غزة-مصطفى الدحدوح
إملاءات فشل حكومة حماس تؤكد بطلان نظرية الإسلام السياسي
كشفتِ التجربةُ القائمة في قيادة الدين زمامَ حكم الدولة، فالتجربة المحطمة لكافة مقومات قيام دولة سياسية اقتصادية اجتماعية متكاملة المحاور والمقاومات في ظلّ الجهل الملموس في إدارة الأمور جراء ربط كل مجريات ونظم الحكم بالدين، وعندما نريد مقارنة النظام السياسي بالإسلام السياسي نجد بأن الإسلامَ السياسي لا يمتلك معطياتٍ واضحة تجعل مَن يردد هذا المصطلح على درايه على ماذا يشجع ويدافع عنه، مما يجعل جملة من التساؤلات تصبح محورَ حديث الدراسة: أيهما أنجح، النظام السياسي أم الإسلام السياسي، ومن منظور آخر لماذا لم تنجح أي دولة سياسياً متبنيه نظرية الربط بين الدين والدولة؟ وهل حقا يوجد ترابط بين الدين والدولة.
في هذه الدراسة سنحاول تسليطَ الضوء على النموذج الفلسطيني المتمثل في حركة حماس التي تعدّ امتداداً تاريخياً وفكرياً وإيدلوجياً لحركة الإخوان المسلمين التي حاولت أن تخوضَ جملةً من التجارب في قيادة المنطقة العربية في تثبيت مفهوم الإسلام السياسي، وسنحاول التوصلَ إلى النتيجة التي فرضتها سياسةُ حماس القائمة في قطاع غزة جراء الربط بين الدين والدولة، وجملة التحولات القائمة في سياساتها بالتزامن مع انحرافها عن مخططها وبرنامجها السياسي، وإظهار مقدار المخاطر التي أحدقت في القضية الفلسطينية جراء الربط بين الدين والدولة وإبراز مقدار الأطماع القائمة في الربط، وإنهاء الوحدة الفلسطينية والتفرّد في الساحة السياسية.
مرّت البشريةُ بمراحلَ عديدة من التحولات في الحضارات والشعوب الحاكمة للأرض هنا وهناك- البعض يتداول بأن مهدَ الرسالة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كانت انطلاق النظام الإسلامي السياسي، ولكن الجدير بأن محمد أتى للانطلاق برسالة نبوة وتعزيز القيم والأخلاق الإسلامية، ولتعد مرحلة حياة النبي محمد أساس للقيم والمبادئ الحميدة، كما أتم الخلفاء الراشدون الرسالة السماوية ولم يحضر أي نظام إسلامي مدون على لوائح الحكم البشرية- والحديث حول بداية فكرة الخلافة الإسلامية التي بنيت على أساس ربط بين الدين والدولة لتشكل نموذجاً واضحاً لعدم استمرارية ونجاح العملية القائمة، لتتشرذم بعد عدة أعوام. ولم يقتصرِ الموقفُ على الدين الإسلامي بل شهدت الديانة الإسلامية نماذجَ رسخت عبر التاريخ بفشلها حتى تندلع الثورة الأوروبية التي عرفت بعصر النهضة التي اندلعت في القرن الرابع عشر انطلاقاً من إيطاليا المطالبة بفصل الكنيسة عن الدولة مما جعل الدول الأوروبية تعيش اليومَ نموذجَ التحضر والانجازات السياسية.
وفي الانتقال للمشهد العربي، فإن التخلفَ الفكري ما زال مسيطراً على الأذهان والإيديولوجيات القائمة بشكل عام، والتي تتسارع في فرض سياسة سجلت عبر التاريخ فشلها في مراحل تاريخية عديدة، والتي تتمحور في قيادة الدين الدولة.
وفي الإجابة على تساؤلٍ يشغل أذهانَ البعض ممن يرجحون إسلامية الدولة، لكن للتاريخ الإسلامي الرد على ذلك، بأن الخلافات الإسلامية عبر التاريخ شهدت جملة من الانقسامات والنزاع للحصول على الحكم، في حين كانت تسعى كل خلافة أو طائفة إنهاءَ سابقتها أو منافستها للحصول على الحكم مما يجعل المشهد صراعي من أجل الحكم، علماً بأن جملة الخلافات نادت بمسمى إسلامية الدولة أي بأن المنهج السياسي موحد ولكن الأيديولوجية التي تقوم عليها مختلفة، مما يعكس عدم نجاح مفهوم الربط بين الدين والدولة لعدم تواجد مرافق أساسية يجتمع المصطلحين في مرافق أساسية.
والحري بالذكر أن الخلفاءَ الراشدين لم تكن مجريات حكمهم قائمة على منهجية الإقصاء والربط بين الدين والدولة، بل كانت قائمة على تولي عهد جديد بعد انتهاء العهد الأول، مما يشير إلى الحرية السياسية في إدارة الحكم واتخاذ الدين منهاج ديني اجتماعي ييسر مهام المجتمع ويخلق نوع من الانسجام الفكري والديني والأخلاقي بين المجتمع والسلطة الحاكمة في اتباع منهاج النبوة والقرآن في أحكام الحياة بين البشر.
واليوم بالتزامن مع مفهوم انخرط به كل مواطن عربي تحت ظلال تطلعات التغيير والإصلاح في المنطقة التي تمر من خلال وقائع الربيع العربي، مع ظهور تسويق يروج لمصطلح الإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية، والتخلص من كافة أشكال الظلم والاستبداد السياسي، التي أناخت على رقاب شعوب أمتنا العربية لأكثر من نصف قرنٍ من الزمان، وعلى الرغم من الرغبة إلا أن الشارع كان له تحفظات تجاه وصول الإسلاميين إلى سدَّة الحكم والرئاسة، ولم يكن هناك تسليم مطلق لوجودهم في مشهد السياسة واتخاذ القرار، والدليل على ذلك هو سرعة التفاف المعارضة وأجهزة الدولة العميقة بتطويقهم، وتحريك الدهماء – بقوة – للخروج عليهم، وقطع الطريق أمام فرص التمكين لهم، وإظهارهم من خلال الماكينة الإعلامية كعجزة فاشلين.
وفي بعض الحالات التي تمكن من خلالها جماعة الإخوان المسلمين الوصول لسده الحكم كنموذج في مصرَ وتونس سارع الشارع العربي إلى اسقاطهم عن سلم الحكم بعد توليهم زمام الحكم والعمل بشكل دوري لإنهاء فترة حكمهم والتزام الصمت في المرحلة التي تليهم مما يجعل تساؤلا يطرح بقوة في الساحة السياسية لماذا يحصل ذلك؟
الإسلاميون محاولات تكللت بالتحطم بعد طموح التغيير
إن حجمَ الحراك الذي ظهر في الدول العربية منذ عام 2010، وما تزال تداعياته قائمة، وما تمخض عنه من نتائج محصلتها الميدانية – من وجهة نظر البعض -هي فشل أصحاب المشروع الإسلامي، في بلوغ الغايات وتحقيق الأمنيات التي بشروا بها منذ قرابة ثمانين عاماً، أي عندما تهاوت دولة الخلافة العثمانية في عام 1924م، وتأسيس حركة الإخوان المسلمين في العام 1928م على يد الإمام الشهيد حسن البنا.
وإن الطموحات الإخوانية في السيطرة على زمام الحكم في المنطقة العربية يجب ان يسبقها إجابة شافيه عن مدى أهلية التيارات الإسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين؛ باعتبارهم كبرى الحركات الإسلامية في الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط، لإمكانية إحداث الإصلاحات التي تتطلع إليها الشعوبُ العربية من المحيط إلى الخليج. إلا أن التجربة الإسلامية السابقة في الماضي جعلت الشعوب تفكر عدة مرات بنفس الوقت حول القناعة بعدم أهلية الإخوان المسلمين في تمرير إسلامية الدولة.
حماس وبرنامجها الديني الإسلامي
عندما تقدمت حركة حماس إلي الترشح في الانتخابات في الدورة العاشرة عام 2016 تردد سؤال بين أوساط المجتمع ليصبح كالمطارد لكل فلسطيني في قطاع غزة من الشارع طوال الوقت: هل أنتم عازمون على تطبيق الشريعة الإسلامية؟ ثم كان السؤال الذي أورده الكثير من الإسلاميين: متى ستعملون على تطبيق الشريعة الإسلامية؟
كانت الإجابة التي أظهرها البرنامجُ الانتخابي والانضراج تحت قائمة التغيير والإصلاح والتي ترمي لاستكمال البرنامج الإخواني الإسلامي القائم في المنطقة العربية، والتي تدور حول تطبيق الدين في أمور إدارة الدولة مما يجعل من قيادة الحكم تحت نموذج الإسلام السياسي.
ومع انتهاء فرز الانتخابات حققت حماس نجاحاً بأغلبية في نتائج الانتخابات لتبدأ في مرحلة إعداد البرنامج السياسي الحاكم، لكن جملة النظم والقوانين المطبقة في بداية الأمر تندرج ضمن المخطط الإسلامي السياسي، لتبدأ الويلات على رؤوس الشعب الفلسطيني في قطاع غزة في عدم القدرة على التعاطي مع الأمور والتماشي مع النظام القائم الذي يسعى إلى خدمة الجماعة للوصول للمطالب العامة.
والأخطر من ذلك قيام الحركة في التسارع لحسم الأمور من منظور إسلامي بأن لا يجوز لعلماني “كافر” أن يعملَ بجانب الإسلامي، لتقوم الحركة بانقلاب دموي بحق المواطنين الغزيين الذين كانوا يعملون في الأجهزة الشرطية التابعة للسلطة الفلسطينية لترتكب بالجرائم هنا وهناك بحق المدنيين باسم الدين وقيام دولة إسلامية دون تواجد علماني يهدم المشروع الإسلامي.
لكن سياسة حماس بداية المرحلة لما يظهر اليوم من تنظيمات تنادي باسم قيام دولة إسلامية كـ (تنظيم الدولة –داعش، أحرار الشام، جبهة النصر، القاعدة، طالبان)، والحديث حول الخلافة الإسلامية، وارتكاب الجرائم بحق المسلمين من أجل الحصول على الحكم وكأن التاريخ يعيد نفسه.
على الرغم أن العديد من الدول في عالمنا العربي ومنطقتنا الإسلامية عدة نماذج لأشكال الحكم التي توسم أنظمتها السياسية بأنها إسلامية، كالسعودية والسودان وإيران، وهناك بلدان أخرى تقوم على مشهد الحكم والسياسية فيها أحزابٌ وشخصياتٌ إسلامية، مثل: المغرب وتركيا وماليزيا وإندونيسيا…الخ
تكفير النظام السياسي أساس المعضلة الفلسطينية
نشبت بعد انتهاء الانقلاب الدموي في غزة جملة من الخطوات التي كانت تطمح حماس إلى تنفيذها من أجل الحصول على زمام الحكم والعمل ضمن نظام يخدمها بشكل شخصي، لتنطلق نحو تكفير منظمة التحرير الفلسطيني الحاضن للكل الفلسطيني والممثل الأول والأخير للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات وأمام العالم في المحافل الدولية، لتبدأ عجلة ظهور نظام إسلامي محابى لفكر قيام دولة فلسطينية علمانية قائمة على نهج الفكر العلماني ويحكمها ضوابط إسلامية دينية في المعاملات الاجتماعية و الرجوع للقرآن والسنة في وضع الدستور واللوائح القانونية مع اللجوء للقوانين المجاورة مما يجعل الدولة تندرج ضمن طابع الدولة المتوازنة.
ولكن مع رفض حماس النظام السياسي الفلسطيني جعلت من الموقف أكثر صعوبة جراء تفكير الجميع والعمل بأحادية من أجل إنهاء منظمة التحرير وفرض نفسها كبديل قسري عن منظمة التحرير وجعل قطاع غزة إماره إسلامية تحت حكمها، ولكن بعد عدة سنوات بدأ الرفض الشعبي للقوانين الدينية المتشددة التي لا ترتبط بالإسلام من قريب ولا من بعيد والعمل على المطالبة بترك التعصب الفكري الديني في تولي زمام الحكم لتبدأ تصاعد الأحداث مما دفع الحركة للتسارع في الخضوع وترك القوانين الدينية التي كانت تتبناها والتي كانت نابعه من رحم الإخوان المسلمين والعودة إلى القوانين الفلسطينية.
حماس والانقسام الفلسطيني والعربي وعدم استقرارها السياسي
استطاعت أن تخلق انشقاقاً جديداً في الصفوف الفلسطينية بعد إعلانها بشكل رسمي تكفير كافة الأحزاب ومنظمة التحرير أمام الملأ، لتبدأ حكاية خلاف سياسي قائم حتى اليوم ينظر البعض بأنه خلاف بين حزبين ولكن الحقيقة تدور حول خلاف فكري في النظام السياسي، حيث تطمح حماس بتطبيق الإسلام السياسي على مصلحة الوطن والقضية، لتشهدَ الساحة الفلسطينية جملة من التطورات المغايرة في المنهجية القائمة، والعلاقات القائمة مع الدول؛ لكن لحماس حلفاء يساندون إبراز غزة كنموذج للإسلام السياسي بقيادة الحركة واستمرار الانقسام، مع قيام الحركة في تطبيق قوانين تدعي بأنها إسلامية ولكنها منافيه للدين والعقل وتعود بأصولها للحكم العثماني وخطرها تطبيق الضرائب على المواطنين من أجل كسب الأموال للحكومة كما عهد العثمانيين.
وبتأمُّل المشهد القائم نجد بأن حركةَ حماس دفعت بعجلة مساندة الإخوان المسلمين في مصر جراء أحداث 25 يناير و رابعه بشكل كبير مما جعل الحكومة المصرية تضع الحركة على قائمة الأحزاب الإرهابية و بالإضافة إلى تدخلاتها في الصراع السوري مما دفع النظام السوري العمل على قطع كافة العلاقات السورية وقطع الدعم للحركة والعمل على إغلاق مكتب الحركة وطرد قيادتها من داخل سوريا، لكن الخطواتِ القائمة على إسلاميته تثبت للعالم بشكل جلي فشلها وعدم نجاح النموذج الإسلامي السياسي على الرغم من التحولات والمخططات الممنهجة التي اتبعتها الحركة محاولة التماشي مع الأمور والتلاعب في الدين ونظام الدولة للوصول للأهداف الشخصية.
ومع مرور العام تلو الآخر نجد بأن حماس يوماً بعد يوم تخضع إلى إملاءات الدول بداية من إيران التي بدت الحاضنة للمشروع الإخواني الحمساوي والعمل بكل قوة على تقديم الدعم للحركة بشكل كبير مما جعلها تعيش في سخاء ورخاء اقتصادي، لتجعل إيرانُ من حماس عنصرَ قوة وعبارة المخططات الإيرانية لقيام الدولة الفارسية في المنطقة لتجد حماس نفسها في ممر مغلق بعد الحصار المصري عليها وجعلها تخضع إليها بعد التجاوزات التي ارتكبتها الحركة داخل مصر، لتشهد بعد ذلك خلافات فكرية بينها وبين إيران، لتبدأ تركيا بالظهور على المشهد السياسي في تبني المخطط الحمساوي وتقديم الدعم بشكل مباشر لتعزيز صفوف الحركة في القطاع لتمرير المخطط التركي في قيام خلافة عثمانية لتنتهي الأمر بعد استمرار مصر بالضغط بقوة على حماس من حيث تحجيم تحركاتها السياسية. وكذلك المشهد تكرر مع قطر مما جعل من حماس تظهر أمام الجميع بمشهد العراب الذي يذهب هنا وهناك لكي يلبي إملاءاته الخاصة التي تسير ضمن مفهوم أنها حركة ربانية مباركة من عند الرب وتأخذ من الدين مهد الحكم.
لنجد بأن الأطماع القائمة التي كانت تسعى خلفها الحركة لم تجعلها قادرة على وضع الدين في ميزان حكيم وجعل الدين المرجع في الأمور الحياتية والمجتمعية والأحكام وجعل السياسة في مرفق آخر لا يلتقي مع المجريات الأخرى مما يؤكد بأن الإسلاميين يستغلون مصطلح الدين من أجل مصالح شخصية من أجل الحصول على الدولة.
أرض فلسطين: التعددية الدينية وانعكاساتها السياسية
إذا حاولنا النظر إلى كافة المجريات التي كانت سابق لحكم حماس نجد بأن المجتمع الفلسطيني يحمل جملة من القواسم المشتركة سواء في الوطن أو الشتات امتثالاً بكون الواقع السياسي في فلسطين يتوجب الوعي بأن المجتمع الفلسطيني مسلم ومسيحي ويعيشون في حياة مشتركة حقيقية القدر والمصير واحد والنهضة والسقوط للجميع، فلا كرامة ولا أمن ولا قيامة لوطن إذا شعر جزءٌ من أبنائه بالتمييز وبأن حقوقهم منقوصة فيه.
ومن الجدير ذكره، أن العرب بمختلف انتماءاتهم الدينية – وخاصة المسلمين والمسيحيين – قد تعايشوا تاريخياً على أرض فلسطين؛ مهد الرسلات السماوية الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، على مدار آلاف السنين، وكانت تسود علاقاتهم -في معظم تلك الفترات -أجواء التفاهم والتسامح والمحبة والمساواة، وكانت المواطنة هي الناظم لشكل الحقوق التي يتمتع بها كلٌّ منهم، وواجباته تجاه الوطن.
وفي ظل واقع احتلالي بغيض، سيظل المكر السيء يدفع في اتجاه خلق فتنة بيننا وبين إخواننا في الوطن وشركائنا في الوحدانية، ليستنزف طاقاتنا جميعاً، ويجرنا – بخبث -إلى ساحات التحامل والعداء والكراهية. فبدل أن تتوحد جهودنا على مواجهة ذلك المحتل الغاصب، سوف ينشغل كلٌّ منا بالتجييش والإعداد للدخول في معارك جانبية لإضعاف الآخر وسلب مقامه ومواقفه، والمستفيد -طبعاً -من وراء كل تلك المعارك المفتعلة والدماء المهدورة هو الاحتلال نفسه.
لقد تعلمنا من دروس التاريخ، أننا بالحوار سوف نقطع الطريق على كيد المحتل ومكره، وبالتسامح والتصافي والتغافر، وتقديم كل منّا خطوة حانية وصادقة تجاه الآخر، سوف نحقق الوصول -بنجاح – إلى نهاية الطريق، وبلوغ الغاية التي نرجوها في إقامة مجتمع تسوده المحبة، وتربط بين أهله قواعد العيش المشترك، وخاصة بيننا وبين إخواننا المسيحيين، الذين تعايشنا مجتمعياً معهم على ثقافة “إن لهم في هذا الوطن ما لنا، وعليهم ما علينا”.
والمؤسف بان النظام الإسلامي الحمساوي جعل من هذا الانسجام والترابط ينقطع بشكل كامل داخل قطاع غزة جراء الأخذ بسياسة إقصاء الغير القائمة عليها الحركة جراء ملاحقة المسيحين في القطاع وفرض العديد من القوانين المنافية للديانة الإسلامية والمسيحية على حد سواء مما جعلهم يتركون الوطن هروباً من التعجرف الديني الذي نفاه الإسلام ولم يأت به محمد سيد البشرية جمعاء، ومن أخطر تلك الخطوات التي جعلت المسيحين يهربون من الوطن معاقبة واتباع نهج التعذيب لمن يخالف قوانين الدولة الإسلامية.
الإسلاميون: الحرية والتعددية السياسية
إن ما يراه مفكرو المدرسة الوسطية في الإسلام هو جواز التعددية السياسية بإطلاق، سواء كانت أحزاباً إسلامية أم غير ذلك (علمانية؛ ليبرالية أم يسارية)، ومن هم على هذا الرأي الشيخ راشد الغنوشي؛ زعيم حركة النهضة التونسية، حيث أشار في ندوة صحفية عام 1981م، قائلاً: “نحن لا نعارض البتة أن يقوم في البلاد الإسلامية أي اتجاه من الاتجاهات، لا نعارض البتة قيام أي حركة سياسية، وإن اختلفت معنا اختلافاً أساسياً جذرياً، بما في ذلك الحزب الشيوعي، فنحن حين نقدم أطروحتنا نقدمها ونحن نؤمن بأن الشعب هو الذي رفعنا للسلطة ليس إلا؛ لذلك ليس لنا الحق أن نمنع أي طرف من أن يقدم برنامجه.. وهذا الموقف هو منطق مبدئي إسلامي، أصولي شرعي، فنحن لا نعتبر المنع من حقنا أبداً، بل هو من حق الشعب، ولا خير فينا كطرف من جملة الأطراف السياسية إن لم نكن قادرين كغيرنا على الدفاع عن أطروحتنا وبرامجنا واختياراتنا، وإقناع غيرنا بها حتى تتبناها القواعد، سواء على مستوى المعارضة أو السلطة السياسية”.
وقد أجازها كذلك د. محمد سليم العوا، حيث قال: ” إننا لا نستطيع أن نمنع تياراً سياسياً قائماً في زماننا؛ علمانياً كان أم ماركسياً، لمجرد أنه يتعارض مع ما يتصوره البعض للإطار الإسلامي، إنما لنا أن نمنعهم فقط من هدم النظام الإسلامي، ثم لا نحجر على حرية أي منهم في الاختلاف والدعوة، وليكن صندوق الانتخاب هو الحكم بيننا”.
وممن قال بنفس الرأي الشيخ يوسف القرضاوي، وكذلك د. سيف الدين عبد الفتاح والأستاذ فهمي هويدي.
باختصار: إن موقف الإسلاميين من الحريات السياسية هو القبول بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، وكذلك الموقف من التعددية الدينية والقبول بمبدأ المواطنة، والذي يقوم على المساواة في الحقوق والحريات، عدا ما يعدُّ من خصائص كل منهم دينياً.
ختاماً: الرؤية ومفاتيح الخلاص لشعبٍ محتل
إننا كإسلاميين على أرض فلسطين، نعاني من الاحتلال والحصار، وتفرض السياسة علينا والواجب الوطني أن نعمل مع الجميع، وأن يشعر الكل بمختلف ألوانه السياسة وأطيافه الحزبية، وانتماءاته الدينية والعرقية، أننا نشكل “مثابة آمنة” له، وأن فهمنا قائم على احترام الجميع، وأننا نتطلع لشراكة سياسية وتوافق وطني، مع بالغ التقدير لخصوصيات الكل في الفكر والسياسة والأيديولوجيا.
وتأسيساً على ما سبق ذكره، نود الاستعانة بما أشار إليه د. سعد الدين العثماني؛ أحد قيادات حزب العدالة والتنمية المغربي، في كتابه الموسوم: “في فقه الدين والسياسة”، حيث أوضح طبيعة الالتباس القائمة، بالقول: “إن العلاقة بين الدين والسياسة ليست علاقة فصل؛ لأن الدين حاضر في السياسة بشكل من الأشكال في جميع الثقافات والحضارات والمجتمعات، بما فيها المجتمعات الغربية اليوم، ولكنها في الوقت نفسه ليست علاقة وصل تام؛ لأن الفعل السياسي هو دنيوي بامتياز، فهو بشري؛ اجتهادي تقديري، رغم كونه من حيث العموم يخضع لمبادئ الدين وأحكامه”.
إن ما يحتاجه الإسلاميون بشكل عام هو التركيز على قضايا الشراكة السياسية والتوافق الوطني، لأنها مفتاح التكيف والقبول للعمل بروح الفريق، دون إقصاء لأحد أو تغييب لجهة.
في ساحتنا الفلسطينية ليس لنا من خيار غير جمع الشمل للكل الوطني والإسلامي، والتحرك برؤية وطنية، وفي سياق توافقٍ ضمن القواسم المشتركة التي تحددها حقوقنا وثوابتنا الوطنية.
لقد انتهى زمن التفرد لأي تنظيم بالسلطة والقرار، ولم يعد مقبولاً الحديث عن أحزاب ببرامج متناقضة، وتعمد البعض إظهار سرمدية الخلاف، والخطاب بنبرة استحالة اللقاء، حيث أكدت أغلب التجارب النضالية في هذا العالم على ضرورة اجتماع الصف خلف السياسي المفاوض، والقيادي المقاتل في الميدان.
باختصار: الدولة المدنية – اليوم -هي محط رحالنا جميعاً، والشراكة السياسية ضمن التوافق الوطني هي ما يجب أن نبشر به، والهوية الوطنية هي عنواننا النضالي، والشريعة الإسلامية هي الأرضية التي نبني عليها منظومتنا السياسية والأخلاقية، وأن تعاقدنا قائم على ما أجمع عليه الكثير من الفقهاء، من حيث إن السياسة هي ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد.