بهدف تحقيق الربح الأعظمي لتلك الشركات وتحقيق مكاسب ريعية للبنوك وأصحابها.
هذه الأداة التي تنخر في المجتمع أي البنوك وتحت ستار خدمة المجتمع تدخلت في كافة خلايا المجتمع والأفراد، فبات الفرد يعمل ليل نهار ليسدد الديون المتراكمة عليه من خلال الإغراء بشراء البطاقة الائتمانية السهلة، وعرض السلع بشتّى أشكال الدعايات والتأثير النفسي والغرائزي، بينما يدفع صاحب البطاقة الائتمانية لها عند الشراء والبيع دون أن يشعر بأنه ضحية لما يقوم به تحت ذريعة “سهولة الدفع” . لدرجة أنه يصعب رؤية فرد غير مديون في أوروبا كلها.
الوسيلة الأخرى للتحكم بمصير المجتمعات والأفراد هي سوق الأسهم الذي تباع فيه الشركات والأوطان من خلال سندات الائتمان التي تصدرها البنوك والشركات لزيادة رأسمالها، ما عدا الشركات الوهمية التي تشكل أدوات النصب المكشوف.
هذه النسبة القليلة التي تتحكم بثروات المعمورة تملك كافة احتكارات الثروة والصناعات المختلفة المتخصصة بما فيها قطاع صناعة وتجارة السلاح وأدوات الحرب، وتبحث عن كل سبل إشعال الحروب لتأمين استمرار ثرواتها وتحكمها ولا يمكن لها أن تعمل من أجل تأسيس وترسيخ السلام في المجتمعات البشرية. فالعالم يتحدث عن الثروات التي تنفقها في الحروب، فلا توجد دولة لم تنفق نسبة كبيرة من وارداتها لشراء السلاح والمعدات الحربية بذريعة الحفاظ على أمنها القومي بينما الحقيقة هي للحفاظ على سبل احتكاراتها للسلطة والثروة في الدولة المعنية.
نرى من كل ما سبق أنّ الحداثة الرأسمالية نظام متكامل لتجريد البشرية من كل القيم التي تأسست عليها المجتمعات البشرية وعلاقات البشر مع بعضهم البعض لتحويلهم إلى عبيد جوعى لدى احتكارات السلطة والثروة في دول العالم الثالث أو الدول النامية كما يسمونها، أو إلى روبوتات ميكانيكية في الدول الأوروبية أو الدول المتقدمة، وإذا كانت هناك منح تقدمها لبعض الشرائح أو لبعض القطاعات أو حتى لبعض الدول فهي في سبيل الحيلولة دون قيام ثورات عارمة ضد تسلطها وتخريباتها في داخلها وخارجها. بما في ذلك المعونات التي تقدمها للعاطلين عن العمل في بلدانها لسد رمقهم.