الرأسمالية المالية وبناؤها الفكري وعلامات أفولها
صلاح الدين مسلم
صلاح الدين مسلم
تمهيد
“ماذا سيقول… لقد تكلّم كثيرًا ولم أفهم شيئًا من كلامه. لقد قال: كان الإنسان يعيش قديمًا في العصر الحجري؟ والآن هو عصر الحديد. والحضارة لا تدخل البلاد إلّا بالحديد. قلت له ما تقوله جيد. جلبتم الحضارة إلى البلاد، ولكن أين قطع التبديل التي تحتاجها هذه الحضارة؟ تعال إلى حقلنا وشاهد الحضارة، كومة من قطع التبديل، تقبع كالجثّة الهامدة، ثمّ أضفت، أليس هناك أصغر من هذه الحضارة؟ هذا الشيء الكريه، إذا ضربته لا يتزحزح، وإذا قلت له (داه) لا يتحرّك، وإذا قلت له هست: يبقى جامدًا في مكانه [1].”
هذا كان قول حمدي آغا للذين أجبروه على بيع الثورين وشراء جرّار بالتقسيط من البنك، وقد تعطّل الجرّار مرارًا وتكرارًا ولا توجد قطع تبديل للجرّار، وإن وجدت فهي غالية، والديون تتراكم عليه، بهذه الجملة استطاع الكاتب التركي عزيز نيسن إيصال رأيه في الحضارة بطريقة أدبيّة، وهي كومة من قطع التبديل في الحقول.
ويمكننا استنباط مفهوم الحضارة الحديثة، وهي أن تكون أسير الآلة، وأسير الأدوات التي هي من المفترض أن تكون وسائل، وليس غايات، وهذا هو الرأسمال الصناعي الذي لم يُنبئ بظهور الرأسمالية المالية التي كانت أشدّ ظلمًا على العالم من حقبة الرأسمال الصناعي ما قبل سبعينيّات القرن المنصرم، أي؛ ما قبل نصف قرن من الآن.
بهذه المقدّمة الأدبيّة أردتُ أن أبدأ بحثي هذا عن الرأسمالية المالية وإطارها الفكريّ، وإمبراطورية الشركات، وعلامات أفول الرأسمالية المالية، ولستُ في صدد البحث عن نشأة الرأسمالية وعلاقتها بالتاريخ والدولة والسلطة، وسأبدأ بفكرة الباحث الفرنسي فرنان بروديل عن تطور الرأسمالية ما بعد عام 1970 الذي يرى أنّ هناك تمييزًا ما بين الرأسمالية بكافّة أشكالها وبين اقتصاد السوق، ويتّخذ معناه الكامل على المستوى السياسي خاصّة.
فقد تطورت الرأسمالية عبر ثلاث مراحل كبرى، هي: الرأسمالية التجارية والرأسمالية الصناعية والرأسمالية المالية[2]. فبروديل يستخدم الرأسمالية بشكل عام للدلالة على الطوابق العليا من البناء الاقتصادي، وتخصيص الرأسمالية في المستويات العليا؛ أي الشركات الكبرى والشركات متعدّدة الجنسيات والعابرة للقارات، فيقول في هذا الصدد: “لا أعتبر الدكان الذي أشتري منه جريدتي قطعة من الرأسمالية؛ إنّما تتبع الرأسمالية المحال التي قد تكون مالكة للدكان المتواضع الذي أتعامل معه. ولا تتبع للرأسمالية محلّات وورش الحرفيين والمؤسسات الصغيرة المستقلة التي يسمّونها في فرنسا مؤسسات التسعة وأربعين إشارة إلى عدد العاملين فيها أقل من خمسين وهو العدد الذي يدخل المؤسسة في الشريحة العالية نقابيًّا وضرائبيًّا، هذه المؤسسات الصغيرة والمحلّات الصغيرة عددها كبير جدًّا، وهي تتعرّض لمحنة واسعة النطاق تسلّط عليها الأضواء أيضًا على المشكلة التي تشغلنا[3].
- الرأسمالية المالية
تبدّل المركز الرأسمالي عبر القرون السابقة، وإن كانت هناك اختلافات لكن كان هناك تقارب كبير في الجوهر “البندقيّة في القرن الخامس عشر، أو أمستردام في القرن السابع عشر، أو لندن في القرن الثامن عشر، أو نيويورك اليوم[4].” هي نفس الجوهر الرأسمالي، والنظام المتّبع تقريبًا حتّى سبعينيّات القرن الماضي.
لن نقول إنّ العصورَ التي سبقت ميلادَ الرأسمال المالي هي عصور الرأسمال الخيّر أو السلطة الخيّرة أو الملكيّة الخيّرة الأخلاقيّة، لكنّ نشوءَ إمبراطورية الشركات التي حلّت محلّ الإمبراطوريات السابقة قد بدأ، وبدأ معه عصرٌ جديد اعتبره بعضُ المفكرين نهايةَ التاريخ.
فبدأ عصرُ المدن الكبيرة التي أضحت تبتلع القرى، وتعتمد على المدن الأصغر منها في خدمتها، فعددُ السكان في مدن أنقرة وإسطنبول وأزمير يساوي نصف عدد سكان تركيا على سبيل المثال، فقد نشأت مدينة دبي في عام 1833 ميلادياً، من خلال استقرار ما يقارب من 800 شخص، ومع بداية القرن العشرين كان عدد سكان دبي حوالي 20,000 نسمة، والآن عدد سكانها 3.137 مليون.
بدأ التحوّلُ في الرأسمالية في بداية عام 1970، وهناك عدّة عوامل أدّت إلى هذا التحوّل، من أهمّها انتشار التداول المصرفي، وبداية ظهور الحواسيب العملاقة، وبالطبع كان للتقنية دور في ظهور البورصة العالمية، ومفهوم العملة والاحتكار المالي، فما هو المال؟ بإمكاننا من خلال هذا النصّ أن نفهم ما هو المال؟ وما هو وظيفته؟
“أنْ يكون المال وسيلة للتبادل هو أمرٌ مفهوم تمامًا، لأنّه وسيلة تؤدي وظيفة بسيطة. ومع ذلك، يجب توخّي الحيطة والحذر. ما الذي يتمّ تبادلُه؟ هل بإمكان المال أنْ يكون أداة قادرة على تأمين المعيار العادل بين الشيئَين المتبادَلَين؟ جليٌّ أنّ المشكلة مثقلَة منذ البداية بمشقّات عويصة. لِنأخذْ مسألة تبديل تفاحة بأجاص على سبيل المثال، باعتبارها أبسط أشكال التبادل. لنفترض أنّ المعدّل هو واحد مقابل اثنَين: تفاحة واحدة تساوي إجاصتَين. ولِيَقُمْ المالُ بوظيفة كهذه في السوق. لماذا واحدٌ مقابلَ اثنَين، وليس ثلاثة؟ أو لماذا ليس واحدًا مقابل واحد؟ هنا سيدخلُ الجهدُ والقيمةُ في صلبِ الموضوع في أبسط الحالات. وقد تَردُ أسئلة جديدة على البال بالتوالي. ما الذي يُضفي القيمة على الجهد؟ قد يُقال ردًّا على ذلك أنه الجهد الآخر، ليستمرَّ التساؤلُ إلى ما لانهاية. واضحٌ أنّ تأمينَ المال للمعيار العادل في مسألة التبادل والبيع والشراء يتبدّى كأمر عسير. ويرجح احتمال كونه سيحظى بقوته واعتباره من هذا الخيار. فهو مقبول لأنه قبل بذلك وارتضاه لنفسه. أما البحث في أساسه عن العدالة والقيمة والكدح والجهد وغيرها من المعايير، فليس سوى عبث عقيم. فالمتواجدون داخل الزمان والمكان قالوا باختيار وسيط لتسهيل أعمالهم. والشيء الوسيط المبتكر سمّوه المال. نحن نسعى لتعريفِ المال من خلال هذه القصةِ المقتضَبة. لكننا وجهاً لوجه أمام أداة وسيطة قادرة على خلط كلّ الأشياء وقلبها رأسًا على عقب، بمجرد تخلّيها عن دورها هذا وتقمُّصها أدوارًا أخرى[5].”
لسنا في صدد سرد قصّة المال، لكنّ المال الذي كان وسيلة، بات لعبة في يد الشركات والدول التي ترفع من سعر العملة وتخفضها، وكذلك الأسهم، والبورصات، وكلّ شيء في هذا الكون بات يخضع للبورصات، سعر السكر والشاي والفواكه والحديد… فالرأسمالية لا تعرف سوى لون واحد: اللون الأخضر- لون الدولار- ، كل أمر آخر هو أمر ثانوي بلا معنى، لا يهم عرقك أو جنسك أو عمرك أو توجهاتك *توماس سويل[6]. وبالتالي يفرّق المفكّر أوجالان ما بين الرأسماليّة والرأسماليّة الصناعيّة بجملة مقتضبة: “المالُ إلهُ الرأسماليةِ المالية، بينما كانت الدولةُ القوميةُ إلهَ الرأسماليةِ الصناعية[7]“.
لقد اختفتِ المؤسساتُ الصغيرة التي تحدّث عنها بروديل الواحدة تلو الأخرى تباعًا في نيويورك، باريس، لندن… ففي عام 1970 اختفت كلّ المؤسسات التجاريّة في نيويورك التي كانت تضمّ أقلّ من عشرين فردًا، وكانت تمثّل النسيج الصناعي والتجاري للمدينة، وكانت هذه المؤسسات تلبّي حاجات السوق المحلّيّة واختلّ نظام نيويورك، وحلّت محلّها المؤسسات الضخمة التي ابتلعت هذه المؤسسات الصغيرة، وحلّت محلّها المؤسسات الضخمة التي خرّبت هذا العالم لصالح وحدات إنتاجية كبيرة خارج المدينة. وبعد أن كانت مدارسُ نيويورك تشتري الخبزَ من مؤسسة صغيرة في المدينة أصبح الخبزُ يأيتها من مدينة أخرى، وهكذا ظهر عصرُ الحيتان.
يمكننا وضع النظام الرأسمالي عبر المصانع الصغيرة في أوروبا وأميركا ما قبل أعوام 1970 عبر السياق التاريخ للسلطة على وجه التقريب، مع أنّ صناعة القنابل النووية التي تعدّ أكبر تحوّل في تاريخ الكون، حيث أصبح الإنسان قادرًا على السيطرة على الكون، وأصبح يرى من حقّه تدمير الكرّة الأرضية التي يعتبرها ملكًا له، وكلّ من يعيش على هذا الكوكب هو ملك له، وباتت المصانع العملاقة تغلق مصنعًا في مكان، وتفتحه في مكان آخر، حيث أجر العامل أقلّ، وبالتالي يخسر آلاف العمال مناصبهم.
لقد تولّى اقتصاديان يتّصفان بنزعة وعقيدة محافظة على نحو شديد، تبيان الاتجاه الذي ينبغي على الحكومات أن تسلكه من أجل تحقيق هذه الطموحات: الأول هو ميلتون فريدمان، وهو من مواطني الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وتولّى التدريس في جامعة شيكاغو، وفاز بجائزة نوبل للعلوم الاقتصادية في العام 1976. أمّا الثاني، فهو فريدرش آوغوست هايك النمساوي الذي فاز في العالم 1974 بجائزة نوبل للعلوم الاقتصادية أيضًا، وتولّى التدريس في لندن وشيكاغو وفي مدينة فرايبورغ الألمانية. إنّ هذين الاقتصاديين هما المنظّران الأولان لاقتصاد السوق المحرّرة من القيود، هذا النظام الاقتصاديّ الذي نحيا في كنفه اليوم. وبأفكارهما الجديدة أزاح الاثنان من الساحة اقتصاديًّا آخر كان قد جاء بأفكار تخالف عقيدتهما، واعتنق نزعة تتناقض مع نزعتهما، فهو ليبرالي، يبتهج بالحياة. والملاحظ هو أنّ نظريته بشأن الدولة القوميّة، القادرة على توجيه الاقتصاد قد غدت حديث الساعة ثانية. وما هذا الاقتصاديّ إلا جون ماينارد كينز[8].
- الإطار الفكري للرأسمالية المالية
- الليبرالية
لطالما دأبتِ الماركسيّةُ على ولادة النظام الرأسماليّ نتيجةً طبيعية حتمية للنموّ الاقتصاديّ، واعتبروا النظامَ الرأسماليّ نوعًا من أنواع الاقتصاد، بل هو نموذج اقتصاديّ، ووضع الاقتصاد السياسيّ ركنًا من أركان علم الاجتماع، وهو العلم الرئيس لتكون الدولة الحديثة العصريّة، ومن هنا بات يعرّف النظام الرأسماليّ على أنّه اقتصاد السوق، وكأنّ الرأسماليةَ نظامٌ خارج إطار التاريخ، والحضارة والمجتمع والأيديولوجيا، والدولة والسلطة والبيئة، وقد رأى المفكّرون الاقتصاديون الأميركيون والأوروبيون على أنّه الاقتصاد الجديد والأنموذج الذي يجب أن يطبّق في البلد الذي انتصرت فيه الرأسمالية، ومن هنا احتكروا الحقيقة أيضًا في أنفسهم.
أمّا مناهضو الرأسمالية فقد رأوا أنّه يكفي محاربة الرأسمالية اقتصاديًّا لكي يتمّ الانتصار عليها، وكانت المناهضة بنفس أسلوب تفكير النظام الرأسماليّ أي بالوضعية أو العلمية في تفسير فشل النظام الرأسماليّ، ولم يدركوا أنّ الوضعيّة هي دِين النظام الرأسماليّ، فالعلم خير بنظرهم ولا ينتج إلّا الخير، ومن هنا تنبّؤا بسقوط الرأسمالية وبالتالي سيأتي الفردوس المفقود (الشيوعيّة) وهذه كانت النظرة اليسارية ومازالت.
إنّ المجتمع من خلال بناه المعرفية والذهنية طبيعة ثانية تختلف كلّ الاختلاف عن العلميّة والوضعيّة التي فسّرت المجتمع بطريقة علميّة، فالفوضى الموجودة في المجتمع هي فوضى في بنيتها الذهنيّة والمؤسساتية والاقتصادية أيضًا، ولا يمكن لنظرية الفوضى الخلّاقة المبتكرة أن تروّض وتقنّن المجتمع، وتفسّره، ولا يمكن أن تقنّن الطبيعة بشكل عام وتضع تفسيرًا علميًّا أو وضعيًّا لها.
لكنّ هذا النظام الجديد للكون متّصل ببعضه بطريقة متشابكة وعنكبوتية، والكم الهائل للمعلومات، واحتكار الحقيقة التي لا تخدم تكديس المال وفائض الربح، فقد عبرت القارات وتجاوزت القوميات، “فهو عالم يصعب علينا إدراك كنهه، إنّه عالم مثير للحيرة والارتباك، فكلّ شيء فيه له علاقة وثيقة بالأشياء الأخرى: البورصة في شنغهاي على علاقة متينة بمثيلتها في نيويورك، والقروض والعقارات الأميركية على صلة وثيقة بالمدخرات الألمانية، وفرصة العمل في فيتنام وثيقة العلاقة بفرصة العمل في برلين أو في ولاية بافاريا الألمانية، والين الياباني على ارتباط متين بالعملة الصينية، أضف إلى هذا أنّ العالم الجديد قد أمسى أكثر سرعة، وأنّ الأفكار والأخبار ومشاعر الذعر من أزمات البورصات أيضًا تنتقل الآن بسرعة الضوء فما يحدث في طرف من أطراف العالم نلمس أثره لدينا خلال ثوان معدودة. من ناحية أخرى، فإن مجتمعنا الذي ينطوي على نوافذ يستطيع البعض المروق من خلالها نحو الأعلى، لا تزال فيه نوافذ يسقط منها كثيرون نحو الهاوية[9].”
“يعتمد النظام العالمي الجديد على الليبرالية، أي حرية الفرد كأساس فكري لهذا النظام، والاعتماد على السوق والديمقراطيّة والحرّيّة والمساواة، لكنّ المؤرخَ فرناند بروديل يُكَذِّب ويُفَنِّد كلياً وجلياً تلك المزاعم، من خلال ملاحظاته واسعةِ النطاق ومقارناته الدقيقةِ في بحثه المُعَنوَنِ باسمِ “المدنية المادية” (إنه مؤلَّفٌ رائعٌ ومدهشٌ في ثلاثةِ مجلدات، أَنفَقَ فيه جهوداً أَخَذَت منه ثلاثين سنةً بِحالِها).
الادعاءُ الأولُ الذي يطرحه بروديل في مؤلَّفه ذاك، هو أنّ الرأسماليةَ ضدُّ السوق.
والادّعاءُ الثاني هو ارتباطُ الرأسمالية بالقوةِ والسلطةِ حتى النخاع.
والثالثُ هو أنها تعني الاحتكارَ الدائمَ منذ البداية، قبلَ وبعدَ عصرِ الصناعة.
والرابعُ هو أنها فُرِضَت على الوسط بالاحتكارات (بالنهب والسلب) المفروضةِ من الخارج والأعلى، وليس بالمنافسةِ المنبثقةِ من الداخل والأسفل. تلك هي المَحاورُ الأساسيةُ التي يَنُصُّ عليها الكتاب[10].”
يتابع المفكّر أوجالان في صدد الإطار الفكري للرأسماليّة: “لطالما يجري إبرازُ الليبراليةِ والفردية كمحورٍ أيديولوجيٍّ أساسي في الرأسمالية. ولكني أستطيع التأكيدَ على أنه ما من نظام بلغَ القوة التي تتميزُ بها الهيمنة الأيديولوجية للرأسمالية بخصوصِ أسْرِ الفرد واستعباده[11].”
- الليبرالية الجديدة
لم يكن الهدف من الحريات الفردية المزيد من الإعلانات والحرب الخاصة من خلال الرياضة والفن والجنس، والمزيد من الانقطاع عن الماضي واللعب بالقوانين والتحايل على لقانون، وتهميش بعض القوانين الشكلية كحقوق الإنسان وإلى ما هنالك من قوانين تلخّص النضال العالمي للشعوب، لكن ظهرت الليبرالية بلون جديد، نيوليبرالية، الليبرالية الجديدة، Neoliberalismus “وكان الاقتصادي الألماني روستوف قد نحتَ مصطلحًا رآه يناسب الليبرالية بثوبها الجديد. إذ إنّه أطلق عليها مصطلح الليبرالية المحدثة Neoliberalismus، وكان روستوف قد دعا من قبل، وعلى وجه التحديد في المؤتمر الذي عقدته (جمعية السياسة الاجتماعية) في العام 1932 في مدينة دريسدن، إلى ضرورة انتهاج درب وسط، إلى ضرورة انتهاج سبيل ثالث يقع بين سياسة (دعه يعمل دعه يمر) وسياسة التدخّل الحكومي التي عاشتها البلدان المختلفة في العشرينيات والثلاثينيات. فهو كان قد قال حرفيًّا: “إنّ الليبرالية الجديدة، التي ندعو إليها اليوم، أنا وزملائي وفوق المصالح الفردية، دولة تتبوّأ المكان الذي يليق بها أن تتبوّأه[12]”
وظهر تعبير اقتصاد السوق الحرّ، وعدم تدخّل الحكومات في السوق، وبالتالي بيعت الكثير من القطاعات للشركات، والتشديد على الحقوق الفردية، والرواتب الباهظة للطبقة الأولى من الوظائف، فصار التفاوت رهيبًا ما بين الطبقات الاجتماعية في العالم بأسره، “وما انفكّ أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو ميلتون فريدمان يُعتبر من أكثر ممثلي المدرسة الليبرالية المحدثة تطرّفًا؛ أي تلك المدرسة الاقتصادية التي يُعبَّر اقتصاد السوق المحرّرة من القيود عن أفكارها ومراميها بنحو حرفيّ. وفي يوم من الأيّام الغابرة كانت الليبرالية المحدثة وليدة تجارب كانت تثير الشكوك بجدوى رأسمالية (دعه يعمل دعه يمرّ) أي الرأسمالية التي تقاوم تدخّل الحكومة في الشؤون الاقتصادية بمقدار يزيد على القدر الضروري لحفظ الأمن الداخلي والخارجي ولصيانة حقوق الملكية الشخصية. أما في اليوم الراهن، فإنّ الليبرالية المحدثة باتت، في قاموس المناوئين للعولمة، مصطلحًا مشحونًا بالمعاني السلبية. فمصطلح ليبرالي محدث صار ينطبق على كلّ الذين عقدوا العزم على تقليص هذا الدور بمقدار ضئيل لا غير، ويطالبون بخصخصة الشركات الحكوميّة التي لا أمل في إصلاح أوضاعها. من ناحية أخرى، ما برح مصطلح ليبرالي محدث يستخدم للتشنيع على كلّ المطالبين بخفض الضرائب، أي للتشنيع حتّى على المطالبين بخفض الضرائب ببضع نقاط مئويّة ليس إلّا. بهذا المعنى يُقال عنها زعمًا بأنّها أمست أداة تخدم مصالح السوق فقط[13]“.
وظهرت القوانين التي تقلّص من سيطرة الدولة على القطّاعات، وبات المثقّفون يصوّرون الخيرَ الوفير ضمن هذا النظام، وكيف أنّ هذا النظام فوق الدولة، وقد أفلت المجتمع من عقال الدولة في الغرب، وجاء مخلّصًا الشرق من هذا لظلم المقيت، وكأنّ الجنّة قد جاءت، لكن من يحكم؟ إنّها الإمبراطوريات الجديدة؛ إمبراطوريّة الشركات، “فعلى مدى ما يقارب من خمسة وثلاثين عامًا دأبت البرلمانات والحكومات على تحرير الاقتصاد من القيود؛ فهؤلاء جميعًا تكاتفوا على فتح أبواب أسواق المال على مصراعيها، وتجريد النقابات العمالية من بأسها، وخفض الضرائب وخصخصة الشركات الحكوميّة. وهكذا، وشيئًا فشيئًا، انسحبت الدولة من التدخّل في الاقتصاد تاركة الساحة للسوق وقواها الذاتيّة[14]“.
- إمبراطورية الشركات
لقد ظهرت الشركاتُ العملاقة عابرة القارات والقوميات كما أسلفنا، وباتت هناك إمبراطوريات تتكاتف فيما بينها للقضاء على الشركات الصغيرة، والإبقاء على بعض الشركات التي تساعد في ترسيخ دعائم هذه الإمبراطورية العالمية التي تكره الفراغ على وجه الكرة الأرضيّة، وتتأقلم مع الظروف كافّة، فلا تهتم باللغات، ولا بالثقافات، تستطيع أن تبتلع الثقافات كلّها، وتبتر المجتمعات من جذورها، عن طريق ترساناتها الإعلامية؛ لتشويه كلّ الحقائق وليس معظمها، وإن خرجت حركات مناوئة لها تستطيع أن تقضي عليها أو تبتلعها عن طريق احتوائها، “فعلى هذه الشركات أن تتأقلم مع الضغوط التي قد تملى عليها تغيير اتجاهات عملها، وفي نفس الوقت تتطور وفقًا لقوانينها الخاصّة. وفي هذا السبيل تستغل الشركات عابرة القومية موارد القوة الاقتصادية والسياسية المتاحة لها في مواجهة البيئة القومية والدولية التي تجد فيها خصومًا عديدين. وبالقدر الذي تعمل فيه هذه الشركات على إضعاف الأساس الاجتماعي والمادّي لهؤلاء الخصوم، فإنّها تضطر هي ذاتها للتكيف مع الظروف التي يخلقونها. وهذا الموقف المزدوج لتطور مجمل الظاهرة التي نتحدّث عنها: أي الإنتاج الدولي[15].”
إنّ كل الإمبراطوريات شيدت تحت عذر معين (نشر الدين، نشر الحضارة، نشر الديمقراطية…)، والآن هناك إمبراطورية هلامية من شكل آخر هي إمبراطورية الشركات عابرة القارات، وهي إمبراطورية سرية، والإمبراطور شخص لا ينتخب ولا يخدم لأجل محدود (ليس رئيسا لدولة ما) لا يطيع أمرَ أحد، وهو ما يسمّيه الخبير الاقتصادي الأمريكي؛ جون بيركنز الشركات الحاكمة corporatocracy التي يعرّفها: بـ “مجموعة الأفراد الذين يديرون شركاتنا الكبرى، وهم يتصرفون بوصفهم الأباطرة الحقيقيون لهذه الإمبراطورية، يسيطرون على وسائل إعلامنا سواء بالملكية المباشرة أو عن طريق الإعلانات، يسيطرون على معظم سياسيّنا لأنهم يموّلون حملاتهم الانتخابية إمّا عبر الشركات، أو من خلال التبرعات الشخصية التي تأتي من الشركات، وهم غير منتخبين، ولا يخدمون لأجلٍ محدود، ولا يطيعون أمر أحد، وفي قمة الشركات الحاكمة corporatocracy لا يمكنك أن تحدّد بالضبط ما إذا كان الشخص يعمل لحساب شركة خاصة أو للحكومة، لأنهم دائمًا ما ينتقلون جيئة وذهابا بين الاثنتين[16]”
ففي أواخر عام 1960 أقرضَ البنكُ الدولي الإكوادورَ قروضًا كبيرة، وخلال ال 30 سنة المقبلة، نما الفقر من 50% إلى 70% ونمت البطالة من 15% إلى 70% وارتفع الدين العام من 240 مليون دولار إلى 16 بليون دولار، فهذا هو عصر الرأسمال المالي الذي اختصره جون آدامز الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأميركية بقوله: “هناك طريقتان لقهر واستعباد أمة.. الأولى عن الطريق السيف، الثانية عن طريق الدّيون[17].”
طريقة سداد الديون لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تكون ببناء مشاريع البنية التحتية، بناء السدود، بيع النفط الخاص بالدولة، بسعر رخيص، بناء قاعدة عسكرية، إرسال قوات لدعم في مكان آخر كالعراق على سبيل المثال، أو التصويت على قرار في الأمم المتحدة، أو خصخصة الموارد العامة للدولة كالمياه والكهرباء وبيعها للشركات، الدولية،
- علامات أفول الرأسمالية المالية
إنّ فرانسيس فوكوياما من خلال نظريته يؤكّد على أنّ نهاية التاريخ بدأت مع نهاية الحرب الباردة، ومن خلال هذه الحرب وانتصار قيم الليبرالية الديمقراطيّة الغربيّة، صار الانتصار على الأيديولوجيا، وعلى الأفكار الأيديولوجيّة عبر التاريخ الإنساني، وأنّ الديمقراطية المعاصرة بديل حضاري للأنظمة الديكتاتورية في العالم، وفكرة الصراع التاريخي المتكرر بين طبقتَي السادة والعبيد لانهاية واقعية لها سوى في الديمقراطيات الغربية واقتصاد السوق الحر. وأنّ الاشتراكية الراديكالية أو الشيوعية لا يمكنها لأسباب عدة أن تتنافس مع الديمقراطية الحديثة، وبالتالي فإنّ المستقبل سيكون للرأسمالية أو الاشتراكية الديمقراطية.
العجيب في الأمر أنّ هذه الأفكار التي طرحها كلٌّ من هنتغتون وفوكوياما قد انتشرت بسرعة البرق، وارتفع أجر محاضرات فوكوياما إلى أسعار خيالية، وباتت كتب هنتغتون وفوكوياما، تباع منها ملايين النسخ، لطالما تمهّد الطريق أمام إمبراطوريّة الشركات، فالترويج سيكون في أعلى مستوياته، مع العلم أنّ الواقع بات عكس هذه الأطروحات تمامًا، ففكرة نهاية الأيديولوجيات هي نظرية فكرية أيديولوجيا وهي نظام أيديولوجي متكامل، لا يختلف عن الأيديولوجيات السابقة في نفي كلّ أيديولوجيّة سواها، واحتكار الحقيقة، “يستحيل تكديس رأس المال وجني الربح من دون أزمة[18].” أي لا يمكن الاصطياد إلّا في الماء العكر، إلّا إذا تضاربت الأوراق، وكانت هناك حاجة مجتمعيّة للتعلّق بهذا النظام، فهو المخلّص من كلّ الأزمات، وإلّا فالحرب ستكون على الأبواب، والمثال السوريّ أقرب إلى هذا الفكرة.
لا يمكن أن نفسّر الرأسماليّة إلّا على أنّها نظام سياسيّ أيديولوجيّ، وإن كانت تحارب الأيديولوجيّات، ففكرة نهاية الأيديولوجيات هي بحدّ ذاتها أيديولوجيّة لا محالة. فكلّ هذه الأزمات في العالم هي من صنيعة الاحتكارات المالية، فالكرة الأرضية مهدّدة، من خلال التلوّث البيئي، والتلوث الالكتروني، والقنابل النووية، والفوضى، ووصول رؤساء غير طبيعيين إلى سدّة الحكم، والفارق الفظيع ما بين طبقتَي التجّار والفقراء، والهوّة تزداد يومًا بعد يوم.
والمشكلة في الوضعية التي فسّرت المجتمع بقوانين المادّة، فالمجتمع ذو طبيعة ثانية تختلف مقاييسها عن مقاييس العلوم الوضعيّة، ولا يمكن فهم المجتمعات بنظرية نيوتن، أو بالعلم وحده، فيجب أن تدرك المجتمعات من خلال الميثولوجيا والدين والفلسفة معًا، “فالمجتمع بكافة بناه الذهنية والمؤسساتية، وبما فيها الاقتصادية أيضاً، يختلف نوعياً وجوهرياً عن التعاريف التي صاغتها بحقّه العلوم المسماة بالوضعية[19]”
بالمقابل لنعد لنتائج نظرية فوكوياما، ولننظر إلى هذا المثال فقط الذي سرده الخبير الاقتصادي الأمريكي جون بيركنز: “تنفق الولايات المتّحدة أكثر من 87 مليار دولار لتقود حربًا في العراق، بينما تقدّر الأمم المتّحدة أنّه بأقل من نصف هذا المبلغ يمكننا تأمين المياه النظيفة، والتغذية الكافية، والخدمات الصحية، والتعليم الأساسي لكلّ إنسان على وجه الأرض، ثمّ نتساءل لماذا يهاجمنا الإرهابيون[20]؟” هل هذا نظام فيه عدالة؟ بالطبع هذا مثال صغير واحد، فرجل واحد اسمه بيل غيتس يمتلك هذا الرقم من المال، أي أنّ رجلًا واحدًا فقط يستطيع إنقاذ العالم، وهو ليس دولة، أو ملك أو إمبراطور بالمفهوم القديم، لكنّه إمبراطور بالمفهوم الجديد.
“إنّ الحداثة الرأسمالية، بإعلانها تاريخها الليبراليّ على أنّه “نهاية التاريخ”، تجهد لتكرار حيلة لاذ إليها كلُّ عصر مهيمن كلاسيكيّ. إذ يعلن كلّ عصر مهيمن عن نفسه بأنّه الأخير. لكنّ التاريخ يستمر. لذا، لربما أنّ المنتهي هو الحداثة الرأسمالية بذاتها. حيث أنّ هذا النظام بات من حيث المضمون بلا معنى[21].”
من علامات ابتداء عصر جديد مليء بالغموض والفوضى هو بداية الألفية الثالثة وصولًا إلى شكل الرؤساء في العالم والقوّاد الذين يحكمون العالم والدول بشكل عام، وكأنّ الهدف هو خلق رموز الفوضى في العالم، فقد “شكّل الهجوم الخطير الذي قام به أسامة بن لادن على برجَي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمر/أيلول 2001 دلالة جديدة على الفوضى السياسيّة العالميّة[22].”
فلم تستطع الحركاتُ المناهضة للرأسمالية المالية إلّا أن تقع في فخه، فالإعلام والترسانة المالية لهذا النظام، والتنظيم المبرمج الذي يفوق قدرات المجتمع قد جعلت الحقيقة تنقلب، وبات المفكرون أنفسهم أسرى هذا النظام، وقد أصاب الوهنُ كلَّ الحركات الثوريّة، وباتت الحركات الثوريّة تعدّ على الأصابع، والنظام الجديد يقضي ويفكّك حركة إثر أخرى، مع أنّ نظام الدولة منذ السومريين حتّى الآن قد استفاد من الحركات المناوئة وطوّر نفسه على حساب المجتمع، وإلّا سيأكل هذا النظام نفسه، بل هو في مرحلة التآكل الآن. وما فكرة الفوضى الخلّاقة إلّا برهان على انسداد الأفق.
وقد قضى هذا النظام على كل الثورات، وآخرها ربيع الشعوب الذي وأد نفسه بنفسه في معظم الدول، إلّا في شرقيّ الفرات الذي مازال في أوج ثورته. حتّى وإن نجحت الحركات المناوئة ووصلت الحكم، فإنّها تصاب بداء السلطة، وتقع في أسر الدولة والقوانين التي تعتبر المنفذ والخلاص للرأسمال المالي الهلامي، يقول إيمانويل والرستاين في هذا الصدد: “على الرغم من وصول الحركات المعادية للأنظمة إلى سدّة الحكم، فإنّ حماسة المشاركة الكبيرة في فترة التعبئة بدأت تتقلّص. فبمجرّد وصول الحركات المعادية لأنظمة للحكم في أيّة دولة كانت. بدأت تظهر طبقة جديدة تتمتع بامتيازات، وأصبح مطلوبًا من عامة الناس عدم فرض طلباتهم بقوة السلاح في ظلّ حكومة تؤكّد أنّها تمثّلهم. حين أصبح المستقبل حاضرًا، بدأ الكثير من المقاتلين المتحمسين والمؤيدين بشدّة لتلك الحركات في إعادة النظر في مواقفهم، وسرعان ما بدؤوا بالانشقاق[23].”
“لقد ظهرت الكثير من التيارات المناوئة للرأسمالية. ولكن، ثبُتَ بجلاء أيضًا أنّ الغالبية الساحقة منها عجزَت عن تجنُّب نقل الماء إلى طاحونة الرأسمالية بحماقة رعناء[24].”
فكلّ هذه الحركات المناوئة لهذا النظام قد خدمته بصورة أو بأخرى، فالكتالون قد شادوا فريق برشلونة ليكون أداة مقاومة، لكنّ هذا الفريق انخرط في غمار الرأسمال المالي، سواء من خلال أسعار اللاعبين الخيالية، أو من خلال شباك التذاكر والسوق السوداء والدعايات…
لكن “ينبغي تقييمُ الرأسمالية كأضعفِ نظامٍ سلطويٍّ مهيمن[25].” ونظرية الفوضى هي دليل كاف على ضعف هذا النظام، والسقوط المدوّي لنظام البورصات والتجارة في عام 2008 كان إنذارًا مبكرا على البحث عن حلٍّ بديل، وقرار إسقاط برجَي التجارة العالميين هو بداية عصر الفوضى.
الختام
إنّ الذين يرضون بهذا النظام ويقولون لا حلّ لنا سواه، وأنّ السياسيّين الذين يقولون: إنّ اقتصاد السوق شيء، والرأسمالية شيء آخر يجنبنا موقف الاختيار بين (كلّ شيء) أو (لا شيء)، فرجال السياسة كما يصورهم بروديل بأنّهم يصورون الأمور وكأنّما لم يكن هناك من سبيل إلى الحفاظ على اقتصاد السوق إلّا بأن نطلق أيدي الاحتكارات على هواها، أو كأنّما كان تخليصنا من هذه الاحتكارات لا يتمّ إلّا عن طريق التأميم الصارم… فيقول: “وإذا كان الحلّ المقترح يهدف إلى إحلال احتكار الدولة محلّ احتكار رأس المال، وبالتالي جمع عيوب الاثنين معًا، فلماذا ندهش عندما نجد أنّ حلول اليسار الكلاسيكية لا تلقى استجابة جمهور الناخبين وحماسه؟ وإذا نحن بحثنا جادين مخلصين فسنجد الحلول الاقتصادية التي تستطيع أن توسّع اقتصاد السوق وأن تضع في خدمته الفوائد الاقتصادية التي كانت مجموعة مهيمنة تستأثر بها. ولكن المشكلة ليست أساسًا في المجال الاقتصاديّ، بل في المجال الاجتماعيّ. وإذا لم يكن من الممكن أن نتوقّع أن تتنازل الدول التي تحتلّ مركز عالم اقتصاديّ عن امتيازاتها على المستوى العالمي، فليس لنا تتنازل الدول التي تحتلّ مركز عالم اقتصاديّ عن امتيازاتها على المستوى العالميّ، فليس لنا أن نأمل على المستوى القوميّ أن نتوقّع من المجموعات المهيمنة التي تجمع رأس المال وسلطة الدولة معًا، والتي تتمتّع بمساندة دولية، أن تلعب لعبة عادلة وتتنازل عن امتيازاتها[26].”
لم أستطع أن أصوّر الحداثة الرأسمالية إلّا من خلال رواية محامي الشيطان The Devil’s Advocate للروائي أندرو نيدرمان والذي جسّد كفيلم أميركي حمل نفس العنوان، من إخراج تايلور هاكفورد، وبطولة كلّ من آل باتشينو وكيانو ريفز وتشارليز ثيرون وهيثر ماتاراتزو، ولستُ في صدد عرض مجريات الفيلم، لكن الفكرة أنّ الشيطان هو الشهوات والسلطة والمال الذي يجسّده آل بتشينو، وهو يغري ريفز ليقوّي فيه هاجس التملّك والقوّة والتحكّم… والشيطان يغيّر نفسه في نهاية الفيلم بلبوس آخر، والهدف نفسه، فريفرز هو النخبة المثقفة، والرأسمالية تبحث عنه لتتجسّد فيه، من خلال إبراز الجانب المادي وطمس كلّ أنواع الروحانيات، ليبتعد عن حقيقته.
وسأختتم بقول جون بيركنز الذي كان قاتلًا اقتصاديًّا والذي نجا من هذا النظام، في كتابه الغني؛ (اعترافات قاتل اقتصادي): “ومن ناحية الكربوقراطية CORPORATOCRACY التي هي منظومة الشركات والبنوك والحكومات مجتمعة، والتي تسعى لترسيخ فكر الإمبراطورية العالمية – فإنّها تستخدم كلّ قوّتها المالية والسياسيّة للتأكّد أنّ مؤسساتها من المدارس وقطّاع الأعمال والإعلام تساند هذا المفهوم الزائف، وتوابعه. فقد أوصلونا إلى نقطة أصبحت فيها ثقافتنا العالمية آلة متوحشة تتطلّب كمّيات متصاعدة من الوقود والصيانة، إلى حدّ أنّها في النهاية ستستهلك كلّ ما تقع عليه العين، ولا يتبقّى أمامها إلّا التهام نفسها.
لا يكون أعضاء الكربوقراطية CORPORATOCRACY مؤامرة أو اتفاقًا جنائيًّا ولكنّهم يتبنّون بعض القيم والأهداف المشتركة، وأهمّ وظيفة لهم هي الإبقاء على هذا النظام، وتوسيعه وتقويته. وأن يقدّم لنا نسق حياة صانعي هذا النظام (عدّتهم، عتادهم، قصورهم، يخوتهم، وطائراتهم الخاصة) كنموذج يُحتذى لنسعى جميعًا لأن نستهلك، ونستهلك، ونستهلك[27].”
[1] قطع تبديل للحضارة/ عزيز نيسن/ قصص/ ترجمة عبد الوهاب مدني/ الدرار الوطنية الجديدة للنشر والتوزيع/ دمشق/ الطبعة الأولى/ 2003/ الصفحة 12.
[2] https://www.aljazeera.net/encyclopedia/conceptsandterminology/2015/8/27/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D8%B3%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9
[3] الحضارة المادّية والاقتصاد والرأسمالية من القرن الخامس عشر حتّى القرن الثامن عشر / تأليف فرنان بروديل / ترجمة مصطفى ماهر / (الجزء الثالث): زمن العالم / المركز القومي للترجمة / العدد 1875 / القاهرة 2013 الجزء 3 / الصفحة 780.
[4] ديناميكيّة الرأسماليّة / تأليف: فرنان بروديل / ترجمة: د. شفيق محسن / دار الكتاب الجديد المتحدة / كانون الثاني / بنغازي 2008 / الطبعة الأولى / الصفحة 76
[5] مانيفستو الحضارة الديمقراطية / الجزء الثاني: (المدنية الرأسمالية) / عبد الله أوجالان / مطبعة الشهيد هركول / الطبعة الثالثة / أيلول 2018 / الصفحة 381.
[6] توماس سويل هو عالم اقتصاد أمريكيّ ومنظِّر اجتماعيّ، يعمل حاليًا كزميل أقدم لدى معهد هووفر Hoover Institution، بجامعة ستانفورد. ولِد بولاية نورث كارولينا.
[7] مانيفستو الحضارة الديمقراطية / المجلد الخامس: (القضية الكردية وحلّ الأمّة الديمقراطيّة) / عبد الله أوجالان / مطبعة آزادي / الطبعة الثانية / نيسان 2014 / الصفحة 308.
[8] انهيار الرأسمالية – أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحرّرة من القيود / تأليف: أولريش شيفر / ترجمة: د. عدنان عباس علي / عالم المعرفة الكويت العدد 371 / يناير / 2010 / الصفحة 32
[9] انهيار الرأسمالية – أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحرّرة من القيود / تأليف: أولريش شيفر / ترجمة: د. عدنان عباس علي / عالم المعرفة الكويت العدد 371 / يناير / 2010 / الصفحة 16.
[10] مانيفستو الحضارة الديمقراطية / الجزء الثاني: (المدنية الرأسمالية) / عبد الله أوجالان / مطبعة الشهيد هركول / الطبعة الثالثة / أيلول 2018 / الصفحة 89.
[11] مانيفستو الحضارة الديمقراطية / الجزء الثاني: (المدنية الرأسمالية) / عبد الله أوجالان / مطبعة الشهيد هركول / الطبعة الثالثة / أيلول 2018 / الصفحة 17.
[12] انهيار الرأسمالية – أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحرّرة من القيود / تأليف: أولريش شيفر / ترجمة: د. عدنان عباس علي / عالم المعرفة الكويت العدد 371 / يناير / 2010 / الصفحة 38
[13] انهيار الرأسمالية – أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحرّرة من القيود / تأليف: أولريش شيفر / ترجمة: د. عدنان عباس علي / عالم المعرفة الكويت العدد 371 / يناير / 2010 / الصفحة 36.
[14] انهيار الرأسمالية – أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحرّرة من القيود / تأليف: أولريش شيفر / ترجمة: د. عدنان عباس علي / عالم المعرفة الكويت العدد 371 / يناير / 2010 / الصفحة 31
[15] الشركات عابرة القومية ومستقبل الظاهرة القومية / تأليف د. محمد السعيد سعيد / سلسلة عالم المعرفة الكويتية / نوفمبر 1986 / العدد 107 / الصفحة 11
[16] فيديو باسم القاتل الاقتصادي / الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=s9Z0Ta7Z6iE
[17] المصدر السابق.
[18] مانيفستو الحضارة الديمقراطية / الجزء الثاني: (المدنية الرأسمالية) / عبد الله أوجالان / مطبعة الشهيد هركول / الطبعة الثالثة / أيلول 2018 / الصفحة 347.
[19] مانيفستو الحضارة الديمقراطية / الجزء الثاني: (المدنية الرأسمالية) / عبد الله أوجالان / مطبعة الشهيد هركول / الطبعة الثالثة / أيلول 2018 / الصفحة 66
[20] اعترافات قاتل اقتصادي / تأليف: جون بيركنز / ترجمة ومراجعة: مصطفى الطنابي، د. عاطف معتمد / الهيئة المصرية العامة للكتاب / مكتبة الأسرة / 2012 / الصفحة 19
[21] مانيفستو الحضارة الديمقراطية / المجلد الخامس: (القضية الكردية وحلّ الأمّة الديمقراطيّة) / عبد الله أوجالان / مطبعة آزادي / الطبعة الثانية / نيسان 2014 / الصفحة 43.
[22] تحليل النظم الدولية / تأليف: إيمانويل وولرستين / ترجمة: علي حمدان / مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة / الطباعة: مطابع الدار العربية للعلوم / بيروت 2015 / الصفحة 124.
[23] تحليل النظم الدولية / تأليف: إيمانويل وولرستين / ترجمة: علي حمدان / مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة / الطباعة: مطابع الدار العربية للعلوم / بيروت 2015 / الصفحة 121.
[24] مانيفستو الحضارة الديمقراطية / الجزء الثاني: (المدنية الرأسمالية) / عبد الله أوجالان / مطبعة الشهيد هركول / الطبعة الثالثة / أيلول 2018 / الصفحة 11.
[25] مانيفستو الحضارة الديمقراطية / الجزء الثاني: (المدنية الرأسمالية) / عبد الله أوجالان / مطبعة الشهيد هركول / الطبعة الثالثة / أيلول 2018 / الصفحة 11.
[26] الحضارة المادّية والاقتصاد والرأسمالية من القرن الخامس عشر حتّى القرن الثامن عشر / تأليف فرنان بروديل / ترجمة مصطفى ماهر / (الجزء الثالث): زمن العالم / المركز القومي للترجمة / العدد 1875 / القاهرة 2013 الجزء 3 / 784.
[27] اعترافات قاتل اقتصادي / تأليف: جون بيركنز / ترجمة ومراجعة: مصطفى الطنابي، د. عاطف معتمد / الهيئة المصرية العامة للكتاب / مكتبة الأسرة / 2012 / الصفحة 20