ياسر شوحان
إن أطلقنا على عفرين أنها المدينة الساحرة فلا عجب ، ففيها عبق التاريخ وسحر الطبيعة الذي استوطنها الإنسان منذ عشرات آلاف السنين ، فمن أين بدأت حكايتها ؟؟!!.
أصل القصة :
إنسان النياندرتال هو أحد الأجناس البشرية والذي جاء بعد سلفه الهوموأركتوس ، وقد استوطن في مناطق كثيرة من وسط وغرب آسيا وأوربا أيضاًَ ، وقد انتشر في هذه المناطق منذ حوالي 350 ألف عام ومن ثم انقرض منذ حوالي 24 ألف عام ، وقد عاصر إنسان النياندرتال نوع آخر من البشر في إفريقية ( الإنسان العاقل ) الذي يعد جد الإنسان الحالي ، وقد احتمل بعض العلماء أن هذين النوعين قد ينحدران من أصل واحد ، ويشير علماء آخرين إلى أن مسألة تطور الإنسان مقطوعاً بين هذين النوعين مشيرين إلى أن هناك حلقة مفقودة في سلسلة التطور البشري معتبرين الإنسان العاقل نوع منفصل عن سابقيه ؟!! .
نياندرتال عفرين والحلقة المفقودة :
في أحد الكهوف في وادي نهرعفرين والذي يطلق عليه كهف الديدرية والذي يبعد جنوب عفرين بـ 15 كم ، اكتشف البعثة الأثرية السورية اليابانية المشتركة في بداية أعمال موسمها الأثري عام 1989 قطع من أجزاء عظمية لإنسان النياندرتال لكن هذا لم يكن كافياً للتأكيد على اعتبار هذه الأجزاء صلة وصل بشرية في تاريخ التطور الإنساني ، وما إن انتهت أعمال التنقيب في عام 1993 حتى ظهرت مفاجأة الاكتشاف لهيكل عظمي لطفة تبلغ من العمر خمس سنوات مان قد تم دفنها بشكل غير منسق ، وبعد إجراء الأبحاث والتحليل المخبري بواسطة الكربون المشع C14 تبين أنها تعود إلى 100 ألف سنة ، حيث تم إعادة تشكيل هذا الهيكل العظمي حاسوبياً ليعطي الشكل الدقيق لطفل عفرين ، ومن ثم تم نقل الهيكل العظمي إلى قاعة عصور ما قبل التاريخ في المتحف الوطني بدمشق .
ونظراً لهذا الاكتشاف المذهل لإنسان النياندرتال المشرقي عامة والعفريني خاصة قامت البعثة اليابانية العاملة في الموقع باعتباره أحد أهم المواقع الأثرية في العالم ويستوجب حمايته وتسجيله على لائحة التراث العالمي .
من هو إنسان نياندرتال العفريني :
لقد اكتشف في سورية الكثير من الأدوات الصوانية ( أدوات العصر النطوفي ) لهذا النوع من الإنسان ، وقد كان أكثر تطوراً في طريقة اختياره للأدوات الحجرية وأسلوب تصنيعها وأهمها المقاحف والمكاشط ورؤوس السهام والتي استخدمت كثيراً في مواقع مختلفة من المشرق القديم في سورية كيبرود والدوارة وعفرين وجرف العجلة وفي العراق كموقع شانيدار وموقع المسلوخة في لبنان وجبل الكرمل في فلسطين .
وقد دلت المعطيات الأثرية على أن إنسان النياندرتال المشرقي ( عفرين نموذجاً ) كان يحمل صفات إنسانية وفيزيولوجية كالذقن البارزة والقامة الطويلة وحجم الدماغ الكبير وهذا يدل على أنه قد تطور إلى الإنسان العاقل الذي يعتبر جد الإنسان الحالي ، كما أثبتت التحريات الأثرية على أنه اعتمد على الصيد والالتقاط كأسلوب معيشة واعتمد بصيده على الأفخاخ والحفر الأرضية ورؤوس السهام بالإضافة إلى أنه كان متمسكاً بأرضه وأكثر ارتباطاً بها من أسلافه حيث أقام مراكز استيطان رئيسة مبنية بالحجارة والعظام ومكسوة بالجلود ، كما عرف طريقة إيقاد النار واستخدامها في مناسباته لا سيما وإنه كان يقيم السهرات حولها كتجمعات له ولذويه وأبناء مستوطنته .
أما من الناحية الفنية فقد كان هذا الإنسان متمكناً من الناحية الفنية إذ عمد إلى فنونه عن طريقة حفر الحزوز على العظام التي تعطي لأدواته أشكالاً جميلة ، وقد زيّن رقبته بأطواق تحوي الصدف والنهري والأحجار النادرة والرسم على جدران الكهوف صوراً لحيوانات بيئته .
ومما تجدر الإشارة إليه أن إنسان النياندرتال المشرقي والعفريني بالذات هو الإنسان الأول الذي عرف دفن الموتى وبذلك يكون قد مارس معتقداته الروحية والدينية ، وتُشير بعض الأبحاث إلى أنه بعد دفن الميت كان يضع على قبره باقة من الزهور إكراماً له ، وهذا يدل على أنه إنسان عميق المشاعر يضع احتراماً وتبجيلاً لموتاه فلم يتركهم طعاماً للوحوش والطيور الكواسر ، بل اعتمد أيضاً في دفنه على نوعين من القبور منها الفردية والأخرى جماعية حوت بعض الأشخاص .
وقد أثار هذا الاكتشاف في كهف الديدرية في عفرين حفيظة بعض علماء الآثار في العالم والذين يرفضون هذا الاكتشاف مدفوعين باعتبارات عنصرية لا تمت إلى البحث العلمي النزيه بصلة .
كهف الديدرية
كهف الديدرية المطل على وادي نهر عفرين
الهيكل العظمي للطفلة ذات الخمس سنوات والمحفوظ في قاعة عصور ما قبل التاريخ السورية في المتحف الوطني بدمشق.
المراجع
1 ـ محيسن ، د. سلطان : عصور ما قبل التاريخ ، مقرر جامعي لطلاب قسم الآثار بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة دمشق ـ 1992 .
2 ـ القيّم ، غسان : إنسان النياندرتال الجد المباشر للإنسان العاقل ـ صجيفة الوحدة السورية ـ العدد / 6753 / ـ 6 / آذار 2008 .
3 – تقرير البعثة الأثرية السورية اليابانية المشتركة العاملة في موقع كهف الديدرية – 1993
الآثاري/ياسر شوحان/