وفاء مطر
إن إلقاء الضوء على دور المرأة في حكاية “كيف أصبح الإنسان إنساناً” من قِبلنا نحن كحركة نسائية ديمقراطية حرة عادلة تنشد إلى تحرير المجتمع برمته بدءاً من تحرير المرأة؛ يتميز بأهمية حياتية بالغة في عودة الإنسانية إلى أصلها. هذا بالإضافة إلى أنه إذا لم نستطع البحث في مراحل الانتقال من الوحشية إلى الإنسانية ونشوء المجتمع الطبقي وتكوّن الحضارات بشكل مترابط في موطنها الأم، أو القيام بتحليل واقعي صائب وبشكل ملموس ضمن الإطار العام لسماتها وخصائصها المحتوية على فروقات كثيرة؛ فلن نستطيع الوصول إلى وعي تاريخي سليم، وإن وصلناه فسيكون مليئاً بالعديد من النواقص والأخطاء الحياتية.
وبدون تخطي الأخطاء المرتكبة في دراسة التطورات التاريخية والاجتماعية كإنكارها أو تضخيمها أو استصغار شأنها أو الجنوح إلى “المركزية الأنانية”، وبدون إبداء تقربات عادلة؛ لا يمكن تفهم سياق التطور الذي انطلق منه التاريخ بشكل ملموس وكما هو عليه. كما أنه بدون إلقاء الضوء على كل مرحلة تاريخية وتحليلها بصحة، لا يمكن رؤية الحاضر أو تشخيص ومداواة العقد الكأداء والعقيمة التي تعاني منها البشرية. فهناك فرضيات تزعم أن التطورات قد حصلت بغتة، وتقيم كافة دراساتها الاقتصادية والحقوقية والسياسية والعسكرية على هذا الاحتمال. ويتم القيام بذلك باسم العلمية الأكثر نقاوة. ومن طرف آخر حين تتجزأ التطورات الاجتماعية إلى أقسام وأجزاء تاريخية، فإن التقرب التجريدي عينه والعلاقات الجامدة ذاتها يستمران وكأن هذه التطورات منفصلة عن الزمن أو أنها لا تحتوي فيما بينها على روابط معينة. فكل مرحلة تقوم بإنكار المراحل السابقة لها أو بتحريفها لتجعلها وسيلة تستفيد منها في تقرباتها الذاتية.
وفي نهاية المطاف يتم الحط من معنى التاريخ وحصره في نطاق ضيق بحيث يخدم بروزها هي في الأساس. ولا زالت إشكالية دراسة مراحل التاريخ، وتثبيت ما كسبه كل عهد من العهود الأخرى وما أعطاها بواقعية ودون استصغار أو تضخيم، وإدراك استحالة وجود أحدها دون الآخر؛ تحافظ على حيويتها في يومنا الراهن.
وإن كان النظام الاستعماري القمعي المعتمد على العلم والتقنية في يومنا الحاضر قد اتخذ أبعاداً كبيرة، فالسبب الأول في ذلك يرجع بلا شك إلى أسلوب تكوين العلم وكيفية استخدامه أكثر من أن يكون مرتبطاً بأساليب العنف والشدة. ومسؤولية رجال العلم لا تقل عن مسؤولية رجال السياسة والقادة العسكريين، بل تزيدفي تحمل عبء القضايا الجدية النابعة من كافة الحروب المندلعة في عصرنا، وعلى رأسها الحربان العالميتان الأولى والثانية، من قبيل الفقر، التلوث البيئي، التمييز الجنسي، التوازن النووي المريع، الزيادة السكانية، الطيش التكنولوجي وجنونه إلخ… فكهنة العلم هم الذين فتحوا المجال لسلوك مسار كهذا من خلال نمط تكوين العلم وكيفية تمثيله.
ومن المؤكد أن إلقاء الذنب مرارا و تكراراً ً على العهود الأولى والوسطى وتطهير الذات منها، والقيام بذلك تحت اسم “الأساليب العلمية”، لا يحظى بقيمة ملحوظة للبرهان على النقاء والصفاء. وتشير كل الاستقصاءات إلى أن ما مورس في القرن العشرين من إمحاء وتعذيب وجوع وآفات يزيد عن مجموع ما تم في كل القرون الأخرى.
لذا لا بد إن كنا نحس بالمسؤولية فعلاً تجاه التاريخ والمجتمع، أن نُخضِع كافة التناقضات المتشابكة الأساسية لعصرنا والأساليب التي تعتمدها، والآثار الناجمة عنها، وطرازه في العلم وكيفية تطبيقه على وجه الخصوص؛ أن نخضعها لعملية انتقاد جذرية. ذلك أنه يستحيل على العلم الخلاص من الاتهامات الثقيلة والانتقادات اللاذعة ما لم يحلل ويفك القضايا الكبيرة. وما الحقيقة القائمة الآن سوى ذاك النقد الحق بعينه.
وعلى ضوء هذا النقد ستُدرَك الأهمية التاريخية لإرجاع مصدر التطور الحضاري إلى السومريين، ومنه إلى المجتمع النيوليتي. فالتاريخ الحضاري يبدأ مع سومر، وحضارة سومر تعود بدورها إلى الثورة القروية- الزراعية أي إلى الموجة الاجتماعية العارمة الأولى التي أبدعها النوع البشري في الأجواء الخصيبة المباركة المعتمدة على عطاء الطبيعة في أماكن منابع نهري دجلة والفرات الجبلية والأراضي السهلية التي يمران بها. فكل الحضارات في العالم وعلى رأسها الحضارة السومرية، قد اقتاتت منها دون انقطاع منذ الألف العاشر قبل الميلاد على الأقل ولو كلفها ذلك أن يصيبها الجدب والجفاف. إنها الأم الخصبة المولِّدة للحضارات، وموطن بداية التاريخ “المدوّن”، وبداية فاعلية المبادئ الدياليكتيكية بأراضيها وأناسها. يتحتم تبيان أهمية ذلك للنجاح في إقامة الروابط الدياليكتيكية التاريخية بشكل صائب من الناحية الزمانية والمكانية، حيث من المعروف أن أي تاريخ أو كيان اجتماعي لم توضع بداياته بشكل سليم لا يمكن البتة التعريف به بشكل سليم. والتاريخ أو المجتمع الذي لم يعرَّف بصحة لن يستطيع إنقاذ نفسه من أن يكون مصدراً للمخاطر والأزمات على الدوام.
لكن، وبالنجاح في الأساليب التاريخية ستنبثق قوة حل نفيسة. وكما أن التاريخ كلٌّ متكامل، فلكل جزء من أجزاء هذا الكل مكانه المحدد وقيمته المعينة بحيث لا يمكن تجاهل أو إغفال قيمة أصغر التجمعات أو حتى أبسط الأفراد فيه. فمثلما ينعكس التاريخ في مجتمع ما والمجتمع في التاريخ، فكذلك يجد المجتمع انعكاسه في الفرد والفرد في المجتمع. وللقناعة بأن النتيجة الأساسية التي ستؤول إليها المادية التاريخية – باعتبارها تعبير عن كيفية تطبيق الأسلوب الدياليكتيكي على التاريخ- تكمن في هذه الصيغة، قيمة علمية لا تضاهى. أما إتمام الإرشادات التاريخية الأساسية على شكل مراحل رئيسية فسيبين مدى إمكانية إدراك حاضرنا وتحويل الجهل إلى استنارة، وإبداع إرشادات الحل الغنية.
يقع على كاهل حركة المرأة الساعية لتحليل وتخطي كافة العقد الإنسانية التاريخية والاجتماعية الكأداء، وظيفة عاجلة تتمثل في تطوير التحليلات التاريخية والاجتماعية السليمة واكتساب الوعي اللازم لها. ذلك أن تكريس السلطة الذكورية مع بدء الحضارة ونبذ المرأة مع الزمن من كافة بنى المؤسسات الفوقية والتحتية للمجتمع الطبقي، أصبح قاعدة يُستَنَد إليها في كتابة كتب “تاريخ بلا امرأة”. ومثلما يقدَّم السياق التاريخي للمرأة بعد تعريضه للتشويه والتحريف نتيجة التمييز الجنسي على أنه هو التاريخ حتى الآن، فالشكل الاجتماعي الذي اتخذته العلاقة بين المرأة والرجل أيضاً يبرز أمانا كتطور شماني لا مفر منه وكأنه القدر المحتوم. انطلاقاً من هنا فنحن في وضعية يتحتم علينا فيها توجيه الانتقادات اللاذعة للقيم التاريخية والاجتماعية والحضارية المنبثقة من نظام المجتمع الطبقي ذي السلطة الذكورية، لأن هذه النظرة التاريخية والحضارية التسلطية تنم عن استهتار لبدايات الإنسانية، بل وحتى إنكارها تماماً رغم أن الحقائق المعاشة في مرحلة تكوُّن البشرية هي التي تحدد مستقبلها ومسارها الآتي بأكمله. فالسمات الموجودة في البدايات هي التي ستكون في حركة وديناميكية طبيعية حتى النهاية.
ومن إحدى الحقائق الهامة التي يجهد النظام الأبوي السائد اليوم لإخفائها، هي حقيقة أن المرأة هي التي أمّنت الانتقال من الحيوان إلى الإنسان. أما الهدف الكامن وراء إخفاء ريادة المرأة لهذه المرحلة فيتمثل في سعي النظام الأبوي للحفاظ على نفوذه التسلطي. وبالفعل نرى السلطة الاستبدادية ذات الطابعالذكوري تحمل في جنباتها كل ما هو نقيض لجوهر المرأة، وبالتالي لجوهر الإنسان الطاهر العفيف، وتستمر في نفوذها من خلال وسائل ووسائط مختلفة، وتجعل من ذاتها سلطة أزلية لا سابق لها. أما كشف النقاب عن حقيقة المجتمع الأمومي اللاطبقي المعاش أولاً والمناقض تماماً للطابع الأبوي السائد حالياً، وإبراز دوره الهام في عمليات الأنسنة والتحضر، ومنحه للإرادة الإنسانية؛ فسيعني اقتراب نهاية السلطة السائدة في راهننا، وبالتالي نهاية كل دعائمها من حروب وعنف وقمع واضطهاد وتمييز. وبهذا ستتعرف الإنسانية على هويتها الأصلية وستحقق عودتها إلى جوهرها.
رغم قبول النظام الأبوي ذي السلطة الذكورية لنظرية “التطور الطبيعي” في عملية أنسنة الإنسان ولو جزئياً، إلا أنه ومع حلول القرن الحادي والعشرين لا يزال ينكر الدور المحدِّد للمرأة في التطور الطبيعي للمجتمع البشري لعدم قناعته به ولأنه يرى فيه خطراً يهدد سطوته ونفوذه. ورغم قيام التقدم العلمي في القرن التاسع عشر بتسليط الضوء على سياق التطور الطبيعي في أنسنة الإنسان بكل سطوع، إلا أن العقلية الأبوية المتسلطة لا تميل قط لقبول حقيقة وجود عالم اجتماعي لا طبقي تعمه الجماعية على أساس التساوي ويحكمه القانون الأمومي فيما قبل المجتمع الطبقي. ذلك لأن تاريخ المجتمعات ذات النفوذ الذكوري قد بدأ مع اندحار نظام المجتمع الأمومي وزواله. وهذا ما معناه أن القبول مجدداً بوجود النظام الأمومي الاجتماعي الذي ساد لآلاف السنين يعني النهاية الحتمية لنظام السلطة الذكورية الذي ابتدأ منذ الألفية الثانية قبل الميلاد واستمر حتى راهننا. وينبع هذا الرفض الدائم اليوم للوجه الحقيقي للتاريخ الذي أزيل عنه الستار بكافة الأدلة التاريخية والعلمية، من عدم تكفل الطبقات الحاكمة بتحمل مثل هذه الهزة كي لا يفلت زمام المجتمع الطبقي الذي تحكمت فيه على الدوام من يدها. فباندثار المجتمع الأمومي اللاطبقي لم تحل الهزيمة والخيبة بجنس المرأة فحسب، بل انهزمت الإنسانية برمتها معها، ولم تعد الشعوب أيضاً- إلى جانب جنس المرأة- تقطع أي شوط في التقدم بعد تلك المرحلة. بمعنى آخر ظلت المرأة والشعوب عالقة مسمَّرة في العهد النيوليتي.
ولغياب المصالح الطبقية في النظام الاجتماعي الأمومي المتمحور حول المرأة لم يكن ثمة وجود لمصالح النفوذ “مصالح السلطة” أيضاً. وإلى جانب خلو جنس المرأة من الميل للتحكم والتسلط، وتميزه بتحقيق قفزات نوعية جادة في التطور البشري، نُظِر إلى المرأة كإلهة وحظيت بأهمية عظمى وتلقت التمجيد الكبير في هذا العهد البدائي. لم ينبع ذلك من كونها مبدعة الحياة فحسب، بل ولأنها منتجة ومخترعة لمتطلبات كل ما يلزم في تأمين استمرارية الحياة أيضاً.
أما عملية الإنجاب وتنشئة الأطفال فقد كانت ترمز إلى خصائص تلعب دوراً مؤثراً في نقل الإنسان من وضع الحيوان إلى وضع الإنسان، لا كما هي عليه اليوم كعوامل تحط من شأن المرأة وتجعلها من الدرجة الثانية “الجنس الثاني”. فالنساء في البداية كن أمهات يتحملن مسؤولية تأمين استمرارية الحياة للنوع البشري. وبتحمل المرأة مثل هذه المسؤولية خلقت أرضية أول حياة اجتماعية ضمن إطار “حقوق الأم” بقيامها بإيصال الحياة الوحشية إلى مستوى تقدمي ملحوظ. وفي هذا النظام الاجتماعي المتمحور حول المرأة عاش كل الأفراد متساوين، وحينما تعرضت الحياة لخطر ما وُضِعت ضوابط معينة ملائمة وعادلة لتأمين جو آمن مستقر. وبسبب تنافر طبيعة المرأة مع الحرب والفرز الطبقي، ظلت دوماً نزاعة للسلام. من هنا داومت الجماعات البشرية التي عاشت في هذه الفترة على تكريس حياة يسودها السلم والتآخي. أما الجماعات البشرية التي تعيش اليوم ضمن نظام المجتمع الطبقي فلم تحظَ قط بالعيش في جو من السلم والتآخي الحقيقيين اللذين كانا سائدين في النظام الاجتماعي الأمومي، ذلك لأن طبيعة المرأة المكرِّسة للعدالة الحقة في بداية التاريخ قد قُضي عليها اليوم ضمن نظام السلطة الذكورية وتم التنكر لها.
وفي النظام التسلطي الذي تغيب فيه العدالة ولا تجد إمكانية الحياة فيها فإن توطيد وإحياء أخوّة الشعوب والسلام والديمقراطية بمعناها السليم يعد تقرباً غير واقعي، حيث أن هذه القيم هي من إبداع واختراع المرأة وطبيعتها، وبدون تحرير المرأة يستحيل تحرير الشعوب أيضاً.