أسعد العبادي
إن تاريخ الخامس عشر من شباط عام 1999 لم يكن البداية في سلسلة الهجمات الوحشية التي أستهدفت الشعب الكردي ومحاولة تصفيته عرقياً وثقافياً وطمس تاريخه العريق، لا بل حتى جغرافيته المتجذرة عبر الزمن جيولوجياً ..! وإلا بماذا تفسر عزيزي القارئ عدم إكتفاء العسكر التركي بتدمير القرى الآمنة وتهجير سكانها وأن يعمد هذا العسكر إلى قطع الأشجار وحرق المزارع وشق الطرق وبناء السدود والعبث بالمقدّر البشري والأيكلوجي في آنٍ معاً بدعوى الدفاع عن الأمن الوطني، ولكن عبر الترويع والتخويف والإمحاء.
إن المؤامرة الدولية التي أستهدفت قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” في الخامس عشر من شباط، كانت إحدى الحلقات المهمة في سلسلة الحلقات الهجومية على شعب كردستان والتي بدأت بالشيخ سعيد واستمرت حلقاتها من خلال النهج التصفوي لكل رموز حركة التحرر الكردستانية عبر تاريخ تركيا الحديثة، والتي تميزت بالكذب والخداع ونقض العهود لتنتهي بالاعتقال المشؤوم لقائد حركة التحرر الكردستانية ومحرك جذوتها التي كادت تنطفئ قبل تأسيس حزب العمال الكردستاني PKK. إن تراكم الغليان الذي شاب الكثير من الرضوخ والإستسلام لدى الشعب الكردي قبل بزوغ شمس حزب العمال، لم يكن كافياً كي يسمع العالم أنين هذا الشعب تحت وطأة الجلاد التركي، ولم يكن لأحد أن يتصور بأن كردستان ستثور لكثرة ما أريق من دماء أبنائها على مذبحة الحرية لولا الانطلاقة الثورية العظمى التي أسسها “عبد الله أوجلان” وقادها وحزبه PKK، لتتعزز بعد ذلك تقاليد جديدة في الحراك الثوري والعمل الفكري والأيديولوجي الذي تميزت به حركة حزب العمال الكردستاني، وما أكثر معتنقي براديغما قائده اليوم …!!
إن الصراعات الدولية اليوم تختلف كثيراً حتى من حيث الجوهر عما كانت عليه في بدايات القرن العشرين وبُعيد الحرب العالمية الأولى على وجه الخصوص، وأن النتائج النوعية والمتغييرات التي حدثت كنتيجة لتلك الحرب كانت كبيرة وذات خطر عظيم. إذ شهد العالم بروز قوى جديدة فرضت هيمنتها على العالم برمته وقامت على أنقاض المنهزمين في الحرب وعلى رأسها الدولة العثمانية، وقيام الدول المنتصرة بتحديد مستقبل الجزء الأهم من ذاك العالم وهو الشرق الأوسط بقيادة بريطانيا العظمى. إن هذا القول يحتاج إلى الكثير من الشرح لفهم طبيعة الاتجاه السياسي السائد آنذاك، إذ لم تكن المطامع الاقتصادية هي التي تغذي العقول المتحكمة في رسم مستقبل العالم الجديد، بل كانت هناك إرادات خفية تعمل بقوة للإستفادة القصوى من النتائج التي تمخضت عنها الحرب العظمى. كانت هناك الحركة الصهيونية وهي تعيش ذروة انتعاشها وكمال صيرورتها، ولم تكن هناك قوة في العالم تتفاعل مع توجهات قادة الحركة الصهيونية كما كانت تفعل بريطانيا العظمى. وقد عبّر عن هذا الرأي السير لويد جورج رئيس وزرائها عام 1902م، حيث تحدث عن وطن قومي لليهود ملمّحاً إلى المكان (فلسطين) وشارحاً الغاية من وضع بذرته الأولى فيها. إن العقل السياسي الأوربي ممثلاً ببريطانيا والذي ضاق ذرعاً باليهود إنما تفاعل وتناغم مع توجهات وسياسات الحركة الصهيونية ليس بدافع الحب والعطف الإنساني، كما تحاول أوربا أن تسوّق إعلامياً ودعائياً وإنما هو التقاء المصالح العليا للطرفين، ولم يكن اندفاع أوروبا وفي المقدمة منها بريطانيا باتجاه البحث عن وطن قومي لليهود جديداً، فقد كانت هناك (الكونغو) ومن ثم (تركيا) أيضاً حيث يسكن اليهود ..!!
ولكن ولأسباب كثيرة جداً لا يمكن حصرها في مقال حصلت تغييرات على المستويات والصعد الجيوسياسية والصراعات الهادفة للاستحواذ على مصادر الطاقة التي مهدت للحرب الكونية الثانية، حيث كرست نتائجها التقسيم ومعاهدة (سايكس بيكو) في عام 1916 سيئة الصيت التي قسمت الشرق الأوسط إلى كيانات متناقضة، وقد كان أكبر الخاسرين جراء ذلك التقسيم الأمة الكردية حصراً. ليس خفياً بأن الحركة الصهيونية قد دعمت تركيا أتاتورك ومن ورائها بريطانيا العظمى أملاً في الاستحواذ عليها كليا،ً وجعلها الوطن القومي الجديد لليهود. وقد جرت محاولات محمومة يتذكرها التاريخ (المغيَّب) بألم وحسرة، وذلك بمحاولة إفراغ الأناضول من السكان المسيحيين والأعراق الأخرى كالأرمن والسريان والآشوريين بالإبادة العرقية التي لا تعرف الرحمة بحق المساكين من هؤلاء الذين هاجر قسم كبير ممن تبقى منهم إلى الاتجاهات الأربع من المناطق المحيطة بهم وإلى الجنوب خصوصاً. حيث كان لمنطقة الشرق الأوسط نصيبها منهم وهم منتشرون كأقليات في العراق وسوريا والأردن ولبنان منذ ذلك التاريخ .
إن الحركة الصهيونية وحليفتها (الدولة الفتية_تركيا) تمكنوا من تصفية قوميات وأعراق وديانات ونجحوا أيّما نجاح إلا من وصمة العار التي ستلاحقهم عبر التاريخ وإلى الأبد، ولكنهم لم يتمكنوا من تصفية العنصر الأكبر الذي يمثل النسيج الحيوي للجغرافيا البشرية والطبيعية المتفاعلة معها عبر العصور ألا وهم (الكرد). نعم، الشعب الكردي الذي كان عصياً تماماً على القوى الاستعمارية والعملاء وسادتهم الصهاينة والتجار اليهود الباحثين عن أرض الميعاد، وذلك لسبب جوهري وهو أن شعب كردستان تميز بالعراقة والأصالة والانتماء الراسخ والمتجذر في السهل والجبل وضفاف الأنهار والبحيرات.
وإني لعلى يقين لو أننا افترضنا أن بالإمكان محاكمة فترة تأسيس الدولة التركية وما رافقتها من حالة الصراع التي دارت أركان الحكم آنذاك من (فتحي أوكيار) الذي أبى أن يلطخ يديه بالدم الكردي إلى (فوزي جاقماك)، لوصلنا إلى الحكم الذي لا يبرئ النظام التركي العميل لانكلترا والحركة الصهيونية التي لم تتورع عن قتل المسيحيين والأرمن والآشوريين والكرد لتنتهي بخيانتهم ونقض المواثيق والعهود معهم والمجيء بحكومة (إينونو) بديلاً عن (فتحي أوكيار) الذي قتلوه خشية أن يفي بوعوده للكرد وحرمان اليهود بالنتيجة من حلم (الدولة القومية) الموعودة ! وللتاريخ أقول أنه حتى مصطفى كمال أتاتورك لم يسلم من ذلك النهج التصفوي والأقصائي الذي مارسته القوة المضادة المُذعنة للحركة الصهيونية التي لجمت الاشتراكيين والإسلاميون وكافة القوى الوطنية الأخرى في عموم الوطن التركي على حدٍ سواء ومنعتهم من التعبير عن مصالح بلدهم بحرية. لم يعد خافياً اليوم بأن هناك تفاعل كبير يحصل في المشهد السياسي العالمي وهو تفاعل مع ما يحمل في طياته من متغيرات دراماتيكية وعدم وضوح في الرؤى والتوجهات ومع ما يعتريه من تشوهات ومشاهد مأساوية، إلا أنه سينتهي حتماً إلى واقع جديد سيكون مغاير ومنافي لمشروع (تقسيم المقسم وتجزئة المجزء)، وأن انتقال السلطة في تركيا من القوميين إلى الإسلاميين لم يكن بعيداً عن هذا التصور. فقد كان هذا الانتقال بمثابة (فلتة) لم يحسب (القوميون) نتائجها بدقة. فقد أخطأ حزب الشعب الجمهوري (CHP) في العام 2002 حيث تصور بأن حزب العدالة والتنمية (AKP) سيتولى السلطة لسنة أو سنتين ويذهب، أريد القول بأنه ليس كل ما يخطط له السياسي ينجح وليس كل ما نسعى لتحقيقه يتحقق، فقد تجري الرياح بما لا تشتهيها السفن كما يقول المثل، ولعل قابل الأيام يثبت ما ذهبنا إليه. وعلى ذلك فأنا أرى وقد انتهت الأمور إلى ما انتهت إليه وقد تمكن (AKP) من بسط سيادته شبه الكاملة على المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي التركي، فإنه وبنفس الوقت سيكون قادراً على الإفلات من قبضة (الناتو) والهيمنة الصهيونية وأن يختط لنفسه منهجاً جديداً يقترب معه من شقيقاته في الشرق الأوسط، ويبدأ من حيث انتهى (الكماليون) ويفي بالوعود التي قطعوها لأبناء الوطن التركي من الكرد الذين ساهموا في تأسيس الجمهورية التركية الحديثة. وسيكون ذلك بمثابة التكفير عن كل الجرائم التي ارتكبت بحق أبناء آلاف القرى التي سويت بالأرض والوطنيون من شهداء حركة التحرر الكردستانية والسجناء من ساستهم وعلى رأسهم قائد حركة التحرر الكردستانية ورمز كرامة الكرد السيد (عبد الله أوجلان) .
إن كل مقومات الحل متاحة الآن، ومجرد التفكير بالمصلحة العليا للوطن التركي ستحتم على الحكم في تركيا بتوجهاته (الإسلامية) أن يكون عادلاً ومنصفاً أمام الدعوة المخلصة لـ (آبو). آن الأوان للبدء في عملية السلام وحل القضية حلاً ديمقراطياً قبل فوات الأوان وقبل أن يدب اليأس بعد سياسة الأبواب الموصدة ولا يبقى خيار سوى القتال. إن الدعوات المخلصة التي يطلقها مثقفي تركيا والشرق الأوسط تكاد تجمع بأن خارطة الطريق التي أطلقها (آبو) إنما تمثل الحل المشرف للقضية الكردية وبما يحفظ ماء الوجه للدولة التركية التي قتلت (أبناءها) وسيتعاظم الشعور بالكراهية ضد (AKP) نتيجة لسياسات التتريك الجديدة عبر تعيين أئمة الجوامع في كردستان والزج بالناشطين الكرد بالسجون واغتيالهم خارج الحدود كما حصل في الآونة الأخيرة، حيث اغتيلت القيادية (سكينة جانسيز) ورفيقتيها في العاصمة الفرنسية (باريس).
نعم إن الكراهية والحقد سيتعاظمان ما لم تبادر الحكومة التركية وتتخذ خطوات شجاعة باتجاه التفاوض المباشر مع السيد (أوجلان) وبدون شروط مسبقة. فالأكراد بدأوا يدركون جيداً أن نتائج العدوان الذي مورس بحقهم منذ تأسيس الدولة التركية لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، وحان الوقت للقوى السياسية الكردية والأحزاب الوطنية أن تعزز التجربة الديمقراطية في تركيا وتحاول أن ترفع صوتها عالياً للمطالبة بحل القضية الكردية حلاً سلمياً ديمقراطياً وعادلاً وتكون جزءاً من الحل. فهناك حزب الشعب الجمهوري (CHP) و(حزب الحرية والديمقراطية) و (حزب الكادحين) و حزب السلام والديمقراطية (BDP) ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات ديمقراطية كثيرة، يمكنها أيضاً أن تتضامن وتساعد الحكومة على إيجاد الصيغ والمعالجات الحقيقية للقضية الكردية في تركيا، ليعم السلام وتصبح تركيا نموذج للحكم الديمقراطي الذي تسود فيه قيم التسامح والمساواة والمحبة حيث التداول السلمي للسلطة والتعددية السياسية ولإطلاق الحريات ومن ثم التنمية المستدامة والرفاهية لجميع شعوب تركيا. ولتكن ذكرى المؤامرة الدولية ذكرى اعتقال قائد الشعب الكردي (عبد الله أوجلان) حافزاً للجميع، فالحل يأتي من إيمرالي حيث السجن الإنفرادي منذ العام 1999.