الأزمةُ السوريّةُ وآفاق الحلّ
دلشاد مراد
دلشاد مراد
إن أيّ متابع للواقع السوري الراهن سرعانَ ما سيلحظ وجود حالة معقدة من التدخلات والصراعات الإقليمية والدولية عليها، وهو ما يؤثر على حل الأزمة الجارية، وبالتالي على مستقبل الكيان السوري ككل.
إن الأزمة السورية الجارية ليست وليدة عام 2011م الذي بدأت فيه حركة الاحتجاجات الشعبية في معظم مناطق البلاد، بل إنها نتاج البنية الأيديولوجية والإدارية لنظام حزب البعث الذي يحكم سوريا منذ العام 1963م، والذي أخذ طابعاً استبدادياً ألقى بظلاله على كافة الجوانب المتعلقة بحياة المواطن السوري، وهو ما ولد احتقاناً لدى قطاع واسع من السوريين نتيجة الممارسات اللاديمقراطية من قبل نظام البعث على عموم المكونات والشعوب القاطنة في البلاد، والذي أدى بالنهاية إلى اندلاع حركة احتجاجات واسعة النطاق في معظم المناطق، سرعان ما طغت عليها النزعة الطائفية المتطرفة بتحريض وتشجيع من الأنظمة الدولية والإقليمية على حد سواء.
ـ جذور وأسباب الأزمة السورية:
كان ظهورُ الدولة السورية في العام 1920م وليدَ الاتفاقات بين دولتي فرنسا وبريطانيا اللتين احتلتا مناطق الشرق الأوسط خلال الربع الأول من القرن العشرين، إذ عملتا على تشتيت الشعوب وتقسيم أوطانهم ضمن دول اصطناعية جديدة، فدمجوا جزءاً من وطن الكرد مع جزء من أراض عشائرية عربية وجزء من أراض يقطنها الطائفة العلوية وأخرى درزية مع مناطق عربية سنية كثيفة، مع وجود شعوب أخرى في مناطق عديدة كالسريان وغيرهم، لينشئوا دولة باسم سوريا.
وقد أثر ظهور الدولة السورية بهذا النموذج المعقد من القوميات والطوائف – بدون أخذ إرادتهم الحرة في دمج مناطقهم بالكيان الجديد – فيما بعد في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد، وكان ذلك سبباً لظهور صراع طائفي على سدة الحكم ، ولاسيما أن كل الدساتير السورية لم تضمن الحقوق المتساوية لعموم الشعوب والطوائف وخصوصية بعض الثقافات، وما يجري حالياً يندرج ضمن سياق هذا الصراع الذي أودى بكثير من المناطق السورية إلى حالة من التدمير المنهجي وبأيدٍ محلية.
وقد نتجَ عن الحكم الطائفي والقومي والحزبي والعائلي الاستبدادي في سوريا تهميشُ حقوق الشعوب والطوائف الأخرى وبالتالي المناطق التي يقطنها تلك الشعوب والطوائف، أي أقصي قسم كبير من السوريين عن بناء وإدارة البلاد، مما تسبب في ضعف وهشاشة بنية الكيان السوري وتأثير ذلك على كافة القطاعات المتعلقة بحياة المواطنين السوريين.
كما نتج عن ذلك إطلاقُ النظام الاستبدادي يدَ الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ومنحها صلاحيات واسعة للتدخل في الشؤون العامة، فقمعَ الحريات العامة، ومنع تأسيس الأحزاب والجمعيات السياسية والثقافية العلنية وجرى تفتيت واختراق الأحزاب الموجودة، واعتقل أصحابَ الرأي وكثرت المعتقلات والمحاكم الأمنية والعملاء، وتدخّل النظام بالحياة الخاصة للمواطنين من خلال ربط الكثير من الأعمال بالموافقات الأمنية، وأقصي أبناء بعض الشعوب والمكونات من الوظائف الرسمية والعامة، وقمعت اللغات والثقافات لبعض الشعوب، وأحدث الفتنَ بين الطوائف والشعوب، وهمش الواقع المعاشي للمواطنين إلى أدنى درجة…
وقد أدى هذا الأمر كله إلى ظهور وسط معارض للنظام الاستبدادي الحاكم ضم عامة الشعب ومكونات وشعوب بأكملها، وإلى خلخلة في بنيان الكيان السوري كما ذكرنا في السابق أيضاً.
ـ تداعيات الأزمة السورية:
لم يتوقع أحد أن يتطور مفاعيل الأزمة التي اندلعت في سوريا إلى نحو ما وصل إليه الحال في يومنا هذا بعد مرور ثمانية سنوات من بدء شرارة الاحتجاجات في منطقة درعا (جنوب البلاد) في أعقاب اعتقال وتعذيب عدد من تلامذة المدارس بعد كتابتهم عبارات مناهضة للنظام السوري على جدران مدرستهم، وإن كان هؤلاء الأطفال كتبوها محاكاة للشعارات التي رفعت في تظاهرات الثورة التونسية والمصرية. وقد رفض ممثل النظام في درعا جميع محاولات عشائر المنطقة للإفراج عن أطفالهم، وقابل وفد العشائر بإهانات وألفاظ غير أخلاقية تتعرض لكرامتهم وأعراض نسائهم.
كان رد ممثل النظام في غاية السذاجة، وتسبب هذا التصرف في انتفاض عشائر المنطقة ضد النظام، فاستخدم النظام السلاح الحي ضد المتظاهرين في درعا، مما تسبب في سقوط ضحايا مدنيين. وهكذا تطورت الأمور وانتقلت حركة الاحتجاجات من منطقة إلى أخرى حتى شملت معظم أرجاء البلاد.
1ـ تدمير البنية التحتية:
نظراً لحساسية الموقع الاستراتيجي لسوريا، فإن جميع الدول الإقليمية والدولية كانت تتابع تطور الأزمة منذ بداياتها، بل أن بعضها كانت تستعد لحدوث أي تطور في سوريا، فأخذت كل من قطر وتركيا بتحريك “حركة الإخوان المسلمين” لتأخذ دورها في قيادة أي عمل قد يحدث ضد نظام الأسد.
نجحت حركة الإخوان المسلمين في تأسيس شبكة إعلامية وإنشاء خلايا موالية لها داخل معاقلها السابقة في ريف دمشق وحماة وإدلب وحلب عبر المال القطري والدعم التركي.
وتزامناً مع تصعيد النظام في قمع الاحتجاجات وإدخال كافة أجهزتها العسكرية والأمنية في ضرب وسحق مناطق الاحتجاجات، ومع نجاحها في استدراج الطائفة العلوية بأكملها إلى آتون الصراع المحلي، كانت حركة الإخوان المسلمين قد نجحت في الاستحواذ على إدارة الاحتجاجات في الداخل وشكلت كتائب مسلحة موالية لها في معظم المناطق السنية، وبالتالي تطور الصراع من حركة احتجاجات شعبية إلى حرب طائفية، أودت بحياة عشرات الآلاف من السوريين، وتسببت في تهجير الملايين من مناطق الصراع إلى خارج البلاد، وكذلك في تدمير أجزاء كبيرة من المدن والبلدات السنية نتيجة تفوق نوعية الأسلحة لدى النظام.
وقد ذكر القائم بأعمال المنسق الأممي المقيم للشؤون الإنسانية في سوريا سجاد مليك في كانون الثاني 2017م أثناء زيارته مدينة حلب أنه “تم تدمير معظم المؤسسات والمرافق الحيوية للمدينة، وإن حجم الدمار في حلب يفوق الخيال، ولم يسبق قط أن شاهده خلال مهامه الإنسانية التي قام بها سابقاً بالصومال وأفغانستان”.
وفي شباط 2019م قدّر خبير اقتصادي دولي وهو د. أسامة القاضي – يشغل رئاسة مجموعة عمل اقتصاد سوريا – تكلفة الحرب في سوريا بنحو 400 مليار دولار، وأن خسائر القطاع الزراعي السوري ناهزت 16 مليار دولار، وأن أكثر من 80% من السكان اليوم أصبحوا تحت خط الفقر، مشيراً إلى أن إعادة الإعمار قد تحتاج إلى أكثر من 100 مليار دولار.
2- الإرهاب والتطرف:
أدت عسكرة “الثورة السورية” وتشكيل كتائب مسلحة موالية لحركة الإخوان المسلمين وتطور الأحداث إلى صراع طائفي إلى إفساح المجال لجذب المرتزقة الجهاديين إلى مناطق السنة في سوريا.
ففي نهاية عام 2011م اجتمع المرتزق “أبو بكر البغدادي” زعيم ما سميت بـ “دولة العراق الإسلامية” التابعة لتنظيم القاعدة الدولي، مع قيادي في تنظيم القاعدة من أصل سوري وهو “أبو محمد الجولاني” مع مجموعة مرتزقة إسلاميين كان النظام السوري قد أفرج عنهم في تلك الفترة، بهدف تشكيل فرع للقاعدة في سوريا وإقامة إمارة إسلامية هناك، وقد تمخض عنها تشكيل جبهة النصرة بقيادة أبو محمد الجولاني.
وقد توسع نفوذ جبهة النصرة في المناطق السنية غرب سوريا “دمشق، حمص، إدلب” ودخلت الحرب السورية مستفيدة من النقمة الشعبية على النظام وضعف تواجد قوات النظام في تلك المناطق، وانصبّ كل جهدها على إقامة إمارة إسلامية في سوريا، ولكنها في الواقع لم تعمل في سوريا إلا خراباً وتدميراً مع شقيقاتها كتائب الإخوان وداعش.
ونتيجة سعي المرتزق أبو بكر البغدادي نحو مجد شخصي خرافي، أعلن في نيسان 2013م تأسيس “الدولة الإسلامية في العراق والشام” والذي يعرف اختصاراً باسم “داعش”، وفي تموز 2014 وفي عمل لا يمت بالواقع شيئاً، أعلن “الخلافة الإسلامية” ونصب نفسه خليفة المسلمين.
لقد عاثت داعش فساداً وخراباً في المنطقة، ولم يسلم من شرها أي شعب أو طائفة في سوريا والعراق، فقد مارست أعمالاً إجرامية لم تشهد لها مثيل في العقود الأخيرة كـ قطع رؤوس الجنود والأسرى والمدنيين، إحراق الأسرى، عمليات إعدام جماعية، سبي النساء، تدمير دور العبادة، تدمير المواقع الأثرية…الخ.
3- التدخلات الخارجية:
كما أسلفنا سابقاً فإن الوضع الجغرافي والتركيبة الأثنية وطبيعة النظام الحاكم في سوريا دفعت لأن تكون الأرض السورية مسرحاً لصراع إقليمي ودولي.
فروسيا التي تعتبر وجود نفوذها في الشرق الأوسط عامة وسوريا خصوصاً رهناً بوجود نظام الأسد، عملت كل جهدها لمنع النظام من السقوط، وتدخلت بكل ثقلها العسكري والاقتصادي لصالحه في الحرب الدائرة في البلاد.
وقد أدرك النظام أن الطرف الأكثر قدرة على مساعدتها وإبقائها على قيد الحياة هو روسيا، ولذلك قدمت لها التسهيلات اللازمة على أراضيها للقواعد العسكرية الروسية في مهمة ضرب الفصائل العسكرية التي تحارب النظام، فأصبحت قاعدة حميميم الجوية والتي بنيت في منتصف عام 2015 في اللاذقية بمثابة «المركز الاستراتيجي للقوات العسكرية الروسية في سوريا”، إذ وقعت روسيا اتفاقاً مع النظام في آب 2015م يمنح الحق للقوات الروسية باستخدام قاعدة حميميم في أي وقت من دون مقابل ولأجل غير مسمى. وفي عام 2016م وقعت روسيا اتفاقاً آخراً مع النظام نص على توسيع نقطة الإسناد البحري الروسية في طرطوس السورية – التي أنشأت عام 1971م – وجعلها قاعدة عسكرية بحرية روسية على الساحل السوري. واقتصادياً دعمت روسيا النظام بالمال وزودتها بالقمح وبأسعار زهيدة بعد تراجع الإنتاج الزراعي بشكل كبير خلال سنوات الحرب السورية.
ولا ننسى أنه يوجد آلاف من المسلحين المتطرفين من الشيشان والقوقاز أتوا إلى سوريا في إطار تنظيمي النصرة وداعش لإقامة إمارة إسلامية في سوريا، وهو ما تعتبرها روسيا فرصة للتخلص منهم وإحراقهم في آتون الحرب السورية، وبالتالي يفيدها ذلك في عدم فتح الملف الشيشاني والداغستاني مرة أخرى، بعد أن قضت على التمرد الإسلامي الشيشاني في التسعينيات من القرن العشرين.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد دخلت الأزمة السورية عسكرياً بدعم رمزي للفصائل المسلحة في وسط وجنوب سوريا في بداية الأمر، ومن ثم تخلت عنهم لصالح دعمها لقوات سوريا الديمقراطية مع حلفائها الأوروبيين بعد توسع داعش في شرق الفرات، و عقدت اتفاقاً مع روسيا باعتبار نهر الفرات حداً لنفوذ كل منهما في سوريا مع إبقاء منطقة التنف أقصى جنوبي وسط سوريا بأيدي الأمريكيين.
إيران أيضاً لها مصلحة في بقاء نظام الأسد، فهي تعتبر سوريا “نظام الأسد العلوي” ومعها لبنان “حزب الله الشيعي” جزء من مجالها الحيوي أو نفوذها في الشرق الأوسط، وهي تدرك أنّ سقوط نظام الأسد سيفتح المجال لأطراف سنية بالوصول إلى سدة الحكم في سوريا، الأمر الذي يشكل ضربة لمشروعها التوسعي في المنطقة. ولذلك استنفرت قواتها العسكرية والاستخباراتية، وزجت بعشرات الآلاف من الجنود والمتطوعين الإيرانيين في الحرب السورية لصالح حليفتها هناك، وحركت حزب الله اللبناني لدعم نظام الأسد في المناطق القريبة من الحدود اللبنانية عسكرياً.
وقامت السعودية بتأجيج الاحتجاجات عبر وسائل إعلامها “العربية والعربية الحدث”، ومولت انشقاق العديد من مسؤولي نظام الأسد ودعمت فصائل مسلحة معينة، لعلها تستطيع إسقاط النظام وإقامة نظام سني موال لها، وبالتالي إسقاط المشروع الإيراني وتساهم في تثبيت طموحها بزعامة العالم الإسلامي.
كما ساهمت قطر بتأجيج الاحتجاجات عبر قناة الجزيرة، ودعمت مالياً حركة الإخوان المسلمين السورية والتي تعتبر الجناح السياسي والعسكري لكل من تركيا وقطر في الشرق الأوسط، لعلها تسقط نظام الأسد ويصل الإخوان المسلمون إلى حكم سوريا، وبالتالي يتحقق نفوذ قطري لافت في الشرق الأوسط.
أما تركيا، فبالإضافة إلى الاحتضان السياسي والعسكري للإخوان المسلمين السورية، فقد دعمت وسهلت انتقال مرتزقة النصرة وداعش عبر أراضيها إلى الداخل السوري، ووجهت الفصائل المسلحة لضرب ثورة روج آفا ومشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية الذي تبناه شعوب شمال وشرق سوريا، وزجت بقواتها إلى الأراضي السورية واحتلت أجزاء من شمال سوريا.
فيما بدت إسرائيل مرتاحة للوضع السوري، وتقوم بين كل فينة وأخرى بقصف أهداف عسكرية للنظام وإيران وحزب الله.
4- الاحتلال التركي:
إن ذهنية الطبقات التركية الحاكمة ومنذ مجيء القبائل التركية الغازية إلى المنطقة ذهنية توسعية وإقصائية، ويطمحون إلى بناء امبراطورية تركية طورانية نقية تمتد من الأناضول غرباً مروراً بكردستان وأرمينيا وسوريا والعراق وحتى حدود الصين في آسيا الوسطى شرقاً.
ولذلك تنتهج سياسة الإبادة والمجازر الجماعية بحق الشعوب الأصيلة كالأرمن والسريان والكلدان والآشوريين والكرد والعرب..
إن معاهدة لوزان التي وقعتها تركيا عام 1923م مع الدول الكبرى آنذاك، والتي رسمت حدوداً رسمية للدولة التركية في الأناضول وجزء من كردستان، ستنتهي مفعولها في عام 2023م، وبسبب النهج التوسعي لحكام تركيا فإنهم ينتظرون انتهاء مفعول هذه المعاهدة لإطفاء طابع الشرعية على توسيع حدودها من جديد.
انتهزت الدولة التركية الأزمة السورية منذ بداياتها، فاستخدمت حركة الإخوان المسلمين كأداة سياسية وعسكرية لتمثيل المعارضة المناوئة لنظام الأسد في سوريا وبالتالي فرض الأجندة التركية على المستقبل السوري.
عملت تركيا بكل جهد ممكن في سبيل إجهاض ثورة روج آفا ومنع شعوب شمال سوريا من بناء النظام الفيدرالي الديمقراطي في المناطق الشمالية والشرقية، ودعمت الفصائل المرتزقة المتطرفة من النصرة وداعش وكتائب الإخوان المسلمين وحركتها باتجاه مناطق شمال سوريا، وعندما فشلت في هذه السياسة، وحين رأت بأن مشروع الإدارة الذاتية يتوسع في الأراضي السورية، زجت بقواتها العسكرية بعد عقدها اتفاقيات مع الدول الكبرى المعنية بالمسألة السورية، واحتلت المنطقة الممتدة من جرابلس حتى أعزاز خلال الفترة الواقعة بين (24 آب 2016م- وحتى 29 آذار 2017م)، كما احتلت منطقة عفرين ما بين بعد هجوم عسكري عنيف بعد اتفاق مع روسيا دام شهرين خلال الفترة ما بين (20 كانون الثاني 2018م- 24 آذار 2018م).
وعقدت تركيا اتفاقاً مع روسيا وإيران لمراقبة دائمة على الهدنة في منطقة إدلب التي يتجمع فيها الفصائل المسلحة المدعومة من قبلها. وأخذت تهدد منذ نهاية عام 2018م بغزو منبج وشرق الفرات تحت حجة إنشاء منطقة “آمنة” على الحدود السورية التركية.
إن الهدف التركي من وراء زعمها بوجود تهديد أمني على حدودها من جانب وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية هو التبرير لسياستها التوسعية والاحتلالية في المنطقة، فما يهمها هو احتلال شمال سوريا في الوقت الرهن تمهيداً لتتريكها وضمها إلى الدولة التركية رسمياً، وعندما يحين موعد انتهاء مفعول مؤتمر لوزان 1923م تكونالحواجز القانونية الدولية قد أزيلت من أمامها – بحسب وجهة نظرها – لشرعنة احتلالها دولياً.
5- التغيير الديمغرافي:
رافقت الأزمة السورية ظاهرة في غاية الخطورة على مستقبل سوريا والمنطقة عموماً، وهي أعمال التهجير والتغيير الديمغرافي الممنهج والتي حصلت ولاتزال في العديد من المناطق السورية.
وخلال الحرب السورية كانت الكثير من المناطق التي كانت تشهد هزيمةً للفصائل المسلحة وانتصاراً لقوات النظام التي كانت تلجأ إلى الحصار والقصف العنيف تجرى اتفاقات بمعية الدول الإقليمية والدولية لإخلاء تلك المناطق من عناصر الفصائل المتبقين فيها والأهالي الذين لا يترك لهم إلا خيار الرضوخ ومغادرة المنطقة.
وكان من نتائج اتفاقات التهجير أنه تم نقل معظم عناصر الفصائل والسكان المتبقين في المناطق المستهدفة إلى منطقة إدلب، وشملت عشرات الآلاف من المدنيين.
والمناطق التي جرت فيها اتفاقات التهجير هي: الأحياء السنية في حمص 2014- 2018م، ريف دمشق (داريا، قدسيا، الهامة، معضمية الشام، خان الشيخ، التل، وداي بردى) 2016م، الأحياء الشرقية لمدينة حلب 2016، الغوطة (حرستا، زملكا، عربين، دوما) 2017م، الأحياء الشرقية لمدينة دمشق (برزة، القابون، تشرين)، اتفاقية المدن الأربعة (إخلاء متبادل للمسلحين والمدنيين بين بلدتي “مضايا والزبداني” السنيتين في ريف دمشق وبلدتي “كفريا والفوعة” الشيعيتين في ريف إدلب الشمالي) 2017م. الأحياء الجنوبية لمدينة دمشق (الحجر الأسود، التضامن، مخيم اليرموك) 2018م، ريف درعا الشرقي وقسم من القنيطرة 2018م.
استطاع النظام من خلال اتفاقيات التهجير تلك من إجراء تغييرات جذرية في البنية الديمغرافية لمناطق واسعة من البلاد، ومع الأعداد الكبيرة للمهاجرين خارج البلاد من جراء الحرب الداخلية يكون عدد نفوس المكون السني قد تناقص إلى حد النصف تقريباً، وإن معظم المناطق السنية قد تدمرت وأخليت من سكانها.
وهنا ينبغي أن نذكر دور الأطراف الدولية والإقليمية في هذه العملية، وإن كان دور كل من روسيا وإيران وتركيا وقطر واضح في هذا الأمر من خلال تأجيج الصراع الداخلي في البلاد.
وبالنتيجة أصبحت إدلب وكراً للفصائل والمرتزقة والمتطرفين ومكاناً لتواجد سكان من مختلف المناطق في وسط وجنوب البلاد.
وقد استفادت تركيا من هذا الوضع واستخدام المرتزقة والمسلحين في حروبها بالشمال السوري، وكذلك أخذت تستفيد من اللاجئين الموجودين على أراضيها، ومن عائلات المسلحين والمدنيين هناك لنقلهم إلى المناطق التي احتلتها في شمال سوريا وإحداث تغيير ديمغرافي على حسب مقاسها.
ولعل منطقة عفرين – التي احتلتها تركيا في آذار 2018م وقامت باستيطان عشرات الآلاف من اللاجئين السورين فيها- تشهد استهدافاً ممنهجاً لسكانها الأصليين من الكرد من قبل الجيش التركي ومرتزقته هناك من خلال نهب الأموال والمنازل والأراضي واختطاف النساء والقتل العشوائي وكل ذلك لدفعهم إلى الرحيل عن المنطقة.
ـ الثورة الأيديولوجية الجديدة والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا:
بموازاة اندلاع الاحتجاجات في الداخل السوري والتي كانت عفوية في البداية ومن ثم اخترقتها الدول الإقليمية وحرفتها عن مسارها لتأخذ بعداً طائفياً، كانت شمال سوريا تشهد تحركات لإطلاق ثورة اعتماداً على أيديولوجية جديدة توحد شعوب المنطقة في نظام مجتمعي ديمقراطي، تتساوى فيه حقوق جميع المكونات والشعوب، ويحافظ فيه على جميع الثقافات والمعتقدات، أي نظام يتشارك في بنائها كل فئات ومكونات المجتمع، ويتحقق فيه شراكة الجنسين في إدارة المجتمع.
أعلنت ثورة الأيديولوجية الجديدة في 19 تموز 2012م انطلاقاً من منطقة كوباني، التي أعلن أهاليها تحرير منطقتهم من نظام البعث، وتبعتها في ذلك مناطق الجزيرة وعفرين.
وعلى إثرها اجتمعت مكونات وشعوب المنطقة واتفقت على التعايش المشترك وتوحيد الخطاب السياسي وإنشاء نظام إداري تشاركي بينها تحت مسمى “الإدارة الذاتية الديمقراطية”، التي أعلنت بدءاً من مقاطعة الجزيرة في 21 كانون الثاني 2014م، وتبعتها كل من كوباني وعفرين في الشهر ذاته.
وحدت شعوب شمال سوريا وحداتها الدفاعية في إطار قوة عسكرية موحدة وتشاركية تحت مسمى “قوات سوريا الديمقراطية” والتي أعلنت عن تشكيلها بتاريخ 10 تشرين الأول 2015م، وفي كل منطقة جديدة تحررها هذه القوات يجتمع أهاليها معلنين إدارتها المدنية التشاركية كـ كري سبي(تل أبيض)، الشهباء، الطبقة، منبج، الرقة، دير الزور.
وفي 6 أيلول 2018م اجتمع ممثلو الإدارات الذاتية لمقاطعات روج آفا والمناطق الجديدة المحررة ليعلنوا عن تأسيس “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” والتي تمثل حكومة تنسيقية أو فيدرالية للإدارات الموجودة على الأرض في شمال وشرق سوريا.
حظيت قوات سوريا الديمقراطية بدعم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد تنظيم داعش الإرهابي في شرق سوريا، وفي غرب سوريا حيث النفوذ الروسي بموجب اتفاق بين روسيا وأمريكا، هاجمت القوات التركية ومرتزقتها منطقة عفرين واحتلتها في آذار 2018م أمام أعين الروس والأمريكيين على حدا سواء، ودون أن يلقى أي معارضة جادة من النظام السوري, فاضطرت الإدارة الذاتية لمقاطعة عفرين ممارسة عملها في منطقة الشهباء، بعد بناء مخيمات للنازحين الكرد القادمين من مقاطعة عفرين بعد الغزو التركي لمناطقهم.
ـ سوريا المستقبل وآفاق الحل:
بعد مرور أقل من عام من اندلاع الاحتجاجات في سوريا في آذار 2011م، كانت الأمور قد وصلت إلى حالة من الأزمة المعقدة، وكان لابد من التدخل من جانب طرف ما لمحاولة إيجاد مخرج وحلول للصراع الدائر في البلاد، فالصراع قد أصبح طائفياً وطرفا النزاع لا يتورعان في استخدام الأسلحة الثقيلة، يتخلل المشهد مجازر واعتقالات بالجملة والتعذيب الممنهج وحالات اغتصاب، وكل من دب وهب يتدخل في الشأن السوري، بعض المناطق أصبحت وكراً للإرهاب والتطرف، تنظيم القاعدة أصبحت حاضرة وتتهيأ لإعلان إمارة أو خلافة إسلامية في سوريا، استنفار طائفي محلي وإقليمي، صراع دولي وإقليمي على سوريا، أطماع تركية لاحتلال المنطقة من جديد، وفي الوقت نفسه ثورة أيديولوجية جديدة تتهيأ للإعلان في روج آفا -شمال سوريا.
وبحكم النفوذ والقوة فإن روسيا والولايات المتحدة الأمريكية أصبحتا من يوجهان الأزمة السورية، فيما الأطراف الإقليمية كل منها تحاول إيجاد دور لها من خلال أوراقها التدخلية في سوريا وبالتنسيق مع هاتين الدولتين في بعض الأحيان.
في بداية عام 2012م بدأت الأمم المتحدة بالتدخل، وعين كوفي عنان كمبعوث دولي إلى سوريا، وبعد لقاءات مع طرفي النظام والمعارضة، وضع عنان خطة لحل الازمة السورية والتي تنص في بنودها الأساسية على وقف القتال وتشكيل حكومة انتقالية بالتوافق بين المعارضة والنظام, وترك مصير الرئيس السوري بشار الأسد بيد السوريين أنفسهم.
في حزيران 2012م عقدت الأمم المتحدة مؤتمراً لحل الأزمة السورية في جنيف السويسرية ولكن لم يسمح بحضور أي طرف سوري إليها، وكان الحاضرين مجموعة من الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالأزمة.
وبدءاً من مؤتمر جنيف الثاني 2013م سمح لطرفي النزاع “النظام والمعارضة” بالمشاركة، ولكن كل طرف منها كان يفاوض حسب توجيهات الطرف الدولي الداعم له، وعليه وبسبب تمسك كل طرف بمطالبه يتم تأجيل التفاوض إلى السنة التي بعدها، وهكذا أصبحت لدينا مسلسل جنيف 8,7,6,5,4,3,2,1…الخ.
استند التفاوض على بنود خطة كوفي عنان لحل الأزمة السورية، وعلى الرغم من محاولات المعارضة المطالبة بتنحي بشار الأسد من حكم البلاد وتشكيل مجلس انتقالي ذي صلاحيات كبيرة، لكن مع مرور السنوات وبسبب الهزائم التي منيت بها الفصائل المسلحة على الأرض تراجعت المعارضة عن مطلبها هذا، وأصبحت مسألة إعداد دستور جديد الأكثر إدراجاً في عملية التفاوض في السنة الأخيرة وهي أيضاً لم تفعل بعد، فبعد مرور ثمان سنوات على الأزمة لم يتفق بعد على أسماء المشاركين في صياغة الدستور الجديد لسوريا، فكيف سيتم مناقشة بنودها إذاً؟!!. هذا أمر يؤشر على وجود تعقيدات ومصالح متضاربة في الأطراف الممثلة في إعداد الدستور، فتركيا مثلاً وهي الداعم الرئيسي لحركة الإخوان المسلمين والتي تستحوذ على الجزء الأكبر من فعاليات المعارضة السياسية والعسكرية، ترفض مشاركة ممثلي الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا في العملية السياسية.
وبموازاة ذلك بدأت اجتماعات تعقد بين طرفي النزاع في سوريا وبضمان الدول الثلاث “روسيا وتركيا وإيران” في سوتشي (روسيا) وأستانة (كازاخستان) منذ العام 2017م، واختصت على مناقشة الأزمة السورية من جانبها الميداني- العسكري في سوريا، وأصبحت تعقد اجتماعات دورية بين الدول الثلاث الضامنة “روسيا، إيران، تركيا” على مستوى الرؤساء.
ويعود سبب حصر هذه الاجتماعات بهذه الدول الثلاث، لأن كل دولة منها تمثل طرفاً في النزاع في غرب البلاد، روسيا (النظام)، تركيا (الفصائل المسلحة)، إيران (الحرس الثوري والكتائب الإيرانية، حزب الله).
إن الجانب السلبي في خطي مفاوضات جنيف وأستانا- سوتشي، يكمنُ في كونها لا تضم ممثلين عن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وهي الطرف التي تمثل مكونات وشعوب عدة في شمال وشرق سوريا “العرب، الكرد، السريان، الكلدان، الآشوريين، الإيزيديين، الأرمن….الخ”.
لا ننسى هنا أنّ المساحة التي تشملها هذه الإدارة تصل إلى أكثر من 30% من المساحة الإجمالية لسوريا. وهذا ما يجعل أي حل نهائي وفق الاجتماعات السابقة الذكر ناقصة وغير مكتملة، لأن جزءاً فاعلاً في المجتمع السوري مغيب فيها، وهي تضم في طياتها مسائل وقضايا في غاية الأهمية وتؤثر على مستقبل سوريا والمنطقة ككل، وهي مسألة حقوق الشعوب.
وعليه إن كُتب لأي خطة حل للأزمة السورية النجاحُ والاستمرارية، فلابد أن تتوفّرَ فيها الشروط الآتية:
– يتم مشاركة ممثّلي جميع الشعوب والطوائف والمكونات القاطنة في سوريا في صياغة الحل الدائم للأزمة، وفي مقدمتها صياغة عقد اجتماعي توافقي يحدد فيها المرتكزات والقواعد والأسس التي يبنى عليها الكيان السوري، وهي بمثابة الدستور الأعلى بين شعوبها، ويكون ضامناً لمنع احتكار أي شعب أو طائفة بعينها حكم وإدارة مقدرات البلاد. حيث يقر التشاركية في الإدارة، بما فيها حق تشكيل الإدارات الذاتية في المناطق ذات الخصوصية، والمساواة التامة بين شعوب سوريا من ناحية تداول اللغة والثقافة والمعتقدات، ويقر أيضاً إزالة كل مفاعيل القوانين والإجراءات التمييزية ضد الشعوب ومنها الشعب الكردي والسرياني ..الخ، ويقر أيضاً الحريات العامة. وبالتالي يضمن حقوق كل الشعوب والطوائف في سوريا.
– حيادية الأطراف الدولية والضغط من جانبها على الأطراف السورية من أجل الاعتراف كل طرف بحقوق الآخر بما يضمن المساواة في الحقوق والواجبات لكل مكون وشعب.
– رفض أي احتلال أجنبي للأراضي السورية، ولاسيما الاحتلال التركي في مناطق الشمال السوري، واتخاذ خطوات مشتركة بين شعوب سوريا لطرد المحتل التركي، وإزالة كافة إجراءات التغيير الديمغرافي في البلاد.
إن هذه الشروط الثلاثة هي الكفيلة بإنهاء الأزمة السورية، لأنها ستدخل تغييرات جذرية في بنية النظام الحاكم وطبيعتها الاستبدادية وتزيل مخاوف التهميش والإقصاء من جانب الطوائف والشعوب، ويقر بإرادة المجتمعات في إدارة ذاتها، وهو ما يقوي رابطة الثقة والتعاون المشترك بينها، وبالتالي يساعد ذلك على تقوية البنية الداخلية لسوريا تجاه التهديدات والمخاطر الخارجية. وكذلك يضمن عدم التدخل الدولي والإقليمي، وخاصة المطامع التوسعية للدولة التركية في الأراضي السورية التي تحاول أخذ الشرعية لاحتلالها مناطق الشمال السوري وتجري اجتماعات متواصلة مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية لقبول مشروعها التوسعي والاحتلالي تحت اسم “المنطقة الآمنة في شمال سوريا”.
وعكس ذلك، فعدم تحقيق الظروف والشروط الصحيحة لإيجاد حل دائم للأزمة، فإن سوريا ذاهبة إلى تكريس الفرز الطائفي، واقتطاع أجزاء كبيرة من الشمال السوري لصالح الدولة التركية، وبالتالي إن الشعوب السورية ستكون أمام خطر حقيقي وهي الإبادة العرقية والثقافية والفوضى العارمة وديمومة الأحقاد الطائفية والعرقية في المنطقة.