الإدارة والحوكمة وكيفية التوافق بين المجتمعية والدولتية
أحمد دالي
أحمد دالي
ثمة اقتران بين مصطلحي الإدارة والحوكمة وخصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة، في سعي من المهتمين إلى إيجاد آليات ووسائل ونظم حكيمة، لرفع شأن العمل الإداري والمؤسساتي في الشركات الخاصة، وكيفية تنظيم أمور العمل والارتقاء به، وصولاً إلى إدارة حكيمة رشيدة تملك القدرة على تسيير جميع جوانب العمل المؤسسي بشكل عالٍ وراقٍ، فتعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه من المكافآت والترقيات، وفي الوقت عينه تسيّر العمل الإداري بوتيرة عالية ومتقدمة، في إطار محكم من الشفافية والمتابعة والمساءلة.
ولكن وقع اختلاف بين العلماء والمفكرين حول تحديد ماهية ومفهوم الحوكمة، أو حتى وضع تعريف موحّد لهذا المصطلح، لأنها تُعتبر مفهوماً جديداً في عالم الإدارة والعلوم والاقتصاد، لكن بشكل عام يمكن تقديمها على أنّها مجموعة الآليات والتدابير والنظم والقوانين التي تعمل على رفع سوية العمل المؤسساتي وضمان تنظيمه والارتقاء به، ومما لا شكّ فيه أنّ الحوكمة وخاصة في السنوات الأخيرة قد دخلت ميدان المؤسسات والإدارات العامة، وأصبحت من أهم ضرورات العمل وفي مختلف المجالات سواء الإدارية أو الاقتصادية أو السياسية أو التعليمية ….
وبالنسبة للأهداف المرجوّة من الحوكمة أولاً وأخيراً، فهي الوصول إلى وضع القواعد والأسس التي من شأنها تكريس الشفافية والارتقاء بمستوى إدارة المؤسسات، وكيفية الرقابة عليها، ومحاربة الفساد، وصولاً إلى أسلوب “الإدارة الرشيدة” التي يمكن إسقاطها على جميع المجالات التي ذكرناها، وبالتالي تطبيق السبل الضامنة والكفيلة باستمرار العمل والاحتياط للأزمات والقدرة على المنافسة.
وعلى ما يبدو إلى الآن، أن الإدارة الرشيدة بمعاييرها وقياساتها المعروفة ـ الأهداف التي أشرنا إليها ـ نشطة في ميادين العمل أو القطاع الخاص أكثر من العام، وربما لهذا الشأن أسبابه الموضوعية والذاتية، منها اختلاف مستوى الكفاءات والموارد البشرية ما بين القطاعين العام والخاص، والحوافز والمكافآت التشجيعية، ومستوى حجم البيروقراطية وسرعة اتخاذ القرارات، والجرأة في تنفيذها في كل من القطاعين.
وبما أن مفهوم الحوكمة في أساسه ينطلق من الإدارة ويصب فيها، فإنه لا بدّ أن تتقاطع أو تتنافر مع مؤسسات الدولة، ذلك أن الدولة بمفهومها التقليدي المعروف هي الإدارة التي تدير شؤون المجتمعات، فالدولة هي الراعية وهي المسؤولة عن رعيتها، ولكن إذا حادت الدولة بصفتها راعياً عن المجتمع بجميع مستوياته وجماهيره، عن الطريق المرسوم لها وفقاً لدستورها أو عقدها الاجتماعي، فكيف يمكن للمجتمع أن يتوافق مع إدارة لا تراعي مصالحه بالدرجة الأولى، وكيف يمكن للدولة حينها أن تبرهن أنها الراعية على الجماهير وصاحبة السيادة على المجتمع من عدمه؟.
إن الخوض في موضوع من هذا النوع يتطلب منا البحث في جوانب متعددة، ولذا سنعمل من خلال بحثنا هذا على تسليط الضوء على النقاط التالية:
ـ المبحث الأول: إستراتيجية الحوكمة المؤسساتية والإدارية
وفيه سنتناول ـ أدوات الحوكمة
ـ عناصر الإدارة
ـ المبحث الثاني: مقومات الحوكمة ومبادئها ومعاييرها
وفيه سنتناول ـ المقومات الداخلية
ـ المقومات الخارجية
ـ مبادئ الحوكمة
ـ معايير الحوكمة
ـ المبحث الثالث: كيفية التوافق بين المجتمعية والدولتية
ـ المبحث الرابع: الإدارة الرشيدة في البلدان النامية
المبحث الأول
إستراتيجية الحوكمة المؤسساتية والإدارية
أدوات الحوكمة
تكمن أدوات الحكم الرشيد أو الحوكمة بالموارد المتاحة والممكنة، وتتمثل هذه الموارد مهما علت أو نزلت، بمجموعة متكاملة ومتلازمة، على رأسها الموارد البشرية، لأن الموارد البشرية هي المسؤولة عن باقي الموارد بل هي الولاّدة والمنتجة لها، فالموارد القانونية والتشريعية وهي المسؤولة عن إصدار التشريعات وخلق البيئة القانونية لجلب الأعمال والأموال والاستثمارات، وتقديم الضمانات المطلوبة التي تزرع الراحة والطمأنينة في نفوس الزائرين والمستثمرين، لا يمكن لتلك الموارد ـ أعني القانونية والتشريعية ـ أن تنشط وأن تكون ذات فاعلية في ظل بيئة هشة ومتخلخلة من حيث قوة الموارد البشرية.
إن الموارد البشرية تتمثل بالطاقة والحيوية الكامنة لدى أي شعب، من حيث فئاته العمرية وتطلعاته وآماله وثقافته، وحرصه وخوفه على بلده ومجتمعه، ومدى استعداده لخلق بيئة عملية لتطبيق المبادئ النظرية، التي منها القوانين والتشريعات، وإلى جانب ذلك لا بدّ من توفر الموارد المالية والمادية، التي تُعتبر عصب الدورة الاقتصادية، فهي المحرك للسوق والاستثمار والربح، ثم إن هذا الأمر بدوره يحتاج إلى الموارد الفكرية والبحثية التي بدورها تنشأ عن قوة الموارد البشرية كما أشرنا منذ البداية، فالمجتمعات التي تهمل دور الفكر والبحث في غاياتها، وتزيلهما من حياتها، ستبقى مجتمعات عرجاء تمشي على ساق واحدة، وستبقى متخلفة عن ركب أقرانها وجيرانها من المجتمعات، ثم إن الموارد الفكرية والبحثية تحتاج إلى المستشارين والخبراء، وهم من تقع على عاتقهم مهمة وضع الإسترتيجيات والخطط، وفي النهاية سنجد أن مجموع الموارد التي أتينا على ذكرها، لايمكن ولا تكاد تنفصل عن بعضها، لأنها كلّ لا يتجزّأ، بل هي مجموعة أجزاء متكافلة ومتضامنة في كلّ.
عناصر الحوكمة
من الذكاء أن تنطلق الإدارة الرشيدة والحكيمة، من التخطيط السليم والتنظيم الدقيق، وإدارة مسؤولة وجريئة قادرة على ضبط إيقاع العمل الجماعي، انطلاقاً من المسؤولية الفردية تجاه المؤسسة الإدارية سواء كانت خاصة أم عامة، فالخطوات السابقة توصل إلى اتخاذ القرارات الرشيدة والحاسمة، أي أنها تعمل في مستوى صناعة القرار واتخاذه، ولكن يأتي بعد ذلك دور الإجراءات التنفيذية، وهذه الأخيرة تتطلب بدورها مجموعة من التدابير، منها نظم المعلوماتية المتطورة، والقياس والتحليل عند فقدان النص الصريح والقرار الواضح، والتقييم والمساءلة عند إنجاز كل خطوة. ولا بدّ من تجزئة وتفويض السلطات، إذ لا يجوز ربط جميع السلطات بشخص واحد.
هناك من يفرّق بين الحوكمة العمودية والحوكمة الأفقية في المؤسسات، ويرون أن الحوكمة العمودية (الرأسية) تكون ضمن نطاق المؤسسة، وتتعلق بعمليات اتخاذ القرارات الملائمة، بينما تكون الحوكمة الأفقية في إطار علاقة المؤسسة بالمؤسسات الأخرى.
المبحث الثاني
مقومات الحوكمة ومبادئها ومعاييرها
وفيه سنتناول ـ المقومات الداخلية
ـ المقومات الخارجية
ـ مبادئ الحوكمة
ـ معايير الحوكمة
مقوّمات الحوكمة
بعد أن دخلت الحوكمة إلى ميادين الحكومات والمؤسسات والشركات، بات نجاحها مرتبطاً ومنوطاً بمدى التطبيق الفاعل والناجح لها، ويتوقف هذا الأمر على مجموعة من المقوّمات أو المحددات الداخلية والخارجية التي من شأنها أن ترسم وتقود سبيلها إلى ذلك النجاح المأمول.
أـ المقوّمات الداخلية:
يمكن القول إن هذه المحددات، هي تلك المتعلقة بالإجراءات والأسس والقواعد المرسومة، من أجل تحديد كيفية دراسة القرارات واتخاذها وسبل تطبيقها داخل المؤسسة، وآلية توزيع السلطات والصلاحيات داخلها، بحيث يؤدي كل ذلك بالنتيجة إلى التقليل من التنازع في الاختصاصات، وحصر التداخل في الصلاحيات والتضارب والتعارض في مصالح أطراف المؤسسة جميعاً. فالعمل في النهاية وفق الرؤية السابقة سيؤدي إلى نمو الاقتصاد الحكومي، وسينسحب كل ذلك بلا شكّ على الاقتصاد الخاص، ما يؤدي في النهاية إلى زيادة الثقة بالاقتصاد القومي ورفع معدلات الاستثمار و تحقيق الأرباح و خلق فرص العمل، وهذا ما تحتاجه الحكومات قبل الشركات والمؤسسات الخاصة.
ب ـ المقوّمات الخارجية:
من الطبيعي أن تتوقف هذه المحددات على المناخ والبيئة العامة للاستثمار في الدولة، وضخّ رؤوس الأموال فيها، وكما يُقال (رأس المال جبان) وهو لا يحب المغامرة ويبتعد عن المجازفة، ولذلك فهو يبحث دائماً عن البيئة الخصبة والصالحة للنمو والزيادة، ومن هنا يأتي التركيز على القوانين والأنظمة الراعية والناظمة للاقتصاد، مثل قوانين المنافسة والإفلاس والاستيراد والتصدير ومنع الاحتكار، إضافة إلى حالة البنوك والمصارف وكفاءة القطاع المالي، والأجهزة والهيئات الرقابية، والظروف السياسية للبلد وعلاقاته بالمجتمع الدولي، ومدى توفر الأمن والسلم، ومن المهم هنا أن تعي الإدارة أو السلطة الحاكمة في بلد أو مجتمع ما، هذه المقومات، وأن تسعى إلى خلق هذه البيئة الصالحة للعمل والاستثمار، ومن بديهيات الإدارة الرشيدة أن تعرف كيف تتماشى مع المجتمعات والدول الرائدة في هذا المجال، ومن واجبها أن تجيد التعاطي معها، ومطلوب منها أن تحمل على عاتقها مسؤولية توفير المناخ المناسب لحياة كريمة ومستقرة لشعبها.
وترجع أهمية المقوّمات “المحددات” الخارجية إلى أن وجودها يضمن تنفيذ القوانين، التي هي بدورها تضمن حسن سير العمل والإدارة في المؤسسات والشركات، و بالتالي فإن هذه المحددات تشكل بيت الأمان لرأس المال وحركته، وهي الضمان لتشجيع حركة الأسواق سواء العامة التي تعود للقطاع العام من حيث تحريكها وفاعليتها أو الخاصة، لأن السوق الخاصة أيضاً بالنتيجة تعود بالفائدة على الدولة والمجتمع من ناحية حركة رؤوس الأموال، وتوفير فرص العمل، والحدّ من البطالة، وتشجيع الاستثمارات الخارجية، فيصبّ الخاص بصورة وأخرى في خدمة العامّ.
مبادئ الحوكمة
بما أن مصطلح الحوكمة حديث نسبياً، فقد جرى الحديث عن المبادئ والأسس التي يمكنها أن تميز هذا المصلح، وتجعله مخصوصاً بسمات وصفات خاصة، ولهذا ظهرت وتعددت مبادئ مختلفة للحوكمة، ولكن يكاد أن يكون هناك إجماع من قبل المتخصصين على المبادئ الأربعة التالية:
ـ الشفافية: إذ يجب على أعضاء مجلس الإدارة ـ سواء في القطاع الخاص أو العام ـ أن يوضحوا ويبيّنوا بشكل جلي وصريح لأطراف المؤسسة، من أصحاب رأس المال والمساهمين والمودعين، أسباب اتخاذهم للقرارات الجوهرية، بمعنى أن يتوفر الصدق والأمانة والدقة، بخصوص المعلومات التي يتم تقديمها عن أعمال وأنشطة المؤسسة للأطراف البعيدين وغير المشاركين بشكل فعلي في الإدارة، بسبب ظروفهم التي قد لا تمكّنهم من الإشراف أو الحضور أو المتابعة.
ـ المسؤولية: وهنا يجب على أعضاء مجلس الإدارة أداء واجباتهم بمهنية واحترافية، و أن يتحلَّوا بروح المسؤولية، بمعنى تحديد المسؤولية المقررة على كل طرف، والعمل على أدائها بكل أمانة ودقة وإخلاص.
ـ المساءلة: يجب أن يكون أعضاء مجلس الإدارة في موضع المساءلة عن قراراتهم و المحاسبة من قبل المساهمين، بمعنى ضرورة محاسبة كل مسؤول عن التزاماته.
ـ العدالة: إذ يجب هنا أن يحظى جميع المساهمين بالمساواة من قبل مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية. والعدالة تُعتبر من أهم أركان العقود بغضّ النظر عن الأطراف ونوع العقد.
ويضاف إلى هذه المبادئ الأربعة سيادة القانون والنزاهة والمرونة، والانضباط المتمثل باتّباع السلوك الأخلاقي المناسب، وأخيراً المسؤولية الاجتماعية التي هي بمثابة ثقافة الالتزام بالمسؤولية، ضمن أولويات التخطيط الإستراتيجي للدولة والمجتمع.
بعض من معايير الحوكمة
جاء من خلال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الإشارة إلى بعض خصائص الحكم الجيد والإدارة الرشيدة، وقد لخِّصت تلك المعايير بالخطوات التالية:
ـ الكفاءة والفعالية: والتي تعني أن استخدام المؤسسات لمبادئ الحوكمة يؤدي إلى إشباع رغبات المجتمع، وينبغي أن يتم استخدام الموارد المتاحة إلى أقصى صورة ممكنة.
ـ التضمين والمساواة: بما يضمن الاستماع لكل الأصوات في المجتمع، لا سيما أصوات المهمّشين.
ـ المحاسبة والشفافية: وهذا يعني أن القرارات المتخذة و طريقة تطبيقها تتبع القواعد والإجراءات، وهو ما يتأسس على حرية تدفق المعلومات وتحقيق التوافق بين مختلف الفاعلين والمصالح في المجتمع.
ـ المشاركة: وتشمل جميع أفراد المجتمع سواء مباشرة أو من خلال ممثلين.
ـ حكم القانون: الذي يتضمن أطُراً قانونية يتم إنفاذها بحيادية، بما يحمي حريات وحقوق الأفراد في ظل وجود قضاء مستقل.
بدورها وضعت مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي، في العام 2003 موجّهات وقواعد ومعايير عامة، تراها أساسية لدعم الحوكمة في المؤسسات على تنوّعها، سواء كانت مالية أو غير مالية، و ذلك على مستويات أربعة كالتالي:
ـ الممارسات المقبولة للحكم الجيد.
ـ خطوات إضافية لضمان الحكم الجيد الجديد.
ـ إسهامات أساسية لتحسين الحكم الجيد محلياً.
ـ القيادة.
المبحث الثالث
كيفية التوافق بين المجتمعية والدولتية
تعني المشاركة المجتمعية قدرة أفراد المجتمع على إقامة علاقات فاعلة ودائمة مع السلطات الحاكمة في الدول، بهدف إيصال رؤيتهم التي يؤمنون بها، ويرون فيها صلاح وخير مجتمعهم، وتطبيقها بما يعود بالفائدة على الجميع، العام والخاص. وتتخذ المشاركة المجتمعية، تحريك المجتمعات المستهدَفة نحو التغيير أساساً لممارسة دورها، أي إن المشاركة المجتمعية العملية والفعلية، هي وسيلة لتحقيق التغيير الإيجابي، ويتصدّر هذه المشاركة والوسيلة إشراك المواطن في عمليات الدراسة والتخطيط وصناعة القرار على المستوى المحلي.
ويمكننا الخوض في العنوان السابق الذكر من خلال البحث في أسباب دخول الحوكمة إلى الأجهزة الحكومية والجهات العامة، فثمة أسباب موضوعية ورؤىً عقلانية استدعت دخول الحوكمة إلى ميدان الإدارات والأجهزة الحكومية، منها ـ بل على رأسها ـ قضايا الفساد وانعدام الشفافية وغياب الرقابة، أضف إلى ذلك فقدان المرونة، من هنا بُنيت الآمال على الحوكمة لوضع المؤسسة أو الجهة الإدارة على الطريق الصحيح، ورسم الرؤى التي تتفق مع التوجه العام للحكومات والدول، بما يحقق مصداقية الحكومة وتطمين الجهات والدول التي تتعامل أو تتعاقد معها، وهنا لا بدّ من أن تتصرف الحكومة أو السلطة الإدارية الحاكمة بصفتها الراعي المسؤول عن مصالح شعبها ومجتمعها، وأن تأخذ على رأس أولوياتها، كيفية تطويع الإمكانات الداخلية المتاحة والاستثمارات الداخلية والخارجية، لخدمة جماهير الشعب. وتُعتبر نيوزيلندا في مقدمة الدول التي لجأت إلى الحوكمة في مؤسساتها الرسمية.
ومع بداية العقد الأخير من القرن الماضي، تم التركيز على تفعيل دور المجتمع المدني في منظومة الحوكمة وتدعيم مشاركته، بما يتيح الوجود الفعلي والحقيقي لأبناء المجتمع في دائرة التخطيط والتنفيذ، حيث ربطت منظمة التنمية الاقتصادية بين جودة وفعالية الحوكمة من جهة ورخاء المجتمع وتقدمه من جهة ثانية، ثم إن الحوكمة انعكاس للتطورات والمتغيرات الحديثة التي فرضت نفسها كواقع من النواحي الإدارية والاقتصادية والسياسية، وثمة عوامل عدّة وقفت وراء هذا الدفع والزخم في فرض الحوكمة لنفسها كإطار ومنظومة متدفقة، من شأنها المضيّ قُدماً في أيّ مجال تدخل إليه، ولعلّ من أبرز تلك العوامل:
ـ ازدياد مشاركة القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية، وخاصة في الدول التي تنتهج نظام الاقتصاد الرأسمالي، ما أدى إلى تغيّر وتراجع الدور التقليدي للدولة كفاعل رئيسي. ـ ظهور مفاهيم جديدة للتنمية، وخصوصاً في العقد الأخير من القرن الماضي، نتج عنها ولادة تيار جديد يدعو إلى نوع جديد من الليبرالية المحدثة، حيث تستند على الحرية الفردية والخيار الشخصي فيما يتعلق بالعمل في السوق، وهذا بالنتيجة سيؤدي إلى تقييد سلطة الحكومة المقيدة للفرد. ـ شيوع وانتشار ظاهرة الفساد عالمياً، وهذا ما سرّع التفكير في الأخذ بالحوكمة، وانتهاج آليات جديدة ومبتكرة تجعل من الأجهزة الإدارية أكثر شفافية ومرونة، بغية القضاء على هذه الظاهرة؛ ظاهرة الفساد.
ـ حدوث تحولات كبيرة على مستوى العالم، منها الأزمات والانهيارات الاقتصادية ومنها تحوّل العالم إلى قرية صغيرة نتيجة العولمة. ـ الرغبة في زيادة نسبة رضا المواطنين عن الخدمات التي يقدمها القطاع العام، وتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين. ـ رفع مستوى قدرات الدوائر الحكومية من خلال تعزيز وتطوير الأداء المؤسسي، وتحقيق الأهداف الوطنية الإستراتيجية، وتحقيق الاستقرار المالي للمؤسسات الحكومية.
كل تلك العوامل دفعت بالدول والحكومات إلى الإسراع في الترحيب بالحوكمة في أجهزتها الإدارية وأنظمتها الاقتصادية.
وتوصي المؤسسات الدولية اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى، بتطبيق مبادئ الحوكمة والإدارة الرشيدة من أجل تحسين مشاركة المواطنين، وضمان حماية البيئة، ولهذا تقوم الدول المتقدمة دائماً بمراجعة مفهوم الحوكمة وتحسين أدائها وتطوير مبادئها وآلياتها، ما يسمح لبلدانهم باستقطاب الاستثمارات وزيادة المكاسب، الأمر الذي ينعكس بشكل إيجابي على الدولة والمواطنين معاً.
وفي هذا الإطار يرى الدكتور أشرف جمال الدين وهو أستاذ محاضر في معهد (حوكمة) في دُبي، أن الحوكمة لابدّ لها من أن ترتكز على أربعة عناصر لتكون قادرة على القيام بوظيفتها:
1ـ مبدأ المساءلة: حتى يشعر كل شخص أو كل إدارة بصفتها شخصية اعتبارية، بأن هناك مسؤوليات ملقاة على عاتقها و أنه ينبغي إنجازها. 2ـ الرؤية المستقبلية: بمعنى التوجه المستقبلي الذي يتناسب مع التوجه العام للدولة. 3ـ الإستراتيجية: لابدّ لكل خطة أو مشروع من إستراتيجية عمل معينة تأخذ في الحسبان الأهداف و الأسباب و النتائج و إمكانية التحقيق. 4ـ الإشراف: وهو بمثابة مرجعية للجهة التنفيذية، أو هو جهة إشرافية على أدائها للتحقق من إنجاز ما هو مطلوب وفق الرؤية المرسوم لها في الدراسة والتخطيط، وفي حال التقصير؛ يقوم الإشراف بالتحقق فيما إذا كان ذلك التقصير قد وقع عمداً أو خطأ.
و أهم المجالات التي يمكن أن تكون ميادين لنظام الحوكمة في الدولة العصرية التي تساهم في التنمية الإنسانية هي:
أ-الحوكمة الاقتصادية: وتضم مسارات صنع القرار التي تؤثر مباشرة على نشاطات الدولة، أو علاقتها مع اقتصاديات الدول الأخرى، وهي ذات تأثير كبير على القضايا الاجتماعية، كالمساواة والرفاهية والفقر ونوعية الحياة ومستواها.
ب- الحوكمة السياسية: وتشير إلى صنع القرار وتنفيذ سياسة الدولة، وتشترط فصل السلطات والمشاركة والتعددية السياسية.
ج-الحوكمة الإدارية: وهي نظام لتنفيذ السياسات الإدارية، ويقوم هذا النظام على وجود قطاع عام مستقل و منفتح، ويخضع للرقابة والمحاسبة.
المبحث الرابع
الإدارة الرشيدة في البلدان النامية
تشير جميع الدراسات تقريباً والأبحاث التي استهدفت دراسة الإدارة الرشيدة ونظم الحوكمة في الدول النامية، تشير إلى فشل القوانين والتشريعات التي من المفترض أنها تعالج قضايا الفساد المالي والإداري في مؤسسات تلك الدول، ودورانها في حلقة مفرغة عاجزة عن وضع اليد على المشكلة، قبل التفكير في امتلاك الحلول.
صدر في العام 2017 تقرير للبنك الدولي حول السياسات العامة، يحثّ كلاً من البلدان النامية ووكالات التنمية الدولية على تطبيق تجربة الإدارة الرشيدة، وقد تناول تقرير خاص عن التنمية صدر في نفس العام، تناول الحوكمة والقانون، وبحث في كيفية أن المجتمعات التي لا تُوزّع فيها السلطة بشكل قانوني وعادل، وخاصة مع وجود الإجحاف والتهميش، كيف أن كل ذلك يتعارض مع الفعالية التي يمكن أن تحدثها السياسات الإيجابية والعقلانية المتّبعة، لأن التوزيع غير العادل للقوة يفرغ كل شيء من مضمونه، ومن شأنه أن يؤدي إلى إبعاد وإقصاء مجموعات أو أفراد من المكاسب الناتجة عن المشاركة في تلك السياسات.
وأشار التقرير إلى أن السبب في فشل قوانين مكافحة الفساد في البلدان النامية يعود إلى التفاوت في القوة، وأن تحسين نظام الحوكمة هو عملية تتفاعل من خلالها الدولة مع الجهات غير الحكومية لرسم السياسات وتنفيذها. و من خلال تعقيبه على التقرير المذكور أشار رئيس البنك الدولي “جيم يونغ كيم” إلى دور الحكومات، وأنه لا بدّ أن تستخدم مواردها بأقصى قدر ممكن من الشفافية والفعالية، وهذا يعني الاستفادة من خبرات القطاع الخاص وثوثيق العلاقة والعمل مع المجتمع المدني، من أجل القضاء على الفقرمن جهة، وتعزيز الرخاء من جهة أخرى.
و يخلص التقرير إلى أن السياسات الرشيدة غالباً ما يتعذر تطبيقها في الدول النامية، لأن فئات معينة هي من تستغلّ الأوضاع القائمة هناك، وتحقق مكاسب من ذلك، وهذه الفئات ربما تكون قوية بما يكفي لمقاومة الإصلاحات المطلوبة.
و يرى خبراء الحوكمة أن ثروات البلد وغناه ليس هو الأساس في نجاح الحوكمة، بل الأسباب الحقيقية لنجاح الحوكمة وتعزيزها، إنما تعود إلى النظم والتشريعات والقوانين والشفافية قبل غِنى البلد ومقدّراته وثرواته، وهذا ما لا يتوفر بسهولة ويُسر في البلدان النامية، وكل ذلك بالنتيجة لا يشجع الاستثمار فيها، وهذا الأمر يتوقف على الجهات الحكومية وليس على مؤسسات القطاع الخاص، فعلى الدولة هنا أن تمتلك الإستراتيجية والرؤية البعيدة، ولا ينحصر دورها في حلّ المشاكل الطارئة والعراقيل اليومية، ومن جهة ثانية تفتقر هذه البلدان إلى الثقافة المؤسسية، أي إن مجرد وضع القواعد وتحديد المعايير غير كافٍ، ولا يسهم ذلك في تقدّم البلد وتطوره، وإنما كيفية تطبيقها والرغبة في تطبيقها قبل كل شيء هو الأساس، يُضاف إلى ذلك افتقارها إلى وضوح الرؤية بالنسبة للخطط بعيدة المدى.
وتعاني البلدان النامية بصورة عامة من المحسوبيات في العمل الإداري والمؤسسي، وربما يفرض الولاء للسلطة الحاكمة نفسه على الكفاءة والخبرة، فتطفو هنا على السطح إشكالية جديدة تكمن في تحديد طبيعة العقلية المؤسسية، ما بين الكفاءة والولاء، وهو داء قديم جديد يتوالد على مرّ الأزمان، ولا يُخفى على أحد أن شعوب البلدان النامية وحكوماتها ميّالة إلى التنظير والشعارات أكثر من التطبيق العملي، بمعنى أنها لا ترتقي إلى مستوى الدول المتقدمة من حيث البحث والدراسة ووجود مراكز أبحاث خاصة بذلك، يُضاف إلى كل ما تقدّم، أنه في بعض الأحيان تخرج مشكلة (الأنا) على الساحة، وهي المتمثلة في تفضيل الذات على الآخر دون أي اعتبار منطقي سوى أنه أفضل من غيره، وهذا بطبيعته لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج تراكمات تاريخية ودينية ومجتمعية طويلة، لأن الإنسان ابن بيئته، ولا يمكن إنكار أن كل هذه الأعراض إن جاز التعبير، ستولّد تأثيراً عكسياً وسلبياً على جميع نواحي الحياة، بدءاً من الأفراد ومروراً بالمجتمعات، ـ ولا شكّ ـ وصولاً إلى العقلية الإدارية والمؤسسية بعامّها و خاصّها.
خاتمة
تُعتبر الحوكمة مفهوماً جديداً على ساحة العلم والدراسات، وهي بشكل عام مجموعة الآليات والتدابير والنظم والقوانين التي تعمل على رفع سوية العمل المؤسسي وضمان تنظيمه، وقد أضحت الحوكمة وخاصة في السنوات الأخيرة من أهم ضرورات العمل على مختلف مستوياته و مجالاته سواء العمل الإداري أو الاقتصادي أو السياسي أو التعليمي …
إن سبب اهتمام الأدبيات العربية والغربية بمفهوم الحكم الرشيد؛ أي الحوكمة، هو ربط ذلك بتحقيق التنمية الإنسانية، بمعنى أن الحديث عن الحوكمة يعني تناول آليات توزيع السلطات، وآليات المشاركة والمساءلة في المجتمع، وتحقيق الحريات والفرص المتساوية. وهناك إجماع على أنه لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة دون تفعيل مبادئ الحوكمة، ألا وهي المساءلة والشفافية والمحاسبة والعدالة والمسؤولية والمرونة.
إن البلدان التي نجحت في تحقيق الحوكمة، يعود الفضل في تحقيق تلك النجاحات إلى التضافر والتعاون ما بين المؤسسية الرسمية وغير الرسمية، و كذلك وجود البيئات والبنى التحتية الثقافية اللازمة لذلك، لأن تجاوز المراحل نحو الأفضل يستدعي دائماً ربط المفهوم بضرورات نجاحه السياقية، و لذا تُعدّ عمليات إصلاح المؤسسات وإدارة المجتمعات والبلدان عملية ليست باليسيرة، فهي تنطوي على فهم التحديات والعقبات التي قد تعترض ذلك، ويتطلب إلى جانب ذلك دراسة وفهم الإمكانات والموارد المتاحة سواء البشرية منها أو الاقتصادية، وعليه فإن منظومة الحوكمة تتطلب أن يترافق معها إصلاح الجهات الإدارية والسلطات الحاكمة، وتفعيل دور المواطنين بصورة حقيقية لا شكلية، ليكون عاملاً مؤثراً وإضافةً فاعلة كي يتمكن الجميع من تأدية أدوارهم في عملية الإصلاح والارتقاء بالتنمية الشاملة، التي تنعكس في النهاية على جميع فئات وأفراد المجتمع، وهنا يتصدر المشهد من جديد…. آلية نقل الدراسة النظرية إلى واقع عملي.
المراجع
ـ بحث الحوكمة: مجلة الشرق الأوسط الديمقراطي ـ العدد 49
ـ مجلة العلوم القانونية والسياسية: الأستاذة سليمة بن حسين ـ العدد رقم 10
ـ محاضرة في الحوكمة والإدارة الرشيدة: الدكتور أشرف جمال الدين المدير التنفيذي لمعهد حوكمةـ دُبي
ـ الحوكمة في الدول النامية وفشل مكافحة الفساد: إيهاب علي النوب ـ شبكة النبأ المعلوماتية
ـ تحسين نظام الحوكمة أساس النمو المنصف في البلدان النامية: هلا أبو حجلة ـ جريدة الدستور يناير 2017
ـ مفهوم الحوكمةـ التعريف والمبادئ: سعد محمد السياري ـ صحيفة مال الاقتصادية
ـ الحوكمة في القطاع العام: موقع مقال الالكتروني