إبراهيم كابان
باحث في المركز الكردي للدراسات/ المانيا
عندما استخدمَ الخبيرُ الإستراتيجي في البحرية الأمريكية (ألفريد ثاير ماهان) عام 1902 مصطلح ” الشرق الأوسط ” كانت الغاية منه تحديدَ الدول والحضارات الموجودة ضمن المنطقة الواقعة شرقي البحر المتوسط، والتمييز بين الهند والجزيرة العربية. وأولُ من استخدم هذا المصطلح ضمن نطاق محدد “الاستعمار البريطاني للهند” في خمسينيات القرن التاسع عشر. بينما عرّف المستشرقون والمكتشفون الجغرافيون الشرقَ الأوسط بـ ” مهد الحضارات الإنسانية”.
وتقع هذه المنطقة على صفيح من الثروة النفطية تعتبر الأغنى عالمياً، والمزوّد الرئيسي للدول الكبرى ” أوروبا – روسيا – اليابان – الولايات المتحدة الأمريكية”، حيث يقدر إنتاجها بـ 65% من إحتياطي النفط العالمي، وتجاوزَ استحواذها على السوق مع بداية القرن الواحد والعشرين ثلثَ الإنتاج العالمي من النفط.
ولعلّ اكتشافَ هذه الثروة مع بداية القرن العشرين دفع بالاستعمار إلى إجتياح الشرق الأوسط ووضع خطط ومشاريع من شأنها تمكنهم الاستمرارَ في الاستفادة من هذه الثروة، فكانت إجراءات التقسيم وتأسيس الكيانات وطبيعة التفاهمات مع القوى المحلية آنذاك في الشرق الأوسط إحدى الإستراتيجيات التي اتخذتها الدول الغربية أثناء استعمارها وبعد جلائها في تمكين تأثيرها وسيطرتها المستمرة.
فللشرق الأوسط أهمية إستراتيجية كبيرة جداً بين المناطق المحيطة بها، فهي حلقة وصل أو جسر بين دول وقارات العالم.
تقول مهندسة فكرة الفوضى الخلاقة “كوندليزا رايس، مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأمريكية في عهد بوش الابن” : إن الوضع الحالي في الشرق الأوسط ليس مستقراً، وإن الفوضى التي تنتجها عملية التحول الديمقراطي في البداية هي فوضى خلاقية ربما تنتج في النهاية وضعاً أفضل من الذي تعيشه المنطقة.
وإذا ما نظرنا إلى الوضع العراقي والسوري، بالإضافة إلى التطورات في تركيا، سنجد إن العملية بدأت مع حرب تحرير العراق وتقسيمها داخلياً بين الشيعة والسنة والكُرد، ومروراً بما نتجت عنها الثورة السورية من التقسيم الداخلي بين الكرد والعلويين والسنة؛ وصولاً للتطورات الداخلية التركية التي بدأت فعلياً التوجه نحو تبلور انقسام داخلي بين الكرد والأتراك، وتقود هذه الأطراف حروباً عنيفة أدت إلى حالات الإنقسام.
وبما إن الامتدادَ “السني والشيعي والكُردي” في المنطقة يوحّد الدول الأربعة جغرافياً ” العراق – سوريا – تركيا – إيران ” فإن الحدودَ القائمة بين هذه الدول انتهت فعلياً نتيجة لعملية الفوضى الخلاقة، ونموذج ” الداعشي ” تطور من الفوضى الخلاقة إلى المتوحشة الذي غيّر جميع الموازين في الشرق الأوسط وأنهى الحدود المصطنعة بسرعة فائقة.
وأجرى البروفسور “توماس بارنيت” أحد أهم المحاضرين الرئيسيين في وزارة الدفاع الأمريكية، بعض التجديدات على نظرية الفوضى الخلاقة تحت مسمى (الفوضى البنّاءة)، فقد لخّص رؤيته لما كان يعرضه في البنتاغون من خلال دراسته التي أعطاها عنوان(خريطة البنتاغون) المنشورة عام 2004 وحدد بارنيت الشرق الأوسط كمنطقة للبدء بتطبيق الإستراتيجية الجديدة.
وهذا يعني إن سايكس بيكو عملياً انتهى، لأن شعارَ الفوضى الخلاقة وإعادة ترسيم المنطقة من جديد قد يقضي كلياً على الحدود المصطنعة.
تاريخية الصراع بين الغرب والشرق الأوسط
ظلت القوى الغربية المتصاعدة تترنّح في السيطرة بأساليب متعددة على الشرق، بغية تأمين تبعيتها النهائية، وجعلها منفذاً لتكريس حاكميتها الخارجية وداعماً لسيطرتها الداخلية، وبوابة للتوسع، مما تكون مناخاً وبيئة مساعدين في عملية دمج بين مركز الحكم والترعرع، من خلال قوى محلية أخفقت رغم كل محاولاتها لتحرير وجودها من الهيمنة. ولعلّ العوامل الاجتماعية والدينية كانت لها الدور البارز في خلق مقاومة وآليات الدفاع بوجه الامتدادات الغربية، ومن ثم تبلورت أدوات الهجوم وتمتعت بحاضنة وبيئة شعبية في عملية قطع أواصر الأساليب التي استخدمتها القوى الغربية قبل ثورتها الصناعية. وبدورها أوجد ذلك إمكانيات هيئت للقوى الغربية الأجواء المناسبة في العودة للشرق تحت وطأة التفوق الصناعي وأدوات القتال.
يُفهم- من خلال حجم المحاولات الغربية للسيطرة على الشرق- حيويةُ هذه المنطقة وحجم تمتعها بأساليب الجذب لاستمالة القوى المتصاعدة على المشهد في أوروبا، لا سيما وإن بوابة شرق البحر المتوسط تضمن لها إمكانية التمدد نحو عمق القارة الآسيوية. وهذا ما سنجده في محاولات إسكندر الكبير (356 -323 ق.م ) وتوسع عملياته الحربية ما بعد بلاد الكرد والفرس، مرفقة بطاقم من المؤرخين والخبراء العسكريين الذين رسموا صورة مشرقة وملامح الجذب لشرق البحر المتوسط في بلاط الحكم بأوروبا، لتصبح بعد ذلك مسألة السيطرة على هذه المنطقة جزءاً من الخطط والسياسات المفروضة، بعد أن تطور عمل المؤرخين إلى أجيال من المختصين ( المستشرقين ) في تدوين جميع الظروف حول الشرق وتجميل صورته أمام أنظمة الحكم في أوروبا.
وأمام المحاولات الغربية للسيطرة على الشرق، ظهرت بوادرُ قوى قلدت تلك الذهنية في التوجه نحو الغرب أيضاً من بوابة إسبانية مع بداية القرن السابع الميلادي، وذلك بعد قيادة الأمازيغ للحراك الإسلامي التوسعي، فيما جاءت المحاولة الثانية على يد السلطنة العثمانية التركية ومحاولة التوسع نحو مناطق شرقي أوروبا ابتداء من أواسط القرن الثالث عشر. ولعلّ إخفاق كلا التجربتين بسبب العوامل الثقافية والإجتماعية برزت التفوق الغربي وتعامله مع الغزوات القادمة من الشرق.
فيما جميع المحاولات الأخرى للشرق لمواجهة الغرب تندرج في إطار العمليات الدفاعية لإجلاء الهيمنة الغربية من الشرق، ويمكن فهم معارك الدولة الأيوبية بقيادة “صلاح الدين “في الربع الأخير من القرن الحادي عشر من هذا المنظور، حيث يظهر لنا فصلاً مهماً لطبيعة المحاولات الغربية في السيطرة المستمرة على الشرق مقابل تطور الدفاعات الاجتماعية والثقافية لدى ذهنية الشعوب في الشرق وترجمته إلى تحركات عملية في مواجهة الغرب ضمن إطار حرب الدفاع المشروع أمام الهيمنة المفروضة من الخارج.
فقد كانت المناطق الشرقية من البحر المتوسط ساحة لعمليات الكرّ والفرّ ومركزاً للصراعات والحروب بين الشرق والغرب على مر العصور، قبل أن يتفوق الغرب في المجال التنظيمي والإداري والسياسي بعد أن شهدت أوروبا ثورة صناعية بلغت مجدها أواخر القرن التاسع عشر. مقابل استمرار السلطنة في ممارسة أبشع أنواع الظلم والتخلف بحق الشعوب، لتصبح مناطق سيطرته مرتعاً للتتريك وفرض قوانين همجية إلى جانب صعود التيارات القوموية إلى سدة الحكم، وهو ما دفع بالشعوب إلى النفور وحالة استياء نتيجة لممارسات السلطنة خلال أربع قرون.
دائمية المنقذ الغربي وتطور الصراع
شهدت أهم منطقتين في شرق البحر المتوسط حالة تمرّد ومواجهات عنيفة بين السكان الأصليين وسلطنة الاحتلال التركي، بينما كانت اتحاد القبائل المللية الكردية تقود حرباً مفتوحة ضد النفوذ العثمانية، شهدت الجزيرة العربية حالة غليان ورفض لممارسات السلطنة في تحجيم سلطة القبائل، فتحولت المنطقة برمتها إلى ساحة عمل وتحرك أمام الاستخبارات الغربية التي قدمت خدماتها كمنقذ للشعوب في التحرير من الاحتلال التركي. مما تهيأت الظروف الاجتماعية والعسكرية لبريطانيا العظمى وفرنسا في تكثيف جهودهما من خلال إرسال رجال استخبارات وخبراء الحرب وأسلحة لدعم تلك التحركات بناءً على إثارة العواطف القومية. ويمكن فهم هذه التحولات الجيو سياسية من خلال تكليف ضابط الاستخبارات البريطانية ( توماس إدوارد لورانس ” لورانس العرب “) في قيادة القبائل العربية وإثارتها ضد السلطنة، ليتمم الاستخبارات مهمة نجاح إنهاء دور السلطنة وتهيئة مناطق سيطرة للانتداب الفرنسي والبريطاني، وكان نجما هذه المرحلة رجُلي التخطيط الإستراتيجية ( سايكس و بيكو )، الذين وضعا أساس الكيانات الجديدة وتضمين تبعية الشرق الأوسط للغرب.
لم يكن بمحض الصدفة قيام بريطانية العظمى بإنشاء شركة نفطية ” الأنجلو- فارسية” عام 1908 في إيران، بينما كانت مخابراتها تدرب وتجهز القبائل في الجزيرة العربية للثورة ضد السلطنة التركية. ولا يمكن فصل ذلك عن التحولات الداخلية التركية بعد صعود التيار القومي إلى الواجهة لتدخل معها السلطنة مراحل التآكل والإنهيار، مقابل رفض بريطاني في تسليح الثورة الكردية بقيادة ” سمكو شكاكي ” داخل إيران، إلى رسم الحدود وإقامة كيانات جديدة تحت مسمى ” العراق – سوريا – تركيا ” على حساب تغييب الشعوب الأصيلة، في الوقت الذي عقدت عصبت الأمم لتكريس تلك التحولات في الشرق الأوسط.
إن التضحية بالوجود الكردي في الشرق الأوسط مقابل تأمين الصمت الفارسي – التركي حيال سيطرة البريطانيين والفرنسيين على العراق وسوريا بشكل سلس، برزت في الاجتماعات اللاحقة بأوروبا، حيث كرست معاهدة سيفر التقسيم وفق سايكس بيكو، وتهربت عصبة الأمم عن مقرراتها في إقامة دولة كردية، وهو ما يمكن ملاحظته خلال الثورات التي انطلقت في الأجزاء الكردية الملحقة بالدول الأربعة ” إيران – العراق – تركيا – سوريا “. مقابل عدم دعم الملف الكردي في اتفاقية باريس وفشل ممثلي الكرد أمام ممارسة الوفد التركي للخداع والتزيف وتغير الحقائق. وصولاً إلى هجوم الإنكليز والعراقيين على مملكة كردستان، إلى إخفاق ثورة شيخ سعيد البيران في الجزأين الكرديين الملحقين بتركيا وسوريا وصولاً بالقضاء على ثورة شكاكي في الجزء الملحق بإيران، ونجد من خلال عدم قبول البريطانيين والفرنسيين في إجراء العلاقات مع الثوار الكرد، بسبب اتفاقياتها البريطانية مع الإيرانيين والأتراك.
تقول “مس بيل ” سكرتيرة الدائرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني في العراق: إن اتفاق البريطانيين مع الإيرانيين كان سبباً في رفضنا تقديم أي دعم لثورة شكاكي.
ويمكن أيضاً فهم طبيعة التحركات البريطانية – الفرنسية أثناء مؤتمر إيطاليا – مدينة سان ريمو ” فبراير 1920 ” وعملية تقاسم نفط الجزأين الكرديين الملحقين بالعراق وسوريا، وقد جاءت في نصوص هذه الاتفاقية ” تقسيم الشركات الألمانية في العرق وسوريا بين البريطانيين والفرنسيين”. وهناك مَحاضر طويلة وموثقة بهذه الحقائق والوقائع في أرشيف وزارة النفط العراقية.
اللعب على التناقضات العرقية والدينية
الكيانات التي تأسست نتيجة لاتفاقية سايكس بيكو، وما تلتها من معاهدات حول تكريسها، أوجدت وحدات تتداخل فيها العديد من المكوّنات العرقية والدينية، وبدا ذلك أوضح ما يكون في حالات تركيا وسوريا والعراق وإيران، حيث تضم ” فسيفساء “حقيقي من القوميات والمذاهب والطوائف كثيراً ما تتقاطع فيما بينها.
على المستوى القومي، يعيش في هذه المنطقة العربُ والكردُ والترك والفرس وأقليات التركمان والسريان والكلد والأرمن والآشوريين والجاجان، فيما على المستوى الديني هناك المسلمون والمسيحيون والإيزيديون واليهود، وتنقسم هذه الأديان إلى مذاهب وطوائف مختلفة كالسنة والشيعة والعلويين والدروز والكاثوليك والأرثوذكس.
فقد ساهم التقسيم في توزيع هذا ” الموزاييك ” العرقي والديني بين هذه الدول، مقابل دفع التيارات القومية إلى الصعود على المشهد داخل هذه الكيانات لممارسة الديماغوجية والعنصرية في اضطهاد الشعوب الأخرى، ومما لا شك فيه إن هذه الأوضاع أسست للعديد من التوترات الإقليمية، وهناك الكثير من الدراسات والكتابات الموثوقة التي تؤكد أن هذا الوضع كان مقصودًا من جانب البريطانيين والفرنسيين لخلق عوامل توتر دائم تمنع قيام علاقات إيجابية منتِجة ما بين هذه المكونات، لأن ذلك بنظرهم سيؤدي إلى شكل من أشكال التكامل والوحدة، وتسبب في فقدان الاستعمار لأدوات بقائه.
من هنا ندرك مدى أبعاد شعار ” فرّق تسد ” وتطبيقه من قبل الاستعمار، وذلك لتمكينه من إحكام قبضته على المنطقة خلال إشعال الحروب الداخلية، وتفتيت المستعمرات إلى كيانات أثنية ودينية وطائفية وقبلية ضعيفة تفتقد إلى الاقتصاد ومقومات الدولة، وتدخل في صراعات دائمة فيما بينها.
وجه الأحداث وتحولاته الجيوسياسية
نتائج الحرب العالمية الثانية كانت كفيلة بتجزئة أوروبا إلى غربية وشرقية، ووضعها تحت الوصاية الأمريكية – السوفيتية، وبدءِ كل محور بتكريس وجوده ومصالحه داخل أوروبا، في الوقت الذي توفرت فيه الظروف الملائمة لترعرع التيارات القومية داخل بلدان الشرق الأوسط، وتمكنها من الاستيلاء على أنظمة الحكم، كما خطط له الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وهو ما هيأت للقوى العظمى مسألة التحكم بها وتدويرها وفق أجندتها. وبما إن مسألة السيطرة على منابع النفط وأهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للمحورين، توجهت الأنظار الأمريكية والسوفيتية نحو دعم الهيكلية السياسية والتنظيمية لدول الشرق الأوسط بما رسم له البريطانيين والفرنسيين، تكريس الحدود، والتغاضي عن تجاوزات الترهيب والتنكيل للأنظمة بحق الشعوب والمكونات المضطهدة، إلى جانب تحكم الأنظمة بالثروات، في عملية مد هذه الثروات إلى القوى الكبرى مقابل بقاء الأنظمة وفق ما يتيح سهولة التحكم بها في المراحل المتقدمة. وقد كانت الأوضاع والتطورات في الشرق الأوسط جزءاً من المنافسة الغربية السوفيتية خلال الحرب الباردة، ومعها انتقلت النفوذ البريطانية – الفرنسية تلقائياً إلى مواقع تتبع للمصالح الأمريكية – الأوروبية المشتركة، بجانب تصدير الاشتراكية السوفيتية إلى دول الشرق الأوسط، لتصبح الصراعات متنوعة وأنظمة أكثر قمعية.
إن نموذج الصراع العربي الإسرائيلي، والحرب المستمرة ضد الكرد في المربع التركي العراقي الإيراني السوري، والصراع في اليمن والصومال، ونشوب الخلافات بين معظم دول الشرق الأوسط، واستمرار الملكية في دول الخليج، مع دعم تحركات نظام صدام الحسين، والانقلاب الطائفي في إيران… جميعها كانت مؤشرات لقضايا ظهرت حقيقتها مع حرب الخليج الأولى – العراقية الإيرانية – في بداية الثمانينات القرن العشرين، وهي الحرب التي ساهمت في استنزاف كلا الدولتين. وما إن أسدل الستار عنها بعد ثمانية أعوام استنزف من خلالها كلا القوتين، ألحقت بها الحرب الخليج الثانية بعد قيام العراق باحتلال الكويت، والتي كانت بداية التواجد العسكري الأمريكي في الخليج، أمام انهيار الاتحاد السوفيتي والتهائها بالظروف الداخلية.
الحربان الخليجيتان كانتا كافيتين لتأمين أمن إسرائيل أولاً، والسيطرة على الخليج العربي والعراق ثانياً، ودعم التمدد الشيعي في المنطقة، لتصبح قوة مقابل الدول السنية ثالثاُ، وخلق بؤر تهديد وتوتر حول روسيا لإلهائها بمشاكل اقتصادية وعسكرية رابعاً. هذه العوامل الجيوسياسية هيأت للغرب بقيادة أمريكا الأجواء العسكرية والسياسية المناسبتين في الترعرع داخل الشرق الأوسط، مقابل فرض الحصار على الروس في عدة نقاط، ابتداءً من تشكيل حلف إستراتيجي بين اليابان وكوريا الجنوبية، وخلق توازن عسكري بين باكستان والهند، إلى السيطرة على أفغانستان، وضخ السوق الصينية برأس المال، وخلق أزمات متعددة سواء في تايوان والتيبت لتقيد التضخم الصيني، إلى تعميق هوة الخلافات بين الهند والصين على مناطق متنازع عليها، وصولاً إلى أوروبا الشرقية ومنطقة البلقان وتفكيك يوغسلافيا، وعملية تأمين الدول الغربية بعد توحيد الألمانيتين. ليتبلور معها حلفاً مشكلاً من المملكة المتحدة وكندا وأستراليا ومعظم الدول الأوروبية بقيادة أمريكا.
أمام هذا التطور الكبير في قوة الغرب وتمدد مصالحه حول العالم، كانت الدول الشرق الأوسطية تعيش حالة مزرية من الفقر والتخلف بسبب أنظمة تحكم بمنطق القوة والاستبداد، وتستخدم العنف المفرط بحق شعوبها منتهكة بذلك كافة القوانين والأعراف الدولية.
كانت الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001 نقطة بداية للتواجد العسكري الغربي في أفغانستان، لتتطور إلى حرب تحرير العراق، والبدء بمرحلة جديدة من إعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط من خلال طرح مشاريع تغييرية تمحورت حول رسم ملامح جديدة.
- إفساح المجال أمام إيران للتوسع في للعراق ولبنان والخليج العربي.
- تمكين القوى الشيعية لخلق توزان مع الدول السنية.
- الاستمرار في دعم تركيا والجناح الإسلاموي الذي قرب من الغرب وإسرائيل.
وأمام التمدد الشيعي كثرت المخاوف السنية التي لم ترتق إلى مستوى التسليح والتجهيز الإيراني، وبذلك تحولت الدول الخليجية إلى سوق لشراء الأسلحة الغربية الأمريكية رداً على تمدد النفوذ الإيراني بدعم وتغطية غربية!. لتظهر مع هذه التطورات معالم توازنات جديدة في الشرق الأوسط.
وبات واضحاً إنه كلما كان هناك الصراع مستمراً بين السنة والشيعة سيكون هو ضمان وتأمين لاستمرار المصالح الغربية؟. وهذا يرشدنا إلى إن قضية إنهاء إيران في الوقت الحالي غير صحيح بحكم إن فقدان إحدى طرفي التوازن في الشرق الأوسط سيخلق بلبلة في عملية مصالح الدول الكبرى. فالدول الخليجة قابلة للتطور في ظل وجود الكميات الهائلة من النفط الذي ينعشها اقتصادياً وعسكرياً خلال وقت قصير، وهو ما تخشاه إسرائيل في جميع السيناريوهات القادمة، لأن التهديد السني على إسرائيل أضعاف التهديد الشيعي الذي حافظ على أمن إسرائيل في مناطق تواجد فصائله حول إسرائيل.
من هذا المنطلق كان تشبث إسرائيل بالنظام السوري خلال الثورة السورية في منع المجتمع الدولي لاسيما الغرب وحليفها أمريكا من إسقاط بشار الأسد بسرعة، ويوضح لنا حجم المخاوف الإسرائيلية من تطور دول الخليج العربي وتراجع لنفوذ إيران. وهذه الأحداث وغيرها دفعت بأمريكا إلى خلق ظروف وسيناريوهات جديدة حتى تزيل مخاوف إسرائيلية على الأقل جزئياً ولتتمكن بعدها القوى الكبرى من بناء سوريا مقسمة وهشة لا تستطيع تهديد إسرائيل والمصالح الغربية والأمريكية.
التغطية والسلاح مقابل النفط والهيمنة
جميعُ الأنظمة في الشرق الأوسط تتبع لمصالح الدول الكبرى، ومعظمها مشاريع التقسيم والفرز والاصطفافات وفق مصالح تلك القوى، وعملية التجديد الذي تطمح له القوى العظمى يتمحور ضمن إطار زيادة الاستفادة من الثروة النفطية مقابل رفع درجة تصدير السلاح، وكلما كثرت التقسيمات والجماعات ضمنت ذلك إنتاج أكبر للشركات العملاقة. ولعل أي طارئ على الأوضاع في الشرق الأوسط إن لم يقف خلفها القوى العظمى فإنها تستفيد منها وتحورها وفق مصالحها، وتعتمد في ذلك على التشرذم بين الشعوب في منطقتنا، وضمان عدم وحدة الشعوب واتحادها في الشرق الأوسط هو بقاء أنظمة استبدادية غير ديمقراطية، وهذا يعني استمرار الصراعات العرقية والطائفية التي تضعف المنطقة وتجعل منها لقمة سائغة أمام تحويلها إلى بؤر للنزاعات.
إن سياسة تحكم القوى الكبرى من خلال الكليات بالاعتماد على الجزئيات مستمرة في ظل البيئة الثقافية والمناخ السياسي المهيئتين في الشرق الأوسط.
صيرورة التحكم بالشرق الأوسط
جميع الكيانات المنشأة على مرتكزات دمج قسري للأعراق والطوائف المختلفة في بوتقة واحدة دون وجود انسجام ثقافي، محكومة بالتفكك والتشرذم، إذا لم يتوفر عقد اجتماعي يضمن حقوق الجميع ويتيح لهم إدارة شؤونهم بشكل ديمقراطي واختياري، لأن بناء هرم من التناقضات يتسبب في المحصلة بالتجذر والانهيار، وهو ما يسهل عملية الانفصال الكلي. ويوفر بسهولة آلية التحكم به. قد تساعد هذه المنظومة في إطالة عمر الأنظمة وسهولة التحكم بها من قبل المُركب، إلا أن الأمر منوط بالوقت أيضاً، حينما يبلغ الصدام حجمه المعقول تتحول تلك التناقضات المركبة قسراً إلى قنبلة موقوتة، تتسبب بدورها في انهيار الأنظمة وتفكك الكيانات إلى جزئيات صغيرة يسهل أيضاً عملية التحكم بها مجدداً.
ومما لا شك فيه إن الاستعمار الغربي، بعد إنجاز عملية التقسيم في الشرق الأوسط، سهّل للتيارات القومية في الصعود إلى سدة الحكم داخل هذه الكيانات، وهيأ لها الظروف المناسبة في الاستمرار، مقابل سهولة التحكم بها. وبذلك تصرفات هذه الأنظمة وهمجيتها وممارساتها القمعية والعنصرية مسائل بحد ذاتها تساعد في إبقاء هذه الكيانات ضمن التبعية المطلقة والإطار وقتي لصيرورتها. حينما يحتاجون إلى تفتيتها، فإن العوامل جاهزة لتحقيق ذلك.
على أقل تقدير ساهمت ودعمت الدول الغربية تصرفات الأنظمة وبطشها وبقائها، مقابل تهميش الحركات التحررية وإدخالها في مربع الاتهام.
الإفرازات الناجمة عن الصدامات وحالات الاحتقان المستمرة ستنتج في المحصلة عن دويلات جديدة وفق مصالح الدول الكبرى، وإن كان تحقيق ذلك يجري بشكل بطيء في بعض المناطق بالتزامن مع سرعتها في مناطق أخرى، إلا أنها بطبيعة الحال تسير وفق الخطط المرسومة لها بشكل أو بآخر، في ظل الأرضية المهيأة لزيادة وتيرة الأحداث. وما نتج عن حالات قمع ومواجهات دموية في سوريا والعراق واليمن ستطال فيما بعد جميع الكيانات القائمة بعملية “دمج قسري”، سواء تركيا وإيران أو الخليج العربي، لأن الدوامة التي أوجدت الفوضى ستشمل معظم شرق الأوسط. ستلتجئ من خلالها الأنظمة إلى استخدام أدوات القتل والتدمير بالأسلحة الفتاكة للحفاظ على بقائها، مقابل إرادة الشعوب ومقاومتها. من هنا يبدأ دور المنقذ والهيمنة الغربية في عملية تجديد لتبيعة الشرق للغرب، وتأمين بطاقة التدخل الدائمة في الشرق الأوسط.
النموذج السوري بين المصالح والحلول
تركيبة النظام السوري وصيرورة حكمه وأدواته النظرية والعملية خلال العقود الستة الماضية هو نتاج طبيعي لمفرزات الصورة التي أرادها الغرب في بداية القرن العشرين للكيانات في الشرق الأوسط. من هنا ندرك حجم تصرفات هذا النظام في مراحله المتعددة، ابتداءً من فرض سياسة وثقافة إقصائية على المكونات السورية، إلى استخدام العنف المفرط أمام أي تحرك شعبي، وهو ما ترجم بمجمله في سير أحداث الثورة السورية التي تحولت إلى حرب أهلية دموية، حيث تكرر فيه النموذج المعتاد في التبعية لقوى خارجية، سواء بالنسبة للنظام أو معارضته، لأن الذهنية السياسية والتنظيمية متطابقة في فهم الأحداث والخلفية السيكولوجية المتفاعلة مع التركيبة العامة. ونتيجة لذلك فتحت الأبواب السورية على مصراعيها أمام النفوذ المتعددة، في مشهد متوقع بحكم التركيبة السياسية والإدارة الناتجة عن التبعية للسياسات الكلاسيكية الغربية، وإن شهدت هذه المرة تغييراً في القوى والتبيعة.
لعبت روسيا دوراً مصيرياً في بقاء النظام دون سقوطه، ضامنة بذلك امتداداً لحلفائها في الشرق الأوسط بعد أن شهدت التفافاً طائفياً بدعم إيراني، مقابل تحرك للدول السنية في دعم المعارضة بمجاميعها المختلفة، لتتبلور مع هذا الاصطفاف الإقليمي صراعاً مذهبياً تحول معه الوضع في سوريا إلى أزمة مفتعلة شهدت تدخلاً لكافة القوى سواء من خلال التدخل العسكري أو الدعم بالمال والسلاح، مقابل انقسام الدول الكبرى على كلا المحورين، بحكم تحويل الشرق الأوسط إلى ساحة مميزة لبيع الأسلحة من قبل الشركات التي تحكم القوى العظمى، إلى جانب أهمية المنطقة عسكرياً بعد توجه الشرق الأوسط ككل إلى مزيدٍ من التقسيم والتفتيت، وهذا يعني تبلور سوق كبيرة أمام شركات الأسلحة والنفوذ.
النظرة الغربية للحدث السوري تمحورت في منظور تقليدي عام حول الشرق الأوسط، وذلك بسبب عدم تبلور قوى مختلفة عن الموجودة سابقاً داخل سوريا والمنطقة ككل، وهذا طبيعي عندما تكون العقلية القائدة للحراك الثوري غير واضحة المعالم. وفي المحصلة سيلاحق الغرب الخشية من إمكانية توجه هذه القوى المحلية للتطرف والإرهاب، فإنه من مصلحة الدول الكبرى وفي مقدمتها أوروبا البحث عن بديل يؤمن لها التوازن بعيداً عن عقلية النظام الاستبدادي والمعارضة المتطرفة، وإن كان معالم النظام السوري بالنسبة للغرب واضح، وهذا ما أرجح خيار عدم إسقاطه، ونتفهم هنا المخاوف الغربية وطبيعة مصالحها. وصحة نظرتهم تبين من خلال تلاعب الدول الإقليمية بالمعارضة السورية وتحويلها إلى جماعات مائلة للتطرف والعنف، وهو ما يشكل خطراً حقيقياً على أمن الدول الغربية. هذا الواقع الذي اصطدمت بها القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ترجم إلى تفضلها التعامل مع الإدارة الذاتية الديمقراطية في روجآفا- شمال سوريا، كوجه مختلف عن الأنظمة والمعارضة التقليدية.
تصحيح العلاقة بين الغرب والشرق الأوسط من بوابة ثورة روجآفا
حاجة الغرب إلى شريك حقيقي مهيأ فكرياً وعملياً لمحاربة الإرهاب المفتعل في الشرق الأوسط، دفعت بالولايات المتحدة الأمريكية إلى التنسيق المباشر مع الإدارة الذاتية الديمقراطية في روجآفا – شمال سوريا. حيث ثبتت هذه الإدارة فعاليتها المجدية لمقارعة التطرف وبناء حضارة ديمقراطية، تحولت خلال السنوات الثلاثة الماضية إلى منارة تمتاز بالتمدن والديمقراطية العملية، وسط منطقة تشتبك فيها المصالح الديماغوجية بين كيانات مصطنعة تبني تصوراتها على آليات تنظيمية كلاسيكية للنظام، ومعارضة لم تخرج من إطار الوجه الآخر للحراك القوموي المقيت.
التصورات التي تبلورت في روجآفا على المستويين الثقافي والعسكري أوجدت أدوات جذب للشعوب الغربية في التناغم والتفاعل معها، لأن إعادة تنظيم الفوضى في الشرق الأوسط ليس بالأمر السهل إنجازه أمام مخلفات الأنظمة وممارساتها العنجهية، وما نتج عن الصدام العنيف بين النظام السوري والمعارضة والجماعات المتطرفة خلال السنوات السبعة الماضية كشفت حقيقة المشهد السوري والدول المحيطة بها، لأن الصورة النمطية الموجودة في سوريا وما نتج عنها من تفاعلات سلبية هي نفسها متبلورة وبعنف أكبر في تركيا والعراق وإيران وإسرائيل/ فلسطين، وداخل دول الخليج العربي. وتكاد الحاضنة الاجتماعية في معظم هذه البلدان مهيأة لإنتاج الفكر المتطرف، لا سيما وإن الأنظمة الحاكمة تملك الخبرة في دعم الجماعات المتطرفة داخل المجتمع، وتكاد استخبارات هذه الدول لها اليد الطول في عملية تفاعل الإرهاب وتطور منظومته.
يدرك الغرب حقيقة هذه الجماعات المتطرفة، ومؤسسيها ومموليها والبيئة التي يترعرع فيها هذا الفكر، فيما المصالح الغربية مع الأنظمة في الشرق الأوسط اقتضت غض النظر عن الكثير من تحركات هذه الأنظمة الراعية للإرهاب، إلا أن طرح ورؤية المعارضة البديل عن الأنظمة خلال العقود الماضية تبين إنها أسوأ بكثير، وهو ما يخاشاه الغرب في تعامله مع القضاية الشرق الأوسطية، لذا تتمسك الدول الغربية بالأنظمة لعدم تبلور معارضة علمانية تستطيع تغير المفاهيم الاجتماعية المطلوبة في إجراء عملية التغيير الديمقرطي ومحاربة الإرهاب. وهو ما شاهدناه من خلال دعم وتدريب التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في سوريا مجموعات مسلحة في أول تصادم مع منظمات داعش وجبهة النصر الإرهابيتين تخلت هذه المجموعات عن التحالف وانضمت مع أسلحتها إلى المتطرفين. لهذا يخشى الغرب المعارضة في الشرق الأوسط، واستمر في التمسك بالأنظمة رغم معرفته بالضلوع في عمليات التنكيل القتل، واستمر في البحث عن البديل الذي يمثل الفكر الحر والحضارة الديمقراطية، وهذا ما تخشاه الأنظمة والمعارضة التقليدية في الشرق الأوسط.
ويمكن فهم هذه الخشية من خلال تعرض ” الإدارة الذاتية الديمقراطية في روجآفا – شمال سوريا ” إلى الضغوطات الكبيرة، ومحاولة دفعها إلى الإصطفافات المذهبية أو العرقية. وهذا ما لا يمكن تحقيقه لطالما إن البنية الفكرية والتنظيمية للإدارة الذاتية لم تكن قابلة للاندماج مع تلك الانحيازات المذهبية والعرقية، بل ثبتت هذه الإدارة قيادتها للفلسفة المناهضة لذلك.
حاجة الغرب إلى شريك مختلف بات واضحاً من خلال التقبل الشعبي الأوروبي وتفاعله مع الإدارة الذاتية، ويمكن فهم هذه الحقيقة أيضاً من خلال حالة الشرخ الموجودة بين الشعوب والحكومات الغربية حيال التعامل مع الإدارة الذاتية. أمام جشع الحكومات واستمرارها في تجنب التعامل مع الإدارة الذاتية مقابل التناغم الشعبي الأوروبي مع إنجازات الإدارة الذاتية وطروحاتها العلمانية والتحررية.
ولعل انضمام مئات المتطوعين من أرجاء العالم إلى فعاليات الإدارة الذاتية، شكل أساساً وتعبيراً لهذا التفاعل والتناغم.
في المحصلة ستكون هناك عملية تقاطع للمصالح بين الحكومات الغربية وجميع الحراك في الشرق الأوسط، وإن كانت أوروبا تميل إلى كفة دعم القوى الرئيسية وفي مقدمتها الأنظمة القائمة، إلا أن ما نشاهده في المقابل تعاملاً حذراً مع المعارضات، كون هذه المعارضات تميل إلى الإسلام السياسي أكثر من الفكر العلماني الذي ينتهجه الغرب. وبذلك يشكل البديل عن الأنظمة تيارات متشددة ستتحول إلى أدوات عنف بيد الأنظمة الاستبدادية، كما هو الحال في سوريا والعراق، ومثال حزب العدالة والتنمية في تركيا الذي يشكل تهديداً لأمن الاتحاد الأوروبي، لا سيما التفاعلات المتقدمة لهذه المنظومة باتت تشكل تهيدياً صارخاً للعالم المتحضر.
إن قضية مقارعة الإرهاب في الشرق الأوسط مسألة تتعلق بأمن أوروبا والشرق الأوسط معاً، وما يحتاجه الغرب هو وجود قوى محلية تعمل بشكل جدي في القضاء على خطر هذه الجماعات. وتدرك إن المسألة لا يجب أن تقتصر بوقت محدد وأدوات القتال، وإنما يحتاج المسألة إلى القضاء على منابع الإرهاب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهذا يتطلب معالجة كاملة لا يستطيع الغرب أن يقدم شيئاً في هذا المضمار، وإنما القضية بحاجة إلى قوى محلية تملك مشروعاً يوازي الحاجة الغربية.
من هنا ندرك البحث الغربي الجدي عن شريك حقيقي في الشرق الأوسط مقابل حاجة هذا الشريك إلى تغيير نظرة الغرب حيال المنطقة، لأن إحدى المسببات الرئيسية لما آلت إليه الأوضاع يتحمل مسؤوليته الحكومات الغربية المشجعة للأنظمة وأدواتها وتوجهاتها التي أنتجت الاستبداد والإرهاب.
التشجيع والدعم الذي تلقاه نظام الإسلاماوي في تركيا أطال عمر الجماعات المتطرفة في الشرق الأوسط.
من هنا ندرك إن الإدارة الذاتية الديمقراطية استطاعت تشخيص معظم مشاكل الشرق الأوسط، وطرحت المعالجة الصحيحة للقضايا السياسية والثقافية والاجتماعية، وإقامة البديل الفكري والثقافي الذي يدفع بالغرب إلى تغيير نظرته حيال منطقتنا. فالقيم الناتجة عن هذه المعرفة ظهرت من خلال طرح مشروع الأمة والحضارة الديمقراطية، ولعل هذه المفاهيم ليست ببعيدة عن الواقع الاجتماعي في الشارع الغربي، وإن كانت حكوماتها لا تزال تنظر إلى الشرق الأوسط كساحة مصالح واستثمار، إلا أن أوجه التشابه بين طروحات الإدارة الذاتية الديمقراطية والغرب تتطابق في القضاية المركزية، والحاجة هنا هو تبادل الدعم، لا سيما وإن الإدارة الذاتية الديمقراطية لديها حلول لجميع القضايا العرقية والمذهبية من باب المعالجة السوسيولوجية، والطروحات الفكرية العملية للإدارة قد تفيد أوروبا أيضاً، وهو ما نجده في قضية المساواة بين الرجل والمرأة في طروحات وفعاليات العملية للإدارة الذاتية، مقابل بعض الممارسات السلبية التي حولت المرأة في الدول الغربية إلى سلعة للتجارة بسبب فقدان منظوماتها قيمة المساواة الفعلية التي تضمن كرامتها أولاً.
وبصدد عدم التعامل الغربي بشكل رسمي مع الإدارة الذاتية رغم إن هذا المشروع يتوافق مع الأهداف الغربية الإستراتيجية لحماية أمنها، والاقتصار على الدعم العسكري. هذا أمر طبيعي جداً في ظل العلاقات الغربية مع أنظمة الحكم في الشرق الأوسط، والمعارضات التقليدية، وعدم تبلور مشروع جديد يضمن للغرب إجراء علاقة صحيحة، وأقصد هنا الشعوب الغربية التي تخشى من الذهنية الشرق الأوسطية وقابليتها لإنتاج التطرف. وعملياً المسألة بحاجة إلى تبادل الثقة والعمل الجدي، وتعريف الغرب أكثر على الجانب الفكري والفلسفي لثورة روجآفا، وليس فقط الجوانب العسكرية. نعم ساعدت ذلك خلال ظروف الحرب، وجذبت الشعوب الغربية إلى قدسية مسألة التضحية لدى الإنسان الكردي والإدارة الذاتية. إلا أنه حان الآن وقت تقديم الأفكار والطروحات التي تطمئن الشعوب الغربية، وتدفعها إلى التأثير على نظرة الأنظمة للإدارة الذاتية. ولا ننسى إن تجربة الإدارة لازالت جديدة وتحتاج إلى وقت أكثر وتطمينات، في ظل خشية الحكومات الغربية على مصالحها مع الأنظمة، فإنه غير ممكن تعرض نفوذها إلى الخطر مقابل دعم تجربة جديدة قد لا تنجح بسبب الظروف الإقليمية المناهضة. ولكن في المحصلة ستتعامل الحكومات الغربية مع تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية، لأنها البديل الحقيقي والوحيد للأنظمة والمعارضات. وهو ما يضمن سبل السلام وتعزيز الديمقراطية المنشودة في الشرق الأوسط.
—————————————-
المراجع
-
المرافعات الخمسة للمفكر والفيلسوف الكردستاني الأممي عبد الله أوجلان
– كتاب:14 قرناً من الصراع بين الشرق والغرب / عبد الحميد شرف
– كتاب: الشرق والغرب.. حوار لا مواجهة / إبراهيم أبو محمد
– كتاب: تفتيت الشرق الأوسط / جيرمي سالت- ترجمة نبيل صبحي الطويل
– كتاب: سورية: درب الآلام نحو الحرية – محاولة في التاريخ الراهن/ عزمي بشارة
– كتاب: تاريخ العلاقات بين الشرق و الغرب في العصور الوسطى/ أحمد الشامي
– كتاب: الصراع على المياه في الشرق الاوسط ( الحرب والسلم ) / عادل محمد العضايلة
– كتاب: نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط / جورج قرم
– كتاب: سلام ما بعده سلام / ديفيد فرومكين
– كتاب: سقوط العثمانيين الحرب العظمى في الشرق الأوسط / يوجين روغان
– كتاب: خط في الرمال بريطانيا وفرنسا والصراع على الشرق الأوسط / جيمس بار
-
مجموعة دراسات وأبحاث حول ” الفوضى الخلاقة “.
-
موسوعة ويكيبيديا العالمية
-
مجموعة أبحاث ودراسات إستراتيجية للكاتب