نشوء الدولة القومية المركزية والانتقال إلى الدولة متعددة الانتماءات
جميل رشيد
نشوء الدولة القومية المركزية والانتقال إلى الدولة متعددة الانتماءات
جميل رشيد
تمهيد:
تعد الدولة القومية شكلاً من أشكال التنظيم الإداري والمجتمعي للبشر والأقوام، وظهرت إلى الوجود مع تطور الحاجة الإنسانية إلى تشكيل كيانات متمايزة تعتمد على خصائص ومقومات محددة ومشتركة بين أفراد جماعة بشرية ما، وتطورت مع تطور العلوم الإنسانية والمعارف، واتخذت أنماطاً مختلفة، نسبياً، اعتماداً على عوامل نشوئها وتشكلها، حيث ارتبطت ولادتها مع مرحلة معينة من التاريخ البشري، تميزت بحدة الخلافات بين الدول الدينية، وخاصة في أوروبا التي شهدت حروباً دينية طويلة ودامية، لتنتهي بإقرار تشكيل الدول القومية المعتمدة على عناصر اللغة والتاريخ والإرادة في العيش المشترك ووحدة المصير.
ولأن كانت الدولة القومية وليدة الغرب، وتشكلت نواتها الجنينية في مؤتمر فيستفاليا بألمانيا عام 1648، إلا أن الشكل البارز لها كدولة لإثنية معينة تبلور بعد الثورة الفرنسية عام 1789، وتشكل السوق القومية، وبدء الثورة الصناعية في إنكلترا وعدة دول أوروبية أخرى.
تطور الفكر القومي في أوروبا على يد فلاسفة ومنظرين أسسوا لدولٍ ألغت نظام الإقطاعات وحكم الكنيسة، وانسجم مع تطور الصناعة، لتولد معها فكرة الاستعمار والبحث عن أسواق جديدة ومصادر للمواد الخام، إضافة للسيطرة على الطرق البرية والبحرية.
لم تنشأ الدولة القومية في سياق التطور التاريخي للمجتمعات والشعوب، بل كانت وليدة بنان أفكار بعض القادة العسكريين والسياسيين في الاستحواذ على السلطة وديمومتها، ولم تنتج، لا في الغرب ولا في الشرق، قيماً حضارية تشاركية إنسانية يُعتدُّ بها، بل ولدت معها الصراعات الإثنية والقوموية المعتمدة على العرق الواحد والعلم الواحد واللغة الواحدة، ولا تزال شعوب العالم، وخاصة في الشرق الأوسط، أسيرة النظريات القوموية المنغلقة على نفسها، والتي تتناقض في أحيان كثيرة مع الموروث الحضاري الإنساني.
إن دراسة الظروف التي نشأت فيها الدولة القومية، وسياقات تطورها ووصولها إلى أعلى درجات العنصرية والفاشية، كما حصل في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، وكذلك في بعض دول الشرق الأوسط، مثل تركيا وإيران وبعض الدول العربية، وكذلك مآلاتها في ظل التطورات المتسارعة التي تعصف بالعالم، وتشكل قيم إنسانية مغايرة، نسفت معها العديد من النظريات والتابوهات السابقة، وأسست لمرحلة أكثر تفاعلاً وتشاركاً بين شعوب العالم، من حيث الاعتماد على مقوّمات حضارية وديمقراطية في تأسيس الدول، وتجاوز التراكمات السلبية للدولة القومية، تعتبر جميعها مواضيع لدراسات من قبل الباحثين والفلاسفة وعلماء الاجتماع.
وصلت الدولة القومية في الشرق الأوسط إلى أعلى مراحل تشكلها وقوتها بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة بين القطبين الاشتراكي والرأسمالي؛ مستفيدة من حالة اللا حرب واللا سلم بينهما، لتأخذ مكانتها بين الحلفين “الناتو” و”وارسو”، وتشدد قبضتها بالتحكم في مجتمعاتها وتغلق كل مساحات الحرية، وبالتالي تتحول إلى دول قمعية وديكتاتورية (جمهورية كانت أم ملكية مونارشية أو أوليغارشية)، وتخلق صراعات وهمية لشعوبها، لديمومة سلطتها، عداك عن فشلها في حل مسائل التنمية والتعليم والصحة والبنى التحتية، وتطوير الصناعة والزراعة والثقافة.
فالحرب العراقية – الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، كانت مثالاً صارخاً عن توجهات الدولة القومية في الشرق الأوسط نحو الغطرسة وترسيخ أنظمتها عبر الاستثمار في الأزمات والحروب، فتعرضت هذه الدول إلى هزات عنيفة بفعل المتغيرات الدولية، ولم تتمكن من الصمود أمامها، فتصدعت وأضحت عبئاً ووبالاً على شعوبها.
إن الدول القومية في منطقة الشرق الأوسط، ورغم ادعائها برفض الحدود التي رسمتها مسطرة سايكس – بيكو في تقسيم المنطقة، إلا أنها في ذات الوقت حريصة على عدم تغيير تلك الخارطة ولو قيد أنملة، بل تدافع عنها بكل ما أوتيت من قوة، وكأنها وضعت نفسها حارساً لحمايتها، وتعاقب كل من يحاول المساس بها أو التحدث عنها.
الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط، وإن كان في أحد أوجهه نتيجة لصراعات حول مصالح دولية بخصوص مصادر الطاقة من النفط والغاز، فإنه في ذات الوقت صراع لتكوين حالة جديدة عمادها نضال الشعوب في الانتقال من الدولة القومية الضيقة المعتمدة على اللون الواحد، إلى دولة ديمقراطية تتعايش فيها جميع المكونات والإثنيات على قدم المساواة وتمارس ثقافاتها بكل حرية.
سنحاول في هذا الدراسة المقتضبة بحث الأسس التي نشأت عليها الدولة القومية ومراحل تطورها، وانتقالها إلى منطقة الشرق الأوسط، عن طريق المبشرين والاستعمار الغربي، خاصة بعد انهيار السَّلطنة العثمانية، ورسم خرائط المنطقة وفق أسس قومية ضيقة، وبناء على مصالح الاستعمار الغربي، كذلك سنحاول تسليط الضوء على بدء مرحلة زوال الدولة القومية بشكلها المعتاد، مع بدء ثورات ربيع الشعوب، وظهور بدائل أخرى تناضل شعوب المنطقة للوصول إليها.
ظروف نشوء الدولة القومية:
تكاد تجمع العلوم السياسية والاجتماعية على نظريات واحدة لتفسير نشوء الدولة القومية، مع تباينها بخصوص مفهوم “الدولة – الأمة”. فالنظرية الماركسية تربط نشوء الأمم بعصر الرأسمالية، وتجد أنها إحدى موجبات توحيد الأسواق والسيطرة على مصادر المواد الخام، فيما تعزو النظرية الصناعية إلى مرحلة الانتقال من المجتمع الزراعي إلى الصناعي، بينما سوسيولوجيا الحداثة الرأسمالية ترى أن الدولة القومية هي الشكل الحديث لتنظيم المجتمع.
لا يمكننا أن ننظر إلى ولادة الدولة القومية وفق رؤية بعض القوى الدينية التي تعتبر أن الغرب “الكافر” صدر لفكرته وشعوب الشرق ابتليت بها، وترى بأن “الدولة الدينية” هي البديل المناسب لها، على اعتبار أن الدولة القومية فكرة مستوردة ولا تتناسب مع القيم الحضارية لشعوب الشرق.
تنطوي هذه الفلسفة والرؤية على مخاطر بمعاداة كل ما هو حضاري، ولا تطرح بدائل واقعية تتناسب وتطلعات شعوب المنطقة، فإن كانت الدولة القومية قد أثبتت فشلها على كل الميادين، فهذا لا يعني بالضرورة أن الدولة الدينية المعتمدة على الدين الواحد أو المذهب الواحد، هي البديل المناسب، بل على العكس، هذه الفلسفة تحمل معها بذور صراعات مستدامة ودامية، قد تعيد شعوب المنطقة إلى نقطة الصفر، كما حصل في مراحل معينة من تاريخ الشرق في العصور الأموية والعباسية، وقد تكون شبيهة بمرحلة الحروب الدينية التي مرت بها أوروبا أيضاً.
الحروب الدينية في أوروبا وضعت أوزارها في معاهدة فيستفاليا عام 1648، وأسست لفكرة نشوء الدولة القومية العلمانية المنفصلة عن الدين، فشكلت كل قومية دولة خاصة بها، ورسمت حدوداً لدولتها، لتعيد تقسيم أوروبا وفق التوزع والانتماء القومي الإثني، المعتمد بالدرجة على عنصر اللغة والانتشار الجغرافي للإثنية، وكذلك على التاريخ والمصير المشترك.
ولدت الدولة القومية معها مشاكلها أيضاً، فالنزاعات والصراعات على الحدود والجغرافيا والانتماء القومي؛ كانت سبباً في اندلاع حروب لا نهاية لها بين الدول الأوروبية، وخاصة الحربان العالميتان الأولى والثانية، وما انفكت تندلع الحروب بسبب الخلافات القومية بين الدول. فحتى الصراع العربي – الإسرائيلي الذي يعود بجانب منه إلى الخلاف الديني، إلا أن الجوهر يعود إلى الخلاف بين القوميتين الإسرائيلية والعربية، والتي نفث فيها الغرب وشكل مادة دائمة ومستمرة للصراع والقلاقل في منطقة الشرق الأوسط.
إن الدولة القومية، وحينما تصل إلى ذروة تمثلها للفكر والإيديولوجية القومية، تنتج نماذج ديكتاتورية فاشية للأنظمة، وتغلق جميع مساحات الحرية والرأي الآخر، لتفكر إلى ما بعد “الحدود القومية”، حيث يسعى الديكتاتور الأوحد إلى فرض نفسه زعيماً أوحداً على الإقليم أو القارة، كما حصل مع هتلر وصدام حسين أيضاً.
فإن كان الاستقلال السياسي والتحرر من الاستعمار الغربي في منطقة الشرق الأوسط، منوطاً بمهام ما كان يطلق عليها “البرجوازية الوطنية”، التي من مصلحتها تأميم السوق المحلية وتنمية أوطانها؛ فإن البرجوازية الشرقية التي ولدت في أحضان الغرب الرأسمالي، لم تلعب هذا الدور الوطني المأمول، بل جعلت نفسها برجوازية كومبرادورية تابعة للغرب وتمثل مصالحه ضمن أوطانها.
إن الفترة الزمنية التي سادت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ورغم اتسامها بنهوض حركات التحرر الوطنية بقيادة جبهات اليسار الثورية، وتحت مظلة الأممية الاشتراكية، وتحقيقها انتصارات تاريخية على الرأسمالية الإمبريالية في مناطق عديدة من العالم، إلا أنها في الشرق الأوسط أخذت منحى آخر، يخالف ما كان معهوداً في دول عديدة حققت استقلالها السياسي الناجز مثل فييتنام، لاووس، كمبوديا، ودول أمريكا اللاتينية، وكذلك المد الذي اكتسبته من انتصار الثورة الصينية، شكّلا حافزاً لدى العديد من حركات التحرر في المنطقة لخوض تجربة التحرر ومقارعة الاستعمار، وبناء دولها الفتية وتنمية مجتمعاتها وتطوير الزراعة والصناعة والتعليم والصحة وما إلى ذلك.
وبسبب غياب دور الطبقة البرجوازية الوطنية، حملت البرجوازية الصغيرة أعباء الاستقلال الوطني، لتقود حركات التحرر الوطنية في بلدانها، مستفيدة من مناخ الحرب الباردة الذي ساد العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتشكل القطبين الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي والرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
إلا أن الطبيعة البنيوية المركّبة لهذه الطبقة وازدواجيتها المعهودة، والتي لا تعرف الاستقرار والثبات، وسهولة الانقياد خلف المشاريع الغريبة، جعلتها أكثر ليونة للاندماج مع المصالح الغربية الاستعمارية في المنطقة، فحولت أوطانها إلى ساحة لصراع الثيران، بين فئات أوليغارشية تؤمن بالعمل العسكري الانقلابي، وترسخ دور العسكر في الحياة المدنية، وتعتمد عليه في تثبيت أسس وأركان حكمها، ولا تتوانى عن تصفية جميع خصومها بالحديد والنار، وبأبشع الصور وحشية، إلى جانب محاربتها أي صوت وتيار وقوة ديمقراطية تدافع عن حقوق شعوبها في وجه طغمة أو فئة صغيرة استأثرت بالحكم والسلطة وسخرتها لصالحها.
الأسس الفكرية والفلسفية لنشوء الدولة القومية في الشرق:
لم تعتمد الحركات التي قادت حروب الاستقلال السياسي في منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية نظرية فلسفية إنسانية وحضارية معاصرة على غرار ما كانت حوامل ثورات التحرر الوطني في الغرب إبان تشكيل دولها القومية، بل حملت مزيجاً متناقضاً من الأفكار الدينية والقوموية المستنسخة بأسوأ أشكالها، لتعمد إلى إسقاطها إسقاطاً ميكانيكياً فظاً على واقعها المثقل بالتخلف والرجعية، فلم تنتج سوى مزيجاً من الأفكار والنظريات المبتورة والممسوخة، والتي لم تعبر بأي شكل من الأشكال عن طموحات وتطلعات مجتمعاتها، بل وفي أحيان كثيرة، فرضت عليها بشكل قسري، دون إرادة منها.
إن ولادة الطورانية التركية من بنان أفكار ضياء كوك آلب، والذي يعتبره بعض المتعصبين والعنصريين الأتراك “أبو القومية التركية”، نفخ في العنصر التركي وجعله يتسيد الأقوام الأخرى، فخلق معه نظرية لـ”الأمة – الدولة” التركية والتي لا تزال تعاني من تبعيات أفكاره الفاشية والإقصائية، وتعتبر العنصر التركي يتفوق على الجميع، بل وتخلق منه كائناً أسطورياً خارقاً.
كذلك فعل منظر القومية العربية ساطع الحصري، ومن بعده ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي، مؤسسو حزب البعث في سوريا، وظلوا يعتدون بالدولة القومية القطرية ويعتبرون كل من يعيش على “الأرض العربية” عربي الهوى والوجدان، فألغى التعدد الإثني في الدولة وسخر كل شيء لصالح القومية العربية.
حكمت منطقة الشرق الأوسط من قبل أنظمة ربطت مصيرها ووجودها بعجلة الغرب، وحولت شعوبها إلى مجرد قطيع يسير وراءها، بعد أن سلبت منها إرادتها في التغيير والبناء والتنمية، فكانت وبالاً عليها، وقيدت حرياتها الفردية والمجتمعية، وأعاقت كل تطور ذي شأن في بلادها. دافع الغرب عن هذه الأنظمة وسبغ عليها الشرعية الموهومة، فكرست لواقع مريض ظل يتناقل عبر الوراثة، دون أن تتيح أي مجال للتغيير أو إحداث ولو طفرة مجتمعية صغيرة قد تفتح الأبواب للسير في طريق التغيير الديمقراطي المنشود.
يطلق الفيلسوف عبد الله أوجلان على هذه النماذج من الدول اسم “الدول المحافظة”، أي التي تحافظ على الأوضاع السائدة، وتعتاش عليها وتطيل من أمدها، ومعظم تلك الدول لاتزال مستمرة في تلك الصيغة، ولا تقبل بأن تغير من نهجها ولو قيد أنملة.
فإن كانت الدولة القومية “Nation State”، تعرف بأنها تلك الدولة التي “تتشارك فيها الغالبية الكبرى نفس الثقافة والوعي بالدولة، وتعتبر “مثالية” حيث تتوافق حدودها الثقافية مع حدودها السياسية”، فإنها أيضاً “دولة سيادية يتحد معظم رعاياها أيضاً بعوامل تحدد قوميتها مثل اللغة أو الأصل المشترك”.
ونسجت معظم الدول القومية أسس نظريتها اعتماداً على عنصر اللغة والتاريخ بالدرجة الأولى، وهو ما حدا بظهور اتجاهات عنصرية في الفكر والممارسة، عرضت وحدة الدولة لأخطار جمة، في حين زعم أصحاب تلك النظريات القومية في نشوء الدول، أنها الطريق الأنسب للوصول إلى “الأمة – الدولة” ذات العنصر النقي الصافي.
إن التراكمات السلبية التي خلقتها الدول القومية طيلة عمرها الممتد من انطلاقة الثورة الفرنسية، كما يحددها علماء الاجتماع والفلاسفة، إلى وقتنا الراهن، كانت كفيلة بأن تقسم مجتمعاتها المتعايشة حضارياً طيلة قرون طويلة من الزمن، إلى مجتمعات متناحرة على أسس قومية متمايزة، مضافاً إليها الانقسامات الدينية والمذهبية، والتي استفادت منها الأنظمة القوموية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، لتكرس سلطاتها وحكمها، وتسبغ على نفسها الشرعية الدينية والإلهية، وليبرر الحاكم المستبد لرجل الدين لأن يتلاعب بمشاعر الناس، فكل واحد منهما يمد الآخر بالشرعية المزيفة.
كما أن الحروب والنزاعات والصراعات الداخلية والخارجية التي افتعلتها أنظمة الدول القوموية، أهدرت من إمكانات وقدرات وطاقات شعوبها، كان يمكن أن توظف في مجالات التنمية وتطوير العلوم والبنى التحتية وبناء المدارس والمشافي وما إلى ذلك، بل نجد في معظم الدول القوموية ذات اللون الواحد عدد السجون يفوق عدد المشافي والجامعات والمدارس، ومستوى دخل الفرد فيها متدنٍ إلى أبعد الحدود، رغم توفر الإمكانات والثروات الباطنية والسطحية، ولو استثمرت ووظفت بشكل جيد في خدمة شعوبها، لوصلت إلى مصاف الدول المتقدمة. فهناك العديد من الدول لا تمتلك أدنى الثروات، ولكنها اعتمدت على بناء أنظمة غير قوموية، بل وتجاوزتها بعشرات السنين، وحققت مستوى لائقاً من التطور والتقدم في العلوم والإدارة، مثل إندونيسيا وماليزيا، أي ما تسمى بظاهرة “النمور الآسيوية”.
لم يعد نموذج الدول القومية يتلاءم مع متطلبات عصرنا الحالي، من حيث مواكبة الكم الهائل من التطورات في مجالات الفكر والعلم والتكنولوجيا، بل يُعَدُّ عامل كبح لها، وما يشغل بال الفلاسفة وعلماء الاجتماع وحتى السياسيين هو إيجاد البديل المناسب لهذا الشكل المتهالك، الذي بات عبئاً على الإنسان والمجتمع.
فرغم أن الفيلسوف إنجلز طرح فكرة زوال الدولة، ولكنه ربطها بتقدم العلوم والوعي الإنساني والبشري، إلى جانب تحرير وسائل وأدوات الإنتاج، أي ربطها بحتمية انتصار الشيوعية.
إلا أن المفكر والفيلسوف عبد الله أوجلان لم يلغِ الدولة بالشكل الذي تصوره، إنجلز؛ بل قلل من دورها وأهميتها في حياة المجتمعات، وطرح نظرية إدارة المجتمعات؛ خارج سيطرة وهيمنة الدولة، وهو ما يعني زوال دور الدولة المركزي بشكل تدريجي، ودخولها في طور الضمور والاضمحلال رويداً رويداً، لتتمكن المجتمعات من إدارة نفسها في السياسة والاقتصاد والعلوم والمعارف والصحة والتربية بمعزل عن تأثيرات الدولة الهدامة. فهو يعتبر أن كل دولة تنتج معها سلطة، وسلطة قمعية، بشكل أو بآخر، وتغلق مساحات العمل السياسي أمام المجتمع، ولا تسمح له إلا بالقدر الذي يحقق لها شروط ديمومة سلطتها وقمعها. كما أنه يطرح آليات مراقبة الدولة من قبل المجتمع عبر نظام سوسيولوجي دقيق وديناميكي، يعتمد على كفاءة الفرد وتمتعه بالحرية السياسية والفكرية، ليكون قادراً على متابعة قرارات وسلوكيات الدولة ورجالاتها، ويضعها تحت مجهره الخاص، والذي يعبّر عن حقيقة ووجدان مجتمعه. فنظام الكومينات الذي طرحه أوجلان؛ يضع الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وكل إدارتها أمام المجتمع، وليس العكس، فهي من تقدم الحساب لمجتمعاتها، وليس كما درجت العادة في الدول القوموية أن يكون المجتمع هو المذنب والمطالب بدفع الحساب أمام الدولة وأجهزتها التي تحولت إلى أدوات للقمع والتنكيل، حيث تعتبر أن “مصلحة الأمن القومي للدولة فوق كل اعتبار”، وتهدر كرامة مواطنيها وفق هذه النظرية المبتدعة، وهذه بالذات خلقت معها إشكالات وصراعات لا نهاية لها، لانزال نعيش تبعاتها إلى يومنا هذا.
فكما أن نظرية التطور الداروينية وديالكتيك الحياة، يفرض حالة طبيعية ووحيدة من التطور، تبدأ من الأبسط إلى الأعقد، كذلك يبسط أوجلان ظاهرة تجاوز تأثيرات الدولة القوموية على الأفراد والمجتمعات، ويحررها من جميع القيود التي طالما كبلتها بها منذ نشأتها. فهو يربط حرية المجتمع بضعف تأثير الدولة القومية، وتنامي دور المرأة والشبيبة، أي يمنحها دينامية ودماء جديدة، فتغدو الدولة خائرة القوى لا تستطيع ممارسة قمعها على المجتمع.
السلطة والسيادة في الدول القومية:
يقسم فقهاء القانون وعلماء الاجتماع والفلاسفة والسياسة الدول إلى عدة أشكال، تتغير تبعاً لتكويناتها وبناها الإثنية والتاريخية، فيما يذهب الماركسيون إلى تصنيفها وفق المنظور الاقتصادي، وخاصة ملكية وسائل الإنتاج. غير أن الجميع يتفق بأن أحد العوامل الرئيسية في تحديد معالم الدولة هو اللغة والتاريخ المشترك. لكن شكلها وحجمها يتحدد وفق منطق السيادة والتحكم بقرارها الداخلي والخارجي.
بكل الأحوال ما يروج له دعاة النظريات القومية بوجود دولة قومية ذات لون واحد، إنما هي محض أكذوبة سوقوا لها في إطار فرض سيادة القومية الحاكمة، والتي تحولت مع مرور الزمن إلى قومية استبدادية ألغت معها كل أنواع التمايز والاختلاف.
إن الدولة متعددة القوميات والإثنيات، تعد مثالاً قابلاً للاستمرار إن تخلت القومية الكبرى عن تزمتها الإيديولوجي وانحيازها إلى خصائصها القومية، ويمكن أن تغدو عنصر إثراء وإغناء للدولة، تخلق مساحات واسعة من التلاقح الثقافي والحضاري بين مختلف القوميات المؤسِّسة للدولة، وهي ليست قوميات عابرة لها. ضمن إطار هذه الرؤية الحضارية التشاركية تتحول الدولة إلى دولة “متعددة الثقافات والانتماءات” أو ما بعد القومية أيضاً. وهذا لا يعني إلغاء أحد من القوميات أو الثقافات المكونة للدولة؛ بل إنصافها مع غيرها.
ففي الدولة متعددة الثقافات، تكون السيادة على الدولة مشتركة، ولا تأخذ بالانتماء العرقي والإثني، بل تعد المواطنة هي الأساس في الانتماء الوطني، وهي المحدد والمعيار الأول للهوية الوطنية، حيث لا توجد جماعة عرقية مهيمنة.
كما أن مفهوم “الأكثرية” و”الأقلية” الذي ولد مع الدولة القومية، يعد من أكثر الأمراض الاجتماعية التي فتكت بدول ومجتمعات الشرق الأوسط، وهو يستمد قوته من التاريخ الديني الذي كرس الخلافات المذهبية والطائفية والدينية، حينما كان الولاء للدين والعرق والمذهب بدلاً من الوطن.
فالصلاحيات التي منحتها “الأكثرية القومية” لنفسها؛ قمعت حقوق “الأقليات القومية”، وجعلتها تحس بالغبن ضمن الدولة التي هي بالأساس جزء مكون لها، ما ولد صراعات داخلية عميقة امتدت آثارها إلى يومنا هذا.
كما أن الدول تقوم على دعامتين أساسيتين؛ وهما السلطة والسيادة، وهما مكملان لبعضهما البعض.
فالسلطة كما يعرفها الكاتب “علي عادل” في مقالة له بعنوان “ما هي الدولة القومية الحديثة؟”، بأنها “اصطلاح النظرية السياسية، وهي علاقة النفوذ التي تكون من خلالها شرعية ممارسة القوة أمراً مقبولاً إلى حد ما، من قِبل الفاعلين الآخرين في الحالة، وتشتمل الشرعية في معظم الحالات السياسية على مبدأ الاحتكام إلى نظام قانوني راسخ”.
وهذا يسبغ المشروعية على أفعال القمع التي تمارسها السلطة والمستمدة من الدستور المنبثق عن العقد الاجتماعي كما يصفها كل من “توماس هوبز” و”جان جاك روسو” في كتابه “العقد الاجتماعي”، ويبرر لها تلك الأفعال.
إلا أن الدولة القومية استخدمت هذا التفويض الدستوري والاستخدام المحدود للقوة في قمع كل الاتجاهات المعارضة لها، كنظام قوموي استلم زمام السلطة بطرق غير مشروعة، وفرض إرادته على مجتمعه بأساليب غير ديمقراطية. واستفحلت هذه الحالات في دول منطقة الشرق الأوسط، وغدت الدولة القومية المستندة إلى نظام حكم أقلياوي وممسك بتلابيب السلطة، لا تبدي أي إمكانية لإشاعة الحريات وفتح الطريق أمام إحداث تغييرات في بنية الدولة القومية، رغم يقينها أنها أصبحت جزءاً من الماضي، لكنها لا تزال تتبنى إيديولوجية القومية الواحدة، وتزداد إصراراً على أن دولتها مبنية على فكرها وإيديولوجيتها الواحدة.
وفي هذا الصدد أورد السياسي والباحث الكردي الراحل “ياشار قايا” في إحدى محاضراته؛ بأن الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك على أنها تضم أبناء القومية التركية فقط؛ فند تلك المزاعم التي يسوق لها أتباع النظرية القومية في تركيا اليوم، بالقول “تركيا وحركتها السياسية القوموية دائماً تسير عكس حركة التاريخ؛ ففي زمن انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية مع مطلع القرن العشرين؛ انبرى الأتراك ونخبهم السياسية والثقافية؛ إلى التمسك بالسلطنة العثمانية البائدة، وفي زمن انتصار ثورات حركات التحرر الوطنية في عدة بقاع من العالم، التفت الأتراك إلى بناء دولة قوموية متشددة معتمدة على العنصر التركي فقط، من حيث القوانين والتشريعات وبناء مؤسسات الدولة السياسية والثقافية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، وتحت هذا الشعار ارتكبت عدة مجازر بحق الشعوب القاطنة في الجغرافيا المسماة بـ”الأناضول”، واليوم، وفي زمن سيادة نظام العولمة؛ وتحول العالم إلى قرية واحدة؛ يصر الأتراك على السير في نظام الدولة القومية الواحدة، وإنكار كل الإثنيات والقوميات داخل هذه الدولة”.
لقد حول غُلاة القومويين في المنطقة، وفي مقدمتهم الأتراك، الدولة القومية إلى رمز مقدس يجب عدم المساس به، وكل من يحاول تغييرها يعتبر خائناً، وفق قوانين الدولة القومية، ويتوجب إنزال أقسى العقوبات بحقه. ففيما تجاوز الغرب المؤسس لفكرة الدولة القومية كل تلك الأفكار والتابوهات؛ يظل الشرق عموماً غارقاً في بحر الأفكار والرؤى القومية ويدخل في صراعات لا نهاية لها.
ويرى الكاتب والمفكر اليساري الفلسطيني “سلامة كيله” بأنه لو لم يسبغ العرب صفة “القومية العربية على فلسطين في صراعها مع إسرائيل، ربما لم يكن وضع فلسطين والفلسطينيين كما نراه الآن”. فما يسمى “الصراع العربي – الإسرائيلي” أشعل حروباً دامية في الشرق الأوسط لم تحصد شعوب المنطقة غير الدمار والتخلف الحضاري، علاوة على ترسيخ أسس أنظمة قوموية مستبدة أحرقت الأخضر واليابس، وأغلقت كافة مسامات الحرية المجتمعية، حتى باتت عبئاً على شعوبها.
ففيما يصف المفكر والفيلسوف عبد الله أوجلان بأن انهيار نظام صدام حسين في العراق يمثل انهيار آخر قلاع الدولة القوموية في الشرق الأوسط؛ فإن هذه الحقيقة تتجسد اليوم من خلال ثورات ربيع الشعوب التي أطلقت شعوبها ثورات ضد أنظمة الحكم القوموية المستبدة، وتتطلع لإيجاد بدائل أكثر حضارية وديمقراطية منها. أوجلان أفضل من حلل بنية الدولة القوموية في الشرق، واستخلص منها عبراً ودروساً تاريخية هامة جداً، لجهة صياغة مشروع نهضوي شرق أوسطي يقطع مع تاريخ هذه الدول، ويؤسس لمرحلة جديدة شبيهة إلى حد ما بالمشروع الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية. فإن كانت أوروبا قد مرت بحربين عالميتين أدت إلى دمار كبير وشامل، ومن ثم شرعت في صياغة مشروعها الحضاري الوحدوي المتمثل بالاتحاد الأوروبي، وتجاوز كل الاختلافات الإثنية والقومية والدينية والعقائدية وألغت الحدود السياسية بين دولها، لتغدو قوة عالمية يحسب لها حساب؛ فإن أوجلان يطرح مشروعاً شبيهاً بالاتحاد الأوروبي، عبر السعي لإنشاء كونفدرالية الشرق الأوسط وترسيخ أسس التعايش المشترك وتجاوز التباينات القومية والدينية والإثنية والمذهبية، إضافة إلى الابتعاد عن فكرة “الأكثرية والأقلية” القومية وحكمها، واستبدال الدولة ذات اللون الواحد بالدولة المتعددة الانتماءات يكون ولاء الفرد فيها للوطن وليس للعقيدة القومية والإيديولوجيا.
ضمن هذه الرؤية الحضارية والديمقراطية للدولة، يغدو مفهوم السيادة الوطنية، والذي يعني، كمصطلح، بأن الدولة حينما تكون ذات سيادة أي أنها “تمتلك هذا الفعل الإرادي وتستطيع التعبير عنه، وأن الغرض من الدولة هو كينونتها وتنفيذ إرادتها من خلال القانون أيضاً”. ويكون هذا المفهوم منقوصاً ومبهماً إن لم يتكامل مع حرية الإرادة لدى مواطنيها، بمعنى ألا تكون السيادة على حساب تقييد حرية المواطن والانتقاص من حقوقه.
فلاسفة الدولة القومية:
طرح العديد من الفلاسفة رؤى متباينة عن شكل الدول وأسس تكوينها، فلقد أطلق المفكر “غرامشي اسم الدولة على المعادلة التالية: الدولة = المجتمع السياسي + المجتمع المدني، واعتبر أن الدولة تتكون من طبقتين، طبقة مسيطرة وأخرى محكومة. والعلاقة بينهما تتمثل، وفق غرامشي، بإقناع الطبقة المحكومة بقناعات وأفكار الطبقة المسيطرة أو الحاكمة، وهذا يفترض وجود مؤسسات سياسية غير شخصية لها صفة الديمومة والاستمرارية، وهو ما درج إطلاق اسم “الدولة العميقة” عليها، أي التي تدير الدولة ومؤسساتها خلف الكواليس، وهي إحدى المصائب التي ابتليت بها شعوب الشرق الأوسط. فكل دولة قوموية خلقت لنفسها كياناً موازياً، يفرض هيمنته على الدولة والمجتمع، ويضع نواميساً تحت اسم القانون والدستور، ليحمي ذاته من أي تغييرات جوهرية قد تطاله.
وفي هذا الصدد يحدد المفكر أوجلان وظيفة الدولة في الغرب والشرق، واختلاف مهامها، فيقول: “بعد أن تحررت أوروبا والغرب عموماً من سطوة الدولة القومية وإيديولوجياتها المكبلة لإرادة وحرية الفرد والمجتمع؛ انبرت إلى تنميط وتحديد وظائفها المتمثلة بحماية الفرد والمجتمع من عسف وقمع الدولة ومؤسساتها الأمنية والسياسية المختلفة، وبهذا تحولت تلك الدول إلى دول تمارس الديمقراطية وفق شروطها وظروفها، فيما تكثفت وظيفة الدولة في الشرق وتجلت في صورة واحدة فقط؛ وهي حماية الدولة من الفرد والمجتمع”.
وفق هذه الرؤية الواقعية؛ حولت الأنظمة في الشرق الدولة إلى كيان خرافي وأسطوري مقدس، لا يجوز المساس بها أو توجيه النقد لها، وأن حمايتها واجب مفروض على كل فرد في المجتمع، وهي فوق الأفراد، واختلقوا ما يسمى بـ”نظرية الأمن القومي” والمستمدة شرعيتها من الإيديولوجية القوموية المعتمدة على القومية والعنصر الواحد، وتحت هذا الشعار ارتكبت مجازر بحق المجتمع والأفراد، ولا نزال نعيش تفاصيل يومية في حياتنا، كانعكاس مباشر لهذا الفكر والتوجه.
يطرح أوجلان فكرة التحرر من مفهوم الدولة القومية، انطلاقاً من إدراكه بالتطور اللولبي للتاريخ، ومستنداً إلى حقائق الجغرافيا السياسية للمنطقة، وطبيعة الصراعات فيها. فيجد أن الحل يكمن في ترسيخ مبادئ العيش المشترك بين كافة الإثنيات، في سياق الفهم العميق للتاريخ، وإعادة صياغة وهندسة المنطقة وفق منظومة فكرية وسياسية واقتصادية، تتجاوز معها بنى الدول القومية، وتستمد قوتها من الإرث التاريخي لشعوب المنطقة.
ويعتقد الكاتب “علي عادل” أن الفيلسوف “هيغل” كان يرى أن “قوة الدولة تكمن في الجمع ما بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة للفرد، والمجتمع كما له حقوق عليه واجبات تجاه الدولة، فالدولة عند هيجل ليست سلطة مطلقة كما عند “هوبز”، ولكن هي مفهوم منطقي قام بتركيبه من خلال التاريخ والعلاقات بين الفرد والمجتمع والسلطة، تلك العلاقة التي تؤول إلى أن الحرية متيسرة حينما يتمتع الشعب بوحدة قانونية داخل الدولة، ويُطلق عليها دولة إذا كان المجتمع والأفراد متحدين ومستعدين للدفاع الجماعي عن ممتلكاتهم”.
عالج العديد من الفلاسفة مثل “جون لوك، سبينوزا، نيكولا ميكيافيللي، ماكس فيبر، كارل شميت”، وغيرهم الكثير من المفكرين فكرة الدولة، لكنهم جميعاً لم يتمكنوا من طرح أفكار جريئة يمكن لها أن تضع ضوابط لقمعها للمجتمع، وجميعهم اعتبروا أن الدولة هي فوق كل الاعتبارات القيمية للبشر، وبرروا لها استخدام القوة في حماية مؤسساتها، وعلى ضوء هذا الفهم؛ أعدوا صياغات فكرية ونظرية هامة، ساهمت في تكريس سلطة الدولة، خاصة المونارشيات التي كانت حكمت أوروبا في القرون الوسطى، حتى ما قبل اندلاع الثورة الفرنسية.
اتجه العديد من المفكرين الإسلامويين إلى طرح فكرة “الدولة الإسلامية الجامعة” كبديل للدولة القومية، مستندين بذلك إلى تاريخ الإسلام في المنطقة وانتشاره في عدة بلدان، ويطرحون بالعودة إلى أيام “السلف الصالح”، متجاهلين الكم الهائل من التغييرات الفكرية والسياسية الحاصلة خلال الفترة الممتدة من نشوء أول كيان إسلامي، وحتى انهيار آخره، والتي يحددها البعض منهم بانهيار “السلطنة العثمانية”.
يقع العديد من المفكرين الإسلامويين في خطأ منهجي وتحليلي كبير، إذ يعتبرون أن “السلطنة العثمانية” ممثلة لما أطلقوا عليه “الخلافة الإسلامية”، أي الدولة الإسلامية. فمن خلال دراسة تاريخ السلطنة العثمانية، يتبين أنها سعت إلى تغليب العنصر القومي التركي على باقي القوميات التي كانت محكومة من قبلها، وخاصة بعد أن دخلت مرحلة التراجع في أواسط القرن الثامن عشر. فالإصلاحات العديدة التي لجأ إليها السلاطين العثمانيين لم تفلح في منع الإمبراطورية من الانهيار الذي كان ينتظرها. فلم تمثل “العثمانية” تلك الهوية الجامعة التي يروج لها بعض المدافعين عنها.
يظهر من خلال تاريخ الحركات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط، أنها هي الأخرى تسعى إلى فرض فكرها وإيديولوجيتها على المجتمع عن طريق العنف، واعتبار أن الإسلام هو الحل الوحيد لمشاكل شعوبها، وغيرها من النظريات الفكرية في نشوء الدول لا ترقى إلى مستوى طموحات شعوب المنطقة، فلجأوا إلى تكفير كل مختلف معهم، تحت ذريعة أنهم يمثلون الشرعية المفترضة. هذه الأفكار تسببت بكوارث في المنطقة، ولا نزال نعيش وقائعها حتى الآن.
الخاتمة:
تعتبر معضلة الدولة القومية من أهم القضايا التي تعاني منها شعوب المنطقة في حاضرها، وقد بحث فيها الفلاسفة والمفكرون طيلة عقود طويلة، إلا أنهم لم يطرحوا حلولاً ناجعة للتحرر من آثارها، وبعضهم تحولوا إلى أدوات بيد الأنظمة الحاكمة وباتوا جزءاً لا يتجزأ من منظوماتها القمعية والإنكارية.
إن الخروج من عباءة الدولة القومية يتطلب بالدرجة الأولى الابتعاد عن الفكر القوموي الضيق، والتخلي عن مفاهيم الدولة الواحدة والعلم الواحد واللغة الواحدة، إن كان على مستوى النخب الفكرية والثقافية والسياسية، أو على مستوى عامة الشعب، فهي باتت عبئاً على شعوب المنطقة، خاصة بعد اندلاع ثورات ربيع الشعوب. وفي هذا الصدد يعتبر الكرد رواد حركة التغيير في المنطقة، وتعوّل شعوب المنطقة وحركاتها التحررية الوطنية والديمقراطية على نضالهم في تحقيق التغيير المنشود، والانتقال إلى صيغة كونفدرالية تجمع بين شعوب المنطقة.
المراجع:
_______________________
1 – “علي عادل” مقالة له بعنوان “ما هي الدولة القومية الحديثة؟”.
2 – السياسي والباحث الكردي الراحل “ياشار قايا” في إحدى محاضراته.
3 – الكاتب والمفكر اليساري الفلسطيني “سلامة كيله” في مفهوم الدولة القومية والصراع العربي – الإسرائيلي.
4 – المفكر والفيلسوف عبد الله أوجلان مرافعاته لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية – المجلد الخامس.