جاسم الهويدي
جمعية الاتحاد والترقي، نشأتها ودورها في تأسيس العثمانية الجديدة
حركة معارضة هدفها الإطاحة بالدولة العثمانية، وقد وصلت إلى سدة الحكم في الدولة العثمانية بعد انقلابها على السلطان عبدالحميد في 27 نيسان 1909م، وقد تورّطت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ممّا أدى إلى سقوطها وتقاسم الدول الأجنبية أراضيها، وتعود أصول نشأتها إلى عام 1865م، ومن مؤسسيها عبدالله جودت، وبهاء الدين شاكر، وانضمّ إليها حزب أو أعضاء تركيا الفتاة.
ومن مؤسسيها إبراهيم تيمو الذي كان يمضي أوقاته خارج تركية حتى عام 1895م وقد عقد الاجتماعات السرية؛ لكسب أعضاء كثيرين انتسبوا للجمعية، ومن أعضائها نامق كمال وضياء باشا، ونتيجة للمراسلات السرّية بين أعضاء الجمعية في الداخل والخارج تمّ الاتفاق على وحدة العمل العسكري والمدني ضد السلطان، وكان الفكر السياسي للجمعية يؤكّد على المفاهيم الطورانية المتزمتة للترك، والتي من ضمنها فكرة أنّ الترك هم من أقدم أمم الأرض وأعرقها مجداً، وأسبقها إلى الحضارة، وأنّهم والجنس المغولي واحد في الأصل، وكان شعارهم عدم التديّن، وإحياء عقائد الترك الوثنية السابقة على أسلافهم، وقالوا نحن أتراك فكعبتنا طوران، فأثارت المشاعر القومية العنصرية عند الاتراك تحت حلم الطورانية.
كان حزب الاتحاد والترقي يقول منذ تأسيسه بنظام اللامركزية، وعندما استلم الحكم شعر بلزوم انتهاج خطة جديدة في إدارة البلاد العثمانية بوجه عام، وبلاد المشرق بوجه خاص، إلّا أنّ هذه الآراء الجديدة لم توضع موضع التنفيذ، وكانت أكثر الجمعيات المنشأة في المشرق تنادي بالحكم اللامركزي، والاستقلال الداخلي المحدود للولايات على أن تبقى البلاد ضمن الدولة العثمانية وتحت سيادتها.
بداية التناقضات في أهداف “الاتحاد والترقي” واتباع أسلوب الإبادة الجماعية بحق الأقليات
أسست جمعية الاتّحاد والترقّي، وكان من أهدافها أن تحصل شعوب الدولة العثمانية على حقوقها بعد القضاء على الاستبداد الحميدي، وانطلاقاً من الأفكار الليبرالية التي تأثروا بها دعوا أنفسهم (الأتراك الجدد) ولمّا استعدوا لعقد أول مؤتمر لهم في باريس عام 1902 م، شاركهم فيه ممثّلون عن الأتراك والأرمن واليونانيين والعرب والكرد واليهود وغيرهم.
لكنّ المؤتمر انفضّ عن انشقاق عميق بين تيارين – تيار ليبرالي تزعمه صباح الدين، واسماعيل كمال الألباني وتيار متعصب للقومية التركية بزعامة أحمد رضا – كان التيار الاول يجهد من أجل إرساء نظام دستوري يقلل من مركزية السلطات حيث يحصل كل شعب غير تركي على نوع من الحكم الذاتي – أما التيار الثاني فكان يرفض أي خروج عن ضرورة ربط الدولة العثمانية بالقومية التركية دون المساس بمركزية الدولة والسلطة ومع ذلك استمر الشباب الاتراك بنضالهم خارج الامبراطورية العثمانية وداخلها إلى أن نجحوا في خلع السلطان واستلام الحكم عام 1909م، فأقروا الدستور والحريات الفردية وتعهدوا بضمان رعايا الإمبراطورية كافة، ونتيجة ذلك سادت موجة من الابتهاج خلال بضعة أشهر، وتآخى الأتراك والأرمن والعرب والكرد في سائر أرجاء الإمبراطورية، لكنّ التيار المعتدل في جمعية الاتحاد والترقي ما لبث أن تراجع أمام نفوذ كل من أنور باشا وطلعت باشا اللذين عززا موقعهما، وحرّفا الجمعية لتتبنّى العقيدة الطورانية، وتحلّ محلّ الاتّجاه العثماني، ولجأ الحكام الجدد إلى الأسلوب نفسه الذي اتّبعه السلطان عبدالحميد، معتبرين أنّ الأتراك فوق القوميات الأخرى، والشعب التركي منزّل من السماء، والآخر لا شيء، ووسّعوا حدود اضطهادهم لشعوب الشرق، ومنها الأرمن والعرب والكرد بصورة مرعبة للقضاء على البعض منهم بأسرع ما يمكن، وفي مناخ التكتم وإخفاء الحقائق كان تاريخ 2/1/1915م وكانت مجازر الأرمن التي أمرت الحكومة الاتحادية بتنفيذها بعد تشكيل لجنة مكوّنة من الدكتور ناظم والدكتور بهاء الدين شاكر ووزير التربية شكري مهمتها التخطيط لإبادة الشعب الأرمني برمته، وخلال عام كان الأتراك قد حوّلوا المناطق الأرمنية إلى قفار ودمار. وممّا جاء في قانون الانتساب لجمعية (ترك أوجاغي) أو أحد فروعها أن يكون طالب الانتساب تركيّاً، وأن يدفع رسماً شهريّاً، وأن يتعهد ببذل حياته ونشاطه وماله لاعلاء شأن الترك، وبسط سيادتهم على الأمم الأخرى، وأن يغيّر اسمه باسم توراني يعرف به بين أصحابه، ممن كان اسم انور مثلا صار يعرف اليوم بين أصحابه باسم (ايشلراق) أي أنور بالتركية القديمة. ومن كان اسمه محمداً أو سليماً أو حسيناً أو سعيداً صار اسمه تيمور أو جنكيز أو هولاكو أو أوغوز، وحينما يجتمع تلامذة المدارس الحربية في ساحات مدارسهم ويستلون سيوفهم ينشدون نشيدهم الوطني الذي يبتديء بهذه الأبيات:
جنكيز خانك بايراغي آنلي شائلي صانلاندي
آيت خانك بايراغي حربدة بويلة أكلاندي
ومعناها ( لقد تموّجت أعلام جنكيز خان في جو المجد والشرف وأرشدتنا أعلام آية خان إلى نهج الطريق المجيد في الحرب)
والأغرب من ذلك كله هو ذلك الدعاء الجديد الذي ألّفته جمعية (تورك يوردي) وجعلت الترك يستعملونه في منازلهم ومدارسهم، وقد قرّرت أخيرا استعماله في الجوامع والمساجد في الآستانة والأناضول وهذه ترجمته:
(أيها الإله القادر على كل شيء أنعم على الترك بالصحة، والعافية، وأحسن إليهم بذئب أبيض، وأشملهم برعايا مولانا السلطان الأعظم) والذئب الأبيض اله من آلهة الترك الأقدمين وقد كان شعارا لهم !
وكذلك: (وأنت يا مملكة توران الجميلة المحبوبة، أرشدينا إلى الطريق المؤدية إليك لأنّ جدنا أوغوز الكبير ينادينا، أيّها الاله القادر على كل شيء أنر طريق توران أمامنا، واجعل أمتنا كالورد الناضر، وأهدنا الصراط المستقيم).
وقد تمثلت هذه المطالبة بشكل جدّي في مؤتمر باريس عام 1913م، وقد دعا هذا المؤتمر إلى إعطاء الجمعية العربية الفتاة في باريس حقها، وذلك بغية إيجاد حلّ لقضايا الشرق بعد أن تنكّر الاتراك لمطالب العرب العادلة.
وقد تصدت حكومة الاتحاديين في البدء لعرقلة انعقاد المؤتمر، وسعت لدى الحكومة الفرنسية لمنع انعقاده في فرنسا، وأرسلت مدحت شكري بك إلى باريس مزوّداً بصلاحيات الاتفاق على أسس عامة مع الزعماء العرب، فتمّ الاتفاق بين الطرفين على المبادئ التي اعتبرها العرب أساساً للقيام بمفاوضات أخرى، ثم صدرت من السلطان في الآستانة أوامر تعطي في ظاهرها اتفاق باريس الشكل القانوني، لكنّها اختصرت إلى حد بعيد الحقوق التي اعترف بها الاتفاق للعرب، وأحاطت ما تبقّى منها للتحفظ والغموض، فقد أعلنت الآستانة على استعمال اللغة التركية إلى جانب اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية.
إلّا أنّ الحوادث التي توالت بعد ذلك، لاسيما الحرب العالمية الأولى غيّرت الأمور تغييراً جذريّاً، وتوقفت الاتفاقية عن التنفيذ.
تأثير العثمانية على انعزال الشرق الاوسط وتخلّفه
إننا إذ نعود سنوات بتاريخ الشرق إلى الوراء، لنرى الشرق محتلا في اكثر أجزائه من قبل الدولة العثمانية التي عملت على عزله عن العالم وإبقائه في تخلف اجتماعي واقتصادي، وتكبيل الحريات وإخماد الاصوات وإغراق الشرق في الخلافات والمنازعات، وكانت الدولة العثمانية منذ تأسيسها تعد من الدول الكبرى في العالم، فقد بسطت نفوذها على أجزاء من القارات الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، وكوّنت إمبراطورية عظيمة ومنحت بعض الدول امتيازات، وعقدت معها المعاهدات، ولم تكن الامتيازات التي حصلت عليها الدول الأوروبية في أراضي الدولة تعني شيئا في فترة القوة، لكن ما إن بدأ انحطاط الدولة العثمانية حتى كانت الدول الأوروبية تلعب دورا أساسيّاً في التدخل في شؤون الدولة، حيث أثر تأثيراً كبيراً في أحوال الشرق وشعوبه الحرة، ممّا جرّ النكبات والتقسيمات المقسّمة إلى أجزاء، وأدّت إلى حروب طائفية قوية بين هذه الشعوب نفسها.
وقد تكشفت للغرب أهمية الشرق والمزايا التي يتمتع بها، لذلك عمل متضامنا في أكثر الأحيان لغرض التدخل، وإيجاد صيغ ينفذ من خلالها لتأمين مصالحه، والحصول على مغنم قريب المتناول، وسهل المنال، ولم يكن أسهل عليه من نهش جسم الدولة العثمانية المتداعية، وكان من جراء هذا التدخل، ونتيجة تلك المعاهدات والاتفاقيات التي عقدت تارة مع سلاطين ضعاف، أو مع الرؤساء البارزين في بلادهم، وأخرى مع دول حديثة؛ كمصر وسوريا والعراق، وكانت تلك المعاهدات ماسّة بكرامة شعوب الشرق من عرب وكرد ومسيحية، فهي تعترف باستقلال الأقطار العربية، لكنها من جهة أخرى تحدد ذلك الاستقلال بنصوص معينة تعطي المستعمر قواعد حربية وجوية وهيمنة اقتصادية، تؤمّن له استنزاف خيرات الشرق، وتؤكّد سيطرته على منابع الثروات الزراعية والمعدنية.
وبذلك خلقت تلك المعاهدات أوضاعا مؤلمة عاشتها شعوب الشرق طيلة فترة الاحتلال العثماني التركي وفترة الانتداب والاستعمار الاوروبي بعد ذلك، لقد فرضت تلك المعاهدات قيودا قاسية على الشعوب العربية والكردية وغيرها، إذ رزحت هذه الشعوب تحت نير بنودها سنين طويلة، ورغم الانتفاضات الشعبية، والحركات التحررية، فإنّ المعاهدات كانت تعدل، ولم تكن تفقد جوهرها الأساسي في السيطرة، لكن على الرغم من قيود المعاهدات هذه، فإنّ شعوب الشرق استطاعت أن تستكمل مرتكزاتها الفكرية وتفجر طاقاتها على شكل ثورات تفجرت في نقاط متعددة من أرض الشرق في سورية والعراق وقنديل كردستان، وكان محرّكها الضغط الاستعماري وقيود المعاهدات والحكم المتسلط.
وفي النهاية كان الاستعمار دوما يطأطيء الرأس أمام صلابة الشعوب الحرة، وقوة إرادتها، ونشاط قيادتها، وعلوّ همتهم، ونظرتهم الثاقبة إلى الأمور، والتصاقهم بشعوبهم، والتضحية من أجلهم، وتوجههم في التمسك بالأرض والمقاومة.
إنّ إرادة الشعب لا تقهر، والنضال مستمر مهما عظمت التضحيات والأحداث وجرت من حروب.
إن القيود ستكسر أمام إرادة الشعوب الحرة المؤمنة بعقيدتها والمتمسكة بأرضها والمحبة للسلام، والخيبة للاستعمار التركي نتيجة ونهاية.
المصادر:
————
1- مجازر الأرمن – الدكتور نعيم اليافي
2- شهادة الارمن – يروانت بامبو كيان – مترجم الأب كيغام
3- وثائق التدخل الاجنبي في الوطن العربي – موسى الكاظم
4- العثمانيون في التاريخ – محمد حرب
5- ثورة العرب – أسعد مفلح الداغر
6- دير الزور خلال العهد العثماني – الدكتور رامي الضللي
7- لواء الزور – اجتماعيا واقتصاديا – أيام العثمانيين –عمر صليبي
