آلدار خليل
اقتحمت الهيمنة الراسمالية الشرق الاوسط لتوطيد مفهوم الدولة القومية خاصة في القرنين الاخيرين، ولكن بات معلوماً بأنها فكرة دخيلة لا تمت بصلة الى جوهر مجتمعاتنا التي كانت المهد للمجتمع الطبيعي. حيث كان يسود مجتمعات الشرق الاوسط مجتمعية قريبة من المناخ الديمقراطي والتعايش السلمي قبل بلوغ النزعة الدولتية الى ما آلت اليه بعد تطور مفهوم الدولة والنزعة القومية العنصرية. لكن من بعد تسرب هذا النظام بآلياته الدولتية باتت المنطقة معرضة لأفكار وذهنية تمثل الهيمنة الراسمالية التي تجهد بكل ما تملك من قوة الى نشر فكرة السلطة والدولة القومية بشكل خاص. أدت النزعة الدولتية الممنهجة الى تجزئة وتشتيت المنطقة جغرافياً وسكانياً وصنفتها الى قوميات وطوائف. وهذا ما أدى الى تشكيل دول عديدة في المنطقة ووضع انظمة تحكم هذه الدول بشكل يتوافق مع حقيقة الدولة كمؤسسة قمعية على رقاب الشعوب. بالطبع كانت لهذه الانظمة ظروف تمكنها من مسايرة او مواكبة الواقع المفروض في القرن الماضي، وتمكنت من خلاله تسيير امور بلادها بذهنية تسلطية، ولكن بعد التطورات والتغييرات الحاصلة التي أدت بدورها الى خلق أزمة في النظام العالمي، لجأت قسراً الى آليات لتغيير نمط ادارتها للمنطقة وتغيير نمط تدخلاتها كما كانت تعتمد عليه في القرنيين المنصرميين نظراً الى خصائص قرننا هذا، لانها بدأت تفقد شرعيتها وحتى قوتها على ادارة مجتمعاتها كما كان عليه سابقاً. ولهذا وجدنا ان شعوب الشرق الاوسط بعدما كانت ترزخ تحت هيمنة وسلطة تلك القوى وخصوصاً الانظمة الدولتية القوموية، بدأت تنتفض في محاولة منها للبحث عن الحرية والكرامة وترسيخ الديمقراطية بدل الديكتاتورية. لكن الشيء الذي لا بد أن ننوه إليه هو ان هذه الثورات لم تتمكن من تحقيق اهدافها في القضاء على آلة القمع والسلطة المتمثلة في الدولة والانظمة التي تمثلها بل انحرفت عن مسارها او باتت تلجأ الى تغيير الحكام مع الابقاء على آلية او مؤسسة الدولة التي كانت موجودة سابقاً الى جانب اجراء بعض التعديلات الطفيفة في نمط الادارة واصدار بعض القوانين والمرسومات والذي كان من المتوقع أن تأتي بنظام ديمقراطي في نهاية المنال.
وهنا لابد أن ننوه ان الديمقراطية ليست قوانين او دساتير يتم صياغتها وبه يترسخ النظام الديمقراطي، بل انها ادارة المجتمع نفسه بنفسه ليكون صاحب القرار ويمتلك حق الكلمة والتنفيذ ويمثل نفسه بنفسه. لكن تم اللجوء الى آليات فوقية لفرض بعض القوانين والدساتير المزعمة بانها من مبادئ الديمقراطية ومنه تغيير بعض الدساتير والبنود ظناً بانها ستوفي بالغرض المطلوب. وفي النتيجة بالرغم من تغيير الاشخاص الذين كانوا على سدة الحكم في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، ولكن قضية الديمقراطية مازالت عالقة، لانها في النتيجة إذا لم تتحقق عملية تغيير حقيقي بنهج سياسة ديمقراطية، فلن يتمكن المجتمع من ادارة وتنظيم نفسه بنفسه ولن يكون قادراً على تحقيق حياة حرة ديمقراطية.
علينا وضمن هذا الاطار أن نعلم بأن النزعات والنعرات الموجودة في المنطقة منذ قرون كالصراع الطائفي والقومي يشكل سبباً رئيسياً في اعاقة التحول الديمقراطي بالرغم من ان التعددية والغنى الثقافي والديني الموجود في منطقتنا أرضية خصبة ودافعاً قوياً لتحقيق هذه العملية بنجاح فائق. ولكن بدل من تحويل هذا الموزاييك الى عامل مساعد لبناء نظام ديمقراطي، هناك مساعي جادة للقضاء على هذا التنوع والتعددية من قبل النظام الراسمالي العالمي بدعم من اعوانها في المنطقة للاستفادة منها لصالح مآربه وتحويلها الى عامل صراع ونزاع ولا استقرار في المنطقة. وبالفعل يمكننا القول بأنها نجحت والى حد ما في اثارة النعرات القومية والطائفية في الشرق الاوسط وخاصة في تأجيج الصراع السني-الشيعي والعربي-الاسرائيلي الذي كاد أن يفتك بنسيج غناها الاجتماعي والثقافي. ان هذا النزاع يصبح بؤرة او مرتعاً للهيمنة الراسمالية حتى تتربع عليه، وهي بطبيعة الحال تستفيد من هذا الواقع المتردي والغير مستقر في الشرق الاوسط. فمن جهة يحاول النظام الراسمالي العالمي التخلص من اجهزة القمع او الحكم التي كانت موجودة في السابق لانها لم تعد توفي بغرضها المطلوب او لم تعد تلبي وظائفها في الحفاظ على مصالح هذا النظام، ومن جانب اخر يهدف الى اللاستقرار والتشرذم والتشتت والحروب الدموية حتى تبقى المنطقة بلا حول ولا قوة، وتتحول الى سوق لتصريف وتسويق اسلحته وبضائعه التي تخدم الحروب والنزعات لاسواه. لو لاحظنا سنرى أن جميع انواع النزعات والنعرات الموجودة تقف حجرة عثرة امام وحدة مكوناتنا الاجتماعية وتجعلها خائرة وعديمة القوة. ان هذا العامل الخطير يتيح للنظام العالمي فرصة التدخل في المنطقة ولكن ليس بالاسلوب او النمط السابق الذي تعود عليه خلال القرون الماضية كون الظروف العصرية الراهنة لا تعطيه هذه الفرصة كالاحتلال العسكري المباشر والاحتكارات الاقتصادية العملاقة او الانتداب او الوصاية او ما شابه ذلك، ولهذا يجد من الافضل أن تدخل بهذه الطريقة في راهننا.
طبعاً لم تكتفَ الشعوب عن المقاومة والبحث عن ما هو جديد او عن الحرية المنشودة والتي طالما انتظرتها سنين طوال في مسيرته الانسانية ومازالت تكافح كما نراه اليوم في جميع شوارع وازقة بلداننا الاوسطية. ان اجراء بعض التعديلات الدستورية او تغيير الاداريين لا يعني نهاية الصراع او اخماد الثورات الموجودة، بل بالعكس نحن نعيش مرحلة الحركات الشعبية التحررية المسماة بمرحلة “ربيع الشعوب”. ومرحلة ربيع الشعوب لا يمكن حصرها في اشهر واعوام معدودة ولا يمكن لاية نظام سلطوي ان يحدد او يحجم مطالبها، بل تعتبر هذه المرحلة بداية جديدة لمرحلة بحث الشعوب عن ربيعها وحريتها. وقد تتوجه بلداننا كتونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا صوب ربيع ديمقراطي إذا ما انتهت ثوراتها لصالح الشعوب. ان السبيل الحقيقي للخلاص من الانظمة التسلطية هو التخلص من النظام الدولتي اي من نمط السلطة الحاكمة وليس تغيير الاداريين فحسب، وهذا بدوره يتطلب نضالاً ونهجاً سياسياً ديمقراطياً، اي على الشعوب وقواها الديمقراطية ان تبحث عن مفتاح او طريق للخروج من الخيارات المرسومة سابقا والمتمثلة في بناء دولة سلطوية او مؤسسة تمثل الدولة القومية وهذا ينطبق مع حقيقة البحث عن مجتمع ديمقراطي وتنظيميه وقدرته على ادارة نفسه بنفسه. ان النضال الديمقراطي نضالاً يتطلب جهداً عظيماً على المدى الطويل، وستستمر هذه المرحلة في المنطقة الى حين تحقيق ديمقراطية حقيقية. قد يتغير بعض الحكام والاداريين والاشخاص او حتى التنظيمات التي قد تبدو اكثر ديمقراطية من سابقاتها وبدى للبعض جوانب ايجابية ولكن الى ان لم يتم تصفية الذهنية السلطوية والمتمثلة اليوم في صرح الدولة القومية لا يمكن ان تتوج الثورة الحالية بالنصر المؤزر. وسيواصل الربيع العربي كفاحه الى تحقيق ربيع حقيقي يعيش فيه الكل ضمن اجواء ديمقراطية حقيقية ومن المتوقع ان تطال هذه المرحلة.
ان الشعب الكردي بنضاله ومقاومته في هذه المرحلة يشكل عاملاً رئيسياً في عملية التغيير الديمقراطي وذلك لعدم اصابته بعدوة النزعة الدولتية القوموية، بالعكس فهو من اكثر الشعوب التي تعرض لظلم وطغيان الانظمة الدولتية التي حكمته منذ قرون من دون اي رادع، وعان الويلات والمذابح والابادات الجماعية والثقافية على وجه الخصوص. لذا فان الشعب الكردي وحركته الديمقراطية من المؤهلين الاوائل لريادة هذه المرحلة وخاصة بعد الوعي التنظيمي والديمقراطي الذي يتحلى به اليوم، وقد اثبت الشعب الكردي هذه الحقيقة في غرب كردستان وسوريا عندما اعلن عن نظامه الاداري الذاتي الديمقراطي وشكل مجالسه الشعبية حتى يكون مثلا تحتذى به جميع شعوب المنطقة. ان قفزته هذه نوعية وبداية جديدة صوب مجتمع ديمقراطي ونمط رائع في اقامة وحدة واخوة الشعوب في جميع بلدان الشرق الاوسط، لانه يحاول بتجربته هذه توحيد الصف الشعبي بجميع اقلياته واديانه واطيافه من دون تفرقة او تمييز ويدافع جاهدا الى حماية جميع قيمه كشعب وكمجتمع انساني رغم جميع الهجمات الدموية التي يتعرض لها كما شاهدناه في منطقة “سري كانية” وبعض المناطق الاخرى من قبل قوى عصاباتية مدعومة من اطراف معينة وعلى رأسها تركيا. لقد كانت المقاومة الكردية في مناطق غرب كردستان وسوريا مركز اثارة غضب للانظمة التسلطية اللاديمقراطية داخليا وخارجيا. لا وجود للديمقراطية طالما هناك شعب مضطهد ومقموع الارادة ومسلوب الحق ويمارس بحقه جميع اشكال الانكار والتصفية مثل الشعب الكردي.
يُعتبر الشعب الكردي قوة ديناميكية لبناء نظام ديمقراطي في هذه المرحلة، واثبت الى جانب ما ذكرناه بان التغيير الحاصل باسم الديمقراطية ما هو إلا ترويج من قبل النظام العالمي لا غير، لانه لو كانت الديمقراطية موجودة ما بقي هذا الشعب تحت وطأة الظلم والحرمان والجوع والتعامل اللانساني. استطيع التاكيد على ان مقياس الوصول الى الديمقراطية والتطور ونجاح الثورات يكمن في نيل الشعب الكردي حقوقه المشروعة. ستبقى الديمقراطية مفقودة ما دام هناك شعب يرزخ تحت نير العبودية ومستهدف من قبل قوى دموية عصاباتية حتى وان اجريت تعديلات في قوانين ودساتير الحكم. ان ممارسة سياسة ديمقراطية ستؤدي الى تحقيق حياة حرة وكما هو سبيل لازدهار ثقافة غنية قادرة على تطوير المجتمع وتقدمه نحو الافضل. ان تحقيق الديمقراطية يحتاج الى ذهنية بعيدة عن الذهنية الدولتية كما نراه في مطالب الشعب الكردي المنادي بنظام كونفدرالي ديمقراطي في الشرق الاوسط. بمكان هذه الكونفدرالية التي طرحها قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” ان يوحد مكونات المنطقة تحت ظل نظام ديمقراطي بدل من مؤسسة الدولة السلطوية التي تعتبر آداة لتحقيق المشروع الامريكي “مشروع الشرق الاوسط الكبير”.
بالطبع هناك مزاعم من قبل البعض بوجود الديمقراطية من بعد اجراء الانتخابات في العديد من البلدان التي تغير من خلالها بعض الاداريين ولكن لم تكن سوى عملية انتخابية شد من ساعد الحكام او الفئة الجاهدة الى ادارة الدولة. لذا نرى بان المعارضة لا تهدأ ولا الشعوب وصلت الى مطالبها كما شاهدنا في تونس والتي انقلب فيها الشعب مرة اخرى من بعد العملية الانتخابية ايضا وخاصة فئة النساء اللواتي يطالبن بتحقيق الديمقراطية، كون ما يحصل لا علاقة له بالديمقراطية ولا بمطالب المجتمع الديمقراطي. ان اعطاء فرصة للمرشحين بالدعاية وممارسة بعض الاصول الديمقراطية في عميلة الانتخاب والاقتراع وما شابه ذلك، ليست إلا امور او تسهيلات يتم تقديمها للذين سيقومون بادارة تلك الدولة، ولكن مؤسسة الدولة بحد ذاتها ليست ديمقراطية ولا تشمل المجتمع برمته. وعلى هذا الاساس يمكننا التاكيد ان كل ما بني على اسس خاطئة ستكون النتيجة خاطئة حتماً. السياسة الديمقراطية سبيل وحيد لاقامة مجتمع ديمقراطي على اسس مجهود جماعي بعيد عن سلطة الدولة بذهنيتها واجهزتها الدولتية القوموية.