طالب إبراهيم
استعمل النظام السوري كما الدول الإقليمية والدولية، الهويات السورية في حرب النفوذ على سوريا. صراع نفوذ، تمكنت القوى المتصارعة فيه بكل تفان ونشاط، من خلق حالة فوضى ودمار، في إطار جغرافي محدود، يفوق ما تعرض له أي بلد، في الفترة الممتدة بعد الحرب العالمية الثانية وفق مقارنة لهيئة الأمم المتحدة.
تصارعت الهويات المسلمة فيما بينها، مثلما تصارعت مع هويات الأقليات. وتصارعت الهويات القومية المتواجدة منذ مئات السنين سوية في دائرة جغرافية واحدة.
صراع الـ «نحن» ضد الخونة. صراع الايمان ضد الكفر. صراع المسلمين ضد الكفار، صراع العرب ضد الكرد. صراع المكونات ضد المكونات. صراعات ظهرت فيه الهويات السورية باعتبارها متناقضة ومتناحرة، على أنها جوهر الصراع، وغاب الجوهر الحقيقي، وهو الصراع على سوريا كمناطق نفوذ ومصالح.
تغيرت خارطة التحالفات فجأة، تركيا الصديق الإسلامي للنظام السوري، تحولّت في فترة زمنية قياسية لتصبح العدو الاخواني الأول له. وتحوّلت قطر من داعم مادي ومعنوي لمحور المقاومة، إلى ممول رئيسي في الحرب ضده.
ضاعت حدود سايكس بيكو السورية، في الفترة التي يصرّ فيها أصحاب القومي الاجتماعي على هوية سوريا الطبيعية والتي تمتد حتى قبرص. وفي الفترة التي يزاود البعثيون عليهم فيها، لتمتد هويتهم من جزيرتي طنب الكبرى والصغرى في المحيط الشرقي إلى جزيرتي سبتة ومليلة في المحيط الغربي.
تنازل شيوعيو سوريا عن هويتهم الأممية، لصالح هويات سياسية مستحدثة مؤقتة، أظهرت تفاوتاً كبيراً في مواقفهم، والتي تناثرت على مساحات واسعة ومتناقضة، امتدت بين دعم تنظيمي داعش والنصرة الإرهابيين ضمنيّاً وعمليّاً، تحت عنوان كوميدي، يعتبر أن العتبة الرئيسية في بناء سوريا القادمة، سيكون من خلال كسر النظام الأمني والعسكري أولاً، بغض النظر عن حامل عملية الكسر هذه، وصولاً إلى دعم النظام السوري تحت عنوان عريض هو «المواجهة الحتمية مع الامبريالية العالمية» التي بدأت عملياً مع تاريخ ثورة اكتوبر البلشفية.
يتشابه معهم اسلاميو سوريا من حيث تنازلهم عن هويتهم الإسلامية لصالح عديد كبير من الانقسامات، وعديد كبير من الانتماءات والولاءات وحنوهم إلى عديد من التواريخ مع عدة كبيرة من البدايات، بداية الدعوة الاسلامية، بداية الفتح الاسلامي، بداية الانشقاق الاسلامي، وبدايات حدّيّة في التاريخ كتواريخ تشكيل أقليات وأكثريات.
تقاسمت المجموعات السورية الإسلامية منها والشيوعية والقومية، في تقديم ولاءاتها على مجموعة من الدول التي تدير عجلة الأزمة السورية.
مجموعات إسلامية وشيوعية وقومية تدين بالولاء لأمريكا، ومثلها من حيث التكوين لكن ولاءها لروسيا. مجموعات أخرى قدمت الطاعة لتركيا وايران واسرائيل. وبين هذه الولاءات الرئيسية تنطحت مجموعات أخرى لتدين بالولاء لمن هم دون مستوى في إدارة الأزمة السورية. واحتفظ النظام السوري أيضاً بمجموعاته المتنوعة والمتناقضة لتبرير مشاركته أيضاً في إدارة الأزمة.
تنازل الإسلاميون عن هويتهم الإسلامية، لصالح أجندة اقليمية ذات عنوان اسلامي، وتلاقحت تنظيمات اسلامية مع تيارات يسارية، لتنفيذ أجندة استخبارية ضاعت فيها العقيدة في دهاليز النفعية. في ظل تفوق نظرية «الواقع الملموس» الذي يبرر الوسائل «الضرورة» للوصول نحو الهدف المنشود.
عجز النظام السوري عن بناء هوية سورية وطنية جامعة، خلال مسيرة حكمه الطويلة. وعجز عن بناء دولة بمفهومها الحديث. ومفردة «عجز» تحمل معنى «عدم رغبة» أيضاً.
استعمل النظام السوري الهويات السورية في الجهة التي توطد حكمه فقط، عبر تنافسها فيما بينها، وصراعها ضمن حدود السيطرة.
إذا كانت الدولة هي قوة توحيد وهندسة للهويات المختلفة ضمن حدودها، أو كانت نظاماً معيارياً مؤسّساً لأنماط من الهوية والهوية الوطنية. أو كانت قوة إكراه تجبر المجموع على التوحيد إذا أرادت أن تعبر عن هوية جامعة. فقد كانت السلطة السورية هي أجهزة القمع والعنف فقط، ولم تشهد من تلك الصفات التي تميز الدولة إلا تفصيل إكراه الهويات، وإجبارها على التغيير. تفصيل تطويع الهويات وتطويع رجالاتها، وفرض هويات جديدة على كل هوية، وتشتيت الكل، لتثبيت أركان النظام السياسي والمخابراتي القائم.
بعد الفتوى الشهيرة لرجل الدين الشيعي موسى الصدر، حول شيعية الطائفة العلوية، وبالتالي اسلاميتها، لإضفاء طابع شرعي على استلام الأسد للرئاسة، تماشياً مع الدستور السوري المتعامل به في ذاك الحين، والذي ينص على تحديد ديانة الرئيس السوري. حاول الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، إضفاء طابع سني على الطائفة العلوية، للتقرب ما أمكن من الأكثرية السورية. معتمداً فيها على طاعة العديد من شيوخ الطائفة العلوية المشهورين، قبل أن يحاول الرئيس السوري الحالي بشار الأسد إضفاء طابع شيعي عليها، خدمة للمصالح المشتركة مع ايران.
بين محاولتي تسنين الطائفة العلوية وتشييعها، غاب الكثير من تفاصيل طقوسها التاريخية وعاداتها، لمصلحة طقوس تتناسب مع حاجات السلطة السياسية والمخابراتية. وتلوثت هويتها الدينية بطابع سياسي نفعي، لمصلحة هوية جديدة لها، تتناسب مع طموحات النظام الأمني والعسكري.
لم تسلم هويات الأقليات الأخرى من عبث السلطة أيضاً، ومحاولات تغيير البنى الداخلية لها، وإضفاء طابع تبعي عبر استعمال شخصيات وتيارات مهمة ضمن كل أقلية. لينتج بالنهاية هويات نفعية جديدة للأقليات القديمة.
وعبثت السلطة أيضاً بالطائفة السّنّية عبر تدوير زوايا الطائفة، وتطويع بعض من أمهر قياداتها الدينية وتطويع تابعيها، ومعاقبة المعترضين بأقسى العقوبات. ونشر التخلف والتعصب عبر عملائه فيها من رجالاتها ورجالاته. خاصة بعد حربه مع الاخوان المسلمين.
في فترة حكم البعث الأولى كان معيار تحديد القيادات في مفاصل النظام السوري، هو الانتماء العقائدي والتنظيمي، حتى حرب 1979-1982 بين تنظيم الاخوان المسلمين الإرهابي والنظام السوري الديكتاتوري. فيما بعد تغيرت معايير اختيار قيادات النظام الأمنية والعسكرية. وظهرت الهوية العلوية في أركان النظام الأساسية، لتكون جيش الثقة الذي يحتاجه في تثبيت حكمه.
يتحمل النظام السوري المسؤولية كاملة عن حالة الانقسام والتشظي التي يعاني منها المجتمع السوري. ويتحمل أيضاً المسؤولية عن حالة التفسخ المعرفي والمجتمعي. ويتحمل مسؤولية وجود الكثير من المجموعات المتناقضة من المعارضات، والتي اهتمت بتقديم الذاتي على الجمعي، والآني على الاستراتيجي.
إن حالة القمع الطويلة التي اعتمدها خلال سني حكمه الطويلة أرهقت المعارضة، وأرهقت المجتمع، وأفرزت في النهاية مجتمعاً بدائياً مشلولاً، عبر عن شلله وبدائيته دائماً، وتركز تعبيره عن نفسه خلال سنين الحرب الطويلة.
ما يميز السلطة الحاكمة في سوريا، يميز الكثير من سلطات الحكم في بلدان العالم الثالث. تشابهات تشير إلى مدرسة واحدة تلقى منها حكامنا دروس الحكم في القمع والتدجين وتشويه المبادئ والهويات.
لكن التاريخ يحمل في طياته دائما التفاؤل حتى في أحلك ساعات التشاؤم. تظهر نواة حقيقية لسوريا الجديدة القادمة، نواة في شرق وشمال سوريا. تحاول وفق الإمكانيات الذاتية والموضوعية، بناء هوية جامعة للمنطقة، رغم كل المطبات والانتكاسات. نواة ثورة حقيقية حاملها الإدارة الذاتية. نواة في مراحلها الأولى، المراحل الصعبة والخطيرة والمصيرية. والتي تحتاج إلى تضافر جهود كثيرة ومتنوعة.
نواة سوريا الحقيقية التي تزيل ترهل المجتمع، وتشوه هوياته، وتشظي معارضاته، وعنف النظام وعملائه.