حسن جودي
إنّ الشرقَ الأوسطَ يعيشُ الآنَ في أخطر مراحله، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً.
وصلت مشاكلُ الشرق الأوسط إلى أزماتٍ عويصة، وأزماتُها إلى دوّامة جهنمية وفوضى كارثية، كطاحونة جبّارة وقاهرة تطحن الفردَ والمجتمع الشرق أوسطيين. طبعاً كلما استدامت الدوّامةُ والفوضى طحنتِ الوجودَ الإنساني حضارياً وثقافياً في هذه الجغرافية الملتهبة أكثر فأكثر؛ لذلك لابدَّ من توقيف دوران تلك الطاحونة التي تكوّن حَجَراها من الذهنية الدوغمائية والتي تكوّنَ منها الدين والدولة، أو بالأصح التي تحجّرَ منها الدينُ والدولة، والاّ ستكون الكوارث البشرية أقسى مما تحصل الآن.
لماذا وصل الشرقُ الأوسط إلى هذه الحالة؟ سؤالٌ قد طُرح كثيراً وسيطُرح أكثر طالما لم نصل إلى جوابه الحقيقي الواقعي.
إنني أعتقد بأنّ هذا الجوابَ كامنٌ في هيمنة الذهنية الدوغمائية على عقول المجتمعات الشرق أوسطية من خلال هيمنة الدين والدولة منذ آلاف السنين، ولاسيّما بعد القرن الثاني عشر الميلادي إلى يومنا هذا.
فمن خلال فَهمِنا لماهيّة الذهنية الدوغمائية وجذورها في الدين والدولة، يمكننا الوصولُ إلى حقيقة درب التحرّر من الدوّامة والفوضى التي أغرقتِ الشرقَ الأوسطَ في التخلف والفقر والبطالة والحروب والنزاعات العبثيّة التي لا تنتهي.
ماهية الذهنية الدوغمائية؟
لاشكّ أنّ الذهنيةَ هي التي ساعدت على تطوّر الإنسانية، وخاصةً في الميثولوجيا والميتافيزيقيا ومرحلة عصر العلم. إذاً الذهنيةُ بصفتها المعرفة المتراكمة المتحوّلة إلى منظومة فكرية جامدة ومستوى من الوعي لمجتمع ما أو جماعة بشرية معينة، قد تكون منفتحةً للتطوّر والتغيير، وقد تكون متزمّتة ومنغلقة على نفسها. فإذا تطوّرت وتغيّرت نحو الأرقى والأقوى ستكونُ ذهنيةً تقدميّة مثمرة، أما إذا توقفتْ عن التطور والتغيير فإنها ستكون ذهنيةً دوغمائية متزمّتة غيرَ مثمرة.
فالذهنيةُ الدوغمائية (الجمود الفكري والعقائدي) هي منظومةٌ فكرية شمولية مبنية على المطلقية، ترفضُ ديالكتيكية التطوّر والتغيير، وتكون بطبيعتها عائقاً صارماً أمام كلّ محاولات الانفتاح نحو التطوّر والتغيير. هذه الذهنيةُ لها قواعدُ ومبادئ ومعاييرُ ومفاهيم ومنطق، كما ولها أنواعٌ وأشكال وطرق وأساليب دوغمائية تُميّزها عن العقلية الديالكتيكية.
إذاً فإنّ الذهنيةَ الدوغمائية هي مجموعةٌ من الأفكار والاعتقادات والمناهج والأساليب الفكرية المتعصبة والمتحجرة، ولها النهجُ الفكري المتزمّت والإيمان بامتلاك الحقيقة المطلقة القاطعة والكاملة وإلغاء الآخر. وتنبع من هذه الذهنية(العقلية) مفاهيمُ استبدادية صارمة غيرُ قابلة للدحض والردّ، حتى غير قابلة للتشكيك وللنقد والنقاش. وهذا يعني التصلبُ والتزمّت وفرضُ الرأي بالقوة وليس عن طريق الإقناع والحجة والدليل.
ينبغي علينا الإشارة إلى أن الدوغمائية، كذهنية شمولية مطلقة، تعبّر عن نفسها من خلال مجموعة من أفكار ومفاهيم متزمتة واستبداديه وعلى رأسها الجنسوية الذكورية الأبوية (البطرياركية)، التعصبات الدينية والمذهبية والقبلية والقومية، الأصولية والسلفية، الحتمية والقدرية والغيبانية، السلطوية والمركزية الطاغية، التطرّف والعنف والإرهاب، النمطية والتقليدية… وغيرها من الأفكار والمفاهيم الشمولية المطلقة.
الدوغمائية وعلاقتها بالدين والدولة
لاشكّ بأن الدوغمائيةَ متجذّرةٌ في كلّ الأديان وكثيرٍ من الأفكار والمعتقدات والتيارات الأخرى. وبما أن الفكرَ الديني يحتاج إلى حجج ثبوتية مطلقة ويقينية شاملة، وبأنه يمتلك الحقيقةَ القاطعة للإقناع والإيمان، فالشمولية والمطلقية إذاً هما لبُّ الذهنية الدوغمائية، بما فيها الذهنية الدينية.
وعندما نبحثُ تاريخياً عن جذور ولادة الدولة وتكوينها يصل بنا هذا البحثُ إلى المعابد والزقورات؛ أي أنّ الدولةَ ولدت وتبلورَ شكلُها البدائي في رحم المعابد والزقورات الدينية، ثم تطوّرت وتنوعت أشكالها بناءً على نفس الذهنية. وهذا يعني بأن علاقةَ الدولة بالدين أو بالأحرى كلّ الذهنيات الدوغمائية هي كعلاقة الجنين مع أمّهِ، إنها علاقةٌ ذهنية وبنيوية، وإن ما يربطُ الدولةَ بالدين هو ذهنيتها الدوغمائية المتصلبة المطلقة.
عبّر السيدُ عبدالله أوجلان في إحدى مرافعاته عن هذه العلاقة الجدلية بين الدين والدولة وصلتهما بالذهنية الدوغمائية بقوله: “من الواضح أنّ المعبدَ السومري يشكل الرحمَ الأساسي للدولة. وهذا يعني أن الدولةَ ليست التعبير العلمي لعقل الإنسان بل هي التعبير اللاهوتي والدوغمائي له، إنني أقدم تعريفاً جديداً ومنفرداً؛ إن الدولة كحضارة وجوهر هذه الحضارة هي التعبيرُ اللاهوتي للمفهوم الدوغمائي الذي لم يتكوّن فيه الفكرُ العلميّ في المرحلة البدائية للفرز الطبقي. وتقبع في أساسها دوغمائية الإيمان وليس العلم… إن إيجاد الكهنة السومريين لإيديولوجية تكوين الدولة بمهارة، وتكوينهم للذهنية الاجتماعية، والنظر إلى الدولة كنظام إلهي على الأرض من خلال تلك الذهنية هو شيءٌ مثير ورهيب للغاية. وفي الحقيقة فإن السلطةَ الإلهية هي أعيان الملكية المتصاعدة. إن ما قام به الرهبانُ السومريون لدى توجههم نحو بناء تمأسس أشبه بالدولة، يزوِّدنا بمعلومات، ربما تكون الأكثر واقعية من أجل فهم الدولة. حيث قاموا أولاً بتشييد معابدهم المسماة بالزقورات، وسمَوا بشأنها إلى السماء، وقاموا بإعداد العبيد في الطبقة السفلى لتسخيرهم في خدمة الإله في الطبقة العليا، وتركوا المساحاتِ الوسطى مفتوحة أمام ممثلي الطبقة الوسطى، والبيوت والأراضي المحيطة بالمعبد، لم تكن سوى ملحقاً به. كانوا يُودِعون تكنولوجيا الإنتاج في قسم من المعبد، ويقومون بحسابات الإنتاج المثمر بكل دقة وعناية. إذاً فالدولة والشريحة الاجتماعية المرتكزة إليها، أقرب ما تكون إلى جسد ضخم متورّم ذي رأس كبير ويستند إلى أرجل هزيلة. إنه تورم سرطاني اجتماعي حقاً.”
بدون شك “إن الدولة بشكلها الموجود في الشرق الأوسط لا تلبي حاجات التطور الاجتماعي في المنطقة، وعلى العكس فهي تشكل عائق في سبيل هذا التطور، ولابد من تحجيم الدولة ووقفها ضمن نطاق الامن العام، والمصالح العامة للمجتمع، أي إصلاح بنى الدولة وإعادة صياغتها بما يتناسب مع الاحتياجات الاجتماعية لمجتمعات الشرق أوسطية”.
من الواضح أن “الرهبان السومريين لا يزالون يحكموننا. فمؤسسات الدولة التي أوجدوها، والآلهة التي صوَّروها وكوَّنوها كتعابير مشروعة، لا تنفك تحكمنا اليوم بهيبة لا يسعنا فتح عيوننا أمامها. وتتحكم بوجهات نظرنا وبراديغمائياتنا الأساسية كلها.”
“لذا فأصبح الدين روحاً للدولة، والدولة جسماً للدين وعشاً لكل أفكار ومعتقدات دوغمائية متصلبة ومستبدة. طبعاً توجدُ روابطُ وثيقة بين فكرة واعتقاد الدولة التي تطورت فيها المركزية والإله الواحد وبين فكرة واعتقاد الدولة والإله. وبقدر ما تجعلون الإله قوياً وغير مفهوماً وصاحب جميع الصفات ـ هذه الصفات هي خصائص الحضارة الأساسية ـ ولا يمكن الوصول إليها، فإنكم تجعلون الدولة والأقنعة الحضارية المختبئة فيها قوية وغير مفهومة ومخيفة ولا يمكن الوصول إليها. إن هذه الخصائصَ هي في الوقت ذاته خصائصُ الملوك أيضاً.”
طبعا لسنا الآن بصدد سرد مراحل تكوين وتطوّر الدولة عبرَ التاريخ، لكن يمكننا القول بأنّه على الرغم من طول هذا التاريخ لم تغيّر الدولةُ جوهرَها الاستبدادي وذهنيتها الدوغمائية. فكل الأنظمة السياسية السابقة والحالية في الشرق الأوسط من حيث الذهنية لها جذور دينية دوغمائية، على الرغم من ادّعائها بأنها عَلمانية أو اشتراكية أو قومية. ما يهمنا في هذا المقال هو الوصول إلى سُبل حلٍّ تنقذُ مجتمعاتنا من حالة الفوضى والدوامة التي كادت أن تُمحي الوجودَ البشري في الشرق الاوسط، من خلال تجاوز العقلية الدوغمائية المتجذرة في الدين والدولة وكافة الحقول المعرفية.
منذ أكثر من قرن حاولت تياراتٌ فكرية وسياسية في الشرق الأوسط بناءَ جدار سميك بين الدولة والدين، للحيلولة دون هيمنة المفاهيم الدينية على قوانين ودساتير الدول الشرق أوسطية، ووضع حدّ لهيمنة الدين وتياراتها السلطوية في الشؤون والمجالات السياسية والإدارية للدولة، من خلال ادّعائهم بـ”فصل الدين عن الدولة”، منها التياراتُ اليسارية والعَلمانية والعقلانية. ولكن جهودهم لم تأتِ بنتيجة ملموسة. بل بالعكس وقد تضاعفت هيمنة الدين على الدولة وهيمنة الدولة على الدين أكثر فأكثر، وأصبحت تلكَ التياراتُ أنفسها معتقداتٍ دوغمائية مطلقة وشمولية ودين جديد لمن يؤمن به أو يعتنقه.
ومن جانب آخر استفادت الدولةُ من هذه الجهود بابتعادها أكثرَ فأكثر عن القيم الأخلاقية الاجتماعية، والتي للدين دورٌ عضوي لترسيخها في نسيج المجتمعات، وكانت تُقِّيد بها الدولة للحيلولة دون أن تتجاوزَ ثوابتَ الأخلاقيات الدينية.
أي أن التياراتِ اليسارية والعلمانية والعقلانية كانت تبذلُ جهودها بهدف وضع حدّ لهيمنة دوغمائية الدين، من أجل تقوية هيمنة الدولة، أي بدون أن تضعوا حداً لهيمنة دوغمائية الدولة. السبب هو عدمُ رؤية العلاقة الجدلية بين الدين والدولة. فإذا أردنا أن نضعَ حداً لهيمنة أحدهما دون الآخر، فستكون النتيجة في نهاية المطاف بقاء هيمنة الاثنين معاً، حيث يتغذى أحدهما على الآخر. لذا علينا الإدراك بأنّ كلا الهيمنتين الدينية والدولتية مترابطتان ومتلاحمتان وأصبحتا علّة ومعلولاً لبعضهما البعض. وهذا يعني أننا أمامَ هيمنة واحدة ألا وهي هيمنة العقلية الدوغمائية المتجسدة في الدين والدولة، وعقليتاهما وجهان لعقلية واحدة.
لابد أن نؤكدَ بأن “تمأسس السلطة وتشكل الدولة المستمدة جذورها من المعابد على يد الشامان والراهب وذوي المعرفة والتجارب مستمرة على أساس السلطة السياسية والعسكرية بشكل أساسي. كافة أنواع الدول التي ظهرت عبر التاريخ لها نفس الذهنية وهي واحدة ولها نفس المسار لا تختلف سوى بالشكل والمكان. فالدولةُ مجتمعٌ ضمن مجتمعٍ ثانٍ، وهي مجتمع فوقي للمجتمع السفلي، والدولة أداة للعنف والتسلط، وتعمل بنفس الوقت على زرع مفهوم أن الإنسانَ دائماً بحاجة لها. وهي ليست مؤسسة خيالية مجردة، بل هي أداة للعنف إلى جانب أنها تنظيم مشترك بين المهيمنين على أداة السلطة. ويجب فتح المجال أمام المجتمع كي يتخذ مشروعيته ويسعى إلى تنفيذ الخدمات العامة من قبيل الأمن العام اللازم للجميع وغيرها من الخدمات وفق تنظيم حقيقي.
نحو شرق أوسط ديمقراطي
كما وضّحنا، فإن الشرقَ الأوسط غارقٌ في الأزمات والفوضى، والسبب يكمن في ابتعاده عن جوهره وإنكاره للبنى الأساسية التي كانت تشكلُ مصدرَ قوته على مرّ تاريخه العريق، ودخوله حالة من الجمود العقائدي الدوغمائي العميق والتي تجذر في ذهنية المنطقة بعد وقف باب الاجتهاد، ابتداءً من القرن الثاني عشر واستمراره حتى يومنا الراهن.
ففي العصر الذي أعلنت فيه الدوغمائية الظفر في الشرق الأوسط، كانت البنى الدوغمائية في أوروبا تتعرّض للاهتزاز والتفكك تحت وطأة ضربات حركات الإصلاح الديني والتنوير والنهضة وتعايش ثورة ذهنية مهدت السبيل للانطلاقة الأوروبية الحديثة، ولدى استعراضنا للوضع في الشرق الأوسط وما يعانيه من القضايا والمشاكل، يتضح بأنّ الذهنيةَ المتمحورة حول الدين والمتصلبة المتحكمة في المنطقة، هي المحورُ الأساسي والأول لهذه المشاكل والقضايا، فهذه الذهنية القدرية ذات الرؤى والتي لا ترى في الأمور إلا لوني الأبيض أو الأسود، البعيدة عن الإبداع ولها منطق حفظي لا يتعمق في جوهر الأمور، ونظرتها مجردة من الحقائق لا تحمل بين طياتها الأمل، بعيدة عن المنهج العلمي والفلسفي، وهذه الذهنية هي بحاجة إلى ثورة وإصلاح جذري، ثورة ذهنية تكون على غرار الثورة الذهنية الأوروبية وبالاستفادة من المكتسبات الأوروبية الحضارية، وهذا لا يعني الاكتفاء بمجرد الاقتباس من أوروبا، بل يجب إعادة صياغة هذه المكتسبات ضمن إطار معادلة الطرح والطرح المضاد والتركيبة، التي تعطي الشرق الأوسط القدرة على لعب دوره التاريخي الحضاري القيادي الذي يمثل بكونه الطرح المضاد للحضارة الغربية.
بناءً على ذلك طرحَ السيدُ عبدالله أوجلان- من خلال مرافعته الأخيرة- تحليلاتٍ عميقة وواسعة حول الشرق الأوسط، ولا سيما الوضع المتأزم والفوضى التي منبعها الذهنية الدوغمائية المتجذرة في الدين والدولة. وكذلك طرحَ مشروعاً ديمقراطياً كونفيدرالياً لاجتياز الشرق الأوسط أزماته والفوضى الخانقة التي أغرقته في دوامة كارثية.
يُفسّرُ السيدُ أوجلان حالةَ الدول المهينة على الشرق الأوسط بقوله: “تقمصت الدولة الشرق أوسطية المنكمشة على ذاتها والغاصّة في تزمتها تجاه المجتمع داخلياً والغرب خارجياً، الغطاء القوموي في القرن العشرين لتقود إلى تفاقم المشاكل وتثاقلها أكثر فأكثر. وبينما استحدثت نفسها بالنزعة القوموية، وببعض الإصلاحات المحدودة، مع حظيها بدعم حفنة ضئيلة من الدول الأخرى؛ فقد أسفر التعصبُ والتحجرُ السائد في المجتمع إلى ظهور ذهنية مغفلة وشاحبة متخلفة، ومريضة، وكأنها تحيا خارج دائرة الزمان والمكان. وبينما افتقدت التقاليدُ والأعرافُ قدسيتها كلياً، لم تَقُم العصرية (الحداثة) سوى بتكوين شريحة عميلة ملتفة حول الدولة. لم تتحطم الدولة الشرق أوسطية كلياً، بل تجاوبت مع مؤسسة العمالة المنتَظَر انبثاقها من سماتها الموجودة… ورغم دنو تشكيلة الدولة في الشرق الأوسط من الاستبدادية أكثر، إلا إنها قريبة أيضاً من المونارشية والإمبراطورية. بالمقدور القول إن الاستبدادية والمونارشية والإمبراطورية قد التحمت في شخصية رئيس الدولة في الشرق الأوسط. تشير هذه الحقيقة إلى مدى تأثير الرئيس ونفوذه بوضع نفسه مع الدولة في كفة واحدة. ولربما كانت أكثر أشكال الإرادة كثافة وتأثيراً تتجسد في رئاسة الدولة في الشرق الأوسط. لهذا علاقته بمضمون الدولة ذاتها. حيث تتحد تقاليد السلطة الأبوية والمشيخة والبيكاوية (الآغاوية) والسيادية القوية والوطيدة في رئاسة الدولة، لتتكون مجدداً كقوة عظمى. لأجل ذلك، من الصعب جداً البحث عن الأشكال الجمهورياتية أو الديمقراطية في الدولة الشرق أوسطية، ولو من قبيل الاستثناء. وإن المجتمع الشرق أوسطي أشبه بمادة مقيَّدة بمتانة بين يدي الدولة الشرق أوسطية. وأي أمارة تدل على الإشعار أو النمو البسيط فيها، تؤدي إلى استئصالها وانتزاعها. لا يمكن تحجيم الدولة دستورياً هنا، لأنها تتضخم كالديناصور.”
والآن يتم طرح العديد من أشكال وصيغ الحلول لمنطقة الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة، بمختلف السيناريوهات التي تسعى العديد من القوى المتنافسة في خضم فوضى الشرق الأوسط، إلى تطبيقها حسب مصالحها في المنطقة، وكذلك هناك العديد من الخيارات المتمثلة أمام المنطقة للخروج من حالة الفوضى والأزمة التي تعايشها، ومن هنا فإن شكل الحل الكونفيدرالي الديمقراطي يفرض نفسه كخيار بديل تتبناه شعوب المنطقة من العرب والكرد والترك والفرس وغيرهم في مواجهة السيناريوهات والخيارات الأخرى التي تسعى القوى الخارجية إلى فرضها على المنطقة. ومن طرف آخر تسعى الدولة المتزمتة والأنظمة التوتاليتارية والاوليغارشية والمونارشية المحافظة على وضعها الحالي بتغييرات طفيفة ووهمية مخادعة بذلك الشعوب، ومحاولة كبت أنفاسها. هذه الشعوب التي تسعى إلى حياة حرة كريمة وديمقراطية تحمل في طياتها المواطنة الحرة…فالشرط الأساسي في النظام الكونفيدرالي الديمقراطي هو سيادة الخيار الديمقراطي المنبثق من الأسفل. إنه نظام يعترف بالفروقات الأثنية والدينية والطبقية على الخلفية الاجتماعية.
إن مشروع الحل الكونفيدرالي الديمقراطي للشرق الأوسط لا يحمل في طياته أي توجه نحو السلطة أو الدولة. الكونفيدرالية الديمقراطية تعني الوطنية الديمقراطية والوطنية الديمقراطية تعني ديمقراطية الشعب، فهو نوع من التنظيم الرخو، ويعبر عن نظرة جديدة إلى الاشتراكية بجوهر المساواة والعدالة والحرية في ذات الوقت، وبإمكان الشرق الأوسط التوجه نحو الكونفيدرالية الديمقراطية، كما هو حال أوروبا اليوم، والشرق الأوسط بتاريخه ملائم للكونفيدرالية. توجد العديد من التعريفات للكونفيدرالية وأشكالها أما الشكل الذي نعتمده، من أشكال الكونفيدرالية هي الكونفيدرالية الديمقراطية وهي نظام بديل لنظام الدولة. إذ أنها لا تعني اتحاد بين عدة دول كما أنها ليست وسيلة للوصول إلى السلطة. إنه نظام يتخذ من تنظيم المجتمع السلفي هدفا له ويمثل المجتمع بكافة شرائحه وفئاته. فحيث أن نظام الدولة يمثل طبقة معينة ومنظمة للمجتمع العلوي.
يستند النظام الكونفيدرالي الديمقراطي إلى براديغما المجتمع الأيكولوجي الديمقراطي، وقيم المجتمع المشاعي الطبيعي والتحرر الجنسوي، فحياة الشعوب الشرق أوسطية دامت وعلى مدى تاريخها الطويل، اعتماداَ على النظم الأثنية، والتي تحمل في طياتها المساواة وقيم المجتمع المشاعي الطبيعي. ومن جانب آخر يستند النظام الكونفيدرالي الديمقراطي إلى مجالس المواطنة الحرة، ومؤسسات المجتمع المدني بكافة أشكالها، من جمعيات ونقابات ونوادي وبلديات والمؤتمرات الشعبية العامة، إذ أنها تعتمد على الديمقراطية المباشرة في تنظيم ذاتها من الأسفل إلى الأعلى على شكل هرمي رخو في الأعلى يكون مركز القرار هو القاعدة الشعبية في الأسفل، والنظام الكونفيدرالى الديمقراطي يسعى إلى خلق ثورة ذهنية عصرية، بدءاً من عملية إصلاح للدولة وإصلاح للوطنية وإصلاح للديمقراطية. أي إصلاح مجتمعي عام وشامل يحقق التوازن بين الفرد والمجتمع، وكذلك يسعى إلى تطبيق مبدأ الاتحاد الحر بين الشعوب والقوميات في الشرق الأوسط. وتتخذ من الاكتفاء الذاتي أساساَ لها في اقتصادها الذي يعتمد على المشاطرة والمشاركة العامة فيه.
وموديل الحل الكونفيدرالي الديمقراطي لا يعطي مجال للعنف والانقسامات، إنه طراز يعتمد على الطواعية. كما يوجد العديد من الأسباب التاريخية والاجتماعية التي تعطي المجال لأرضية صلبة لبناء الكونفيدرالية الديمقراطية بقوة العملية الديمقراطية للشعب، وبهذا يمكن التخلص من الأنظمة اللاديمقراطية والأوتوقراطية والثيوقراطية. والطراز التنظيمي للحل الكونفيدرالي الديمقراطي هو الأنسب للتوافق مع الموزاييك الثقافي للشرق الأوسط والتداخل اللغوي والديني الموجود فيه. وهذا الطراز هو القادر على حل المشاكل والقضايا ومعالجة الظواهر العديدة الموجودة في المنطقة.”
وهكذا يصف السيد عبدالله أوجلان منظومة الكونفيدرالية الديمقراطية من حيث جوهرها وهيكلية تنظيمها وتناسبها مع حقيقة الشرق الأوسط الموزائيكية ويقول: “إن الكونفيدرالية الديمقراطية تمثل الحلَّ المناسبَ لشعوب الشرق أوسطية والعالم كافة، تعني تنظيم الأمة بدون دولة، وهي تنظيم الأقليات والثقافة والأديان وحتى تنظيم الجنس إلى جانب التنظيمات الأخرى، وهذا ما أصفه بتنظيم الوطني الديمقراطي، بحيث تكون لكل قرية مجلس ديمقراطي. التاريخ ملؤه العديد من الأمثلة، كديمقراطية أثينا، والسومرين الذين امتلكوا تنظيم مشابه، وفي يومنا الراهن تبني أوروبا كونفيدراليتها، والكونفيدرالية الكردية تناسب الشرق الأوسط، والإسرائيليين والفلسطينيين يمكنهم تأسيس الكونفيدرالية وبإمكان الاثنان والعشرون دولة عربية تأسيس كونفيدرالية، أما الأتراك بمقدورهم بناء كونفيدرالية ديمقراطية، فمن غير المستطاع جمع مجمل الأمة التركية تحت راية دولة واحدة، فلكل واحدة منهم دولة قومية، والأنسب لهم تكوين كونفيدرالية ديمقراطية.
وتوجد العديد من الأسباب التاريخية والاجتماعية التي تعطي المجال لأرضية قوية لبناء الكونفيدرالية الديمقراطية، وبقوة العملية الديمقراطية للشعب يمكننا التخلص من الأنظمة اللاديمقراطية (الاتوقراطية ـ الثيوقراطية). والطراز التنظيمي للحل الكونفيدرالي الديمقراطي هو الأنسب للتوافق مع الموزاييك الثقافي للشرق الأوسط، والتداخل اللغوي والديني الموجود فيه. وكذلك يخلق الحلّ الكونفيدرالي الديمقراطي نظام من العلاقات الارتباطية بين أجزاء كردستان والكرد في خارج الوطن، ومن جانب آخر يهيئ أرضية قوية لوحدة شعوب المنطقة على أساس المصالح المشتركة المتبادلة. وهكذا تصبح كردستان كونفيدرالية ديمقراطية بمثابة مفتاح الديمقراطية الكونفيدرالية للشرق الاوسط.”
إذاً فإن مشروع الكونفيدرالية الديمقراطية للشرق الأوسط مشروعٌ يستند إلى العقلية الديمقراطية الراديكالية، وتأخذ الحرية، العدالة، المساواة، التعايش السلمي بين الأفراد والمجتمعات والشعوب والأطياف وكافة المعتقدات، أساساً لبناء نظامه السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، البيئي والدفاعي. والأهم من كل ذلك هو أن الكونفيدرالية الديمقراطية تتجاوز كل مفاهيم و أفكار الدوغمائية التسلطية الشمولية وإنما يتبنى الجدلية العلمية أساساً لها. فالديمقراطية بطبيعتها الديمومية تسود عبر منظومة فكرية منفتحة، فالكونفيدرالية بجوهرها الديمقراطي تتصدى للذهنية الدوغمائية بكافة أشكالها وأنواعها، وفي نفس الوقت ترسخ الحرية والمساواة لكل معتقد يؤمن بالحرية والمساواة والعدالة والتعايش السلمي والحر.
——–
المصادر:
- الدولة – مختارات من مرافعات عبدالله اوجلان – منشورات قسم الترجمة العربية في لجنة الإعلام و التنوير.
- الكونفيدرالية الديمقراطية – كراس – من منشورات حزب الاتحاد الديمقراطي.
- الكونفدرالية الديمقراطية هي تنظيم الوطنية اللادولتية – توجهات القائد عبدالله اوجلان.