التركياتيّة الخضراء وفشل الإسلام السياسيّ
شيران زاده
شيران زاده
تمهيد
اعتمد كلّ نظام مهيمن ساد في العالم على أيديولوجيّة معيّنة، ويمكن أن ينفرد كلّ مركز تاريخيّ في العالم عبر التاريخ بخصائص تميّزه عن الأخرى، وإن اجتمعت الإمبراطوريّات العالميّة على مقولة واحدة ألا وهي؛ (الطبقات والاستعباد والظلم وتحالف التجّار مع الراهب والعسكريّ) ليؤلّفوا ثلاثيّة تضع جلّ ثقلها على الشعب المغيّب عن الحياة، إلّا أنّ هناك بعض الفروقات.
لقد باتت الدولة التركيّة دولة حرب منذ نشأة الإمبراطوريّة العثمانيّة ذي النشأة المغوليّة، وقد اعتمدت الدين الإسلاميّ منهجاً لتصارع به الدولة المسيحيّة الغربيّة، وعلى الرغم من تقلّص هذه الإمبراطوريّة التركيّة بعد الحرب العالميّة الأولى وتأطّرها في لبوس الدولة القوميّة، لتواكب الحداثة الرأسماليّة وتقلّد الأنموذج الغربيّ من حيث المظهر الخارجيّ، لكنّ فلسفة الحرب لم تفارق مخيّلتها، بل باتت فلسفتها والمنهج الفكريّ الذي لم يفارقها، وقد شهد العرب أسوأ تراجع فكريّ وثقافيّ وأدبيّ وسياسيّ واقتصاديّ على مرّ تاريخها، وكذلك الشعوب الأخرى التي كانت تعيش تحت كنف هذا الوحش النهم الذي لا يعرف معنى الرقيّ الثقافي، إذْ أنّ هذا التركيّ المتلوّن والذي جرّدته الدولة من كلّ شيء، بات منقطع السلالة عن إرثه الثقافي البعيد عن ثقافة الشرق الأوسط، المتنكّر لموطنه الحقيقيّ، الذي يسعى إلى إرضاخ ثقافة الشرق الأوسط إلى تفكير قد تنكّر له هو بالأساس، من هنا جاء الاغتراب في الهويّة الدولتيّة التركيّة، فما فهموا الإسلام والديانات الشرقيّة، ولا فهموا العلمانيّة الغربيّة، لذلك سمّى المفكّرون العرب العصر العثمانيّ عصر الانحطاط العربيّ، وظلّ التخلّف مصيرَ الشعوب التي رزحت تحت سيطرة التركي حتى الآن.
لقد تدفّق الرأسمال إلى الخزينة التركيّة عبر الحروب الإنكشاريّة التي لا طائل إنسانيّ منها، واعتمدوا على نظام سرقة الأطفال اليتامى والمشرّدين وغيرهم من الأطفال، ليلقّنونهم ثفافة النهب والسلب والتبعيّة للدولة والسلطان ويستأجر علماء الدين المسلمين ليروّجوا للسلطان العثمانيّ الذي دخل البلاد العربيّة دون معارك، أو ثورات، وبالتالي تجذّرت ثقافة الحرب والغزو في كينونة المستبدّ التركي، وكذلك الاقتصاديّ التركيّ، من هنا كانت نظرة الاقتصاديين الأتراك فيها قمعيّة واستبداديّة أكثر، فالأتراك كسلطة ظلّوا يحاربون الشعوب التي تعيش في كنفها على يد جنود غير أتراك، فقد حاربت الأرمن بالكرد، وحاربت الكرد بالعرب، وحاربت الروم باللاذيين، وصفّت وأبادت كلّ الشعوب من خلال تأطيرها وفق الثقافة التركيّة التي استمدت نفسها من الثقافات الأخرى، فكمُّ الكلمات العربيّة والكرديّة والفارسيّة واللاتينيّة في اللغة التركيّة قد تجاوز اللغة التركيّة الأصليّة أساساً.
ظلّ المستبدّ التركيّ يعتمد على المكر والخداع والكذب والمناورة والتلفيق، لم يستطع أن يتأقلم مع فكرة السلام والتعايش السلميّ والوِفاق والاتّفاق، لم يفهم سوى لغة التصفية والإبادة والصهر، فهو لا يمتلك شيئاً ليعطيه، وكان تكالب السلطويين العرب الدونيين الذين فقدوا مع انهيار الدولة القوميّة في العراق وسوريا ومصر سابقاً هويتهم، فباتوا ينبشون الماضي ليبحثوا عن هوية فلم يروا سوى الركوع للاهوية الدولتيّة التركيّ، وبهذا استطاع أردوغان أن يصنع أتباعاً مطيعين له، يغردون له، وباتوا يريدون الأمن الداخليّ التركيّ ناسين أمنهم السوريّ الذي تدمّر داخليّاً وخارجيّاً وكلّ ما يمتّ بصلة إلى شيء اسمه مستقبل أو غدٍ مبين، معتمدين على أيديولجيتهم الإنكاريّة للهويّة الكرديّة التي تعلّموها في المدارس التركيّة.
لقد أعدم جمال باشا السفّاح كلّ أولئك العرب الذين تضامنوا معه في حرب الترعة، بعد أن تودّد إلى العرب كم يتودّد الآن أردوغان بحجّة الدين وإعادة الإمبراطوريّة المسلوبة، وما إن خسر معركته حتى قام بتعذيب الشعب العربيّ والتنكيل به حتّى لُقّب بالسفّاح، إذْ لا يمكن أن تأمن جانب مستعمر ما يريد أن يستغلّك الآن ويوهمك أنّه سيعطيك حقوقك بعد أن تهدأ الأوضاع، وهذا ما سيفعله أردوغان بعد أن يتخلّص من خصومه، وهذا ما كان سيفعله الائتلاف بالشعب الكرديّ بعد أن يعتلي العرش.
ظلّ الكثير من الدولتيين ينعتون إسبانيا ب(الفردوس المفقود) حيث رأت عائشة الحرّة أمّ الصغير بكاءه على ملكه الذي لم يحافظ عليه قائلة له: ابك مثل النساء ملكاً مُضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال، وكانت هذه زفرة العربيّ الأخيرة في إسبانيا أو الأندلس سابقاً، وقد سلّم أبو عبد الله الصغير غرناطة إلى فرناندو في 1492م، وخرج من الأندلس بعد ثمانية قرون من الفتح الإسلاميّ له، وهذا ما نراه في هذا الأردوغانيّ الذي قربت زفرته، ليودّع هذا المُلك المضاع الذي لم يعرف كيف يصونه بالتآلف المجتمعيّ، وظلّ ينظر فوقيّاً كما الأمراء الأندلسيين الذين يذكرون في التاريخ الإسبانيّ على أنّهم شخصيات إسبانيا، ولا مكان الآن لأيّة ديانة في إسبانيا سوى الديانة المسيحيّة، فمحاكم التفتيش قد قضت على المسلمين واليهود معاً، وما عاد أحد يتكلّم العربيّة، أما كان بالإمكان تعيش إسبانيا دون الصغير وفرناندو؟! ألم يكن هناك مجال لأن تكون الديانات كلّها موجودة فيها واللغات كالعربيّة والإسبانيّة؟ أما كانت الاستفادة الثقافيّة أفضل؟ فما عادت إسبانيا تحكم الآن بفلسفة الصغير ولا بفلسفة فرناندو.
كان ظهور أردوغان كمنقذ لتركيا مثل معجزة كبرى وعجيبة من عجائب الدهر؛ فهو الوحيد القادر على تشكيل حكومة بمفرده، دون مساعدة ومنّة من أحد، فحزبه حزب العدالة والتنمية يحصد الكثير من الأصوات، بل يغيّر من التركياتيّة البيضاء إلى التركياتيّة الخضراء، وبدأ بتغيير في الرأسمال ونقله من الصناعية إلى المالية، وبالتالي كان تمهيداً للغزو الرأسمالي عبر أردوغان؛ حصان طروادة إلى الشرق الأوسط، ونقل مركز القرار الإسلاميّ السنّي إلى إسطنبول، للتمهيد لدخول مشروع الإسلام السياسيّ إلى الوطن العربيّ والشرق الأوسط والدول ذات الغالبيّة الإسلاميّة فيها، فإنّ من يحلّل الأمور التي تجري في ساحة الشرق الأوسط على أنّها صدفة، أو عملية غير مدروسة لهُوَ مفتقرٌ إلى لتحليل المنطقيّ لقراءة الواقع السياسيّ.
إنّ أردوغان الذي نجح في الانتخابات من خلال دعم الشعب الكرديّ له، قد ثابر على التظاهر بأنّه سيحلّ القضيّة الكرديّة في ديار بكر عام 2005، إلى أن قال بعد عشر سنوات عكس ما صرّح به، عندما أكّد على أنّه لا وجود لقضيّة كرديّة في تركيّة، بعد أن تنكّر إلى تلك الأصوات التي دعمته، والتي كانت وما زالت العامل الحاسم لاختيار أيّة حكومة وليست حكومة العدالة والتنميّة فحسب، فقد ظنّ أنّه القائد الناجح المفكّر العظيم الذي يريد أن يدخل التاريخ التركيّ بل الإسلامي والشرق أوسطي باستقباله الذكرى السنويّة المئة لتأسيس الجمهورية التي تُصادف سنة 2023 تحت قبّة قصر السلطان المؤلّف من 1500 غرفة.
لقد ظلّ أردوغان يقول عكس الواقع، فلطالما أنّ المنظومة الإعلاميّة كلّها بيده فلماذا لا يكذب؟! لكنّ الواقع دائماً يثبت عكس كلامه، وخاصّة كلّ ما يتعلّق بالقضيّة الكرديّة فقد قال سابقاً: إنّ القضيّة الكرديّة قضيتنا، لكنّه مارس أسوأ أنواع التطهير والإبادة الثقافيّة بحقّ الكرد، ليس في شماليّ كردستان فحسب وإنّما في غربيّ كردستان وغيرها، وما كانت فضائح الفيديو والصور والوثائق كلّها التي أكّدت مساعدته داعش مادّيّا ومعنويّاً وبكل السبل إلّا دليلٌ على خداعه.
وعندما بدأ ربيع الشعوب الذي تحوّل اسمه إلى الربيع العربيّ، قال: لن نسمح بمجزرة في حمص ثانية؛ لكن بعد أن أبيد السنّة في حمص بقي مكتوف اليدين، وراهن على مرسي وسقط، وراهن على 400 برلماني وسقط، راهن على سقوط كوباني فلم تسقط كوباني وإنّما هو من سقط، جنّدَ المعارضة العربيّة السوريّة لخدمة مشروعه الإباديّ؛ فدمّر سوريا وسقط مشروعه، وكانت نزعة الإسلام السنّيّ المعتدل مبدؤه من أجل كردستان عموماً.
لطالما تبجّج أردوغان في خطبه المتعدّدة مؤكّداً على أنّ بشار الأسد مجرم، وكان يذرف دموع التماسيح على ضحايا الثورة السوريّة، وعلى ضحايا الثورة المصريّة، لكنّه الآن يمارس نفس ممارسات الأنظمة العربيّة القامعة شعوبها، فالسؤال الذي يجب أن يُوجَّه إلى المثقّفين العرب: لماذا لا تفضح المؤسسة الإعلامية العربيّة ومعظم مفكّري ومنظّري الثورة السوريّة ممارسات أردوغان الشنيعة؟! بل ما زالوا على موقفهم الثابت على أنّ تركيا مخلّصة العالم الإنساني، وأردوغان هو الملاك الذي سيهدي العالم إلى الخير، بينما أردوغان المجرم يئد الأطفال، ويقمع المظاهرات بالرصاص الحيّ، تماماً كما حدث في بدايات الثورة في سوريا علماً أنّ أسباب الثورة مختلفة، إنّ ما يقوم به هو حرب خاصة ممنهجة ومدروسة على كافة الأصعدة (اقتصادياً، ثقافياً، اجتماعياً، سياسياً، عسكرياً، دبلوماسياً….).
إنّ القارئ لمسار الثورة السوريّة التي ميّعها أردوغان، بمساعدة دول الرأسمال العالميّ التي يهمّها تغيير خارطة الشرق الأوسط دون النظر إلى حجم التضحيات والآلام والمآسي، سيجد أنّ ما زرعه أردوغان وحزبه في سوريا يحصده الآن في شمالي كردستان، فقد بدأت رياح الثورة التي حاول أن يطلق عليها تسمية الربيع العربيّ، تهزّ عرشه الذي دأب على تقويته وتعزيزه، وقويت شوكة حركة التحرير الكردستانيّة، إذْ بات من المحال تطبيق حرب الإبادة الجسديّة عليها، فالشعب الكرديّ الذي صوّت له قد بدأ يعي ما له وما عليه، فالانتخابات المبكّرة ستسقطه، والانتخابات غير المبكّرة ستسقطه، لكنّه يتعجّل في موته من خلال تطبيق الممارسات العنفيّة التي باتت خنجراً في خاصرة أباطرة هذا العصر، وهذه الحروب التي لا طائل منها ليست إلّا لتقصير عمر المستبدّين، إذ لن يحصد أردوغان على مقعد واحد في شمالي كردستان بعد لجوئه إلى العنف، وبعد أنّ صرّح علانية: ما كانت هذه الحرب ستحصل لو أنّ حزبه حصل على 400 مقعد.
لقد قالها في عام 2005: إنّ القضية الكردية قضيتنا نحن أيضاً، لكنّه بعد سنة فقط أصدر “قانون مكافحة الإرهاب”، الذي تمّ توسيع نطاقه بحيث يطال الأطفال والنساءَ أيضاً، والذي اعتبر من أقسى القوانين المضادة للكرد على مرّ مختلف عهود الجمهورية التركيّة، وما قتله الأطفال والنساء في شوارع جزيرة بوطان وغيرها من المدن الكردستانيّة إلّا حقيقة مشروعه الذي لم يلق النور بفضل مشروع الإدارة الذاتيّة والحماية الشعبية، والدفاع الذي تبناه الكرد وطوّروه خلال بضع سنوات فحسب.
لامبدئيّة التركياتيّة الخضراء
لقد كانت آخر فقاعة تلاعبيّة للمنظومة العالميّة هي إسقاط الدولة التركيّة طائرة روسيّة قبل أيام، والدفاع المستميت المفاجئ لحلف الناتو والبنتاغون الأمريكيّ والرئيس الأميركي لأردوغان، وباتت بعض التحليلات تنصبّ في خانة إعادة القطبين، والصراع على الشرق الأوسط، وصارت بعض الآراء تؤكّد على أنّ تركيا عادت إلى الساحة، وسيكون الردّ الروسي قاسياً، بل هذا ما يريده حلف الناتو.
لقد وقع أردوغان في هذا المستنقع كما وقع الأسد قبله، فهذان الشخصان قدّما كلّ التنازلات للبقاء على الحكم، ولا يمكن الاستغناء عن هذين الشخصين حالياً من قِبل الرأسماليّة العالميّة التي مازالت تسعى إلى لبرلة الشرق الأوسط الذي لم يرضخ للبرلة بعد، فهذا الكاوس الرهيب الذي افتعلته هذه المنظومة العالميّة، وإن كانت نتائجها الوخيمة على أوربا إثر انفجارات باريس الأخيرة، فلا مشكلة عند هذه المنظومة اللاأخلاقيّة، فضحايا 11 سبتمر حصلت سابقاً لتبرير التدخّل السافر للغرب في الشرق الأوسط منبع الحضارات والبقعة التي مازالت تقضّ مضاجع الربويين العالميين.
إنّ الصراع الروسي الأميركيّ التجاريّ على منابع الحضارة تصبّ في خانة صراع الشركات الاحتكاريّة، وليس في خانة فرض الأيديولوجيّات، فمن يتحدّث عن القطبين عليه أنّ يتحدّث عن الصراع الأيديولوجيّ، لكن هناك اتّفاق أيديولوجيّ بين روسيا وأميركا وبين الدولة التركيّة وأوربا، فعن أيّ صراع نتحدّث؟ فالمنتوجات الصينيّة والروسيّة تغزو هذه البلدان التي تسوّق هذا الصراع، فمن المفترض أن يكون الخاسر الوحيد في هذه المعادلة هو الدولة التركيّة والدولة السوريّة أيضاً، فالطائرة التي سقطت قد سقطت على الأراضي السوريّة، والصاروخ الذي أسقط الطائرة من أراض تركيّة، والضريبة التي ستُدفع هي من زاد ودماء الشعبين التركيّ والسوريّ، فعندما تنشر روسيا منظومة صواريخ جديدة على السواحل السوريّة، وعندما تتلقى تركيا ردّاً حاسماً من روسيا فمن هو الخاسر حينها يا تُرى؟
لطالما كانت التدخّلات الغربيّة في شؤون الشرق الأوسط عبر حجج وضحايا، سواء الاستعمار القديم أو الفكر الاحتلاليّ العولميّ الغربيّ، فلم تتخلّ هذه المنظومة الغربيّة عن ثقافة الاحتلال ونشر منظومتها الفكريّة الأيديولوجية التي تشابه منظومة صواريخ اس400 التي نشرتها روسيا مؤخّراً على السواحل السوريّة لتقوّي من هذا الأسطول الحربيّ.
يرى البعض أنّ الغرب قد بعث برسالة إلى روسيا عبر الدولة التركيّة، وهناك من يرى أنّ الغرب يريد أن تدخل تركيا في هذه الحرب مباشرة وتغوص أكثر في مستنقع الوحل الشرق الأوسطيّ، لكن في المحصلة نجد هذا التذبذب الغربيّ الغريب تجاه أردوغان، فهو يساعد داعش علناً وحلف الناتو يدافع عنه، وروسيا التي تضرب المعارضة أكثر من ضربها داعش، والنظام الذي لم يحتكّ مع داعش، كلّ أولئك متّفقون على حماية داعش ويتصارعون على الشاشات.
من يظنّ أنّ سياسة أردوغان هي سياسة حكيمة فهو واهم، فهذه النتائج التي حصل عليها لم تكن حصيلة لسياسته الناجحة، بل نتيجة حتميّة لانصياعه التامّ للمنظومة الغربيّة التي صارت ترضى عنه، بعد أن أعطى كلّ أوراقه للغرب وأميركا على وجه الخصوص مقابل تفرّده بالحكم، كم فعل الأسد، فالدولتان التركيّة والسوريّة تُقادان من الخارج، لا من الداخل، فقد أصبح تسليم الدفّة الملجأ الوحيد الذي يلجأ إليه الدكتاتور الرقّ كلّما ضاقت به السبل وحوصر من قبل المؤامرة الغربيّة عليه، فكلّ دكتاتور شرقيّ هو نتيجة طبيعة للسياسة العالميّة التي أثبتت لا أخلاقيتها بكلّ المعايير.
أردوغان الذي جُرّ إلى المعمعة السوريّة والحرب الضروس مع الكرد، والتلويح بالورقة الكرديّة التي تقضّ مضاجع القوميين الترك التي صبّت في صالح التهديدات الشرق أوسطيّة، هي المؤامرة الثانيّة على الكرد في خمس السنوات الماضيّة.
إنّ الروس قد دخلوا بقوّة إلى الشرق الأوسط، ولم يكن ذلك عبثاً، فذهنيّة القطبين كانت إرضائيّة أكثر من هذا القطب الواحد، لذلك اخترعوا فكرة القطبين المتفقَين ضمنيّاً، وأعادا صياغة هذا القطب الغائب إلى الصراع الشرق أوسطيّ لكن بالاتفاق بين بوتين وأوباما، وما يحصل الآن هو مسرحيّة قد جُرّ أردوغان إليها رغماً عنه ليبقى على الحكم، ولئلا تفتح عليه أبواب جهنّم، وما هذه الغارات التي أغارها على حزب العمال الكردستانيّ إلّا حفرة أخرى وقع فيها، فالمُلك يقتضي بصاحبه أن يُضحّي بما لديه للوصول إلى مآرب السلطة وعوالم المال والشهوة.
سيتلقّى أردوغان ردّاً عنيفاً، فقد اعتاد على الصدمات، وما هذا الصاروخ الذي أسقط الطائرة الروسيّة إلّا مخطّطٌ لازدياد النفوذ الغربيّ في المنطقة، ولِينمْ مع حلمه في السيطرة على جرابلس، والتضحية بالتركمان السوريين.
إنّ المعادلة الاجتماعيّة وسياسة الخطّ الثالث التي صارت الحلّ الناجع الوحيد لسياسة اللاحلّ والفراغ الكاوسيّ الذي مازال الإستراتيجيّة العُقميّة التي مازالت في مخيّلة هذه المنظومة العالميّة الرأسماليّة التي تراقب كلّ الحلول لتمرّر بمشروعها مشروع الشرق الأوسط الجديد إلى الطاولة عبر ذهنية الحصار والخناق وحملات الإبادة لتفرض حلّها.
كوباني التي كسرت ظهر التركياتيّة الخضراء
لقد تقوقع السفّاح أردوغان في بوتقته القومويّة، وبات يفرّغ سمومه في الشعب الكرديّ المدنيّ وبات أسير الغباء السياسيّ، فقد كان ردّ جون كيربي واضحاً عليه عندما اعتبر القوّات الكرديّة في سوريا عموماً قوات غير إرهابيّة، وكان هذا التصريح ردّا عنيفاً على أردوغان الذي خيّر أميركا بين تركيا وبين القوات الكرديّة التي وصفها بإرهابي كوباني، وهذا يذكّرنا بتصريح أوباما (كوباني لن تسقط) ردّاً على أردوغان (كوباني ستسقط) والردّ الثاني عندما قال أوباما أيضاً: (إنّ حزب الاتّحاد الديمقراطيّ ليس حزباً إرهابيّاً) أيضاً ردّاً على أردوغان عندما قال: (إنّ حزب الاتّحاد الديمقراطيّ ليس حزباً إرهابيّاً).
ظلّت الولايات المتحدة الأميركيّة ترسل رسائلها عبر سياسة زلّات اللسان، عبر مسؤوليها السياسيين سواء عن طريق أوباما أو جون كيري أو جو بايدن المتخصّص في هذا المجال، لقد وقع جو بايدن في سلسلة من الأخطاء المقصودة، فعلى سبيل المثال قال: (فقد أخطأنا عندما قمنا بالسماح للكثيرين بالعبور إلى سوريا من خلال حدودنا، فنحن الآن نحاول إغلاقها.)، (حلفاء الولايات المتّحدة الرئيسيّين يشعلون الوضع في سوريا من خلال تمويل وتسليح العناصر المتطرّفة المعارضة للنظام السوريّ.)، وعندما اتهم تركيا بأنها مسؤولة عن ظهور داعش قبل أن يعتذر هاتفيّاً لأردوغان، واتهم سابقاً الإمارات والسعودية ودول أخرى بتمويل الإرهاب، كذلك جون كيري في شرم الشيخ عندما قال: (لا بدّ أن نسعى جميعاً لأجل مستقبل إسرائيل) والذي تداركه قائلاً: (عفواً مصر) وأوباما أيضاً عندما قال: (إنّ بوتين رئيس البلاد عندما كان رئيسا للوزراء.)
لقد انفجر أردوغان غاضباً عندما صرّح جو بايدن قائلاً فيما سبق: (إنّ أردوغان هو المسؤول عن ظهور داعش) لكنّه اعتذر فيما بعد، فهذه هي السياسة الأميركيّة، سياسة تمريق الحقائق ثم إلصاق فكرة زلة اللسان على تمريقها رسالتها، وكان الحدث الأخير الذي قضّ مضجع أردوغان عندما ترجمَت قناة (الجزيرة) تصريح جون كيربي الأخير: ( نحن حلفاء لتركيا لكنّنا لا نعتبر حزب العمال الكردستانيّ تنظيماً إرهابيّاً)، فسواء كان خطأ في الترجمة من قبل مترجم قناة الجزيرة القطريّة أو زلّة لسان من كيربي، لكنّ الرسالة وصلت إلى أردوغان، فهل أخطأت قناة الجزيرة سابقاً عندما قالت: (كوباني سقطت) أم كانت رسالة قبضت الجزيرة ثمناً لهذا الإعلان التجاريّ؟ فلماذا لا تخطئ لكيربي وتقبض منه على سبيل المثال؟ لطالما بات الخبر مادّة دعائيّة، ففي عوالم السياسة العالميّة – والإعلام الذي يعتبر أداة النظام المهيمن – للأخطاء معانٍ ورسائلَ، فالسياسة الأميركيّة اعتادت على تسريب القرارات على شكل زلّات اللسان عن طريق بعض الشخصيات المعتادة على أنّها تقع في الأخطاء، وهنا تكمن مهمّة كيربي الذي حمل هذه المسؤوليّة على عاتقه، ومن خلال هذه الأخطاء المقصودة التي أرادت أميركا من خلالها جس النبض، فهي تعتمد على التجريبيّة من خلال النظريّة التي تودّ طرحها.
لقد تفتّتت الثوابت الدوغمائيّة القاتلة التي كانت ترى أنّ هناك دولاً ستظلّ الطفل المدلّل للنظام العالميّ المهيمن، إذْ لا ثوابت في عوالم السياسة الليبراليّة، فتركيا لم تعد تلك القابعة في خانة الآمر الناهي في الشرق الأوسط، وقد فشل مشروعها الإسلام السياسيّ، وبالتالي فشل أردوغان، فشل ذاك المستبدّ الذي تخلّت عنه روسيا وإيران وأميركا أيضاً قد تخلّت عنه، حتّى دولة صغيرة مثل الإكوادور قد أهين فيها، وبات ذاك القميء يصبّ جام غضبه على الشعب الكرديّ الآمن الذي من المفترض أنّه مؤتمن على حمايته، كما أقسم حينما استلم الحكم، فالبحث في تحليل للسياسة السعوديّة غير الواضحة دليل على أنّه لا ثوابت في السياسة التي بات مادّة اقتصاديّة، فلطالما لا توجد ثوابت في الاقتصاد الرأسماليّ كذلك لا توجد ثوابت في السياسة التي باتت الأداة الفعّالة للسياسة، الأداة الطيّعة بيد الاقتصاديين.
السؤال المطروح والذي بات يقضّ مضاجع المحلّلين؛ لماذا كلّ هذا الالتفاف حول الكرد في روجآفا؟ لماذا كلّ هذا الدعم العسكريّ والسياسيّ نسبيّاً لهذا المشروع؛ مشروع الإدارة الذاتيّة والأمّة الديمقراطيّة؟ لا سبيل لفهم الجواب إلّا جوابٌ واحدٌ؛ وهو الفشل الذريع لكلّ الحلول التي كانت مطروحة على الساحة السوريّة، لا سياسة الاستبداد في النظام السوريّ باتت تجدي، ولا المعارضة المسلّحة التكفيريّة الإسلامويّة تنتج الحلول، لقد سقطت أقنعة الإسلام السياسيّ حلّاً عقيماً لا يتناسب مع الذهنيّة الشرق أوسطيّة، ولا النظام الليبراليّ بشقّيه اليمينيّ أو اليساريّ، ولا كلّ الحلول التجريبيّة الوضعيّة، لقد أعلن النظام العالميّ يأسه بحلوله العلميّة الوضعيّة، فلا حلّ إلّا من المنطقة، وقد كان أردوغان من المنطقة لكنّه فشل بعد أن استنفد كلّ فرصه، فكلّ من راهن عليه قد فشل، وبالتالي لماذا سيعتمد عليه النظام الأميركيّ المهيمن؟ فتركيا طفلها المدلّل، لكنّه طفل عاق فاشل، طفل استنفد كل فرصه، فما عاد ينتج إلّا العقم، وأميركا لا تستطيع أن تصاحب الفاشلين العقيمين، هذه هي سياسة النظام العالميّ، سياسة الهيمنة التي لا ترحم الفاشلين، وأردوغان قد أثبت فشله في كلّ النواحي.
في كلّ قرن تخرج مدينة تلخّص تاريخ النضال المجتمعيّ، كانت ستالينغراد، وهذا القرن كوباني، وكلّما مرّت الأيام ودارت رحى السنوات استنبطت الأفكار الجوهريّة من مقاومة كوباني، وكان لا بدّ من تحليل فكرة الحماية الذاتيّة ومفهومها، وفكرة الإدارة الذاتيّة، ووحش الدولة القوميّة، وتحليل الإرهاب ومدى وحشيّة الإرهابيين، وكيف أن كوباني لم تواجه تنظيم داعش الوحشي فحسب، وإنما واجهت الدولة التركية بكلّ سطوتها وجبروتها، ووقفت سدّاً منيعاً أمام مفهوم الدولة القومية، وواجهت أدواتها الصهريّة والإباديّة بأدوات المجتمع الديمقراطي الأخلاقي السياسي.
فصمت العالم أمام هذه الحرب الشعواء وإعلان أباطرة العصر الحديث أنهم ضد هذا التنظيم، وأنهم يحاربون هذا الإرهاب من خلال ضرب مواقع بعيدة عن ساحة القتال في كوباني، وتغاضيهم عن الدعم العسكري اللا محدود لداعش عبر الشريط الحدودي، وإغلاق المنافذ على كوباني، وعدم الاعتراف بهذه المقاومة الوحيدة لهذا التنظيم قد عرّى الإسلام السياسي الذي تولد عنه تلقائيا الإسلام المتطرف، وبذلك سقط القناع عن أردوغان.
وهذا ما اقتنعت به أميركا ولمّا تجدِ البديلَ بعد لهذا المشروع الإسلامي الذي اعتمدته حلّاً بعد فشل الدولة القوموية من خلال إسقاط صدام، وعدم الوصول إلى مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يؤجل دائماً دون أن توضيح السبب، بل يؤكّد عجز الاحتكار أمام المجتمع الذي بات يدرك مسؤوليته، كلّ ذلك أدّى بهذه الدول الرأسماليّة العالميّة إلى خلق حالة من الفوضى العارمة، وسياسة ضرب المصالح وتنازعها، للوصول إلى حلّ يرضيها.
لكنّ هذه السياسة الفاشلة الجديدة التي تظهَرُ طارئاً على سياسات الاحتكار العالمي، والحداثة الرأسمالية المتخبطة الّتي لا تستطيع أن تتواءم مع المجتمع الديمقراطي، ولا تستطيع أن تقنعه، أو بالأحرى تزداد الهوّة بين المجتمعات وبين الأنظمة التي تقف عالة عليها.
وقد كانت تجربة كوباني كافية لتعرية الفوضى السياسية الهائلة، فالكلّ يحارب الكلّ، وتتضارب المصالح، خاصة النظام التركي الذي وقع بين إسفين الكورد الديمقراطيّ، وبين الإسلام المتطرّف الشوفيني اللاأخلاقي، ومن ناحية أخرى النظام الدوليّ الذي يدّعي أنّه يحارب داعش، ومن ناحية أخرى وهي الأهم؟؛ ماذا بعد ضرب تنظيم داعش؟
إنّ المحاولات والمراهنات الفاشلة التي مُني بها أردوغان بعد تمييع الثورة السورية التي وضع كل بيضه فيها، وبعد التناقض بين القول والفعل على الأرض، قد باءت بالفشل أمام صخرة كوباني، وكانت ومازالت السياسة التركيّة فاشلة ومدمّرة لتركيّة عندما يتعلّق الأمر بالكورد، وبأيّ أثنية أو شعب غير الشعب التركيّ، ولمّا يدرك النظام التركي بعد أنّ الغلاديو والقوّات الخاصّة المدرّبة على محاربة جيش التحرير الكردستانيّة تشكلان خطراً كبيراً على تركيا نفسها بل على شعوب منطقة الشرق الأوسط برمّته وستنسف مشروع السلام برمّته.
إنّ تركية وداعش لم تحسبا حساب فشل داعش على كوباني كما فشلت في سري كاني وغيرها، وهذا الفشل بات الطريق إلى النجاح النهائيّ للمجتمع الأخلاقي السياسيّ الّذي طالما دعا إليه القائد عبد اللّه أوجلان في مرافعاته.
تزوير التركياتيّة الخضراء للانتخابات
خمسة أشهر من التوتر والعنف والقتل وتدمير الاستقرار وبنية السلام والتحكّم بالآليّة الربحيّة التي تسمّى مجازاً الاقتصاد من قبل المنظومة الأردوغانيّة الأخوانيّة الرأسماليّة القومويّة الراديكاليّة الاستبداديّة استطاع أردوغان أن يرغم الناخب التركيّ على الانصياع إلى شروطه والاستسلام لمقولة (اللي ما اجا معك تاعا معو).
كان هدف أردوغان الرئيس هو الحصول على 400 نائب، لكنّ الضربة التي أيقظته هي ضربة السابع من حزيران التي ستجرّه إلى بوتقة المساءلة والحساب، لقد كانت صفعة كوباني شديدة ولكمة السابع من حزيران أشدّ.
فمن الذي صوّت لحزب العدالة والتنميّة؟ فبإمكاننا تقسيمهم إلى:
1- شلّة من القومويين العنصريين حيث خسر حزب MHP نصف كراسيه فقد حصل على ثمانين صوتاً في انتخابات السابع من حزيران بينما حصد إحدى وأربعين صوتاً في الانتخابات الأخيرة.
2- هناك كثر لم يستطيعوا الذهاب إلى صناديق الاقتراع إثر العنف الذي مورس في كردستان والإجراءات الأمنيّة المشدّدة وآلات التدمير تصول وتجول في باكور كردستان
3- هناك كثر من حزب الله وحزب السعادة وأحزاب راديكاليّة إسلاميّة أخرى انسحبت من الانتخابات لصالح حزب العدالة والتنمية.
4- الفئة التي ملّت من هذه الحركة الديمقراطية التي تفاءلوا بها وظنّوا أن هذا الحراك الديمقراطي سيتمّ بين ليلة وضحاها.
5- فئة الرأسماليين الذين رأوا أن صعود أردوغان يعني وقف الحرب ورجوع الليرة التركية إلى سابق عهدها والاستقرار الذي سيتبعه الأمن والسلام وانتعاش الاقتصاد من جديد.
6- الخائفون المتردّدون الذين ينقلبون بين ليلة وضحاها والين مازالوا أسرى حوادث الإبادة والصهر.
7- هذا بالإضافة إلى سرقة بعض الأصوات وإضافة أصوات في بعض المناطق التي يسيطر عليها مؤيدو الحزب الحاكم.
8- الفاسدون الذين يخافون من سقوط حزب العدالة لأنه سيفتضح أمرهم مع سلسلة فضائح الفساد.
9- هذا بالإضافة إلى الجماعة السابقة التي كانت تصوّت لهذا الحزب.
إنّ أردوغان الذي توعّد بمخطّطاته (مخطط ألف وباء وجيم) قد خلق البلبلة والخوف والرعب في نفوس الشعب، أرادا أن يخلق صورة لدى الناخب التركي وهي أن مؤسس الدولة التركيّة الحديثة، وبإمكاني تدمير هذه الدولة، وقد فضحت هذه الانتخابات سياسة AKP فالفائز هو المخطط لعملية القتل والتدمير الممنهج، القائل: لا سياسة سوى سياستنا ولن يتحرك الكرد بعيداً عنا، فهذه النتائج وإمّا الحرب، فقد استطاع أردوغان الاستفادة من هذا الكاوس الذي افتعله، فعلى الرغم من هذه الحرب الشعواء التي افتعلها هذا الجزّار وهذه المجازر والاعتقالات والأحكام العرفيّة التي كان الآمر الناهي فيها، وهذا الجوّ الذي انصبّ في حملة أردوغان الانتخابيّة هو وأغلو من خلال الظهور على التلفاز والإعلام الموجّه إلى الرأي العام في رسائل موجّهة إلى المجتمع مفادها ألّا استقرار في المنطقة مادام الوضع على هذه الحال، وهذا ما أضعف من الحملة الدعائية ل HDP الذي استطاع أن يجتاز السقف الذي يخوّله الدخول إلى البرلمان بتسعة وخمسين برلمانيّاً من أصل خمسمئة وخمسين عضواً، خاسراً بالتالي أحد عشر مقعداً في خمسة أشهر.
أترى هذه الانتخابات تعني تأجيل حلّ القضية الكردية والمزيد من القتل والتهجير والدمار؟ أم يا ترى قد أعادت الوعي لهذا المغترّ بنفسه والذي انهالت عليه المصائب والخيبات في هذه السنّة في أقلّ تقدير؟
فقطعوا بعض الطرق ووسائل المواصلات، والشكاوى السابقة ل CHP و HDP إلى التي قدّمها ل AKP والهيئة العليا للانتخابات في قضايا التزوير في الانتخابات السابقة لم يتمّ البتّ فيها حتّى الآن، ولم يعطوا توضيحاً كاملاً عنها، فأصوات أزمير أكثر من عدد الناخبين المسموح لهم بالتصويت، حتى أنّ AKP استفاد من أصوات الموتى، وهناك 130 ألف كردي في باشور لا يوجد فيه صندوق انتخاب واحد، والطريق مقطوعة إلى تركيا، وفي حارة من حارات إسطنبول (كجك جكمجه) هناك 12 ألف صوت زيادة عن عدد المقترعين، فلماذا كل هذا البوليس والعسكر في كلّ كردستان والسؤال عن الهويات وتسجيل الأسماء ومظاهر الرعب؟ بينما لم تكن كل هذه الإجراءات الأمنية متوفّرة في أوربا في غربي تركيا على سبيل المثال.
ظلت تركية دولة ملية فكل شيء مرتبط بالدولة، الشوفينية والمخابراتية والعنفية الآكبية هي التي أفرزت هذه النتائج، فأردوغان الذي قالها علانيّة :ما كانت هذه الحرب لتقوم إذا حصدت على الأغلبية، لقد استطاع أن يعطي درساً للمسالمين إنّ من يسجن ومن يعتقل، هو الذي يعطي الدروس للناس في التصويت للجزّار.
قال أوغلو عشيّة إعلان النتائج: (إنّها انتصار للديمقراطية) وعبّر عن عنجيته: (إذا كان انحناء الجبال مستحيلاً، فانحناؤنا مستحيل أيضاً)، فإذا كان انتصاره بالحرب والعنف وإشعال القلاقل فهذا انتصار للديمقراطية كما يعرّف الديمقراطيّة برأيه، فالديمقراطية بمفهومه تعني أن يصوّت أولئك الذين لم يصوتوا في حالة السلم وصوّتوا في حالة الرعب له.
على الرغم من كل هذه الممارسات فقد انتصر HDP فقد اجتاز الباراج اللاديمقراطيّ، وصار الحزب الثالث على مستوى تركيا من حيث عدد المقاعد، وظلّ HDP الحزب الأول في باكور كردستان.
التركياتيّة الخضراء ومناطق الشهباء
لقد صارت الثورة تحت إمرة السلطان العثمانيّ؛ الذي فشل في تقليد كمال أتاتورك الذي استطاع أن يغيّر من سايكس بيكو لمصلحة دولته، لكن كرد اليوم غير كرد الأمس، هذه هي المعادلة التي لم يفهمها صاحب شعار دولة واحدة وعلم واحد وشعب واحد ووو كل شيء في قالب واحد، إنّه نموذج ينظر الغرب إليه من نظرة المترقّب الذي يعيد ترتيب أولوياته وذهنيته حسب ذهنية البحث عن حلّ آخر غير حلّ الدولة القوميّة، فها هم قادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا يصرّحون علناً عبر الوسائل الإعلاميّة: إنّ الدولة القوميّة ستعيد إلى الغرب وبال الحرب العالميّة الثانيّة، وهؤلاء الأتراك الأغرار المقلّدون للمركزيّة الأوربيّة الغربيّة لا يدركون ولا يحلّلون الوبال الصادر عن الدولة القوميّة.
إنّ الصراع بين الدولة القوميّة المتجسّدة في الذهنيّة الدولتيّة التركيّة التي أثّرت على منظومة المعارضة برمّتها وبين نضال الشعوب المتطلّعة إلى الأمّة الديمقراطيّة هو الصراع الحالي، فحتّى أنّهم لم يصمدوا أمام داعش عندما قرّر توسيع نطاق نفوذه ما بين الراعي وأعزاز وسيطر على أكثر من عشر قرى خلال أيّام، أيمكن أن ننظر إلى هذه المعادلة سوى بعين المصالح الإستراتيجيّة المشتركة بين تركيا وداعش؟ لقد هدّد أردوغان قبل أيّام بأنّ من لا ينضمّ إلى جيش الشمال سيلقى مصيره، فهو العقاب لبعض الفصائل التي حاولت أن تبرز عضلاتها قليلاً كأحرار الشام ونور الدين الزنكي، أو هي عبارة عن مسرحيّة قد افتضح أمرها، فالعقليّة هي عقلية المؤامرة والخداع وشراء الذمم والغدر والخيانة، وهذا دأب الدولة القوميّة التي ترى السلطة الميكافيليّة تكمن في الخداع والمناورة فحسب.
إنّ الغباء الأردوغانيّ يكمن في أنّه يعتبر معادلة نجاح الكرد فشلاً له، هي نفس معادلة داعش التي فشل فيها، بينما كان يستطيع أن يكون سبباً في نجاح الأمة الديمقراطيّة ومعادلة التوافق بين الدولة التركيّة والأمة الديمقراطية التي كانت ستكون المفتاح لحلّ الشرق الأوسط، لكنّه عجّل في تقصير عمر الدولة القوميّة، إنّ السلطنة التركياتيّة قد وضعت نصب عينيها خيارين فحسب، إمّا الاعتماد على فلول مرتزقته من الجيش غير الحرّ الذي يندحر أمام أيّة نسمة داعشيّة، أو إلى اللجوء إلى داعش الذي أصبح الملاذ الأخير للسيطرة على أعزاز، لتتدخّل الدولة التركيّة عسكريّاً في العمق السوريّ وهو الانتحار بعينه.
اليقظة العربيّة من غدر التركياتيّة الخضراء:
كانت تغريدة حاكم دبي على تويتر: “تركيا غدرت بنا وتسبّبت في فشلنا في السيطرة على سوريا” بادرة من بوادر اليقظة العربيّة الثانيّة التي تشابه يقظة البستاني والعريسي والأفغانيّ وسواهم قبل قرن من الزمن، وباتت تداعيات انهيار المنظومة الأردوغانيّة في منطقة الشرق الأوسط تشابه تداعي سلطنة عبد الحميد الثاني وتداعي مشروع جمال باشا السفّاح في بلاد الشام، بعد انهياره في معركة الترعة – البابيّة، فالهزيمة النكراء لجمال باشا في حرب الترعة تشابه هذه الهزيمة النكراء التي يتلقّاها جيشه في مدينة الباب التي اختصرت الثورة السوريّة، حيث وضع العدوان التركيّ كلّ بيضه في حملة الباب التي لم يستطع إلى الآن من الدنو من أسوار المدينة بعد أكثر من شهرين، إذْ يبدو أنّ شهر العسل التركي قد انتهى بمقتل الأمير التركماني الداعشيّ، وكأنّ هناك مدّاً وجزراً في العلاقات التركية الداعشيّة، إذْ أنّ السعوديّة وقطر قد أرسلت رسائلها إلى أردوغان الذي خان محوره من خلال حاكم دبي.
فقد أضحت حميميم المركز الرئيس للقاءات التركيّة الروسيّة، وهذا ما لا ترضى عنه السعودية وقطر ودول الخليج العربيّ، ولا يمكن لدول الخليج العربيّ أن تبقى صامتة لخليجها العربي الذي يتحوّل يوماً بعد يوم إلى خليج فارسيّ، وهم ينظرون إلى العلاقات التي تجمع ما بين دول تركيا وروسيا وإيران والعراق، وهو المعسكر المعادي المفترض للطرف السنّي الذي نصّبوا فيه أردوغان زعيماً عليه إلى أن خانهم بعد أن فضّل معاداة الكرد وإن كان على حساب زعامة الإسلام السياسيّ السنّي.
من هنا نستطيع القول: “لقد أجبر الكرد حكومة حزب العدالة والتنمية على كلّ هذا، أجبروها على عدم التوازن، والتخلّي عن حلم السلطنة العثمانيّة، وبات كلّ همّها الكرد، والكرد فحسب، سواء في باكور أو روج آفا أو باشور، أو حتّى في المرّيخ.
لقد أقرّ أردوغان بفشله من خلال اتفاقه مع العبّادي الذي ظلّ يستصغره عندما بدأت الحملة على الموصل، إلى أن استسلم له من خلال جولة يلدرم إلى العراق وإقليم كردستان وإعطاء الوعود بإخراج قوّاته من بعشيقة، بشرط أن تُخرِج القواتُ العراقية قواتَ الكريلا من شنكال، وكأنّ قوات الكريلا قد جاءت إلى شنكال بأمر من الحكومة العراقيّة، ولا يضع بباله أن الكلّ بات يستهزئ به، بعد أن فقدوا الثقة بهذا الخائن الذي خان فريقه، فكيف سيثق به بوتين والعبّادي وروحاني والأسد…؟!
يظن ذاك الخائن أنّه سينجح في الآستانة، مع أنّ الجميع بات يدرك أنّه فخّ منصوبٌ للدولة التركية الفاشلة من كلّ النواحيّ، فبعشيقة فخّ، والآستانة فخّ، والباب فخّ، وحميميم فخّ… وقد غرق في مستنقع أفخاخ الكراهية للكرد التي أعمته وأفقدت بصره وبصيرته، فالحقد القومويّ يقوده، وتلك الأبواق قد ملّت من وعود هذا الخائن، الذي ظلّ يعتذر لكلّ من أهانه، لبوتين مرّات، والآن للعبّادي، وقبلها للأسد وروحاني، إنّه مهزلة التاريخ الذي يكتب نفسه في الصراع ما بين ديمقراطيّة المجتمعات وعنجهيّة الدولة القوميّة.
احتضار التركياتيّة الخضراء
لقد أثارت زيارة أردوغان الجدل بين الوسط السياسيّ برمّته، فالكلّ بات يعلم لماذا يريد أن يقابل أردوغان ترامب؟ وماذا يريد منه؟ لكنّ الغريب في الموضوع أنّه تلقّى إهانتين في واشنطن؛ الأولى عندما كان اللقاء محدوداً بعشرين دقيقة، وهذا يدلّ على الاستخفاف بدولة عظمى في حلف الناتو، وفي رئيس دولتها الذي قطع آلاف الكيلومترات ليلتقي بترامب عشرين دقيقة، وهي مدّة غير كافية لعرض المسألتين المهمّتين؛ (عدم تسليح YPG وتسليم غولن)، والإهانة الثانية التي أوقع فيها نفسَه عندما أمر حرّاسه الشخصيين أو بلطجيته باللهجة المصريّة بالاعتداء على المتظاهرين ضدّه أمام السفارة التركيّة في واشنطن، كما فعل سابقاً عندما اعتدى بلطجيته على محامية إكوادورية تدعى “دييجو فينيتميلا” ما أدى إلى كسر أنفها أثناء احتجاجها على سياسته ضد الكرد، وكذلك دخول المتظاهرين قاعة المؤتمرات في المعهد الوطني للدراسات العليا عندما كان يُلقي أردوغان خطابه، وفي تشيلي أيضاً احتجّ نشطاء أمام القصر الرئاسي في سانتياجو، لكنّ بلطجيته لم يستطيعوا أن يصلوا إليهم.
قد يقول قائل: إنّ أردوغان أكثر شخص خدم الكرد بمواقفه الرعناء، فصار المواطن الأميركيّ يتساءل؛ كيف يتعامل هذا الرئيس مع شعبه ضمن إطار دولته وضمن محميته، لطالما يفعل هذا العمل الأخرق في عاصمة المركز العالميّ المهيمن، لا سيّما أنّ المواطن الأميركيّ يرى نفسه سيّد العالم، بالطبع هذه الرؤية يمكن أن تكون براغماتيّة، فهناك الآلاف من المظلومين الكرد وغيرهم في السجون التركيّة وكذلك هناك مشرّدون قد هدّمت منازلهم، ومفصولون عن العمل… ناهيك عن دعمه لداعش واعتدائه السافر طيلة سبع سنوات على روجآفا…
الغريب في هذه التجربة الأردوغانية أنّها تلخّص وتختزل في داخلها تاريخ الدولة التركيّة منذ نشأتها السلجوقيّة حتّى الآن، وتحتضن في طيّاتها تاريخ الرياء والوحشيّة ضدّ الشعوب، أمن المعقول أن يتحدّث بالتركيّة بلغة المنتصر، وتتحدّث المترجمة باللغة الإنكليزية بلغة الذليل المطأطئ الجبان، على الملأ دون حساء من شعوب ودول العالم بأسره؟ فالمهم عند هذه المدرسة هو إيصال رسالة إلى الشعب التركيّ أنّه منتصر جبّار، وبالمقابل يقدّم التنازلات تلو الأخرى.
إنّ تفكيك الظاهرة الأردوغانيّة، أو العثمانيّة الجديدة أو حزب الاتّحاد والترقّي يساعدنا في تفكيك ذهنية الدولة القوميّة الغبيّة في الشرق الأوسط بل العالم بأسره، فيمكن إطلاق مصطلح جديد ألا وهو؛ مصطلح (الدولة المسخ أو الهجين)؛ فهذه الدولة تجمع ما بين القومويّة والإسلامويّة والعلمانيّة والسلجوقيّة والعثمانيّة والليبراليّة والديمقراطيّة الصوريّة والديكتاتوريّة الفجّة…) كيف استطاعت هذه التجربة أن تظهر إلى الملأ في الشرق الأوسط؟ لا بدّ أن نعزو ذلك إلى ضحالة القوميّة التركيّة التي لم تستطع أن تجد لها براديغما واضحة عبر تاريخ السبعة قرون الماضية حتّى الآن، إلى أن جاء حزب العدالة والتنميّة بقيادة أردوغان ليجمع كلّ التناقضات التي عاشتها هذه اللغة التركيّة لتعيشها الدولة التركيّة المنهارة.
لا بدّ من التمعّن في هذه الزيارة الترامبيّة بشكل جيد، فهل انتهت الصفقات؟ هل تحوّل مركز الإسلام السنّي من إسطنبول إلى الرياض؟ هل ستتخلّى أميركا عن مشروع التركياتيّة الخضراء في تركيا بعد أن أتمّ مهامه في تمرير الرأسمال المالي إلى تركيا؛ بوّابة الشرق الأوسط؟ أكانت صفقة الرياض أضخم من صفقة إسطنبول؟ وأسئلة عدّة…
بالطبع تعتبر تركيا مستعمرة بريطانيّة – أميركيّة – إسرائيليّة، وقد بات أردوغان يصدّق أنّه يستطيع أن ينتقل إلى الدول المركزيّة في العالم، فقد أغراه تزعّمه الإسلام السنّي فترة من الزمن، وباتت مطالبه كثيرة، وشروطه أكثر، فكلّما تقدّمت أميركا خطوة في سوريا، اعترضت تركيا وقدّمت مصالحها الشوفينيّة على مصالح الرأسمال العالميّ الذي بات لا يهتمّ كثيراً بالطريقة التي سيدير بها مصالحه وصفقاته، فقد يكون الحلّ هو الإبادة أو الصهر أو كلاهما أو التوافق، وقد أُجبرت على التوافق بعد الانهزامات المتعدّدة في الشرق الأوسط، فدائماً نسمع من المسؤوليين الأميركيين العبارة التالية: (لقد خسرنا الكثير من المال في العراق ولسنا مستعدين أن نخسر كذلك في الشرق الأوسط) ولا نسمع أيّ تصريح عن حجم الضحايا والدمار في العراق، فالرأسماليّة واضحة في هذا المجال، فهي تعترف بلغة المال والمصالح والنفوذ واستمراريّة فائض الإنتاج والربح الأعظميّ.
ستظلّ سياسة النظام العالمي المهيمن تعتمد على (اهربْ يا أرنب، أمسك به يا كلب الصيد) فقد يكون هذا الطرف السنّي أرنباً وقد يكون الطرف الشيعيّ، وكلّما انتصر طرف ما في موقعة لجأ المهزوم إلى المركز ليقدّم له صنوف الولاء والطاعة والهدايا ليصطفّ معه، لئلّا يقع فريسة سهلة، وتنتهي حياته.
يبدو أنّ الربيع العربيّ قد خدم المركز والدولة أكثر من أن يخدم الشعوب، فصار الملوك والحكّام يخافون من تلك النهايات الوخيمة للحكّام المهزومين، فباتوا يطوّرون من آليات دفاعهم وذلك باللجوء إلى المركز، لكي يخلّصهم من كوابيسهم، فباتت سياسة العقم واللاحلّ تخدم مصالح المركز، فكلّما طالت الأزمة ازدادت الصفقات، ويبدو أنّ صفقة السعوديّة مع مركز العالم المهيمن ليست آخر الصفقات، فالعقم ما زال موجوداً، والتوتر يزداد، والأسلحة تزداد، على الرغم من كمّ الدمار الهائل في المنطقة.
أمّا مشروع التركياتيّة الخضراء بقيادة حزب العدالة والتنميّة من خلال أسلوب دمج (الإسلامويّة بالقومويّة) قد انتهى مفعوله من خلال خسارة داعش لـ 90% من مناطقه، وبات مشروع الدولتيّة القوميّة الضيّقة لا يخدم النظام العالميّ المهيمن، لأنّه مشروع غير منتج، وهذا ما لم تعيه الدولة التركيّة ولا يريد النظام السوريّ أن يعيه أيضاً، وقد حاول المركز أن يرمّم الدولة القوميّة لكنّه فشل، وبات يبحث عن آليات التوافق مع الشعوب، هذا وقد بات البحث عن آلية توازن فيها ما بين شؤون مصالح الشعوب المحلّيّة في وجه مركزيّة الدولة والرأسماليّة الاحتكاريّة تظهر إلى العيان، من خلال التمعّن في فيدراليّة الشمال السوريّ.
الخاتمة
كم الطامة كبرى! ألّا تدرس الواقع جيّداً وتدّعي أنّك ستحرّر الشعوب، ألّا تتخيّل كيف أنّ دولاب الرؤية السياسيّة يتغيّر؟! لأنّك تفتقر إلى المشروع، وكيف أنّ تحليلاتك السياسيّة وقراءاتك المشهد السياسيّ والاستراتيجيّ في الشرق الأوسط قد باءت بالفشل، فالحمل الوديع والملاك المخلّص للشعوب الإسلاميّة (رجب طيّب أردوغان) الذي كان يقف وهو يبكي أمام الملأ وهو يصوّر جرائم المستبدين العرب، عندما كان معظم الشعب البريء يصدّقه لأنّه تحت تأثير الآلة الإعلاميّة الكونترولية التي تبرمج عقول الشعب المغيّب، لتصوّر الشيطان ملاكاً والملائكة شياطين، وفي الوقت ذاته كانت الماكينة الإعلاميّة العالميّة تروّج أنّ حزب الاتّحاد الديمقراطيّ هو من شبّيحة الأسد وليس لديه مشروع وطني، ومن خلال بعض الأدوات الكرديّة التي دأبت إلى تشويه انتصارات وحدات حماية الشعب، بل وصل بها الأمر إلى التعاقد مع المجرم التركي قاتل الأطفال، وتطبيق أجنداته على الأرض.
إنّه فشل المشروع الأردوغاني بامتياز، فمن خسارة إلى خسارة، ومن هزيمة نكراء إلى هزيمة أشدّ نكراناً، ابتداءً من ردّ جون كيربي عليه عندما اعتبر القوّات الكرديّة في سوريا عموماً قوات غير إرهابيّة، وكان هذا التصريح ردّا عنيفاً على أردوغان الذي خيّر أميركا بين تركيا وبين القوات الكرديّة التي وصفها بإرهابِيّ كوباني، وهذا يذكّرنا بتصريح أوباما؛ “كوباني لن تسقط” ردّاً على أردوغان: “كوباني ستسقط أو سقطت” والردّ الثاني عندما قال أوباما أيضاً: (إنّ حزب الاتّحاد الديمقراطيّ ليس حزباً إرهابيّاً” أيضاً ردّاً على أردوغان عندما قال: “إنّ حزب الاتّحاد الديمقراطيّ ليس حزباً إرهابيّاً”.
وكان تصريح جو بايدن أيضاً بقوله: “إنّ أردوغان هو المسؤول عن ظهور داعش” الضربة القاضية على العلاقات التركية الأميركية، ممّا دفع الدولة التركيّة إلى الالتفات إلى تيار موسكو وإيران وتغيير دفّة السياسة التركيّة، ممّا جعلها دولة لا يثق بها سواء من المحور الإيراني الروسي السوري أو المحور السعودي القطري الأميركي، والمتتبع لمسيرة أردوغان المتدرّجة نحو الديكتاتوريّة والتفرّد من خلال خنق الحرّيات والقفز على القوانين في تركيا ومن خلال اعتداءته الصريحة على دول الجوار، واحتلاله جرابلس والمنطقة الواصلة بينها وبين أعزاز، يدرك مدى تطوّر مسيرة الشعوب المتطلّعة إلى الديمقراطيّة في روجآفا وفي المنطقة برمّتها، فكلّ تصعيد لهذا الدكتاتور تعبير صريح على انتصار وتقدّم القوى الديمقراطيّة وكان آخر عمل أخرق جبان متجاوز كل أعراف الديمقراطيّة التي بات يحاربها في تركيا هو اعتقال الرئيسين المشتركين لحزب الشعوب الديمقراطيّ في تركيا وعشرة نوّاب آخرين للحزب في البرلمان التركيّ الذي صار ذا نكهة داعشيّة صرفة.
إنّ هذا العدوان على إرادة الشعوب المتطلّعة إلى الديمقراطيّة في تركيا وفي باكور كردستان لهو العدوان الأخير عليها وخاصّة الكرد الذين صار العدوان عليهم جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ الإبادة على الشعوب، إنّها الحرب الأخيرة على هذا الشعب، فكرد الآن ليسوا كرد السابق، وذاك الدكتاتور يدرك هذا الأمر ويدرك تمام الإدراك أنّ انتصار فكرة الأمّة الديمقراطيّة في الشرق الأوسط لهو هزيمة ساحقة لأحاديّة دولته الصارمة.
إنّ الحملة الأخيرة على الموصل والرقة هي بداية النهاية لداعش، وبالتالي بداية النهاية للزعيم الداعشيّ الحقيقيّ أردوغان الذي حارب تجربة الديمقراطية في روج آفا بكلّ الطرق، سواء العسكريّة أو الأمنيّة أو السياسيّة والاقتصاديّة، وعبر كلّ الوسائل غير الأخلاقيّة، ودمّر سوريا بكل معاني التدمير وخسر في النهاية فلجأ إلى الدكتاتوريّة والقمع والعنف والقفز على القانون، فقد استطاعت ثورة روج آفا أن تزيل القناع عن هذا الوجه البشوش الذي اعتزل الابتسامة منذ انتصار كوباني، وصار العبوس مرافقاً له في كلّ خطوة يخطوها، وأعاد الدولة التركيّة إلى طبيعتها الاستبداديّة، واستطاع أن يبرهن لمؤيّديه وللغرب أنّ الديمقراطيّة بشكلها الليبراليّ العلمانيّ الدولتي لا ينجح في الشرق الأوسط.
إنّ محاولات أردوغان البائسة في جعل دولته دولةً مرعبة ذات قوّة مهيمنة على المنطقة قد انهار على جدران كوباني وجرابلس والموصل والرقة وأعزاز، فهو المتهور الذي فقد توازنه بعد 1 حزيران العام المنصرم، وكل اعتقال تعسّفي هو طريق الوصول إلى الحرية والانعتاق من هذه السلطات القامعة التي تريد أن تئد الديمقراطيّات، وقد أثبت أردوغان مدى زيف الديمقراطيّة التركيّة.