بولات جان
التمهيد
يتناول الكاتب في هذا البحث القبيلة من حيث هي الشكل الأقدم للتنظيم البشري في الشرق وأثرها على شكل العلاقات الفردية والجماعية والتفكير لدى كافة المجتمعات في الشرق حتى يومنا هذا تأثيرات العقلية القبلية مؤثرة جدا على معظم شعوب الشرق وتظهرا جليا في اشكال التنظيم والعلاقات الاسرية والسياسية والحكومية والإدارية ليبين بذلك العلاقة بين الحياة الحزبية والعقلية القبلية في مناطق الشرق الأوسط واثر ذلك على الحياة السياسية عامة ودور المجتمع في ممارسة السياسة والرقابة والعمل العام وتبيان ما ينجم عن منع تأسيس الأحزاب في بعض بلدان الشرق بوصفها جريمة واهانة واستغفالا بالعقول ما يتسبب في ضمور الحركات الحيوية في المجتمع ليقوم بعدها بمقارنة بين أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة على ضوء هذه العقلية القبلية حيث يرى بأن الأحزاب في الشرق تسعى بالدرجة الأولى الى الحكم فهي متشابهة في الكثير من النواحي وخاصة في مقارباتها للديمقراطية الحقيقية ودعاياتها التي تسعى من خلالها الى كسب الجماهير .ليكشف العقد والمشاكل البنيوية والأزمات المزمنة وازدواجية القول والفعل التي تعاني منها الأحزاب في الشرق الناجمة عن عقلية حزب القبيلة وقبيلة الحزب وما تمخض منها من حكومات استبدادية ودكتاتورية في الشرق واثرها على دور وعمل الأحزاب السياسية وحالة التخبط واللامسؤولية في تشكل الأحزاب دون وجود برامج واضحة واستراتيجية وأفكار خاصة بها لتدخلها في حال العطالة السياسيّة وفوضى تراكم الأحزاب وازدحامها وتشظّيها دون أيّ دواعٍ اجتماعيّة وسياسيّة وإستراتيجيّة .
ليخلص الى نتيجة أنّ الفوضى السياسيّة وتشتّت الأحزاب وحالة اللا استقرار، تشكّل الحاضنة التي تفرّخ الدّيكتاتوريّة والاستبداد والعقليّة المركزيّة في الشرق. والحال هذه؛ فإنّ الشرق ينتقل من فوضى الدّيكتاتوريّة إلى ديكتاتوريّة الفوضى.
–الحياة الحزبية والعقلية القبلية
تُعَدُّ القبيلة والقبليّة كأقدم شكل تنظيميّ وأوسعه انتشاراً وأكثره تأثيراً في الشرق على وجه العموم. ويمكن القول بأنّ القبليّة هي النواة التنظيميّة الأولى التي عرفتها البشريّة في الشرق الأوسط منذ أقدم العصور. والقبليّة مؤثّرة جدّاً على شكل العلاقات الفرديّة والجماعيّة والتفكير والولاء والحرب والالتزام لدى كافّة المجتمعات في الشرق، حتّى يومنا الرّاهن، رغم تراجعها التنظيميّ في بعض مناطق الشرق لصالح المدنيّة والدّين والأحزاب.
وللقبيلة إطارها التنظيميّ المحدَّد، والذي تتشابه فيه كلّ القبائل في الشرق، لا بل في كلّ العالم. وكأنّ كلّ القبائل تسير وفق برنامج عمل موحّدٍ وأنّ لها مانيفيستو خاص بها وتلتزم به، مع وجود اختلافات طفيفة هنا وهناك. كما أنّ للقبيلة قيمها وأخلاقها وعاداتها وأسسها الماديّة والمعنويّة والثقافيّة. وللقبيلة أيضاً مقارباتها الماليّة والاقتصاديّة، وكذلك سياساتها الخاصّة بها، كما لها قواعدها الصارمة جدّاً والتي لا يمكن لأحد الإخلال بها أو محاولة تحييدها أو المساس بجوهرها وحتّى شكلها وشكليّاتها. كما أنّ للقبيلة واجباتها الواضحة والصريحة تجاه كلّ الأفراد والأسر المنضوية تحت رايتها، وهي كثيراً ما تكون مؤلّفة من بطونٍ وأفخاذٍ عديدة ومترابطة فيما بينها بصلة القُربى ورابطة الدّم. أي أنّها من جدٍّ أو أبٍ مشترك، لذا فإنّ النظام القبليّ هو نظام بطريركيٌّ واضحُ المعالم.
لأفراد القبيلة واجباتهم المحدَّدة والصريحة تجاه القبيلة، وتجاه مصالح وشرف وعادات وأعراف القبيلة، وأهمّ من كلّ ذلك هو التزامهم وولاؤهم المطلق لرئاسة القبيلة و زعيمها.
الزّعيم أو رئيس القبيلة أو شيخها أو أميرها أو أيّة تسمية أخرى “الباشا، الآغا، السيّد، الخان، المير، البيك، الرّئيس، الشيخ…إلخ” يمثّل رأس الهرم، أو بالأحرى الهرم الطبقيّ الأعلى والأوحد ضمن القبيلة. فَلِكُلِّ قبيلَةٍ زعيمها الكبير، ولكلّ زعيم حاشية ومستشارون من وجهاء وسادة وأغنياء وشجعان القبيلة. زعماء القبيلة ووجهاؤها كثيراً ما يكونون من ذوي التجربة والخبرة والكاريزما والعُمُر الكبير. لذا، فإنّ الحكم أو القيادة في القبيلة تكون سلطة جينوقراطيَّة “سلطة العجائز”، بينما يكون دور القادة العسكريّين أو الفرسان منوطاً بالأقلّ عمراً من شباب القبيلة.
للشيخ أو رئيس القبيلة السلطة المطلقة بين أفراد القبيلة وبطونها، وعلى الجميع الالتزام التّام بقرارات وتوجيهات وأوامر الزّعيم. كما عليهم كيل المديح للزّعيم والتغنّي بشجاعته ومهاراته وفضائله. وكثيراً ما يرتبط اسم القبيلة باسم رئيسها وزعيمها، أو على الأقلّ باسم مؤسّسها وزعيمها الأوّل.
كثيراً ما تندلع حروب بين القبائل المختلفة. وتكون أسباب الصراع، إمّا النزاع على المرعى أو مصادر المياه أو الأراضي الزراعيّة أو المصالح التّجاريّة. وكثيراً ما تكون حروباً عبثيّة حول أسباب تافهة او مضحكة لا معنى أو مبرّر لها، كحرب البسوس التي استمرّت أربعين عاماً بسبب ناقة، وأحياناُ بسبب امرأة أو تطاول أحد من أبناء قبيلة ما على زعيم أو ابن زعيم أو إحدى فتيات القبيلة الأخرى. حينها تندلع أوّار الحرب الطاحنة بين القبائل وأحياناً تتحالف عدّة قبائل مختلفة في أحلافٍ دائمة أو مؤقّتة ضدّ بعضهم البعض.
في الصراعات القبليّة، العسكريّة منها والاجتماعيّة، تتحوّل القبائل المتخاصمة إلى أشبه بِفرقاء كرة القدم اليوم أو مشجّيعهم. فكلّ قبيلة تسخَرُ من القبيلة الأخرى، تسخَرُ من لباسهم وأسمائهم وفرسانهم وبناتهم ورئيسهم، وتُعيّرهم ببعض الهفوات والأخطاء و تلصق بهم الألقاب و النعوت السلبية.
كافّة الأفراد مُلزَمونَ باتّباع السياسة العامّة للقبيلة والسير وفق أوامر وقرارات الوجهاء والزّعيم، وأيّ خرقٍ أو إخلالٍ بذلك، قد يؤدّي إلى الغضب القبليّ وقد ينتهي بالطرد أو حتّى القتل.
وفي حال اندلاع الخلافات الداخلية بين الوجهاء أو أبناء العمومة أو الأخوة في الزعامة وعلى الرّئاسة، فإنّ النتيجة دائماً تكون بالانشقاق وانقسام القبيلة إلى قبيلتين مختلفتين، وربّما معاديتين ومتحاربتين لعقود من الزمن. لذا نرى حتّى يومنا هذا أنّ أكثر القبائل المتخاصمة والمتعادية هي القبائل التي انقسمت من قبيلة واحدة.
يكون الولاء الأعلى للأفراد في القبيلة هو للقبيلة، لذلك فإنّ القبيلة تعيق الكثير من الشعوب عن التحوّل إلى الحالة الوطنيّة أو القوميّة. فالتحوّل القوميّ والوطنيّ بحاجة إلى تجاوز لمفهوم القبليّة والولاء القبليّ إلى ما وراء أو بعد القبليّ. فالشعوب التي تكون القبليّة فيها قويّة ومتجذّرة، فإنّ الولاء الوطنيّ أو القوميّ يكون ضعيفاً. ففي أفغانستان وكردستان والبلدان العربيّة، وخاصّة الخليجيّة منها، تكون القبليّة أكثر تأثيراً من الولاء الوطنيّ والقوميّ. التأثيرات القبليّة القويّة عند بعض شعوب الشرق كانت السبب الرّئيسيّ في تأخّر تحوّلها الوطنيّ والقوميّ.
مازالت حتّى يومنا الرّاهن تأثيرات العقليّة القبليّة مؤثّرة جدّاً على معظم شعوب الشرق، وهذه التأثيرات تظهر جليّاً في أشكال التنظيم والعلاقات الأسريَّة والسياسة والحكوميّة والإداريّة. لذا؛ فإنّ هناك علاقة وثيقة بين الحياة الحزبيّة والعقليّة القبليّة في الكثير من المناطق في الشرق، وخاصّة في الأردنّ ومصر وسوريّا والعراق وإيران وتركيّا، وطبعاً في دول الخليج “رغم انعدام الحياة الحزبيّة في الكثير من هذه البلدان”، ولا ننسى كردستان واليمن وليبيا …إلخ.
يُعدُّ الحزب تنظيماً سياسيّاُ عمليَّاً، وأداة للوصول إلى الأهداف المرجوّة من قبل أصحابه. وهو يمثّل مصالح فئة أو شريحة أو طبقة أو مذهب أو منطقة أو لإثنيّة أو قوميّة ما. والحزب يمثّل الجزء من الكلّ، وقد يكون الجزء كبيراً أو صغيراً، ولكنّه يمثّل جزءاً وليس كلّاً. أي ليس هنالك أحزاب تستطيع أن تمثّل لوحدها إقليماً بكامله على أرض الواقع حتّى ولو كان يدَّعي ذَلِكَ نظريَّاً. وليس بمقدور حزب ما تمثيل أمّة أو قوميّة أو شريحة ما بأكملها لوحده. لذا، فمن الطبيعيّ وجود العديد من الأحزاب في البلد أو الإقليم أو ضمن الطبقة الواحدة. فكما لا يمكن التفكير بمجتمع ذي لون واحد فقط، دون تناقضات وأنّه متجانس تماماً، كذلك لا يمكن بمقدور حزب أو تنظيم سياسيّ ما تمثيل ذلك المجتمع بأكمله، دون منازع ودون معارضة أو استقطاب واستبعاد.
كما لا يمكن التفكير بمجتمع أو شريحة أو فئة ما لا تجد في نفسها الحاجة إلى تنظيم نفسها ضمن منظّمة، جمعيّة، حزب، مؤسّسة، مؤتمر، اتّحاد أو أيّة منظّمة اجتماعيّة، سياسيّة وثقافيّة. فمن واجب المجتمع أن يكون صاحب الكلمة الفصل في الحياة بكلّ تفاصيلها وتنويعاتها ومناحيها. فالمجتمع ملزمٌ بممارسة السياسة والرّقابة والعمل العام. لذا، فإنّ منع تأسيس الأحزاب أو عدم وجود الأحزاب في بعض بلدان الشرق، تُعدُّ جريمة وإهانة واستِغفالاً بِالعُقولِ ما يَتَسَبَّبُ في ضمور الحركات الحيويّة في المجتمع. كما أنّ أنظمة الحزب الواحد “كما كانت عليه الحال في تركيّا الكماليّة حتّى خمسينات القرن الماضي، وفي عراق صدّام حسين وفي سوريّا والعديد من البلدان الأخرى، تُعدُّ جريمة كبرى، وهي في الوقت نفسه تمثّل ذروة الديكتاتوريّة والنمطيّة وفرض اللون والنمط والشكل الواحد في الاعتقاد والتفكير والممارسة على الناس جميعاً.
الحزب هو أداة تنفيذيّة لأجل تحقيق مصالح فئة أو شريحة أو طبقة أو منطقة أو قوميّة ما من القوميّات في ضمان حقّها في الممارسة العمليّة العامّة، وحماية مكاسبها وتطبيق إستراتيجيّتها والدّعاية لإيديولوجيّتها وعقيدتها بين الجماهير.
فالحزب ليس هدفاً ولا مقدّساً ولا ألوهيّاً لا يمكن تغييره أو المساس به أو انتقاده أو مراجعته، بل هو مجرّد وسيلة وأداة لتحقيق المصالح والأهداف فقط.
والحزب ليس الأداة والوسيلة الوحيدة لممارسة المجتمع لحقّه السياسيّ والمشاركة في خلق الضغط أو توجيه الرّأي العام، أو المشاركة في الحكم والإدارة، أو حماية حقوقه وخصوصيّاته، فهنالك النقابات والاتّحادات والتعاونيّات والجمعيّات والمبادرات والتّحالفات والمجالس واللّجان والهيئات، وهي جميعاً شكل من أشكال التنظيم الاجتماعيّ الذي من خلالها تستطيع المجتمعات والأفرادُ العَمَلَ والتنظيم وفق ميولهم وعقائدهم واحتياجاتهم وأهدافهم وظروفهم ومساعيهم. ولكن هذا النوع من التَّنظيماتِ قَليلٌ جدّاً في الشرق، أو بالأحرى خامل غير ذات فاعليّة، وكثيراً ما تكون صوَريّة شكليّة لا دور لها. فالشرق يعتقد بأنّ الطريقة الوحيدة لممارسة السياسة والنشاط العام يمرّ فقط عبر الأحزاب والبرلمانات والوزارات.
تسعى الأحزاب في الشرق بالدّرجة الأولى إلى الحكم، ماعدا بعض الأحزاب القوميّة التي تناضل لأجل نيل الحقوق القوميّة كمرحلة أولى من عملها الحزبيّ “مثل الأحزاب الكرديّة والأمازيغيّة والفلسطينيّة والبلوشيّة”. أحزاب السلطة والمعارضة في الشرق كثيراً ما تكون متشابهة في الكثير من النواحي، وخاصّة في مقارباتها للدّيمقراطيّة الحقيقيّة ودعاياتها التي تسعى من خلالها إلى كسب الجماهير؛ بهدف الاستفادة منها في الانتخابات. فالأحزاب في الشرق لا ترى في الجماهير سوى مستودعات للأعضاء الجُدُد والأصوات الانتخابيّة وقوّة ضغط تنافس بها خصومها.
الأحزاب في الشرق تحمل الكثير من العُقَد والمشاكل البنيويّة والأزمات المزمنة، وكذلك تعاني من الازدواجيّة بين القول والفعل، بين الظاهر والمستورَ، بين أقوالها قبل الانتخابات وبعدها، بين مقارباتها أثناء وجودها في المعارضة وتقلّبها بعد الوصول إلى سدّة الحكم. كما أنّ الأحزاب، ورغم مزاعمها بتمثيل مصالح أكبر عدد ممكن من الشرائح الاجتماعيّة، إلا أنّها في الحقيقة لا تخدم سوى النخبة المسيطرة على الحزب، وما الخلافات الدّائمة بين قادة ومؤسّسي الأحزاب الأوائل وانشقاقاتهم وصراعاتهم وتصفية بعضهم البعض؛ إلا البرهان الساطع على هذه الحقيقة الجوهريّة.
الأحزاب في الشرق وخاصّة فروعها و ممثلياتها في الأرياف والمناطق الدّاخليّة، متأثّرة بشكل كبير بالحالة والمزاج والعقليّة القبليّة. ففي حال وضعتَ الحزب تحت المجهر من الناحية التنظيميّة والفكريّة والإداريّة، فإنّك تجد قبيلة كاملة تحت مسمّى “الحزب”، ويكاد المرء يخطئ إن كانت القبائل قد تحوّلت إلى أحزاب أم أنّ الأحزاب قد غدت قبائل.
هنالك بعض القبائل تؤسّس لنفسها حزباً سياسيّاً، ويبقى الحزب حِكراً على القبيلة أو جزءاً منها، فيكون رئيس القبيلة رئيساً للحزب أو أمينها العام، ويكون الوجهاء وأبناء الأغنياء هم أعضاء المجلس المركزيّ للحزب، حينها لا يبقى هنالك أيّ اختلاف أو انفصام بين الحالة الحزبيّة والحالة القبليّة. فالحزب يكون التجسيد السياسيّ للقبيلة، والقبيلة تكون التجسيد التنظيميّ والجماهيري للحزب.
هنالك أحزابٌ عامّة متحالفة مع عدّة قبائل وتأخذ الثقل القبليّ بالحُسبان. فكثيراً ما نجد بأنّ القبيلة أو قسماً كبيراً منها يتبعون الزّعيم “القبليّ” للانضمام إلى الحزب الفلانيّ، وفي حال انشقّ الزّعيم عن ذلك الحزب وانتقل إلى حزب آخر؛ فإنّ كلّ القبيلة أو معظمها تحذو حذوه. وكثيراً ما تنتظم القبائل المتخاصمة ضمن الأحزاب المتخاصمة، فينعكس الخصام القبليّ والحزبيّ بشكل تلقائيّ على أرض الواقع، في ممارسات و خِطاب تلك الأحزاب.
لم تتخلّص الأحزاب الشرقيّة بشكل عام من التأثير القبليّ القويّ على العقليّة الشرقيّة، حتّى أنّ الكثير من الأحزاب اليساريّة والشيوعيّة في الشرق لم تخرج من هذه الدّائرة. فما معنى أن يتمّ توريث قادة ورؤساء الأحزاب الشيوعيّة الرّئاسة من الأب إلى الابن أو إلى للأخ أو الزوجة؟! في مجال التوريث، ليس هناك اختلاف كثير بين الأحزاب والإمارات والممالك المختلفة في الشرق.
فكما أنّ رئيس القبيلة يكون سيّداً مطلقاً وموضع مدحِ وافتخارِ القبيلة؛ فإنّ رئيس الحزب أيضاً يتحوّل إلى كائن معصوم عن الخطأ و شبه مقدس، فَهُوَ صاحب كرامات وقُدُرات عظيمة ومعجزات كبيرة. كما لا يمكن لأحد الاعتراض على الرّئيس ولا انتقاده أو منافسته. كما أنّ أهل وآل بيت الرّئيس وعائلة الرّئيس القبليّ والحزبيّ كيانانِ مُتَشابِهَين. فرئيس الحزب هو شرف وكرامة وعنوان فخرِ واعتزاز الحزب / القبيلة. الولاء المطلق له، ويتمّ التغنّي به، وله تُقرض الأشعار، وله تُكال المدائح، وهذه تعبّر عن علامات الالتزام الحزبيّ وطريقاً أمام الأعضاء للترفيع وعلوّ مرتبتهم. فالتقرّب من زعيم القبيلة أو الحزب هو أفضل وأسرع طريق للوصول إلى الدّرجات العليا ضمن الحزب، وبالتالي ضمن أجهزة الحكم.
كما في القبيلة تكون الأولويّة لأقارب الزّعيم في الوجاهة والسلطة والنّفوذ، كذلك في الحزب، فتكون الأفضليّة والأولويّة في السلطة ومناصبها للأقارب. فنجد أخوة وأبناء وبنات وأعمام عمومة وأخوال الرّئيس يتمتّعون بالحصانة والنّفوذ والغنى والفرص الكبيرة في الحزب والسلطة والدّولة. كما أنّ الرّئيس يعتمد على أخوته وأبنائه وأصهاره وأقاربه في المناصب والرّتب المهمّة والحسّاسة وخاصّة في الوظائف الماليّة والاستخباراتيّة والعسكريّة. عائلة القذّافي والأسد ومخلوف والتكريتي والبارزانيّ وبكداش وغيرهم أمثلة بارزة على هذا المنحى من العصبيّة القبليّة الحزبيّة في الشرق.
فرئيس وزعيم الحزب يكون الأغنى والأكثر مالاً وامتلاكاً للعقارات والسيّارات والشركات والمصالح، لأنّه يرى نفسه الأحقّ بذلك من الجميع، وغالباً ما يكون الزّعيم هو من الطبقات العليا ومن أصحاب الرّأسمال والإقطاعات. وكما لا يمكن لأحد إقالة رئيس القبيلة، كذلك لا يمكن إقالة رئيس الحزب إلا بشقّ الأنفس. فرئيس الحزب غالباً ما يكون مؤسّس الحزب أو أحد المؤسّسين، وهو يعتبر الحزب تابعاً ومُلكَهُ، وهو الرّأس الذي لا يمكن التفكير بالجسد بدونه. نادراً ما نرى استقالة أحد رؤساء الأحزاب في الشرق. فهنالك رؤساء أحزاب بقوا لعقود من الزمن في رئاسة الحزب حتّى الممات. فما معنى أن يبقى شخص في رئاسة حزب طيلة ستّة عقود؟ ففي الشرق لا يتخلّى رئيس الحزب عن الكرسيّ إلا بالموت أو الاغتيال، حتّى وإن كان الحزب لا يمثّل سوى دكّانة أو مكتب لا دور فعليّ له. فكيف سنفكّر بأن يتخلّى الرّؤساء والمستبدّون عن كرسيّ الحكم في الدّول والممالك؟ وهنا ندرك مرض السلطة المزمن في الأحزاب الشرقيّة. فرئيس الحزب مستعدٌّ كأيّ مستبدٍّ شرقيّ آخر التضحية بكلّ رفاقه ومقرّبيه في سبيل الحفاظ على كرسيّ الرّئاسة لنفسه، وكافّة الشخصيّات التي تسعى أو تحلُم بالوصول إلى كرسيّ رئاسة الحزب، ليس أمامها سوى تشكيل كُتلَةٍ خاصَّة والانشقاق عن الحزب الأمّ وتأسيس حِزبٍ خاصّ؛ حتّى يغدو هو الرّئيس بلا منازعٍ ويبقى الحزب القديم لرئيسه القديم. وغالباً ما تكون هذه الانشقاقات مغلّفة بخلافات فكريّة أو عقائديّة، أو بسبب بيانٍ أو موقفٍ. و لكن الحقيقة هو خلافات سلطوية و صراعات أنانية صرفة.
فما معنى أن ينشطر حزب يساريٌّ في تركيّا إلى أكثر من خمسين حزب مجهريّ؟ وما معنى وجود حوالي خمسين حزب و حُزيب كرديّ في سوريّا؟ وما معنى انشطار الأحزاب الشيوعيّة في سوريّا والعراق إلى عشرات الأحزاب؟
لا تَمتَلِكُ الأَحزابُ في الشرق آليّات ديمقراطيّة داخليّة. فعلى الرّغم من وجود البرامج السياسيّة والأنظمة الدّاخليّة والمؤتمرات الدّوريّة والمكاتب السياسيّة، إلا أنّها شكليّة ويتوقّف تطبيقها على مزاج الرّئيس أو القادة عموماً. وغالباً ما تكون الانتخابات الدّاخليّة شكليّة، وقوائم المرشّحين تكون جاهزة قبل الانتخابات، وحتّى أسماء الفائزين تكون محسومَةً من قبل الرّئيس وحاشيته وأصحاب الثقل في الحزب.
كما أنّ الأحزاب الشرقيّة عموماً تُصادِرُ حرّيّة الرّأي وحقّ التعبير من أعضائها. غالبيّة الأعضاء الحزبيّين في الشرق يكونون فاقدي الإرادة وضعيفي الشخصيّة، ومعرّضون للتقريع والنقد اللاذع والمساءلة وحتّى السّوق إلى لجان الانضباط والمحاكمات الحزبيّة. فلكلّ حزب آلة ردع وترهيب تُمارسُها على أعضائه، وتخضعهم للقولبة والنمطيّة والتحوّل إلى نماذج متشابهة شكلاً وجوهراً، بحسب طلب ورغبة واحتياجات الحزب.
العلاقات بين الأحزاب المختلفة في الشرق، هي حالة مشوِّهةٌ ومضِرّةٌ بالصحّة الاجتماعيّة والأخلاقيّة. فجميع هذه الصراعات والمخاصمات بين الأحزاب المختلفة تؤذي الإرادة الحرّة للمجتمع وتُلِحقُ أشدّ الضرر بالحياة السياسيّة وتجفّف التنوّع وحقّ الاختلاف في المجتمع.
عموماً الأحزاب في الشرق مشَوَّهة وشكليّة وبعيدة كلّ البعد عن الشكل والأطر السليمة للأحزاب العصريّة. تشوّهات الأحزاب تؤدّي إلى التشوّه السياسيّ باضطّراد دائم في المنطقة.
[1] مقتطف من كتاب في نَقْد العقلِ الشرقيِّ – بولات جان – قيد الطبع