كيف تحدد الجغرافيا سلوك الدول وما تأثير الجيوبولتيك على السياسة؟
أحمد دالي
أحمد دالي
من أكثر علاقات التأثير والتأثر على الساحة الدولية، هي تلك العلاقات التي تنشأ بين الجغرافيا والسياسة
في إطار ما يُسمى “الجغرافيا السياسية”، وثمة تعريفات عديدة بهذا الصدد فيما يخص الجغرافيا
السياسية، ولعلّ من أكثرها شمولاً للمصطلح ودقّة لمعناه: “هي علم يبحث في تأثير الجغرافيا بما
تتضمنها من مناخ وتضاريس وموقع على السياسة”. ويمكن التوسع في هذا المفهوم لنقول إن الجغرافيا
السياسية هي الطريقة التي تؤثر بها المساحة الجغرافية بما تحتويها من تفاصيل، بالإضافة إلى الشعب
الذي يعيش على تلك الرقعة الجغرافية، على أحوال وسياسات وظروف الدول، وتأسيساً على ما تقدم
يمكننا القول إن اتخاذ قرارات مهمة على الصعيد الدولي بإنشاء ممرات وقنوات وجسور، تعكس تلك
العلاقة الثنائية في تأثيرها ما بين الجغرافيا والسياسة، ولعلّ من أشهر الأمثلة على ذلك قناة السويس في
مصر، فقد كان قرار فتح القناة عام 1869قراراً سياسياً بحتاً مبنياً على التواجد الأجنبي في مصر،
ومدى النفوذ السياسي الموجود في تلك الرقعة الجغرافية، ولكنه في الوقت عينه راعى الموقع الجغرافي
الذي تم إنشاء القناة فيه، أي إن القرار السياسي احتاج إلى الدراسة الجغرافية للمكان، من حيث
الاتجاهات وميول الأرض والمسافات والعنصر البشري، الذي سيكون قوة العمل في الحفر، ومرة
أخرى يعود التأثير المتبادل بين كلّ من السياسة والجغرافيا، أنه انعكس ذلك المشروع على دولة مصر
بشكل إيجابي وفاعل، من حيث المكانة السياسية بين الدول والقوة الاقتصادية الناتجة عن إيرادات القناة،
وبعبارة مجملة ومختصرة، يمكن القول إن الجغرافيا السياسية تعتني بالطرق والوسائل التي تتأثر بها
العمليات والخطوات السياسية بالأبعاد والهياكل المكانية، وكما أسلفنا بالقول فإن القرارات السياسية
المبنية على الجغرافيا قد تغيّر الوجه الجغرافي الطبيعي لمناطق كثيرة في العالم، كحالة قناة السويس
مثلاً وقناة بنما والجسور العملاقة.
إن الخوض في دراسة من هذا النوع يتطلب منا البحث في البدايات الأولى لنشأة هذا المصطلح
“الجغرافيا السياسية” والتطرق أيضاً إلى علم الجيوبولتيك والفروقات التي ينفرد بها مقارنة مع الجغرافيا
السياسية والجيوإستراتيجية، وسنخصص جزءاً لا بأس به حول تأثير المصطلحات السابقة الذكر على
سلوك وسياسات الدول، وسندرس النموذجين التركي والروسي في هذه الحالة مثالاً.
لهذا سنقسّم هذا البحث وفق التفاصيل التالية:
1ـ نشأة الجغرافيا السياسية عبر التاريخ
2ـ مجالات وميادين الجغرافيا السياسية
3ـ علاقة علم الجيوبولتيك بالعلاقات الدولية
4ـ تأثير الجغرافيا على سياسات وسلوك الدول
5 ـ خاتمة
1ـ نشأة الجغرافيا السياسية عبر التاريخ
تُعتبر الجغرافيا السياسية علماً حديثاً إلا أنه علم أكاديمي على الرغم من حداثته، وحداثة هذا العلم
الأكاديمي ذي الدرجة العالية والحساسية الدقيقة في العلاقات الدولية، لا يعني أنه وُلد على حين غرّة أو
أنه خرج إلى الساحة العملية فجأة بدون مقدّمات، بل إن هذا العلم يستمدّ جذور نشأته الأولى من التاريخ،
فعلى الرغم من حداثته إلا أنه يعود بمبادئه الأولى إلى ساحة الفلسفة القديمة، وبالإمكان الإشارة إلى
مشاهير الفلاسفة والمفكرين الأوائل الذين زرعوا البذور الأولى له، فمن أشهر من خاض في ميدان
الجغرافيا لدى اليونان القديمة الفيلسوف أرسطو من خلال دراسته (الحجم السكاني الأمثل للدولة،
المساحة الأفضل للدولة) ومن الفلاسفة العرب كان ابن خلدون واضع ومؤسس علم الاجتماع من الذين
زرعوا البذور الأولى من خلال الدراسة والتعمّق في (دورة حياة الدول). ولكن في العصر الحديث يُعتبر
الألمان سبّاقين في وضع أسس هذا العلم عن طريق عالم الجغرافيا الألماني فريدريك راتزل من خلال
كتابه (الجغرافيا السياسية) الذي وضعه عام 1897 وقد صدر عن العلماء الألمان كتب كثيرة في هذا
الخصوص، تتحدّث عن الدولة والإقليم وجغرافية المستعمرات وجغرافية الانتخابات والخطط
الجيوبولتيكية التي تحكم العلاقات السياسية الحربية.
2ـ مجالات وميادين الجغرافيا السياسية
إن النمط السياسي والسكاني للعالم نمط معقّد ومتشعّب إلى حدّ كبير، بالقدر الذي تطغى عليه سياسة
التجزئة والتقسيمات الاعتباطية بشكل سافر، فالكرة الأرضية مقسّمة إلى وحدات سياسية وجغرافية،
تتفاوت في المساحة وعدد السكان وطبيعة الأرض والبيئة والمناخ والخيرات السطحية والباطنية، وهذه
التقسيمات لم تأخذ في حسابها التوزيع العادل من حيث الاعتبارات السابقة بين الوحدات السياسية القائمة
على شكل دول أو أقاليم أو مقاطعات أو ولايات، وإنما هي ـ أي التقسيمات ـ قائمة على اعتبارات
سياسية بالدرجة الأولى، وهي ناجمة عن نتائج الحروب والاتفاقات السياسية المبنية إما على الاتحاد أو
التفرقة، ونادراً ما أخذت تلك التقسيمات بالحدود الطبيعية الجغرافية للدول، وبالتالي فإن من أهم قضايا
واهتمامات الجغرافيا السياسية التي تحاول معالجتها، هو تبسيط هذا النمط المعقّد والمتشابك للعالم، فهي
تهتمّ وتواكب مظاهر وأشكال التحولات في كلّ رقعة من الوحدات السياسية من حيث مواردها وسكانها
وعلاقاتها وتكتّلاتها بالدول الأخرى.
ومن جانب آخر تأخذ الجغرافيا السياسية على عاتقها مهمة دراسة وتحليل القوة الجغرافية طبيعياً
وحضارياً واقتصادياً، وربط كل ذلك بالعناصر الرئيسية المحركة للعالم (الإنسان، التاريخ، الزمان،
المكان، الظرف)، وهي لا تنفكّ عن العلوم السياسية والنظام الدولي والقانون الدولي والجغرافيا
التاريخية.
وبالعودة إلى تأثير الجغرافيا على السياسة فإننا سنجد أن أثينا كانت إمبراطورية بحرية وقوة عظيمة
بسبب موقعها الجغرافي، بينما كانت إسبارطا قوة برية لا بحرية، ةهذا أيضاً بسبب الموقع الجغرافي،
ولنفس السبب تمتّعت جزيرة بريطانيا والبرتغال وإسبانيا ـ على سبيل المثال ـ بحرّية الملاحة في البحار
بينما كانت دول أخرى تعيش حالة خانقة بسبب عدم انفتاحها على أي بحر أو محيط.
3ـ علاقة علم الجيوبولتيك بالعلاقات الدولية
يقول نابليون بونابرت: “إن معرفة جغرافية الدولة يعني معرفة سياستها الخارجية”. ويُعتبر علم
الجيوبولتيك بمثابة السلوك السياسي والبيئة السياسية لأي دولة، وهناك من يرى في هذا العلم أنه دراسة
العلاقة بين الأرض والسياسة، أي أن المعطيات الجغرافية هي التي تحدد سياسات وسلوك الدول،
والمصطلح مركّب مؤلف من كلمتين: (جيو) التي تعني الأرض و(بولتيك) التي تعني السياسة، وبالتالي
فإن الجيوبولتيك تعني (علم سياسة الأرض)، وهو ثمرة المزج بين علمَي الجغرافيا والسياسة.
ارتبط هذا العلم ارتباطاً وثيقاً بالحرب لأنه نما في ظروف عسكرية، فالظروف التي عاشها العالم بين
الحربين العالميتين وما رافق ذلك من الظروف الحربية والاستعدادات العسكرية، كان له دور كبير في
ميلاد هذا العلم، وشيئاً فشيئاً ارتقت الجيوبولتيك وصعدت إلى مصافي العلوم الراقية، وذلك بفضل
الأهمية التي تتمتع بها في رصد المصالح القومية العليا للدول ورسم السياسة الخارجية لها، وهما من أهمّ
المسائل بالنسبة لأي دولة.
ولا بدّ من التوسّع والتطرّق قليلاً ههنا في بعض نقاط التفريق بين الجيوبولتيك والجغرافيا السياسية، ففي
الوقت الذي يرسم ويخطط علم الجيوبولتيك ما ينبغي للدولة أن تسير عليه، نجد أن الجغرافيا السياسية
تدرس كيان الدولة الجغرافي من حيث هو قائم على أرض الواقع، فإذاً: الجيوبولتيك يضع تصورات عن
حالة الدولة وظروفها المستقبلية، بينما تصبّ الجغرافيا السياسية اهتمامها على رسم وتصوير صورة
الواقع الراهن، ولذلك فإن الجيوبولتيك يتّصف بالحركة ويجنح إلى التطور والتقدم، وذلك بعكس
الجغرافيا السياسية التي تميل إلى الهدوء والثبات، وعلى ذلك الأساس من المفارقات، نجد أن علم
الجيوبولتيك يحاول أن يضع الجغرافيا بجميع تفاصيلها ومحتوياتها في خدمة الدولة لتحقيق أهدافها، ولو
كان ذلك على حساب جيرانها من الدول وحتى لو تطلّب الأمر المساس بجغرافية الدول المجاورة، في
حين تقتصر الجغرافيا السياسية على تحليل الدولة من ناحية جغرافيتها.
نعود مرة أخرى لنقول إن العلاقات الدولية في أساسها تعمل في إطار بيئة دولية، وهذه البيئة الدولية
تفتقر إلى العدالة والمساواة، بسبب غلبة المصلحة أكثر من العدل والقانون، ومن جانب آخر لأن
السياسات الخارجية للدول هي جيوبولتيكية بالضرورة، لأنها من المفترض أنها ترسم خطط المستقبل،
ثم إن النظريات التي جاءت في الجيوبولتيك تتفق جميعاً على مبدأ واحد هو مبدأ القوة، ولكن لم يكن
هناك اتفاق على مصدر تلك القوة، فمنهم من يرى القوة في البحر وآخرون رأوا إن القوة تكمن في البرّ،
في حين ذهب آخرون إلى أن المزج بين البحر والبرّ هو المصدر الحقيقي للقوة في إطار العلاقات
الدولية، فيما اختلف بعض المفكرين الروس ومنهم (ألكسندر دي سفرسكي) عن أصحاب الرؤى السابقة،
إذ رأوا أن القوة والسيطرة في الحالة الجيوبولتيكية مرتبطة بالسيادة الجوية قبل كل شيء.
ومهما يكن فإنه ثمة ترابط بين علم الجيوبولتيك وعلم العلاقات الدولية، ذلك أن أهمية الجيوبولتيك
بالنسبة للدول يعود لمساهمته في رسم وتحديد أسس قوة الدولة وازهارها والتنبّؤ بمستقبلها، وعلى هذا
تأخذ الدولة في حسابها أبعاد أمنها القومي.
وتُعدّ الجيوإستراتيجية مفهوماً أوسع وأشمل من الجيوبولتيك، لأنها تعني التوظيف الأمثل والأفضل
لإمكانات الدولة السياسية والجغرافية والاقتصادية والثقافية من أجل تحقيق أهداف الدولة.
4ـ تأثير الجغرافيا على سياسات وسلوك الدول
كنتيجة طبيعية لما تقدّم في البحث فإن الدول تجنح نحو تحقيق أهدافها ومصالحها عن طريق الاستثمار
الأفضل لسياساتها الخارجية مع الدول الأخرى، واستغلال موقعها الجغرافي إلى أقصى حدّ ممكن من
خلال المساومات التي تجريها، وحتى المفاوضات والاتفاقات التي تدخل فيها طرفاً سواء مع دولة جارة
قريبة أو أخرى بعيدة لا تشترك معها في أي حدود، وسواء مع دولة ما بشكل منفرد أو مع مجموعة من
الدول مجتمعة ومتّحدة ربما على شكل تكتّل سياسي أو اقتصادي أو فيدرالي حتى.
إن موقع الدولة الجغرافي المتميز من خلال عدة اعتبارات سنتأتي على الحديث عنها، لا بدّ وأن يكون
سبباً قوياً ودافعاً مشجّعاً لها في أن تدخل إلى ميدان السياسة الدولية بقوة، ذلك أن الدول الأخرى ستكون
في حاجة إلى التعامل معها إن كان شكل التعامل من حيث المبدأ تجارياً أو سياحياً أو سياسياً أو ثقافياً أو
اقتصادياً أو في مجال الاستثمارات مهما كان نوعها، ولذلك نجد أن بعض تلك الدول وخاصة عندما
تدرك أن دولاً أخرى بحاجة إلى استخدام جغرافيتها تميل إلى الدلال والمساومة وربما إلى التعجرف
بهدف كسب نقاط لمصلحتها، كما فعلت تركيا مع الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب على العراق
عام 2003.
وبالمقابل نرى الدول التي لا تملك الميّزات المطلوبة في موقعها الجغرافي، كيف أن ذلك ينعكس بشكل
أو بآخر على سياستها وسلوكها الخارجي على الساحة الدولية، فتكون عاجزة عن فرض مطالبها أحياناً
وغير قادرة على لعب سياسة الأخذ والردّ والمناورة للاستفادة من جغرافيتها، وبالتالي قد لا تخرج إلى
ميدان الدول الفاعلة والحاكمة.
ـ روسيا نموذجاً ـ الدور الروسي في النظام الدولي
الركيزة الأساسية التي تحدد طبيعة دور الدولة في النظام الدولي هي القيادة السياسية، لأن القيادة
السياسية هي المحور الأساسي في توظيف موارد وقدرات الدولة وتوجيهها، والشخصية السياسية القائدة
هي التي تعطي وزناً وثقلاً لمكانة الدولة على الصعيد الخارجي وفي النظام الدولي، حتى لو كانت
مواردها محدودة، وعلى العكس من ذلك قد تؤدي القيادة السياسية إلى تراجع دور الدولة مهما كانت
غنيّة بمواردها وجغرافيتها، وبالنسبة للنموذج الروسي وفقاً للمراقبين، فإن تراجع الدور الروسي بعد
الحرب الباردة كان عائداً إلى طبيعة القيادة السياسية التي تولّت زمام الحكم في تلك الفترة، حيث دخل
الاقتصاد الروسي في أزمة اقتصادية حادّة ولم تستطع روسيا الاتحادية تحقيق التقارب الاقتصادي
الفاعل مع الغرب، هذا على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي فقد شهدت تلك المرحلة تراجعاً
واضحاً في الدور الروسي على الصعيد الدولي، ولم تستطع روسيا الاتحادية استعادة مكانتها الدولية
على الرغم من عملية إعادة الهيكلة التي قام بها الرئيس ميخائيل غورباتشوف والنخبة الحاكمة من بعده
برئاسة بوريس يلتسن، وظلت روسيا في حالة من التدهور على الصعيدين الداخلي والخارجي، في حين
شهد مطلع القرن الحادي والعشرين صعوداً للدور الروسي في النظام الدولي، وهذا أيضاً بدوره يعود
إلى نمط سياسات القيادة السياسية الجديدة في روسيا، فقد اتجهت هذه القيادة نحو تعزيز دورها الإقليمي
أولاً، ومن ثم استعادة مجد الاتحاد السوفيتي السابق على الصعيد الدولي.
ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين أنجبت المدرسة الروسية شخصيات أكاديمية بارزة في صياغة
النظريات والتوجهات الإستراتيجية الكبرى والحاسمة لدى الساسة وصنّاع القرار في روسيا، وتركّزت
تلك النظريات حول القوة البرية لروسيا في مواجهة القوة البحرية للغرب، ويُعدّ البروفيسور ألكسندر
دوغين من أشهر الشخصيات الجيوبولتيكية الروسية المعاصرة.
لقد شكّلت الجغرافيا الروسية الواسعة تصوّرات حول إمكانية أن تتحول روسيا إلى قوة عظمى وقوة
عالمية، وقد ذكرت القيادة الروسية في عهد بوتين أن روسيا قوة عظمى ليس فقط بسبب امتلاكها القوة
العسكرية والاقتصادية، ولكن أيضاً بفضل الأسباب الجغرافية، وعلى هذا الأساس توجهت اهتمامات
السياسة الخارجية الروسية إلى منظور الأوراسية، فشكّل هذا المنظور فلسفة جيوبولتيكية جديدة تعتمد
على التوسع الجغرافي ما أمكن، وإيجاد مركز قوة وثقافة مختلفتين، وهذا المركز لا يمكن أن يتحقق
أوروبياً ولا آسيوياً بشكل منفرد، وإنما بالخلط والتعامل مع الاثنين، ويُرجع البعض ولادة الفلسفة
الأوراسية إلى فكرة مفادها أن جغرافية روسيا الواسعة تمثل مصيرها، وأن هذه الفلسفة وُلدت سنة
1921.
ـ تركيا نموذجاً ـ تأثير العامل الجيوسياسي على سياستها وسلوكها
مع انتهاء مرحلة الحرب الباردة أخذ التيار الإسلامي في تركيا بالصعود رويداً رويداً، وبدأ ينافس من
أجل الوصول إلى الحكم على الرغم من العوائق والصعوبات الداخلية وشبه ممانعة خارجية، إلى أن
وصل أردوغان إلى الحكم بعد توافق دولي ضمن جيوبولتيك جديدة للمنطقة فيما عُرف بمشروع الشرق
الأوسط الجديد، لأن موقع تركيا الإستراتيجي ضمن هذا المشروع فرض عليها أن تلعب دوراً
جيوسياسياً على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية.
استطاع علماء الجغرافيا وضع الخرائط التي رسمت صورة دقيقة وواضحة عن الكرة الأرضية، وتوزّع
المياه من محيطات وبحار والمناطق اليابسة عليها، وقد عُرفت هذه الحقبة لدى العالم الجغرافي ماكندر
باصطلاح العصر الكولومبي (نسبة إلى كولومبس كريستوفر)، ولكن كانت نهاية هذا العصر مع انتهاء
القرن التاسع عشر، وبدء مرحلة الجيوبولتيك في نظريته التي تبرز أهمية المنطقة الأوراسية والمعروفة
بقلب الأرض.
تحاول تركيا منذ صعود الحكم الإسلامي فيها أن تعود لاعباً حيوياً في العمق العربي والإسلامي،
والخروج من الدور السلبي الذي كانت عليه في الحرب الباردة، ويزيد من هذا التوجه لدى تركيا بعد
طول وقوفها أمام باب الاتحاد الأوروبي للانضمام إليه ولكن دون جدوى، وهذا الدور الذي تسعى تركيا
إليه يحتّم عليها زيادة تأثيرها السياسي والاقتصادي على الطرق البحرية، من بحر إيجا إلى البحر
الأدرياتيكي إلى المضائق والممرات المائية التي تشرف الجغرافيا التركية عليها، إلى قناة السويس
والبحر الأحمر وصولاً إلى الخليج العربي، وتسعى من طرف آخر إلى لعب دور اتصال فاعل بين
البحر الأسود وبحر إيجا، ولكن وعلى الرغم من غنى تلك الطرق البحرية التي تعطيها أفضلية تجارية
واقتصادية ونوعاً من الاستقلال، إلا أنها لا تغنيها عن الطرق والمسارات البرية، وخاصة طرق نقل
الثروات الطبيعية من بحر قزوين باتجاه الغرب ومشروع إمداد الغاز لأوروبا.
لقد أظهرت مرحلة ما يُسمى بالربيع العربي دور تركيا الطامع في اختراق العمق العربي والإسلامي من
خلال العمل على تمكين الأخوان المسلمين، ومحاولة السيطرة على الحكم في تونس وليبيا ومصر
وسوريا وقطر والعراق، ولم تسلم القارة الإفريقية أيضاً من محاولات تركيا الرامية إلى أخونة (سيطرة
الأخوان المسلمين) بعض الدول فيها، ومن ثم تزعّم مشروعها الإسلامي الأخواني في تلك الدول، وهذه
المساعي بدأت تظهر واضحة في السياسة التركية الأردوغانية، والعمل على استرجاع أحلام السلطنة
العثمانية وأخونة المنطقة ثم تتريكها برمّتها. إن هكذا طموحات كبيرة من جانب الدولة التركية كانت
نابعة من أهمية موقعها بالنسبة للصراع الدائر في كل من سوريا والعراق، بهدف لعب دور اللاعب
الأبرز والمستفيد الأكبر من مشاريع الثروات النفطية في شمال شرق سوريا، وابتزاز الدول مستفيدةً من
موقعها في مشاريع الربط بين آسيا وأوروبا لنقل الثروات الطبيعية ومنها النفط والغاز.
ولكن في مقابل هذه الرغبة والسطوة التوسعية للدولة التركية للعب دور المحور في المنطقة، فقد قوبل
هذا الموقف من السعودية بالرفض والتحجيم لتركيا، خاصة وأن السعودية تترأس المنظمة النفطية لدول
الخليج العربي، ومن جهة أخرى الإيديولوجية الإسلامية السعودية التي تعارض الأخوان المسلمين الذين
تدعمهم تركيا.
خاتمة
يبقى علم الجيوبولتيك من العلوم الحديثة التي دخل التشكيك في مصداقيتها، من حيث يُعتبر علماً أو لا
يُعتبر، على اعتبار أن الحوادث التي يدرسها لا يمكن إخضاعها للتجربة المخبرية، أو استعادتها على
غرار العلوم الفيزيائية، وشأن الجيوبولتيك في ذلك كشأن علم التاريخ الذي دخل إليه التشكيك باعتبار أنه
لا يمكن إعادة الحادثة التاريخية ضمن نفس شروطها ونتائجها.
ولكن مهما يكن من أمر العلوم الجيوسياسية وبغضّ النظر عن الآراء التشكيكية فيها، فإنها علوم حاضرة
على الساحة السياسية الدولية، وهي موجودة بقوة في ميدان النظام الدولي، لما لها من أهمية إستراتيجية
في رسم سياسات الدول القريبة والبعيدة، وفي رسم الخرائط والتكتّلات الجديدة، بالإضافة إلى كونها
الموجّه والمحرّك للسياسة الخارجية لأي دولة كانت.