قضيةُ المجتمعِ الأخلاقيةُ والسياسية
عبدالله أوجلان
إني مدركٌ لمخاطرِ تقسيمِ القضايا. إذ لا يُمكِن غضَّ الطَّرْفِ عن كونِ هذا الأسلوبِ – الذي طَوَّرَه علمُ الاجتماعِ الأوروبيُّ المركزِ باستخدامِ العقلِ التحليليِّ بلا حدود – مشحوناً بخطرِ فقدانِ تكامُلِ الحقيقة، بالرغمِ مِن وجودِ بعضٍ مِن مكاسبِه ظاهرياً. سوف أستطردُ في استخدامِ هذا الأسلوب، بشرطِ ملاحظةِ الجوانبِ المُريبةِ لهذا الخطرِ باستمرار؛ إدراكاً مني لاتسامِه بمخاطرِ تقسيمِ القضيةِ الاجتماعيةِ على شكلِ “قضايا”. وسأسعى لتناوُلِ مواقفَ مختلفةٍ في قِسمِ الأبستمولوجيا أيضاً.
لَم نَضَع السلطةَ والدولةَ في أولِ أقسامِ القضايا الاجتماعيةِ عبثاً. بل إنّ الدافعَ الأساسيَّ في ذلك هو أنهما تُشَكِّلان المنبعَ العينَ للقضايا. فالوظيفةُ الأوليةُ لعلاقاتِ وأجهزةِ السلطةِ والدولة، التي كانت فوق المجتمعِ بِكُلِّ ثِقَلِها من قبل، وغَدَت متموقعةً داخله بكثافة تزامُناً مع القرنِ السادس عشر؛ هي إبقاءُ المجتمعِ بلا قوةٍ ولا حماية، في سبيلِ تهيئتِه لاستغلالِ الاحتكار. مِن المهمِّ للغاية تعريفَ دورِ السلطةِ والدولة على هذه الشاكلة. فوصفُ السلطةِ والدولةِ بأنهما مجردُ مجموعِ أجهزةِ العنف وعلاقاتها فحسب، إنما يتضمن نواقصَ فادحة. أنني على قناعةٍ بأنّ أهمَّ دورٍ للسلطةِ والدولةِ يتمثلُ في إبقاءِ المجتمعِ بلا قوةٍ أو حماية. أما دورُهما هذا، فتُحَقِّقانه بالتهشيشِ الدائمِ لأنسجتِه الأخلاقيةِ والسياسية التي تُعتَبَر لَوازِمَ “وجودِ” المجتمع، وبإسقاطِها في حالةٍ تَعجَزُ فيها عن القيامِ بعملها أو أداءِ دورها. ذلك أنّ المجتمعَ لا يستطيعُ الاستمرارَ بوجودِه، دونَ تكوينِ ساحتَيه اللتَين أسمَيناهما بالأخلاق والسياسة.
الدورُ الرئيسيُّ للأخلاقِ يتجسدُ في اتسامها بضوابطِ تأمينِ ديمومةِ المجتمعِ وبقائه متماسكاً، والقدرةِ على تطبيقها. والمجتمعُ المفتقِدُ لضوابطِ وجودِه وقدرتِه على تطبيقها، يعني أنه تَحَوَّلَ إلى جماعةٍ حيوانية. وهو في هذه الحالةِ يدلُّ على إمكانيةِ استخدامِه واستغلاله كما يُراد.
أما دورُ السياسة، فيعني مِن حيث المضمون تأمينَ القواعدِ الأخلاقيةِ اللازمةِ للمجتمع
، بالإضافةِ إلى التداولِ الدائمِ لِسُبُلِ وأساليبِ تلبيةِ متطلباتِه الماديةِ والذهنية الأساسية، ثُمّ إقرارِها. والسياسةُ الاجتماعيةُ تُصَعِّدُ مِن قوةِ النقاشِ والقرارِ على الدوام تأسيساً على هذه المبررات، كي تَجعَلَ المجتمعَ نشيطاً ومنفتحاً في آرائه، ولِتَصِلَ به إلى مستوى التحلي بمهارةِ إدارةِ نفسِه بنفسه، وحلِّ أعمالِه بنفسِه؛ مُشَكِّلَةً بذلك الميدانَ الأوليَّ على الإطلاق لوجودِه. المجتمعُ بلا سياسة كما الدجاجةُ المبتورُ رأسُها، تتخبط يميناً ويساراً قبل لَفظِ أنفاسِها الأخيرة.الطريقُ الأكثر تأثيراً للإبقاءِ على المجتمعِ مشلولاً خائرَ القوى، هو تَركُه بدونِ سياسة (بلا شريعة حسب التعبيرِ الإسلامي)، باعتبارِها جهازَ النقاشِ والقرارِ الذي لا استغناءَ عنه في سبيلِ تأمينِ وجودِه الجوهريِّ وتلبيةِ احتياجاتِه الماديةِ والمعنويةِ الأولية. ومِن المستحيلِ أنْ يَكُونَ هناك طريقٌ آخَر خطيرٌ بهذه الدرجة.
لهذا السبب، فإنّ أولَ ما تَلجَأُ إليه أجهزةُ وعلاقاتُ السلطةِ والدولة على مَرِّ التاريخِ هو إحلالُ المؤسسةِ المسماةِ بـ”القانون” مَحَلَّ أخلاقِ المجتمع، والمؤسسةِ المسماةِ بِحُكمِ “الدولة” مَحَلَّ سياسةِ المجتمع. أي أنّ
تتجسد وظيفةَ السلطةِ والدولةِ الأساسيةَ في كلِّ مرحلةُ في تجريدِ المجتمعِ مِن قوةِ الأخلاقِ والسياسة
لديه، والتي تؤدي دوراً أساسياً في استراتيجيةِ وجودِه؛ وإقامةِ حُكمِ القانونِ والسيطرةِ مقامَها. إذ لا وجودَ لتراكُمِ رأسِ المالِ أو احتكاراتِ الاستغلال، مِن دونِ هاتَين الوظيفتَين. وجميعُ صفحاتِ تاريخِ المدنيةِ المعمرةِ خمسةَ آلافِ عام، مليئةٌ بِكَسرِ شوكةِ المجتمعِ وقوتِه الأخلاقيةِ والسياسية، ووضعِ قانونِ وحُكمِ احتكاراتِ رأسِ المالِ مكانَها. هكذا هو تاريخُ المدنيةِ بأسبابِه الحقيقيةِ والمُجَرَّدة. ولن يَكتَسِبَ تدوينُه السليمُ معناه إلا مع هذه الدوافع. هذا الواقعُ يتخفى أيضاً في صُلبِ كافةِ الصراعاتِ الاجتماعيةِ في التاريخ. فهل سيعيشُ المجتمعُ بموجبِ أخلاقه وسياسته ، أم سيُرغَمُ على العيشِ كالرعاع على منحى قانونِ وحُكمِ احتكاراتِ الاستغلالِ المسعورة؟ إني أودُّ التعبيرَ عن هذه الحقيقة، لدى قولي بأنّ المصدرَ الرئيسيَّ للقضايا هو “التضخمُ السرطانيّ” لقانونِ وحُكمِ السلطةِ والدولةِ بما لا يُصَدِّقُه العقل.
ثمة فائدةٌ في إيضاحِ نقطةٍ أخرى. تَمَّ تَوَقُّعُ الفائدةِ لدى تأسيسِ الهرميةِ الأولى وفي الحالاتِ التي اكتَسَبَت فيها “الخبرةُ” و”المهارةُ” أهميتَهما لأجل المجتمع. ولا فرقَ في تسميتِنا للهرميةِ بالدولةِ أو بالسلطة. وإنْ كان المجتمعُ لَم يَنظُرْ بِعَينٍ سلبيةٍ كلياً إلى الدولةِ والسلطةِ (الحكم)، فهذا ينبعُ مِن أملِه في هاتَين الفائدتَين. أي أنه يَعتَقِدُ بِتَيسيرِ أعماله لدى انتظارِه الخبرةَ والمهارةَ من الدولةِ والسلطة. هذان المؤثِّران مِن أهمِّ مبرراتِ تَحَمُّلِه لوجودِ الدولة. ذلك أنّ الخبرةَ لا تتواجدُ لدى الجميع. والمهارةُ أيضاً ليست مِن شأنِ الجميع. لكنّ السلطةَ والدولةَ استغلّتا هذيَن الأملَين الصائبَين المتوقَّعَين منهما طيلةَ المسارِ التاريخي، فقامَ عاجِزوها العديمو الخبرةِ والمهارةِ بتحويلِهما إلى ساحةٍ للحِيَلِ والدسائسِ بدل القانون، وللبطالةِ بدل التجربة. إنّ الترديَ والفواجعَ الجَسيمةَ على علاقةٍ كثيبةٍ بهذا التحريفِ وقلبِ الأمورِ رأساً على عقب بشكلٍ فادح.
الكارثةُ الحقيقيةُ تاريخياً تتجسدُ في أنّ البورجوازية، التي تُعَبِّرُ عن التطورِ السرطانيِّ للطبقةِ الوسطى خصيصاً، تربَّعَت على منطقةِ المجتمعِ الوسطى، أي “في بَطنِه”، عارِضةً مصالحَها الأكثر أنانيةً على أنها “قانون”، وإدارتَها التي لا أصلَ لها على أنها “حُكمٌ دستوريّ”؛ مُقْدِمَةً في سبيلِ ذلك على الإكثارِ مِن السلطةِ والدولةِ بتقسيمهما إلى “أجهزةٍ” وميادين لامحدودةٍ يُدَّعى أنها ميادينُ “المهارة”. أي أنّ المجتمع “فَرَّ من المطرِ فسقط في البحيرة” . أما الليبراليةُ التي تُمَثِّلُ دِقَّةَ عقلِ البورجوازية، فينبغي تقييمَ نقاشاتِها التي لا تنضب بشأنِ “الجمهورية”، “الديمقراطية”، “الدستور”، “تقليص الحكم”، و”تحجيم الدولة والسلطة” على أنها تَحجبُ الحقيقةَ بقدرِ ما هي معاني مشحونةٌ بالتعابيرِ المعاكسة. إنّ الطبقةَ البورجوازيةَ الوسطى لا تَبلغُ حتى مستوى العصورِ القديمةِ في تَحَلّيها بمهارةِ الدستور، الجمهورية، الديمقراطية، تقليص الحكم، وتحجيم الدولة والسلطة. ذلك أنّ الذي عَطَّلَ هذه المصطلحاتِ الأصيلةَ هو البنيةُ الماديةُ للطبقةِ الوسطى، ونمطُ وجودها. فبينما كان المجتمعُ يتحملُ مَلِكَه الأوحدَ وسُلالتَه الوحيدةَ بِشَقِّ الأنفس، فكيف سيتحملُ الأجهزةَ والسلالاتِ البورجوازيةَ اللامحدودة؟ إني أستخدِمُ مصطلحَ “الأسرة والسلالة البورجوازية” مُتَعَمِّداً، لأنها تتأتى مِن المصدرِ نفسِه. فالبورجوازيةُ تَجمَعُ جميعَ فنونِها في الحُكمِ والقواعدِ مِن قوى الأرستقراطيةِ النبيلةِ والملوكِ العظماءِ السابقين لها. ولا مهارةَ لها في الإبداعِ الذاتي. والتأثيرُ السرطانيُّ لعلاقاتِ الدولةِ والسلطةِ على المجتمع، ينبعُ من طبيعتِها الطبقيةِ تلك. فطبيعةُ الطبقة الوسطى مثقَلَةٌ بالفاشية.
بناءً عليه، ففي مقدمةِ القضايا الأوليةِ على الإطلاق تأتي قضيةُ شلِّ تأثيرِ الأنسجةِ الأخلاقيةِ والسياسية للمجتمع، والبلوغِ بها إلى حالةٍ تَعجَزُ فيها عن العمل. لا ريب أنه مِن غيرِ الممكن القضاءَ كلياً على الأنسجةِ والميادينِ الأخلاقية والسياسية.
ما دام المجتمعُ موجوداً، فالأخلاقُ والسياسة أيضاً ستتواجدان
. ولكنهما تعجزان عن أداءِ مهاراتهما وكفاءاتهما الإبداعيةِ والوظيفية، بسببِ خروجِ أو إخراجِ السلطةِ والدولة من كونهما ميداناً للمهارةِ والخبرة. واضحٌ جلياً أنّ أجهزةَ وعلاقاتِ السلطةِ والدولة في راهننا تتسللُ إلى أدقِّ مساماتِ المجتمع (عبر الإعلام، شتى أنواع وحدات الاستخبارات والعمليات الخاصة، والتعاليم الأيديولوجية وغيرها)، لِكَتمِ أنفاسه، وتصييرِه جاهلاً لنفسِه، قاصراً عن تطبيقِ أيٍّ مِن مبادئه الأخلاقية، عاجزاً عن القيامِ بأيِّ نقاشٍ سياسيٍّ أو صياغةِ أيِّ قرارٍ لِتَلبيةِ احتياجاته الأساسية (السياسة الديمقراطية). فضلاً عن ذلك، فإنّ “شركات العَولمة”، أي الاحتكارات “الأزلية – الأبدية”، التي يطغى الحديثُ عنها في حاضرنا كقوةِ هيمنةٍ حقيقية؛ قد حَقَّقَت أعظمَ انفجارٍ لها في رأسِ المال خلالَ هذه المرحلةِ. ولهذا أواصرُه الوثيقةُ مع إسقاطِ المجتمعِ في تلك الحالة. ذلك أنه ما لَم تَجرِ بعثرةُ المجتمعِ والإيقاعُ به، لَكان مِن المحالِ جني المالِ مِن المالِ بالسبلِ الافتراضيةِ لهذه الدرجة، أي دونَ المساسِ بتاتاً بأيٍّ مِن أدواتِ الإنتاج. أي أنّ كلَّ ما اكتَسَبَته الاحتكاراتُ طيلةَ السياقِ التاريخيِّ بأجمعه، ومكتسباتِها الأضخمَ على الإطلاق التي انتزعَتها من الهواء ؛ قد تَحَقَّقَت تأسيساً على إفراغِ المجتمعِ مِن وجوده وعمودِه الفقريِّ ودماغه. لأنه “لا مال في الهواء!”.
عليَّ التنويهَ مجدداً إلى أنّ أجهزةَ وعلاقاتِ السلطةِ والدولةِ المتكاثرةَ بلا حدود، لا تستطيعُ لِوَحدِها إسقاطَ المجتمعِ في هذا الوضع. بل ويتحققُ غزوُ المجتمعِ أيديولوجياً بوساطةِ الإعلام الذي يُعَدُّ مصدراً رئيسياً آخَر للهيمنة، ويُؤَثِّرُ بما يُعادِلُها بأقلِّ تقدير. بمعنى آخر، ومِن دونِ تصييرِ المجتمعِ أبلهاً ساذجاً عن طريقِ تحريفاتِ القومويةِ والدِّينَوِيةِ والجنسوية والعلموية والنزعةِ الفنية (تصنيع الفن، وبالأخص الرياضة)؛ لن يَكُونَ بمقدورِ أجهزةِ وعلاقاتِ الدولةِ والسلطة بمفردها إسقاطَ المجتمعِ لهذه الدرجة، ولن تستطيعَ شركاتُ العَولمةِ الافتراضيةُ (المقصود بها شركات الرأسمال المالي) والاحتكاراتُ التاريخيةُ إخراجَ المجتمعِ من كينونته، ومن ثَمَّ تعريضَه لهذا الكَمِّ مِن الاستغلالِ الذي لا يَعرِفَ حدوداً إلى درجةِ ممارسةِ الإبادةِ المجتمعية.
قضيةُ مجتمعِ الشرقِ الأوسطِ في الأخلاقِ والسياسةِ والديمقراطية
سيَكونُ من المفيدِ جداً تحليل سياقِ المدنيةِ المركزيةِ التي تُناهِزُ خمسةَ آلافِ عاماً، بالتأسيسِ على مصطلحاتِ الأخلاقِ والسياسةِ والديمقراطية. عليَّ التكرارَ ولو باقتضاب، أنه لا وجودَ للمجتمعِ من دونِ الأخلاقِ والسياسة. ولو تَواجَد، فلن يتعدى في معناه ركاماً عديمَ الشكل. ولو تواجدت هكذا مجتمعات، فلا يُمكِنُ أنْ تَكُونَ إلا أداةً مُسَخَّرةً لخدمةِ مجتمعاتٍ أخرى.
بالمقدورِ تعريف الأخلاقِ بأنها تكامُلُ المواقف التي سَلَكَها المجتمعُ أثناءَ البدءِ بتشييده. وهذا ما مفادُه كُلِّيَّةَ وتكامُلَ الإجراءاتِ والأعمالِ والأنشطةِ التي يَقومُ بها المجتمعُ البدائيُّ في سبيلِ تأمينِ المَأكَلِ والتوالُدِ والمَأمَن. وتُعتَبَر الأخلاقُ قد تَكَوَّنَت، بقدرِ ما تتحولُ هذه الكُلِّياتُ إلى تقاليد. ونظراً لاستحالةِ سيرورةِ المجتمعِ بلا توالُدٍ ومأمنٍ ومأكل، فإنه لا مجتمع بلا أخلاق. وإلى جانبِ كونِ السياسةِ مصطلحاً مختلفاً نوعاً ما، فإنها مرتبطةٌ بالأخلاقِ عن كثب. وما يُمَيِّزُها عن الأخلاقِ أنها ممارسةٌ عمليةٌ يومية. فبينما تَقومُ الأخلاقُ بوظيفتِها وتؤدي دورَها كتقاليد على شكلِ قوالبَ معيارية، فإنَّ
السياسةَ تعني كُلِّيَّةَ القراراتِ المُتَّخَذَةِ بشأنِ القضايا التي تُواجِه المجتمعَ يومياً
. وبقدرِ ما تتحولُ كُلِّيَّةُ هذه القراراتِ إلى تقاليد، فهذا يَدُلُّ على التحامِها وتَكامُلِها مع التقاليدِ الأخلاقية، وتَحَوُّلِها بالتالي إلى قواعدَ أخلاقيةٍ بالذات. موضوعُ الحديثِ هنا هو تَغذيةُ كِلتَيهما لبعضِهما بعضاً. فبينما تَعرضُ الأخلاقُ الإطارَ للسياسةِ تقليدياً، تقومُ السياسةُ بتوسيعِ وتعميقِ هذا الإطارِ على الدوام بقراراتِها الجديدةِ التي تؤدي وظائفَها. إذن، والحالُ هذه، لا يُمكنُ الفصلَ تماماً بين كِلا المصطلحَين والظاهرتَين.
ينبغي إضافةَ الديمقراطيةِ إلى الظاهرتَين والمصطلَحَين السابقَين، بوصفِها الظاهرةَ والمصطلحَ الهامَّ الثالث. بهذا المعنى، يستحيلُ التفكيرُ أيضاً بمجتمعٍ بلا ديمقراطية. وحتى لو حصل، فهو بمثابةِ أداةٍ اجتماعيةٍ عاجزةٍ عن التعبيرِ عن ذاتِها، ولن يَخلُصَ من أداءِ عَمَلِه كمجموعِ أدواتٍ مُسَخَّرةٍ في خدمةِ مجتمعاتٍ أخرى. في هذه الحالة، وبينما تُزاوَلُ السياسةُ وتُتَّخَذُ القرارات، فإنَّ وظيفةَ الديمقراطيةِ تُعَبِّرُ عن مشاركتِها في السياقِ كقوةٍ تعبيريةٍ وتنظيميةٍ للمجتمعِ المَعنِيِّ برمتِه. بهذا المعنى، فالسياسةُ ديمقراطيةٌ في مضمونها. فالسياسةُ الحقيقيةُ هي السياسةُ الديمقراطية. أما السياسةُ اللاديمقراطية، فهي القراراتُ الإجرائيةُ الأحاديةُ الجانبِ لقوى السلطةِ والدولةِ الهرميةِ المتصاعدةِ بَعدَ ذلك بزمنٍ طويل. أما “القراراتُ الإجرائيةُ” لتلك القوى، فلا تُسمى بالسياسة، بل بالقواعدِ الإجرائية.
أنَّ السياسةَ ليست ظاهرةً أو مصطلحاً يتكَوَّنُ بلا شعبٍ أو مجتمعٍ أو مشاركة. بناءً عليه، وبِحُكمِ ضرورةِ أنْ تَكُونَ السياسةُ ديمقراطية، فمن الضروريِّ أنْ تَكُونَ أخلاقيةً أيضاً.
لا يُمكِنُ لمجتمعٍ أنْ يَكُونَ سياسياً في حالِ غيابِ الديمقراطية، ولا أنْ يَكُونَ أخلاقياً في حالِ غيابِ السياسة
. هذه الظواهرُ والتعبيرُ الاصطلاحيُّ الثُّلاثيُّ يَشتَرِطُ بعضَه بعضاً كضرورةٍ حتمية.
لقد تصاعدتَ المدنيةُ المركزيةُ الشرقُ أوسطيةِ ضمن تنافُرٍ وتضادٍّ مع هذه الظواهرِ الثلاثةِ الأساسيةِ للمجتمعِ ومع تعبيرِها الاصطلاحيّ. ثمةَ علاقةٌ جدليةٌ أساسية فيما بينهما. فبقدرِ ما يتنامى مجتمعُ المدنية (المدينة – الطبقة – السلطة)، فإنّ الأخلاقَ والسياسةَ والديمقراطيةَ تَشهَدُ تَراجُعاً بالمِثل، ويَدورُ توترٌ وصراعٌ فيما بينها في الوقتِ ذاتِه وبالشكلِ ذاته. بالإمكانِ تَعَقُّب هذا السياقِ في العباراتِ التي تَنُصُّ عليها الملاحمُ السومريةُ بشأنِ المرأةِ والمُزارِعِ والراعي بشكلٍ خاصّ، حيث أنهم يُشيرون إلى حقيقةِ هذا التوترِ والصراع. في حين لا نستطيعُ سماعَ صوتِ هذا الثُّلاثيِّ كثيراً (الدعامات الأساسية للمجتمع) في الملاحمِ والنصوصِ الدينيةِ اللاحقة. وهذا ما معناه أنهم خَسِروا في صراعِهم. مقابلَ ذلك، فملاحِمُ القبائلِ والعشائرِ التي بَلَغَت يومَنا الحاليَّ لا تزال نابضةً بالحياة. وهذا ما يَدُلُّ على أنها لَم تَخسَرْ كلياً بُنيَتَها الأخلاقيةَ والسياسيةَ ولا تقاليدَها الديمقراطية. أما الأديانُ التوحيديةُ بوصفِها تَجريداً أرقى مستوىً، فتتحدث كثيراً عن سيئاتِ فرعون ونمرود. وهذا ما معناه أيضاً أنها تتسمُ بخطواتٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ وديمقراطية، ولو من حيثُ البدايةِ بأقلِّ تقدير. بينما سرودُ الأخلاقِ والسياسةِ والديمقراطيةِ المعتمدةُ على المدنيةِ الأوروبية، ناقصةٌ جداً ولا أساسَ لها وبورجوازيةُ الطابع. ويَبدو أنه لا يُمكِنُ إدراكَ التطورِ التاريخيِّ لظاهرةِ الأخلاقِ والسياسةِ والديمقراطيةِ وتعابيرِها الاصطلاحية، وبالتالي فهمَ واقعِها التاريخيِّ مِن وجهةِ نظرِ طبقةٍ تتسمُ بالأنانيةِ القصوى كالبورجوازية. من هنا، يتوجب الاقترابَ من علمِ الغربِ الذي في هذه الوجهةِ بعينٍ انتقاديةٍ للغاية.
ينبغي الحكم على أنّ ظاهرةَ الأخلاقِ والسياسةِ والديمقراطيةِ أكثرُ قوةً ورصانةً من حيثُ التصنيفِ في كافةِ المجتمعياتِ الباقيةِ خارجَ نظامِ المدنيةِ المركزية. وضمن هذا الإطار، فإنّ كافةَ الجماعاتِ العاطلةِ عن العمل والجماعاتِ شبهِ البدويةِ من النمطِ القَبَلِيِّ والعشائريِّ والمذهبيّ، والتي قاوَمَت وانسَحَبَت إلى الجبالِ والبوادي، وكذلك جماعاتِ المُزارِعين والرُّعاةِ في المناطقِ الريفية؛ من الواقعيِّ تقييمَها بالقوى المُقاوِمةِ والأقرب إلى الحريةِ والمساواة. أما العناصرُ المُستَعبَدَةُ حتى الأعماق، فبالمقدورِ اعتبارها موضوعياً في المرتبةِ الثانيةِ ضمن هذا المخطط. العبوديةُ الموضوعيةُ ليست هامةً بالنسبةِ إلى حريةِ المجموعاتِ ومدى المساواةِ فيها، وبالتالي بالنسبةِ إلى قضايا الأخلاقِ والسياسةِ والديمقراطيةِ لديها. إنما المُهِمُّ هو الردُّ على الأسئلة: إلى أيِّ مدى تُقاوِمُ ولَم تَستَسلِم؟ كَم هي مستقرةٌ أو رَحَّالة؟ وكَم تُحارِبُ في سبيلِ عقائدِها؟
لا ريب أنه ثمة قضايا جادةٌ متعلقةٌ بالأخلاقِ والسياسةِ والديمقراطيةِ في مجتمعاتِ الشرقِ الأوسط. وهي قضايا شاملةٌ أيضاً بِحُكمِ سياقِ المدنية. ولكن، من المُهِمِّ بمكان معرِفةَ أنّ قوانينَ وسياسةَ وديمقراطيةَ المدنيةِ الأوروبيةِ برجوازيةُ الطابعِ إلى حدٍّ بعيد، وأنها لا تُمَثِّلُ ولا تَعكِسُ ظاهرةَ الأخلاقِ والسياسةِ والديمقراطيةِ للمجتمعِ – التاريخيِّ الكونيّ. ما لدى البورجوازيةِ ليست الديمقراطية، بل هو حُكمُ الدولة. والتعاطي الأقربُ إلى الصوابِ هو تَبيانُ أنّ ما يُطَبَّقُ باسمِ الديمقراطيةِ في أوروبا، إنما يؤدي دورَ “ورق التوت الذي يَسترُ العَورةَ” ويَحجبُ وجهَ حُكمِ الدولة؛ ولو أنه ينبغي عدمَ تعميمِ ذلك كلياً. المعاييرُ نفسُها ساريةٌ على موقفِ أوروبا من حقوقِ الإنسانِ أيضاً. ونخصُّ بالذكرِ حقيقةَ كَونِ القانونِ قد حلَّ محلَّ الأخلاقِ تماماً. لكنّ القانونَ مجردُ كومةٍ من التعاقُداتِ بشأنِ الدولةِ والسلطة، ولا يُمكِنُ أن يَقُومَ مَقامَ الأخلاقِ الحيةِ في أيِّ وقتٍ من الأوقات. هذا ويجب فهمَ استحالةِ إطلاقِ تسميةِ السياسةِ على أيِّ نشاطٍ أو قرارٍ أو تنفيذٍ معنيٍّ بالشؤونِ الداخليةِ والخارجيةِ لحُكمِ الدولة. قد يُسمى ذلك بسياسةِ الدولة، ولكن، يستحيلُ تسميته بسياسةِ المجتمع. أما ما يجري باسمِ الديمقراطية، فهو خارجٌ كثيراً عن المجتمع، ولا يؤدي وظيفةً أبعدَ من كونِه مشاهدَ تمثيلية.
على ضوءِ هذه الانتقاداتِ الموجَزة، بالمستطاعِ التبيانَ بكلِّ سهولةٍ أنَّ
الطاقةَ الكامنةَ للديمقراطيةِ والأخلاقِ والسياسةِ قويةٌ في مجتمعِ الشرقِ الأوسط
فوجودُ قضايا الأخلاقِ والسياسةِ والديمقراطيةِ الجادة، يشير إلى مدى قوةِ طاقتِها الكامنة. وكونُ ميولِ الدولةِ والسلطويةِ لا تزالُ قوية، إنما تُذَكِّر في وجهِها الآخرِ بالقضايا الأخلاقيةِ والسياسيةِ والديمقراطيةِ الوطيدة، وبمدى الحاجةِ الماسةِ إلى الأخلاقِ والسياسةِ والديمقراطية، بل وحتى بمدى وُجُودِها. وبِحُكمِ التناقضِ عناصر السياسة الديمقراطية والدفاع الذاتي: يؤدي عنصرا السياسةِ والأمن للحضارة الديمقراطية دوراً أساسياً في نشوءِ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي. تصنيفُ السياسةِ الديمقراطية في مفهومِ المجتمعِ الذي هو سياسيٌّ مِن ذاته بالأصل، قد يَكُونُ أمراً زائداً عن اللزوم. ولكن، ثمة فرقٌ بينهما. فقد لا تُمارَسُ السياسةُ الديمقراطية في كلِّ وقتٍ ضمن المجتمعِ السياسي. علماً أنَّ هيمنةَ المَلَكِيّة الاستبدادية غالباً ما فُرِضَت على المجتمع السياسي طيلةَ تاريخِ المدنيةِ الرسمية. لا يَفنى المجتمعُ السياسيُّ كلياً تحت ظلِّ الهيمنة. ولكنه لا يستطيع دمقرطةَ ذاتِه آنذاك. فكيفما أنّ امتلاكَ الأُذُنِ لا يعني السماعَ في كلِّ الأوقات، بل يقتضي أنْ تَكُونَ الأُذُنُ سليمةً أيضاً؛ كذلك وعلى نحوٍ مشابه، فوجودُ النسيجِ السياسي أيضاً لا يعني أنه فعالٌ بحرية في كلِّ الأوقات. حيث أنَّ عَمَلَ النسيجِ بمنوالٍ سليمٍ مشروطٌ بوجود أجواءٍ ديمقراطية.
بشكلٍ عام، بالمقدور إطلاق تسميةِ السياسةِ الديمقراطية على وجودِ المناخ الديمقراطي والبنية السياسيةِ للمجتمع السياسي. ف
السياسةُ الديمقراطية ليست مجردَ نمط، بل وتُعَبِّرُ عن تَكامُلٍ مؤسساتيٍّ أيضاً
. إذ لا يُمكن تطوير ممارسةِ السياسةِ الديمقراطية، دون وجودِ التمأسُساتِ العديدةِ من قَبِيل الأحزاب، المجموعات، المجالس، الإعلام، والمحافل وغيرها. الدورُ الأُساسيُّ للمؤسسات هو النقاشُ والتداولُ وصياغةُ القرارات. إذ لا يمكن للحياة أنْ تَسيرَ في جميعِ الأعمالِ المشتركة للمجتمع، دون وجودِ المداولات واتخاذ القرارات. فإما أنْ تنتهي حينها إلى الفوضى العمياء، أو إلى الديكتاتورية. هكذا هو مصيرُ المجتمع اللاديمقراطي دائماً، حيث يبقى مترنحاً بين طَرَفَي الفوضى والديكتاتورية. ولا يمكن التفكير بنماءِ المجتمع الأخلاقي والسياسيِّ في هكذا أجواء. إذن، والحالُ هذه، فالهدفُ الأوليُّ للكفاح السياسي، أي للسياسة الديمقراطية؛ هو إنشاءُ المجتمعِ الديمقراطي، والوصولُ به إلى أفضلِ الأحوال بإجراءِ المداولات وصياغةِ القرارات المعنية بالأعمال المشتركة ضمن هذا الإطار.
الوصولُ إلى السلطة هو الهدفُ الأوليُّ للسياسةِ المُبعَدَة عن وظيفتها الحقيقية، والمتنامية في أجواءِ ومؤسساتِ ما يُسمى بالديمقراطيةِ البورجوازية. والسلطةُ بدورها تعني انتزاعَ الحصةِ من الاحتكار. جليٌّ تماماً استحالة وجودِ هكذا أهدافٍ للسياسةِ الديمقراطية. ولو أنها احتَلَّت مكانَها في مؤسساتِ السلطة (الحكومة مثلاً)، فالعملُ الأساسيُّ هو عينُه أيضاً حينذاك. وهذا العملُ هو اتخاذُ القراراتِ السليمة ومتابعةُ تنفيذها في سبيلِ المصالحِ الحياتية المشتركة للمجتمع، لا لأجلِ انتزاعِ الحصة من الاحتكار. أما القول باستحالةِ احتلالِ المكانِ ضمن الديمقراطيات البورجوازيةِ كقاعدة، فليس بموقفٍ ذي معنى. في حين ينبغي معرفة كيفيةِ اتخاذِ المكان فيها بشروط. ذلك أنّ اللامبدئية لا تنفعُ سوى في ممارسةِ السياسةِ المزيفة للطبقة الحاكمة باستمرار.
مِن غيرِ الممكن بتاتاً التغاضي عن حاجةِ السياسةِ الديمقراطيةِ للتنظيماتِ الكادرية والإعلامية والحزبية الكفوءة، ولمنظماتِ المجتمع المدني، وللنشاطاتِ الدائمة في الدعاية وتعليمِ المجتمع وتدريبه. أما الخصائصُ الضرورية اللازمةُ لممارسةِ السياسةِ الديمقراطية بشكلٍ مثمرٍ وناجح، فيُمكن ترتيبها كالتالي: الموقفُ الذي يَحتَرمُ جميعَ فوارقِ المجتمع، ضرورةُ المساواةِ والوفاقِ على أساسِ الاختلاف والتباين، الاعتناءُ بمضمونِ النقاش بقدرِ أسلوبه، الجرأةُ السياسية، الأولويةُ الأخلاقية، و”الحاكميةُ” على المواضيع، الوعيُ بالتاريخِ والمجرياتِ الراهنة، والموقفُ العلميُّ المتكامل.
عناصر السياسة الديمقراطية والدفاع الذاتي
الدفاعُ الذاتيُّ هو سياسةُ الأمنِ والحمايةِ للمجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي. أو بالأحرى، ف
المجتمعُ العاجزُ عن حمايةِ نفسه، يَخسَر معانيَ صِفاتِه الأخلاقيةَ والسياسية
. وفي هكذا وضع، إما أنْ يَكُونَ المجتمعُ قد استُعمِر، فيَنصَهِرُ ويتفسَّخ، أو أنه يُقاوِمُ سعياً لاستردادِ صفاته الأخلاقيةِ والسياسية وتفعيلِ وظائفها. والدفاعُ الذاتيُّ هو اسمُ هذه المرحلة. فالمجتمعُ المُصِرُّ على كينونته، والرافضُ للاستعمار وشتى أنواعِ التبعية المفروضةِ من طرفٍ واحد، لا يُمكِنُه تَبَنِّي موقفه هذا إلا بإمكانياته ومؤسساتِه المعنيةِ بالدفاع الذاتي. لا يتكون الدفاعُ الذاتيُّ حيالَ المخاطرِ والضغوطِ الخارجية وحسب. فالتناقضاتُ والتوتراتُ محتَمَلةٌ في كلِّ وقت ضمن البنى الداخليةِ للمجتمع أيضاً. ينبغي عدم النسيانِ أنه ما دامت المجتمعاتُ التاريخيةُ طبقيةً وسلطويةً مدةً طويلةً من الزمن، فستبقى القوى الساعيةُ للحفاظ على خاصياتها تلك مدةً أطول. وستُقاوِم تلك القوى بكلِّ طاقاتها من أجلِ صَونِ وجودها وكياناتها. بالتالي، فسيحتَلُّ الدفاعُ الذاتيُّ مكاناً هاماً في أجندةِ المجتمعِ ردحاً طويلاً من الزمن كطلبٍ اجتماعيٍّ شائع. إذ ليس من اليسير على قوةِ القرار أنْ تَدخُلَ حيزَ التنفيذ، دون تعزيزها بقوةِ الدفاع الذاتي.
علماً أننا في راهننا وجهاً لوجه أمامَ حقيقةِ سلطةٍ متغلغلةٍ حتى مساماتِ المجتمعِ كافةً، ليس من خارجه وحسب، بل ومن داخله أيضاً. لذا، فتكوينُ مجموعاتِ الدفاع الذاتيِّ المتشابهة داخلَ جميعِ مساماتِ المجتمع المناسِبةِ أمرٌ مصيريّ. فالمجتمعاتُ المفتقِدةُ للدفاعِ الذاتيّ مجتمعاتٌ مستعمَرةٌ ومفروضٌ عليها الاستسلامُ مِن قِبَلِ احتكاراتِ رأسِ المال والسلطة. لكلِّ مُكَوِّنٍ في المجتمع قضيتُه في الدفاعِ الذاتيِّ دائماً وعلى مرِّ السياقِ التاريخي، بدءاً مِن الكلانات إلى القبائلِ والعشائر، ومن الأقوامِ إلى الأمم والجماعات الدينية، ومن القرى إلى المدن. فاحتكارُ رأسِ المالِ والسلطة أَشبَهُ بانقضاضِ الذئب على فريستِه التي يُطارِدُها. وكلُّ مَن افتقَرَ للدفاع الذاتي، قامَ بتشتيته كما قطيع المواشي، مستولياً عليه قدرَ ما شاء.
إنّ تشكيلَ كيانِ الدفاعِ الذاتيِّ وممارسته، والحفاظَ عليه جاهزاً وفعالاً دائماً، شرطٌ لا بُدَّ منه في كينونةِ المجتمعِ الديمقراطيِّ والاستمرارِ بوجوده، ولو بِما يَكفي للحَدِّ مِن اعتداءاتِ واستغلالاتِ احتكاراتِ رأسِ المال والسلطة كحدٍّ أدنى. ونظراً لأنه سيتم العيش مع أجهزةِ رأسِ المالِ والسلطة بشكلٍ متداخلٍ لأَمَدٍ طويل، فمن المهمِّ بمكان عدم الانزلاق في خطأَين اثنَين. الخطأ الأول؛ تسليمُ المجتمعِ أمنَه الذاتيَّ للنظامِ الاحتكاري، كأنْ تَأتَمِن القِطَّة على الكَبِد. وقد ظَهَرَت للعيان النتائجُ التدميريةُ لذلك مِن خلال آلافِ الأمثلة. الخطأ الثاني؛ العمل على التحول الفوريِّ إلى جهازِ سلطةٍ تجاه الدولة، بكلمةِ سرٍّ فحواها أنْ تَكُون كالدولة. وتجاربُ الاشتراكيةِ المشيدةِ تنويريةٌ في هذا المضمار بما فيه الكفاية. من هنا، فالدفاعُ الذاتي القَيِّمُ والفعال سوف يَبقى عنصراً لا يمكن الاستغناء أو التغاضي عنه في الحضارةِ الديمقراطية، تاريخياً أم راهناً أم مستقبَلاً.