الصراع العثمانيّ – الصفويّ وانعكاساته على حركات الإسلام السياسيّ -2-
جميــل رشـــيد
جميــل رشـــيد
الدّين والمذهب ودورهما في الصراع:
في كتابه المهمّ “الفقيه والسلطان”، يؤكّد المؤرّخ اللبنانيّ وجيه كوثراني أنّ “الصراع الصفويّ – العثمانيّ كان صراعاً متكاملاً، وتضافرت في صنعه عوامل الجغرافيا والسياسة والاقتصاد، ولكن مع ذلك فإنّ وجهه المذهبيّ كان الوجه الأكثر بروزاً وشهرة”.
اتّجه الصفويّون إلى خلق هُويّة مذهبيّة خاصّة بهم، وكذلك عمل العثمانيّون على ذات الوتر، في مسعى الطرفين إلى شرعنة حكمهم والتوسّع والسيطرة على الأماكن المقدّسة لدى الشعوب المسلمة في المنطقة. فاتّخذ الصفويّون المذهب الاثنا عشري الشيعيّ، فيما تمسّك العثمانيّون بالمذهب السنّيّ واعتبر السلطان العثمانيّ نفسه ممثّلاً للسنّة في العالم الإسلاميّ، وهي الفرضيّة التي بَنَتْ عليها حركة الإخوان المسلمين فكرها وأيديولوجيّتها وتوجّهها فيما بعد، معتبرة أنّ إعادة أمجاد الإمبراطوريّة العثمانيّة؛ إنّما يُعدُّ نصراً للإسلام والمسلمين.
ديناميّة الخلاف المذهبيّ طغى على مسار الصراع بين الصفويّين والعثمانيّين وفي كافّة مراحله اللّاحقة، رغم أنّ جوهره هو الصراع على النّفوذ وفرض الهيمنة في المنطقة، الأمر الذي كانت له آثاره المدمّرة على شعوب المنطقة أجمع.
الانقسام الحاصل في المذهب؛ امتدّ بين شعوب وأقليّات رازحة تحت حكم الإمبراطوريّتين، رغم المقاومات العنيفة التي أبدتها تلك الشعوب ضدّ مساعي السيطرة، لكنّها جوبهت بحملات عنيفة من قبل كلا الطرفين وصلت حدّ الإبادة، كما حصل مع الإيزيديّين ضدّ الصفويّين، حيث فتك الشاه إسماعيل بالإيزيديّين عام 1507 في كردستان، فيما السلطان سليم اعترف بدورهم تحت قيادة زعيمهم (عزّ الدين) في المناطق الكرديّة بحلب، إلا أنّ صدور الفرمانات (القرارات) العديدة لاحقاً من قبل السلاطين العثمانيّين ووضعهم بين خيارين؛ إمّا الإبادة،، أو دخولهم الإسلام عنوةً، شكّل أكبر النزعات المذهبيّة السنّيّة لدى القادة العثمانيّين، ما دفع بالإيزيديين للانزواء جانباً والاحتماء في جبالهم الوعرة، درءاً من خطر الإمحاء. كما أجبر الفرس الكثيرين من أبناء جلدتهم على ترك المذهب السنّيّ، حسبما يذكر جودت القزويني في كتابه “المرجعيّة الدّينيّة العليا عند الشيعة الإماميّة”.
اشتدتّ الانقسامات المذهبيّة وزُجَّت به في أتّون الصراع بين الطرفين، وكأحد العوامل الرّئيسيّة لإدامته، فلجأ كلّ طرف إلى إبادة معتنقي المذهب المعارض لمذهب “الإمبراطوريّة” – إنّ صحّ التعبير – حيث ذَبَحَ السلطان سليم نحو 40 ألفاً من الشيعة في منطقة الأناضول، بحسب ما يذكره حسن روملو في كتابه “أحسن التّواريخ”.
ويذكر علي أكبر ذاكري في كتابه “المشهد الثّقافيّ الشيعيّ في العصر الصفويّ”، أنّ الدّولتين عملتا على إبقاء هذا الاختلاف المذهبيّ على أشدّه، لتتمكّنا من “تحريك عامّة الناس ضدّ الطرف الآخر ودحره”.
الانتقال من الخلافات المذهبيّة إلى إصدار فتاوي دمويّة:
تصاعدت وتيرة الشحن المذهبيّ بين الإمبراطوريّتين، وعلى أعلى المستويات، وصلت حدود صدور فتاوي دمويّة داعية إلى القضاء المبرم على الطرف الآخر. ويورد الباحث محمّد يسري في دراسة له عن “الصراع العثمانيّ – الصفويّ”، أنّه “في عام 1541، كتب أحد رجال الدّين العثمانيّين، ويُدعى حسين بن عبد الله الشرواني، رسالة بعنوان “الأحكام الدّينيّة في تكفير القزلباش”، أفتى فيها بجواز قتل الشيعة وتكفيرهم. ومما ورد فيها: “مَنْ قَتَلَ واحداً من هذه الطائفة الملعونة، فكأنّما قتل وغزا سبعين نفراً من أهل الحرب بل أكثر”. أمّا في زمن السلطان مراد الثالث، فقد أفتى الشيح نوح الحنفيّ بوجوب “قتل هؤلاء الأشرار الكفّار (يقصد الشيعة) تابوا أو لم يتوبوا”.
ويضيف “تلك الفتاوي ساهمت في تضييق الخناق على الشيعة الموجودين في الدّولة الصفويّة، وأيضاً في استهداف الشيعة المقيمين داخل حدود الدّولة العثمانيّة، فقُتِلَ العديد من علمائهم، من أمثال نور الله التستري، وزين الدّين بن علي الجبعي العامليّ، المُلقّب بالشهيد الثاني، بالإضافة إلى إرهاب جماعات الشيعة المقيمة في لبنان والقطيف والأناضول”.
لم يكن الوضع أفضلَ في الطرف المقابل، حيث عمد الصفويّون إلى استهداف رموز السنّة وعلمائهم، حيث قتلوا سيف الدين التفتازاني، شيخ الإسلام في مدينة (هُراة)، وعظّموا قبر “أبو لؤلؤة المجوسيّ” قاتل عمر بن الخطّاب وكذلك قبر هارون الرّشيد، وبدأوا بتكفير أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب إلى أن وصل بهم الغلوّ إلى اعتبار “كلّ من يحبّهم كافراً، وكلّ من يشكّ في كفرهم لعنة الله ورسوله عليه وعلى كلّ من يعتبرهم مسلمين، وعلى كلّ من لا يكفّ عن لعنهم”، إلا أن أصبحت المجاهرة بلعن وسبّ رموز المذهب السنّيّ في إيران أمراً مُباحاً وشائعاً، بل إنّ مَن تردّد في القيام به كان يعرّض نفسه للعقوبة والقتل، حسبما يذكر علي شريعتي في كتابه “التشيّع العلويّ والتشيّع الصفويّ”.
(القرا قوينلو) و(الآق قوينلو) ودورهما في إثارة الصراع:
تطوّرت الحركة القزلباشيّة (وهي تسمية تركيّة تعني ذوو الرؤوس الحمراء؛ حيث كانوا يضعون القبّعات الحمراء على رؤوسهم أثناء الحروب وغيرها أيضاً)، أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرّابع عشر، نحو التمذهب والاقتداء بالشيعة، وانتشرت في بلاد الشام بتأثير من الحركة الأردبيليّة في الإمبراطوريّة الصفويّة. فحدث، ولأوّل مرّة، انقسام في التوجّهات الدّينيّة و”التحوّل الجماعاتيّ”، حسب وصف الدّكتور محمّد جمال باروت في كتابه “الصراع العثمانيّ – الصفويّ وآثاره في الشيعيّة في شمال بلاد الشّام”.
انقسمت العشائر التركمانيّة القاطنة في مناطق الأناضول بين المذهبين السنّيّ والشيعيّ، فسميّت العشائر التي اتّخذت “السنّيّة” مذهباً لها بـ(الآق قوينلو)، وتلك التي اتّخذت المذهب الشيعيّ بـ(القرا قوينلو)، وهو ما ساهم إلى حدّ كبير في تأجيج الصراع بين الصفويّين والعثمانيّين. وفي مراحل عديدة انحصر الصراع في هيئة الاحتراب المذهبيّ بين الآق قوينلو والقرا قوينلو، مثلما حصل عندما احتدم الصراع على ديار بكر في زمن حسن بيك (السلطان أوزون لاحقاً).
ويرجّح العديد من الباحثين أسباب وجوهر الصراع بين الإمبراطوريّتين الصفويّة والعثمانيّة إلى السيطرة على طريق الحرير ومنافذ التّجارة العالميّة القادمة من الهند وعبر البحار وبلاد الشّام، معتبرين أنّ الخلافات المذهبيّة والتطييف الحاصل عبر كلّ مراحل الصراع، ما هي إلا محفّزات وعناصر ثانويّة أو هامشيّة، وأنّها ساهمت إلى حشد كلّ طرف قوّته ضدّ الآخر. فعندما كانت توقّع الاتّفاقات والهُدَن وتفتتح طرق التّجارة أمام بعضهما البعض، كانت حدّة الصراع تخفّ وتتراجع معها لهجة الخطاب التكفيريّ بين الطرفين، وهو نوع من الدِّبلوماسيّة المَرِنة التي لجأ إليها الطرفان، وخاصّة الصفويّون، في تغليب لغة المصالح على الانتماءات المذهبيّة والطائفيّة.
وفي هذا الإطار يعتبر الباحث (محمّد جمال باروت) أنّ “متغيّر الصراع السلطانيّ على طريق الحرير، بوصفه تكثّف خطّ التجارة الآسيويّة للوصول إلى المتوسّط فأوروبا عبر الأراضي العثمانيّة، قد حكم سائر المتغيّرات الأخرى في الصراع العثمانيّ الصفويّ طويل المدى، والذي كان قائماً بوضوح قبل نشوء السلطنة الصفويّة، لكنّه احتدم بشدّة بعد نشوئها، وشكّلت السيطرة على بلاد الشّام محوره الأساسيّ باعتبارها منطقة إستراتيجيّة كلّيّة لوصول طريق الحرير البرّيّة إلى البحر المتوسّط”.
شكّل خطّ (تبريز – ديار بكر) نقطة مفصليّة هامّة في سياق الصراع، حيث جاهد الطرفان في السيطرة على هذا الخطّ التّجاريّ الحيويّ، وهو ما كان يحرّكهما في شنّ حروب طحنت أرواح آلاف البشر. ويؤكّد (باروت) أنّ التّاريخ الموضوعيّ للصراع التركمانيّ الدّاخليّ بين (الآق قوينلو والقرا قوينلو) تمثّل في السيطرة على طريق الحرير (تبريز – ديار بكر) والتحكّم في طريق (ديار بكر – بورصة)، العاصمة الاقتصاديّة للسلطنة العثمانيّة، وأصبحت إمارة بني قرمان التابعة رسميّاً للمماليك، بعد سيطرة حسن بيك على سلطة الآق قوينلو، إمارة حاجزة بين العثمانيّين والآق قوينلو، وموضوعاً للصراع بين السلطنات الثلاث؛ الآق قوينلو والعثمانيّة والمملوكيّة.
وكان لظهور موالين للصفويّين في مناطق سيطرة العثمانيّين دور كبير في تقوية نفوذهم، وتجلّت في الحركات التي قادها القزلباش والقرا قوينلو وكذلك الحركات البكداشيّة (الباطنيّة) التي ظهرت كتحدٍّ كبير أمام الإمبراطوريّة العثمانيّة والسّلاطين العثمانيّين. في المقابل الحركات الصوفيّة مثل النقشبنديّة والكيلانيّة ولاحقاً النّوريّة، التي ظهرت في كردستان هي الأخرى غدت سنداً إيديولوجيّاً وطرائقيّاً تُجيز ما لا يستطع السلطان أن يَفتيَ به ليحكم قبضته على البلاد والعباد، فهي لعبت دوراً رجعيّاً إلى أبعد الحدود في تكريس سلطات الاحتلال العثمانيّ على كردستان والشعب الكرديّ.
يمكن القول بأنّه ظهرت في العالم الإسلاميّ، واستناداً إلى الشرخ المذهبيّ الحاصل، سنّتان؛ سنّة “سنّيّة” وأخرى “شيعيّة”، حسب ما يورد (باروت) في كتابه، وتوزّعت الولاءات بينهما على امتداد المنطقة، وظهر مفهوم “النّاس على دين ملوكهم” كفلسفة متّبعة من قبل الملوك والسّلاطين في الإمبراطوريّتين، معتبرين أيّ خروج عن طاعة السلطان، إنّما يعتبر كفراً وخروجاً عن طاعة الله، كما حصل مع الملّا خاطي أثناء محاصرة مير محمّد الرّاواندوزيّ الكرديّ، والملقّب بـ”ميري كور – أي الأمير الأعور” في قلعة “راواندوز” عندما أعلن تمرّده على السلطان العثمانيّ، فأفتى الملا خاطي بفتوة في صلاة الجمعة، قال فيها: “إنّ من يقاتل السلطان العثمانيّ وجيشَه فهو كافر ومرتدّ، ولا يملك من الشرف شيئاً”، فتركت حامية القلعة أسلحتها واستسلمت للجيش العثمانيّ، رغم عدم تمكّن العثمانيّين من اقتحامها لأشهر.
تمأسس المذهب ضمن (الإمبراطوريّة – الدّولة):
التطوّر الأبرز في مسار تحوّل العثمانيّين نحو التشدّد “السنّيّ” تجلّى في إنشاء منصب “شيخ الإسلام” كجهة فقهيّة وشرعيّة تُصدر الفتاوى الدّينيّة، وتُلزِمُ الكلّ الالتزام بها، وأنّ أيّ خروج عنها، إنّما يوجب القتل تحت مسمّيات وعناوين مختلفة.
في الطرف الآخر، كان استدعاء علماء الدّين الشيعة من مختلف مناطق توزّع القزلباش والفرق الشيعيّة، وكذلك في المناطق التي تقع تحت سيطرة الصفويّين، دور كبير في تقوية الخطاب “التطييفي” المعادي بين الطرفين، حسب وصف (باروت)، فلجأ الصفويّون إلى استقطاب علماء ومشايخ جبل عامل في لبنان، ومنحوهم مناصب في الإمبراطوريّة، لضمان ولائهم واستخدامهم في صراعهم مع العثمانيّين.
زاد دور المؤسّسة الفقهيّة العثمانيّة اعتباراً من أربعينيات القرن الخامس عشر، وارتفعت وتيرة الاعتماد عليها لتصل إلى مرحلة المأسسة في زمن السلطان سليمان القانونيّ (1520 – 1566).
ويصف الباحث (باروت) أنّ “الحرب الفقهيّة التي شنّها فقهاء “مشيخة الإسلام” العثمانيّة ضدّ القزلباشيّة والشيعيّة عموماً، المنتشرة في حلب وشمال بلاد الشّام، منذ العام 1510 تقريباً، كانت تمهيداً إيديولوجيّاً لمحاولة السيطرة العثمانيّة على شمال بلاد الشّام، التي تسبّبت في صراعات السلطنة مع المماليك طوال عهد بايزيد الثاني، ورافق تلك الحرب الفقهيّة التعبويّة منذ العام 1510 حرب نبوءات نشبت في مواجهتها حرب الرؤى العثمانيّة الصفويّة، التي تستند مرجعيّاً، في الميتافيزيقا التاريخانيّة الإسلاميّة، إلى التاريخ بوصفه تجسيداً للقدر”.
وغدا تكفير السنّة للشيعة، وكذلك الشيعة للسنّة عُرفاً وتقليداً في أوساط العامّة من الناس، وحرّموا التّبادل التّجاريّ بين الطرفين، حتّى وصلت إلى اختيار الشيعة لمساجد خاصّة بهم، وأضافوا هم من طرفهم جملة أخيرة على الأذان “عليٌّ وليُّ الله”، ما اعتبره فقهاء السنّة تكفيراً وخروجاً عن سنّة رسول الإسلام محمّد.
الإيغال أكثر في شحن الخلافات المذهبيّة والتطييفيّة، وصل إلى مستوى بات معه من الصعب ردم الهوّة بين الطرفين، رغم ظهور مرورها ببعض فترات التهدئة والسكون، كما حصل في زمن حكم بايزيد الثاني، ولكن سرعان ما كانت تلتهب تلك الصراعات ثانيةً، كالنّار تحت الرّماد بعد اعتلاء سلطان أو شاه متشدّد العرش، إن كان لدى العثمانيّين أو الصفويّين على حدٍّ سواء.
تحوّلت النزعة التطييفيّة لدى العثمانيّين والصفويّين من مجرّد اعتبارها عبادة، إلى ما يشبه “مذهباً وديناً للدّولة” وإسقاطها على مجمل مناحي الحياة، المعاملات التّجاريّة والفنّ والأدب والإبداع والفكر، ومن ثمّ لتصبح إيديولوجيّة متكاملة تُدين بها الدّولة، وجعلها معياراً تُقاس به كلّ الأعمال، لتحيط المجتمعات الخاضعة لسلطة الإمبراطوريّتين بأسوار من الحديد والنار، حيث كانت عاقبة كلّ من يودّ، ولمجرّد التفكير بالخروج عن تلك الإيديولوجيّتين كفراً يستوجب تنزيل أقسى العقوبات بصاحبها، لدرجة الذّبح. والأخطر في هذا التحوّل؛ انتقالها إلى مرحلة المأسسة القانونيّة في عهد كلّ من “سليمان القانونيّ وطهماسب”، وصدور تشريعات وأحكام فقهيّة من المشرّعين وشيوخ الإسلام لدى الطرفين، وإخضاع الفقهِ والمذهب لرغبات السلطنة، وأصبحت العلاقة بين الفقيهِ والسلطان محكومة بتنفيذ رغبات السلطان في التمجيد وشرعنة الاحتلال وتغليفه بطابع ومِسحَةٍ “دينيّة – مذهبيّة”، وحشد العوام للسير خلف فتاوي الفقيه، والتي هي في الأساس رغبات وأوامر وفرمانات السّلاطين. فأغلقت الأبواب أمام أيّ انفتاح فكريّ، بل على العكس تعرّض المفكّرون في كلتا الإمبراطوريّتين إلى حملات القمع والقتل والذّبح وأتلفت نتاجاتهم الفكريّة، وأخضعت المجتمعات بأكملها لفتاوي رجال الدّين “المتمذهبين والمتطيّفين”.
التحوّل من الدّعوة إلى الدّولة:
تزايد نفوذ رجالات الدّين والفقهاء وشيوخ الإسلام في الإمبراطوريّتين، العثمانيّة والصفويّة، واعتبرت الفتاوي الصادرة عنهم بمثابة صكوك غير قابلة للنقاش أو الردّ، لتغدو معها قوانين أبديّة غير قابلة للطعن فيها؛ لاستنادها إلى النظريّة الدّينيّة التي استطاع رجال الدّين المتطيّفين لوي عنقها لصالح الإمبراطوريّة.
وفي هذا الصدد يقول الباحث “باروت”: “في مقابل إرساء المؤسّسة الفقهيّة الحنفيّة العثمانيّة، سيشرع الصفويّون منذ عهد الشاه إسماعيل في تكوين مؤسّساتهم الفقهيّة الشيعيّة القائمة على السنّة “الشيعيّة” المقنّنة فقهيّاً، في مقابل العرفانيّة القزلباشيّة المتمركزة حول نور الدّين الكركي وعلماء جبل عامل، وسط صراع بين علماء الشيعة، حول شرعيّة العلاقة مع السلطان في عصر الغيبة الكبرى، معبّراً في ذلك عن مقتضيات الحاجة إلى الفقهاء في تنظيم التحوّل من الدّعوة إلى الدّولة. واستند إسماعيل الصفويّ على كتاب قواعد الإسلام للحسن بن يوسف المظهر الحلّي (1250-1326) ليتّخذه أساساً لاعتماد الشيعيّة الإماميّة مذهباً رسميّاً للسلطنة”.
إخضاع المذهبيّة لمنطق المصالح:
برز المنطق الرّئيسيّ الذي يقود الإمبراطوريّتين بشكل أكثر وضوحاً في اتّفاق أماسيا عام 1555، حيث غلبت لغة المصالح على الخلافات المذهبيّة، وحلّ التّوافق حول العديد من نقاط الخلاف بينهما، حيث قبل الإمبراطوريّة العثمانيّة، ولأوّل مرّة بالقزلباش واعتبرتهم مسلمين وفتحت أمام الشيعة طرق الحجّ إلى مكّة، مقابل فتح الصفويّين طرق التّجارة أمام العثمانيّين (طريق الحرير) في العراق ومضيق هرمز والوصول إلى الهند.
كما حاول الشاه إسماعيل الثاني (1576 – 1578) الحدّ من تقاليد السبّ والكراهية للسنّة وللصحابة، عبر إطلاق ما بات يُعرَف بـ” التسنّن الشيعيّ”، وهي طريقة جديدة ضمن المذاهب الشيعيّة السائدة والتي تكاثرت كالفطور في البيئة الخصبة التي وفّرتها الشاهنشاهيّة الصفويّة.
ذروة التوافق بين الإمبراطوريتين تجلّى في اتّفاق قصر شيرين عام 1639، وعلى حساب أراضي الكرد، كاتّفاقيّة بين دولتين وفق معايير دوليّة، لا تبالي بأيّ خلافات مذهبيّة بينهما، بل يحكمها منطق مصالح الدّول.
تواترت الخلافات المذهبيّة بين الإمبراطوريّتين، وليغدو السنّة مقابل الشيعة، مع تراجع الفتاوي المضادة في فترة حكم محمّد الرابع (1648 – 1687)، وتراجع دور العثمانيّين في الشرق، بعد سلسلة من الانتفاضات التي أطلقتها شعوب ومجتمعات ضدّها، ودخولها في مرحلة الجمود والانكماش الفكريّ والاقتصاديّ امتدّت حتّى القرن التّاسع عشر لتنتهي باندحارها في مطلع القرن العشرين، والتي كانت سبباً في رضوخها للضغوطات الصفويّة، ووصلت في عهد نادر شاه إلى فرض قبول المؤسّسة الفقهيّة العثمانيّة “المذهب الجعفريّ” كمذهب خامس بجانب المذاهب الإسلاميّة الأربعة.
تشييع “السنّة” وتسنين “الشيعة” وحفاظ الكرد على مذاهبهم:
إثر توطيد الأركان الفقهيّة والشرعيّة لمذهب “الإمبراطوريّة – الدّولة”، سعت كلتا الإمبراطوريّتين العثمانيّة والصفويّة إلى تغيير التركيبة الدّينيّة والمذهبية للجماعات التي تعيش في كنفهما، عبر سلسلة طويلة وأليمة من التغييرات وإجبارها للتحوّل مذهبيّاً واعتناق مذهب “الدّولة”، فشرع الصفويّون إلى تشييع جميع المجتمعات السنيّة ضمن أراضي حكمها، في المقابل بدأ العثمانيّون في “تسنين” الأغلبيّة الشيعيّة في بلاد الشّام، ودمّروا كلّ ما يمتّ بصلة للشيعة من أماكن العبادة وحسينيّات ومراقد تابعة لهم، حتّى باتت مصافحة الشيعيّ منبوذة، لتنقسم المجتمعات على نفسها وفق معادلة مذهبيّة غاية في التعقيد.
اللّافت في هذه المرحلة من عمليّة التحوّل القسريّ للمجتمعات والشعوب نحو مذهب “الدّولة”، أنّ الأكراد حافظوا، وإن نسبيّاً، على هُويّتهم المذهبيّة، عبر اعتناق القسم الخاضع لسلطة الصفويّين المذهب “السنّيّ”، مقابل تمسّك القسم المسيطر عليهم من قبل العثمانيّين بالمذهب “الشيعيّ – العلويّ” أو ما كان يسمّى حينها بالقزلباش، للحفاظ على هُويّتهم المذهبيّة وتجنّباً لعمليّات الصهر المذهبيّ والعرقيّ، وهذا ما يفسّر بقاء ولايات كرديّة بأكملها في القسم الذي تسيطر عليه تركيّا الآن على مذهبهم، مثل ديرسم وباطمان وقسم كبير من “ديار بكر – آمد”. بموازاة ذلك لجأ الإيزيديّون إلى الجبال الوعرة والمناطق النائية للحفاظ على تقاليد دينهم، رغم الحملات العديدة التي قادها الصفويّون والعثمانيّون لإبادتهم.
هل شكّلت العثمانيّة هُويّة خاصّة بها..؟
والسؤال الذي يُطرح؛ هل تمكّنت الإمبراطوريّة العثمانيّة من تشكيل هُويّة عثمانيّة جامعة لشعوب المنطقة؟
أعتقد أنّ الإجابة عليه تتطلب بحثاً مستفيضاً، لكن يمكن القول: لو أنّ تلك الهُويّة كانت ولدت وترسّخت في وعي الشعوب والمجتمعات، ولها حوامل ثقافيّة بينها، لدافعت عنها وفي مقدّمتها الأتراك، ولم تكن جماعة الاتّحاد والترقّي وعلى رأسهم مصطفى كمال أتاتورك قد شرعت للقضاء على كلّ الموروث العثمانيّ وقطع صلاته بالدّين الإسلاميّ، والانتقال إلى بناء دولة حديثة على الطراز الغربيّ، بل على النقيض من ذلك، فإنّ شعوب المنطقة عموماً مازالت تعاني من وطأة ذاك الميراث العثمانيّ المبنيّ على دماء وجماجم مكوّناتها، وعاشت خلال فترة 400 سنة من احتلالها للمنطقة في خواء فكريّ وتبلّد اجتماعيّ وموت سريريّ. ومن هنا يمكن استخلاص نتيجة مفادها؛ أنّ كلّ دعوة إلى إحياء تلك الهُويّة “الوهميّة”، إنّما يُراد بها إعادة الاحتلال بكلّ مسمّياته ومرتسماته.
في حين أنّ إيران لم تتمكّن هي الأخرى من بناء مرجعيّة شيعيّة موحِّدة، وانقسم الشيعة فيما بينهم إلى فرق ونحل عديدة، كلّ واحدة منها تزعم تمثيلها للمرجعيّة الحقّة وأنّها من سلالة آل البيت. ادّعت إيران تمثيلها للمذهب الشيعيّ بعد الثورة التي قادها الخمينيّ عام 1979 وإنشاء ما يسمّى بـ”ولاية الفقيه”، لكنّها لم تتمكّن من انتزاع المرجعيّة وحصرها بنفسها في مدينة “قُم”ّ، فمازالت الحوزات الدّينيّة في النّجف وكربلاء، تشكّلان المرجع الأوّل لهم.
استمرّ الخلاف بين القطبين المتصارعين على هذا المنوال عقديّاً حتّى بداية القرن العشرين وتفكّك وانهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة، ووقوع إيران التي ورثت أمجاد الدّولة الصفويّة في أحضان الدّول الغربيّة في زمن الشاه محمّد رضا بهلوي، فهدأت وطأة الصراع بينهما، وغاب الادّعاء العثمانيّ في تمثيله للعالم السنّيّ، بعد نشوء مرجعيّات عديدة، كالأزهر، واستحواذ آل سعود على لقب “خادم الحرمين الشريفين” بعد سيطرتهم على السّعوديّة التي نشأت إثر انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة إبّان الحرب العالميّة الأولى.
انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة ودعوات الإصلاح الدّينيّ:
مع انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة وانطلاق الثّورة العربيّة الكبرى، وبدء الزّحف الغربيّ نحو المنطقة، وبالأخصّ البريطانيّ والفرنسيّ والإيطاليّ، تعالت الأصوات المنادية بإيجاد البديل لملء الفراغ الذي تركه العثمانيّون في المنطقة، عبر مجموعة من المفكّرين جمعوا بين الدّعوة للإصلاح الدّينيّ وإعادة بناء المجتمعات على أسس جديدة. فظهر جمال الدّين الأفغاني ومحمّد عبده ومحمد رشيد رضا وعبد الرّحمن الكواكبيّ وغيرهم من دُعاة الإصلاح الدّينيّ. لكنّ الجامع بين معظم هؤلاء المفكّرين والمحدّثين هو الدّين، فقد رفضوا تحديث المجتمعات الشرقيّة، تحت شعار “رفض التبعيّة الغربيّة”، مدّعين أنّ إدخال المفاهيم والنظريّات الغربيّة إلى البلاد الإسلاميّة تضعف الدّين وتجعل شعوبَها تبتعد عنه. وقد ذكر محمّد عبده في كتاباته في صحيفة العروة الوثقى «إنّ العلاج الناجع لأسقام الدّول الإسلاميّة لن يكون في تعدّديّة الصحف، إذ أنّ لها قدراً يسيراً من التأثير، ولا في بناء المدارس وفق النموذج الأوروبيّ، إذ يمكن استخدام تلك المدارس والعلوم التي تُدرّس فيها لتعزيز التأثير الأجنبيّ، ولا في التعليم الأوروبيّ ومحاكاة العادات الأجنبيّة، إذ أنّ تلك المحاكاة لم تنجح سوى في إخماد روح النّاس وفرض سيطرة الأجانب على تلك الدّول، ومن ثمّ فالحلّ الوحيد لتك الأمم هو أن ترجع إلى أحكام دينها».
تلك الدّعوات الدّينيّة التي ترافقت مع الزّحف الغربيّ نحو بلدان الشرق المُنهكة والخارجة توّها من تحت نير الاحتلال العثمانيّ، والساعية نحو بناء دولها الوطنيّة، تلقّفتها دول الاستعمار الحديث، بعد أن بسطت انتدابها على دول المشرق، عبر السعي لإنشاء حركات دينيّة متشدّدة وسلفيّة، تناهض الحركات الوطنيّة وتعرقل مسيرتها، وأولى الحركات التي ظهرت للوجود كانت حركة الإخوان المسلمين في مصر وقبلها الحركة الوهّابية في الحجاز.