جوان عجكمواضيع أخرى

الأحزابُ الإسلامية المتشددة “اشتباكات مع الحداثة – بيئة مغلقة تعرقل الحلّ في الشرق الأوسط وتأجج الصراع السني/الشيعي”-1-

جوان عجك

جوان عجك

جوان عجك
جوان عجك

تسعى هذه الورقةُ إلى تقديم مقاربة لنشأة الحركات الجهادية عموماً، تختلفُ عمّا هو سائدٌ في الأدبيات العربية والغربية، التي عادة ما تربطُ دوافع نشأة هذه الحركات بالعودة إلى الماضي ونماذج الحكم التي كانت سائدة في القرون الوسطى، مع عدم إنكار الدور الذي لعبته تلك الفترة وقبلها بكثير من تحضير البنية الفكرية الخصبة لنشوء تلك التوجهات المتشددة، حيث تفترض الورقة أنّ مصطلحَ «الدولة الإسلامية» التي نشأت لأجلها جميعُ الحركات الجهادية وغيرها، إما نشأ في إطار الاشتباك الإسلامي مع الحداثة والدولة الحديثة. وعليه, فإن الحركاتِ الجهادية والتنظيمات الإسلامية التي تلقفت هذا المصطلحَ، وكأنه مقابلٌ مضاد للدولة الحديثة، أنتجت مشروعاً في سياق الحداثة والدولة الحديثة، يختلف جذريا عما تصبو له, وقد برز ذلك عياناً في تجارب نسميها مجازاً «دولتيه» كما هي الحال مع تجربة «طالبان» في أفغانستان, وتجربة «داعش» حاليا, وتجربة «الإخوان المسلمين» في مصر كأبرز الحركات من التيار السني, دون أن ننسى الحركات والأحزاب الجهادية في التيار الشيعي «حزب الله» وغيره من التنظيمات والتيارات التي نشأت خلال الفترة الماضية من كلا التيارين.

إن تحديدَ مسار الورقة ونقطة الانطلاق واختيار النظر من هذه الزاوية والرؤية للتنظيمات الجهادية, قد يسمحُ في رسم مسارٍ تفاعلي يتجاوز الأحكام المجردة والمفاهيم النظرية المحضرة والجاهزة مسبقا عن تلك المجموعات، لذلك ارتأينا التركيز على العوامل السيسيولوجية والسيكولوجية لقيام تلك المجموعات, والتركيز أيضاً على عوامل غياب الدولة ودورها في نشوء أغلب تلك الحركات في العصر الحديث قد يسمح لنا ذلك في تكوين وعي مختلف لا بالنظر إلى تلك المجموعات على أنها وحدة مجردة تنتهي بمجرد القضاء عليها، فهناك مجموعة من العوامل منها بنيتها الفكرية وتراثها الكثيف والزاخر في الأفكار والاجتهادات والشخصيات التي مهّدت الأرضيةَ الخصبة لقيام تلك الكيانات.

عوامل أخرى لا يمكن تجاهلها أدت- نتيجة تركها الفراغ- الدور الوظيفي الذي يجب أن تلعبه في نشوء تلك التيارات, والتي أصبحت معرقلة لأي تطور لحلول ممكنة في الشرق الأوسط، بل وساهمت في تأجيج الصراع بين التوجهين « السني / الشيعي « في المنطقة بسبب حربها الضروس بين بعضها البعض.

ما تحاول الورقةُ تسليطَ الضوء عليه أيضا هو النقاط المشتركة بين تلك المجموعات, والتركيز على البنية الإيديولوجية والرمزية للتنظيمات، ورسم نقاط الاختلاف بينها وبين بعض المجموعات ذات التوجه «الإسلامي السياسي», الإخوان المسلمون والتي تعتبر في نظر البعض أقل تطرفاً وراديكالية وتشدداً من المجموعات الجهادية الأخرى, ثم سنقوم بتسليط الضوء على الجماعات الجهادية ذات التوجه الشيعي، كمقابل مشابه من حيث الفكر والإيديولوجية للمجموعات الجهادية السنية البارزة بالتركيز على «حزب الله» وتوجهه الفكري تحديداً المَهدوي الجهادي.

المحور الأول

تمهيد

بعد سقوط الموصل اعتلى أبو بكر البغدادي- أمير تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام- منبرَ المسجد الكبير في مدينة الموصل وأعلن قيامَ الدولة الإسلامية، ونصّب نفسه «خليفة» للمسلمين، داعياً الناس إلى التجهيز لتثبيت ركائز الدولة المبتغاة، وماوصفه بالحلم الذي طال انتظاره منذ سقوط الخلافة الإسلامية.

أمام هول الصدمة لهذا الإعلان، والذي كسر حينها رتابة النظام الدولي الحديث المؤسس على معاهدة وستفاليا 1648, لم يك لدى الحكومات الغربية المهووسة بحرب كونية ضد الإرهاب من خيارات لتفسير صعود تنظيم أصولي أشد عنفا من سابقيه إلا العودة إلى القرون الوسطى، زمان ما قبل الحداثة والدولة الحديثة.

نشر «كيفن ماكدونالد» في صحيفة الغارديان البريطانية مقالاً بعنوان «جهاديو داعش ليسوا قروسطيين – لقد تشكلوا أو تأثروا بفلسفة الحداثة الغربية»، ذلك المقال وغيره نسف فيه الطروحات والمعالجات الرائجة غربياً عن الحركات الجهادية عموما، وتنظيم «داعش» خصوصاً. وما زاد الطين بلة في النقاش المحتدم حول المقال وصاحبه آنذاك، عبارة افتتاحية دعا فيها ماكدونالد إلى فهم أيديولوجية «داعش» وعنفه هو وغيره من التنظيمات انطلاقاً من الثورة الفرنسية.

لا تنبع أهمية طرح ماكدونالد من غرابته, فهو واحدٌ من أصوات كثيرة في الأكاديمية الغربية مثل جون غري صاحب كتاب «القاعدة ومعنى أن تكون حداثويا»، وألفييه روا «الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة»، وأنطونيو نغري ومايكل هاردت في كتابهما المشترك «الإمبراطورية», وزيغمونت باومان في كتابه «الحداثة السائلة»، قاربت المسألة الجهادية ونشوء الحركات العنيفة «الحركات الانفجارية» باعتبارها رد فعل متوقع وطبيعي على مشروع الحداثة الغربية وتوظيفاتها الكولونيا لية، خاصة في مرحلة العولمة والهيمنة الأمريكية.

لكن ما يميز طرح ماكدونالد هو اعتماده مقاربة شمولية تنطلق من مفهوم الحداثة وأفكارها ومرتكزاتها وصيرورتها وتجلياتها لإثبات أن الجهادية المعاصرة وتمثيلاتها الإجرائية الأخيرة على رأسها «داعش»

لا تعد ظاهرة قديمة تعود إلى العصور الوسطى، كما أنها ليست رد فعل على الحداثة ومفرزاتها، وإنما هي ظاهرة حداثية بحتة، نشأت في كنفها واستلهمت مفاهيمها وتطبيقاتها وتماهت مع صيرورتها، مع أنها- أي الحركات الجهادية- روجت لنفسها على أنها مشروع مقاومة للحداثة وبديل ماضوي من مشروعها الدولتي الحديث.

يحفّز الطرح السابق على إعادة التفكير في الظاهرة الجهادية المعاصرة لتكون أحد أطروحات الورقة من حيث ارتباط تلك المجموعات وعلاقتها بالحداثة من ناحية وتوضيح اشتباك المفاهيم في جوانب مختلفة وخاصة في الجزئية المتعلقة بمفهوم الدولة واستقراء نشأة الحركات الجهادية وطروحاتها في إطار تفاعلي مع الدولة الحديثة، لتبرهن أن الخطاب الماضوي لهذه الحركات الداعي إلى إعادة الخلافة الإسلامية يمثل إيديولوجية خطابية لضرورات الحشد والتجنيد والتعبئة أكثر مما هو مشروع حقيقي تنشد الوصول إليه.

سوف نبدأ من هذا البعد وتأثيراته ودوره في تشكيل وفهم المجموعات الجهادية قبل الانتقال لبعد آخر في العمق يرتبط بطبيعة تلك المجموعات، لنحاول التحليل على ضوء أكبر عدد ممكن من المعطيات والعوامل التي ترسم لنا تصورات أكثر وضوحاً عن معضلات تلك المجموعات.

الحداثة وما بعدها: تعريفات وإشكالات

ينطوي مصطلح الحداثة على تعريفات متعددة لا يمكن حصرها، ولكنها في العموم تشير إلى ثلاثة مفاهيم : المفهوم الزمني والمفهوم العلمي والمفهوم الفلسفي, يرتبط المفهوم الزمني في ما هو جديد في مقابل القديم، ويرتبط المفهوم العلمي بمرادفات مثل إبداع وتقنية وتطور, أما المفهوم الفلسفي فهو إشكالي, يتباين باختلاف المفكرين والمنظرين والمدارس فهي تغيير من أجل التغيير وثورة مستمرة لا تنتهي ونفي مستمر وتجديد. يمكن القول إن الحداثة قامت على ثلاث أسس هي : محورية الإنسان, العقلانية, والحركة وقانون التطور العام في الوجود.

ولكن يبقى مشروعها الأهم هو الدولة الحديثة، أو الدولة القومية والتي قامت على أربع مبادئ هي:

_ شمولية العقل ومرجعيته حيث يمثل قاسما مشتركا بين البشر، وقد مثلت هذه المقولة تحديا للكنيسة بعد أن كانت في العصور السالفة المرجع الوحيد في سائر الشؤون الدينية والدنيوية.

_ الحق الطبيعي حيث الإنسان يمتلك منذ ولادته الحرية بجوانبها المختلفة.

_ العقد الاجتماعي الذي نشأ لتنظيم الحق الطبيعي في الحرية.

_ الحقوق الفردية تعتمد على المبادئ الثلاثة السابقة، وتنص على حقوق الأفراد وحريتهم ومصالحهم في القوانين.

وبحسب نقاد الحداثة، فإن التفكير العقلاني «الأدائي» والتطور التكنولوجي أوجدا هيمنة شاملة على البشرية، برزت في عتمتها أنظمة شمولية وتسلطية وفاشية قيدت حرية الإنسان، وأنتجت مآزق هوياتيه وحضارية ساهمت بدورها في بزوغ أصولية دينية جديدة، وبهذا المعنى، تطورت الحداثة ضد ذاتها وأضحى مشروعها الراهن يواجه ثلاث نقائص على الأقل مهمة هي:

_ مشكلات ناجمة عن مشروع التقدم والرأسمالية والنزعة التصنيعية التي خلفت الفقر والجوع والمرض.

_ تفكك البنى العضوية الاجتماعية الأسرية في ظل رأسمالية الدولة، وهو ما كون فردا مغتربا ونرجسيا.

_ الآثار الكارثية لمشروع التحديث على العالم الطبيعي الذي نعيش فيه، والذي انعكست تبعاته على الفلسفة والعلوم الاجتماعية والسياسية.

الاشتباك الإسلامي مع الحداثة والدولة الحديثة

يقول الفيلسوف الألماني كارل شميت في مقالته «اللاهوت السياسي» حيث جرى «علمنة» جميع المفاهيم اللاهوتية في الدولة الحديثة، فاستبدلت سيادة الله بسيادة الشعب وحلّ الدستورُ مكان الكتاب المقدس والمواطنةُ مكان إخوة الدين وعوضت قداسة الوطن قداسة الكنيسة وغيّب العلم الشعار الديني، ولم تعد التراتيل الكنسية تدبّ الحماسة في نفوس المواطنين كما تفعل كلمات النشيد الوطني.

وبتوصيف آخر ومختصر، أعلنت الدولة الحديثة « ألوهيتها « في تدبير أمور البشر وتسيير أمورهم.

تأسيسا على ما سبق، صاغ وائل حلاق أطروحته حول الدولة الإسلامية «المستحيلة»، إذ ميز بين الدولة الحديثة القائمة على قواعد عقلانية بحتة، وماسماه «نظام الحكم الإسلامي» ليس فقط في السياق التاريخي، بل أيضا في الأسس الأخلاقية والقانونية والسياسية والاجتماعية، ففي الحكم الإسلامي تحل الجماعة «الأمة» محل الشعب، ويسود قانون «الشريعة» محل القانون الوضعي.

وإذا كانت تنظيمات «الخلافة» قد بدأت الاشتباك الإسلامي مع الحداثة، فإن الاشتباك تعمّق بشكل أكبر بعد إلغاء ما كان ظاهريا «خلافة» العثمانيين في سنة 1924, هذا الحدث أنشأ لا هوتا مقدساً جديدا في الفكر الإسلامي هو «لاهوت الخلافة». وبزغت في الفترة الممتدة من عشرينيات القرن الماضي وخمسينياته نزعة دينية إحيائية تفاوتت بشكلها وطبيعتها ولكنها تلاقت على فكرة «الجامعة الإسلامية» واستعادة الخلافة.

تعد تلك المجموعات مثالاً شارحاً للمأزق الهوياتي الناجم عن غياب / تغييب الخلافة. إن ظهور تيار «الصحوة الإسلامية» كان بداية مرحلة جديدة نسميها «أسلمة الدولة الحديثة» مرحلة استندت على أفكار أبو الأعلى الماوردي بشأن الحاكمية, والتي اعتمدها السيد قطب وغدت من بعده العنوان الرئيسي لطروحات حركات الإسلام السياسي. لا يمكن إغفال الدور أيضاً عن الذي خلّفه قيام الدولة السعودية كدولة حديثة ذات بعد إيديولوجي وهابي, والأثر الذي أحدثته الثورة الدستورية الإيرانية على إمكانية التوفيق بين الماضوي والحداثوي في نفوس الحركات الإسلامية.

أسلمة الدولة الحديثة

إن فكرة إحياء الخلافة واستعادتها وتحكيم الشريعة في أي بقعة جغرافية كانت أولوية في فكر الإخوان المسلمين، فالإسلام على ما يقول مؤسسها حسن البنا هو «عبادة وقيادة، دين ودولة، روحانية وعمل، صلاة وجهاد، وطاعة وحكم، ومصحف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر»، انطوت دعوة البنا بشكل صريح على بُعد شمولي يمكن تلمّسه في توصيف البنا لدعوة الحركة بأنها « دعوة سلفية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية «.

حاول أيضاً «المودوي» التفسير في كتابه «الخلافة والملك» (الحاكمية) من منظور قانوني كلي وجزئي لإعطاء تفسيرات إجرائية تختلف عن التفسير الفقهي التقليدي، ذلك أن الحديثَ عن الدولة وتبيان نشأتها وخصائصها وصفاتها هو ما كان يؤرق المودوي الذي سعى عبر « الحاكمية « إلى إلباسها لباساً إسلاميا يجعل الشريعة قانونها الأعلى، أي حاول تجاوز أدبيات التراث الإسلامي السائدة عن الإمامة والخلافة والاستخلاف التي تعطي للملك صلاحيات دينية ودنيوية شبه مطلقة.

لكن تفكيرَ المودوي ومقاربته الشمولية لدور الشريعة في الدولة دفع بعض الباحثين إلى اعتبار نموذج الدولة الإسلامية لديه أقرب إلى نموذج الدولة الشيوعية, دولة بإيديولوجيا شاملة ونمط حكم محدد لا يختلف في آلياته, وحتى مصطلحاته ومفاهيمه, عن تلك الموجودة في الدولة الحديثة تأسيساً على اللمحات السابقة، فإن مصطلح «حاكمية الله» مثّل في السياق العربي الإسلامي ما بعد سقوط الخلافة مجموعة جديدة من التحويرات لمفاهيم من ملازمات «الدولة الحديثة» وبهذا المعنى كانت فكرة الحاكمية محاولة لأسلمة الدولة الحديثة, أو إعادة الإنتاج الإسلامي للدولة الحديثة بنمطها التوليتاري.

يرى ماكدونالد بأن فهم المودوي للدولة الإسلامية يتشكل من الأفكار والمفاهيم الغربية، كونه ينطلق من مفاهيم متداولة في الإسلام وغيره من الديانات عن أن الله هو الحاكم المطلق للأفراد وله السيادة المطلقة وأن القوانين التي تحكم العالم الطبيعي هي إرادة الرب، وهي مفاهيم كانت حاضرة في الثورة العلمية التي شهدها القرن السابع عشر التي أسست لنظام وستفاليا 1648, لذلك إذا أغفلنا السياق الذي تبلور فيه مصطلح «حاكمية الله» فإنه يبدو كإعادة صوغ لمفهوم الدولة الحديثة، ولكن بلغة إسلامية.

الأسلمة في مقابل العلمنة

أفرز الفكر السياسي الإسلامي في سياق اشتباكه مع مفهوم الدولة الحديثة، أربعة أصوات ونماذج رئيسية للدولة الإسلامية «المتخيلة» اختلفت فيما بينها عن الإجابة عن سؤال محوري، من هو المسؤول والمخول بمسألة تعريف الشريعة الإسلامية وتطبيقها:

_ تصوّر المودوي «الحاكمية» حيث السيادة لله في شريعته الواضحة، وتنحصر مهمة الحاكم والأمة والعلماء في تطبيقها.

_ تصور سلطوي «الوهابية» يحصر المسؤولية في الإمام، ومن بعده طبقة العلماء، ويستثني الأمة.

_ تصور شبه ثيوقراطي يمنح العلماء الدور الرئيسي. وقد تبلور هذا التصور في المذهب الشيعي وبالتحديد مع الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية، وكان هذا التصور ينظر إلى الدولة بعين الريبة على اعتبار أن «الإمام المعصوم المغيب» هو المؤهل بقيادتها وفي غيبته تسحب الشرعية عن النظام السياسي والحاكم، ولإدارة الدولة في غياب الإمام طرح الخميني فكرة «ولاية الفقيه» بحيث يتولى الفقهاء الحكم بشكل مباشر باعتبارهم نواب مؤقتين حتى عودة الإمام المغيب.

_ تصور يسمى ديمقراطي برز في العقود الأخيرة يخول الأمة اجتراح التعريف والتطبيق اللازم عبر توكيل الحاكم المنتخب بذلك، بعد التشاور مع العلماء.

مع أن بعض الطروحات عن الدولة الإسلامية يتطابق مع الدولة الحديثة في شكلها وبنيتها وكيفية إدارة السلطة فيها, كما هي الحال مع مصطلح «الدولة المدنية» فإن تصور الدولة الإسلامية المستند إلى فكرة الحاكمية, والذي يشكل الإطار النظري المرجعي للإسلام السياسي الحركي بعمومه والحركات الجهادية على وجه الخصوص, يروج على أنه النقيض أو المقابل للدولة الحديثة, وإذا كان «براديغم» «الدولة الإسلامية» قد صيغت كما أوضحنا في سياق الحداثة والدولة الحديثة, فما الذي دفع الحركات الإسلامية إلى الوقوف موقفا مناهضاً للحداثة وتمثيلاتها الإجرائية؟ ولماذا انشغلت هذه الحركات بتصدير مشروعها الدولتي ضمن ثنائية إما / أو باعتبار الإسلام والحداثة ضدان لا يلتقيان، وكذلك الحال بالنسبة للدولة الإسلامية والدولة الحديثة؟ ولماذا تفوقت أطروحات الجاهلية والتكفير على الأطروحات التوفيقية؟ هل يتعلق الأمر بحالة الحنين إلى الماضي والتقليد والتراث التي عاشتها الحركات الإسلامية ويحياها الجهاديون اليوم، وبالتالي عدم القدرة على الدخول في كنف الحداثة، أم أن الأخيرة لم تسمح لهم دخول عالمها، ودفعتهم إلى مناهضتها والانقلاب عليها، خاصة بعد أن أضحت المشروع الطاغي عالميا؟

في محاولتنا الإجابة عن الأسئلة السابقة، لا يمكن تجاهل دور جماعة الإخوان المسلمين في تشكيل مذهبية سياسية دينية حاولت تعويض غياب الخلافة بمشروع آخر معاد للدولة الحديثة هو «الدولة الإسلامية» ومن ثم المحاولة في بناء نظام إسلامي شامل يقطع مع ما هو قائم بشكل كامل ومطلق. ما لبثت هذه «المذهبية» وما أحاط بها من متعلقات، وخاصة أفكار السيد قطب عن الجاهلية وتكفير المجتمعات بعد أن عمت المجتمعات عبر حركات جهادية محلية نشأت من رحم جماعة الإخوان المسلمين وحاولت فرض تغيير بأساليب جديدة ورفعت شعارات هدم الدولة القومية واستبدالها بالدولة الإسلامية كالجماعة المقاتلة في مصر والطليعة المقاتلة في سوريا، ولا شك أن هاتين الحركتين أفرزتا أبرز القيادات «أيمن الظواهري، أبو مصعب الزرقاوي..» التي نظرت لاحقا للجهاد العالمي باعتباره مشروعا سياسيا إسلاميا عالميا ضد الحداثة باعتبارها مشروعا غربيا «مسيحيا» عالميا.

يسلط الباحث الفرنسي «أوليفييه روا» الضوء على هذه المسألة في تناوله علاقة الديني بالحداثة, ويرى أن عودة الديني المتمثلة بالإسلام السياسي والحركات الجهادية الراهنة لا يمكن أن تكون احتجاجا أو رد فعل على حداثة مستلبة أو وهمية وإنما هي شكل مختلف للدخول في الحداثة, فالعلمنة التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالحداثة والدولة الحديثة أجبرت الأديان على الانفصال عن الواقع والاستقلال عن السيادة السائدة, ومن ثم إعادة بناء ذاتها في فضاء منفصل لم يعد خاضعاً لهذه الثقافة إن لم يكن نقيضها سياسيا, بناء عليه, فإن فشلَ الديني السياسي النابع من أنه أراد منافسة العلمنة في ميدانها الخاص : الفضاء السياسي «أمة، دولة، مواطن، دستور، نظام قانوني» وبهذا المعنى ثمة علامة طردية بين العلمنة كمشروع سياسي وفكري للحداثة وبروز الديني من دون أن يكون الأخير رد فعل على العلمنة, وإنما مجرد تقليد مضاد أو استعارة لنموذج الخصم, الأمر الذي دفع روا إلى اعتبار أن مسعى الأسلمة في الراهن لا يمكن أن يكون إلا انطلاقا من تيارات أصولية جديدة تحاول أن تقيم دينا جديدا ولا ترغب في العودة إلى ممارسات دينية وسلفية مهجورة, فغايتها الرئيسية إثبات الذات أمام الحداثة والعلمنة, ولكن بشروطها.

إن الدولة الإسلامية مشروعٌ حديث التكوّن ظهر نتيجة عوامل أهمها ثلاث: التجريف الاستعماري للثقافة التقليدية وأعراف المجتمعات، وسوء حظ المجتمعات مع الدولة الوطنية في مرحلتها العسكرية والأمنية، وقدرة الإسلاميين في تحويل المفاهيم بحيث صارت السلطة الدينية مختلفة في المفهوم والتطبيق.

الجهادية المعاصرة

فشلُ الجهادية المحلية في إسقاط الأنظمة وهدمُ الدولة الحديثة وإحلال الدولة الإسلامية مكانها، جعلها تجترح الجهادية المعاصرة اليوم ضمن مفهوم «الجهاد التضامني» عنواناً للتجربة الأفغانية إبان الغزو السوفياتي، وانصبّ اهتمامهم على تشكيل رابطة جهادية عالمية. كانت هذه الخطوة اللبنة الأولى في بناء مفهوم عالمي للجهاد ليتجاوز مسألة هدف إقامة دولة إسلامية أو يتجاهله مرحلياً، فالتجربة الأفغانية زاوجت أول مرة بين الجهاديين القطبيين والجهاديين الوهابيين الذين عاشوا في نموذج دولتي وحداثي في آن معا هو السعودية، ونجم عن هذا التزاوج ما نسميه اليوم «السلفية الجهادية» التي تدمج المنهج الحركي لسيد قطب والتراث الفقهي للدعوة الوهابية.

طردُ السوفييت أتاح للحركات الجهادية لأول مرة فرصةَ إقامة الدولة الإسلامية وفق نموذجهم المتخيل، فجاء إعلانُ إمارة طالبان الإسلامية عام 1996.

المفارقة أن هذه الإمارةَ عكست في بنيتها وتفاعلاتها الاشتباك ووشائج الصلة بين نموذجي الدولة الحديثة والإسلامية, فكانت دولة للأفغان المسلمين وحدهم لا للمسلمين عامة كما هو حال نظام الخلافة, وظل الجهاديون العرب ظاهرةً غريبة معزولة عن تفاعلات هذه الدولة, ولم يستطيعوا الاندماج بل عاشوا على حوافها. من جهة أخرى كانت إمارة أفغانستان ذات حدود واضحة كما هي حال معظم الدول الحديثة، وتبادلت البعثات الدبلوماسية مع دول استنادا على القانون الدولي الحديث، ولم تختلف النظم الإدارية التنظيمية فيها عن الدول الحديثة إلا بنقطة واحدة أنها لم تعترف في سيادة الأمة ولم تكتب دستورا, وإنما اعتمدت على الشريعة الإسلامية قانوناً كليا.

حفزت تجربةُ أفغانستان الإسلامية الجهاديين على إعادة طرح فكرة الدولة الإسلامية داخل أوطانهم، فكان هذا الشعارُ المطلبَ الأساسي للتيار الصحوي في السعودية. ولما رفضت الأسرة الحاكمة التجاوب مع مطالبه، أعلن «تكفيرها» داعياً إلى إقامة دولة إسلامية في شبه الجزيرة العربية. المفارقة أن هذا التيارَ توصّل في تخارجه مع الجهادية العربية والأفغانية إلى اقتناع مؤداه أن إقامة الدولة الإسلامية تحصيلٌ حاصل لمعركة أكبر وأوسع مع من يساهم في تثبت بقاء الأنظمة الاستبدادية، ويسعى إلى الهيمنة على العالم عبر العولمة بأشكالها المختلفة، ثقافية وسياسية واقتصادية. وبهذا الطرح، وضعت السلفية الجهادية نفسها في نقاشات مرحلة ما بعد الكولونيا ليه حول الذات والآخر، وهي نقاشات حداثية أو «ما بعد حداثية» محضة ترتكز بشكل رئيسي على البعد الهوياتي أو سياسات الهوية.

يشير «باومان» إلى دور الحداثة في تشكيل ما سماه الجماعات الانفجارية في عصر العولمة, ومحاولتها إعادة إنتاج تقاليد جديدة داخل المجتمعات تحت عناوين التحرر, مع فارق بسيط يتمثل في أن التحرر في زمن الحداثة وما بعدها يعني الاستسلام للنخبة المسيطرة, وبانهيار المجتمع تحت وطأة هذا الاستسلام تستحدث على ما يقول إريك هوبزباوم « هوية جديدة تمثل مشروع حياة يشبه نسخ العناصر البالية من القومية « ويقوم هذا المشروع على ثنائية نحن أو هم في الإطار الحضاري، وهو ما يولد جماعات انفجارية تتسم بأنها شرسة وهائجة وسافكة للدماء وذات قدرة كبيرة كامنة على ارتكاب الإبادة.

الدولة من جديد

من حيث النتائج، لم يكن الجهاد العالمي أفضل حالاً من التجارب الجهادية المحلية التي سبقته. إذ مثّلَ الغزو الأميركي لأفعانستان تحدياً كبيرا بالنسبة لتنظيم القاعدة حرمه الملذات الآمنة, وللتكيف اجترح التنظيم استراتيجية جديدة تقوم على إنشاء فروع إقليمية للتنظيم في بلدان إسلامية مختلفة معيداً الجهاد إلى أولوياته في قتال العدو الأقرب «الأنظمة» من أجل إقامة دولة إسلامية, ولكن على أساس هوياتي فرعي لا على أساس ديني, فعلى سبيل المثال أحدث تنظيم الدولة في العراق قطيعة مع أدبيات الجهاد المعولم وركز على البعد الهوياتي «السني – الشيعي» بمحاولة لإنتاج بيئة ورابطة دينية يمكن توظيفها سياسياً لإيجاد موطئ قدم في تفاعلات البيئتين الاجتماعية والسياسية داخل العراق.

أدركَ التنظيمُ أن الدولة لا تبنى على أساس شعارات كبرى بل على عصبية فرعية توفر له حاضنة مجتمعية تحميه وقت الشدائد، وقد استحضر هذه الفكرة من كتاب إدارة التوحش: أخطر مرحلة تمر بها الأمة، لأبو بكر ناجي، الذي استقى بدوره أفكار النشوء للدول وكيفية الفناء الحضاري من أدبيات عدة منها ما هو إسلامي «المودوي، ابن خلدون» ومنها ما هو غربي حداثوي «الجماعة المؤلفة كبديل عن القومية».

نشأ داعـــش على أســاس عصبية قبلية ما قبل دولتيه بهدف إيجاد مكان له ضمن العصبيات القبلية المنتشرة في العراق بداية. ومن ثم بدأ عملية صهر جماعي لهذه العصبيات، وأنتج عصبية جديدة سياسية – طائفية عراقية / سنية ليشبه في نشأته نماذج دولتيه حداثية  جمعت القبيلة مع الدين  أو العرق مع الطائفة.

ربما يجادل بعضُهم أن داعــش ركّز- في جميع نسخه دولة العراق الإسلامية، الدولة الإسلامية في العراق والشام- على الرابطة الدينية بدليل طلب البغدادي من المسلمين الهجرة إلى دولته وإنشاء ولايات خارجية في كل من سوريا واليمن وليبيا، لا رابط بينها إلا رابطة الدين. لكن إذا ما أغفلنا الطبيعة التضامنية المحفزة للبيعات الخارجية والتي تكشف الأيام وهنَ الرابط التنظيمي والفكري بين الفروع الجديدة والتنظيم الأصل في العراق، وإن عدنا لنماذج حكم إسلامية سابقة لوجدنا أنها صحيح تعلو من الرابط الديني إلا أنها حرصت على حفظ التنوع والاختلاف، ولم تلجأ إلى عملية صهر جماعي للمخالفين. وعاش في كنف الحكم الإسلامي كثير من الأقوام «ترك، شركس، أكراد، آشوريين»، والطوائف «اسماعيلية، شيعة اثنا عشرية، بهائية، علوية، اسماعيلية، درزية..» أما دولة «داعش»، فلا يمكن المخالف أن يكون ذمياً يدفع الجزية أو يحتفظ بخصوصيته العرقية، بل يستباح ماله وعرضه وبدنه.

سعى داعش إلى إنتاج رابطة ولاء صلبة في المناطق الخاضعة لسلطته؛ رابطة تجعل المرء ذا انتماء داعــشــي دون أي انتماء مغاير. وبمعنى آخــر، لم تكن دولــة داعــش إسلامية أو دولــة المسلمين وإنما دولة الدواعش المسلمين. دولة تقوم على رابطة ولاء سياسية شبيهة بـرابطة المواطنة الحداثية ولكن بتصور مجتزأ ومشوه. وهذا ما جعل ماكدونالد لا يفرق بين عنف داعش وأيديولوجيته وعنف الثورة الفرنسية وأيديولوجيتها إذ لا وجود لأي فرد خارج الدولة والرابطة التي تفرضها. وبناء عليه لا يمثل الإسلام في دولة داعش رابطة جمعية بمقدار ما يشكل أيديولوجيا شمولية توفر التبرير والمظلومية والبعد الخلاصي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى