مقالات

الغرب ومصادرة ثورات شعوب الشرق الأوسط

طارق حمو

تجاهد القوى الرجعية الاقليمية بتخطيط وتوجيه مباشر ومستمر من القوى الغربية الى تحويل مسار الثورات الشعبية المطالبة بالديمقراطية وبالمشاركة والشفافية وانهاء الفساد، الى واقع فوضوي تضيع فيه الشعوب والقوى الثورية الديمقراطية، وتأتي بقوى أخرى تُعيد نفس سياسيات النخب الفاسدة السابقة. ومن المهم التوضيح بأن القوى الغربية التي تتحكم بالاقتصاد والسياسة الدولية وتحاول فرض هيمنتها العسكرية عبر ذراعها الحديدي (حلف الناتو) قد بدأت بالتحرك لتحويل مسار ثورات شعوب الشرق الأوسط ليخدم مصالحها فيما تسميه بـ “الاستقرار” وضمان تدفق النفط، وحماية أمن دولة اسرائيل، ومنع انتشار السلاح النووي، وتحجيم القوى الجهادية المتطرفة، وتقنين الهجرة البشرية. هذه هي الملفات المهمة بالنسبة للقوى الغربية في عموم المشهد الشرق الأوسطي. وطبعا هذه القوى لا تستطيع التدخل المباشر، وربما لا تريد، فتلجأ لتطبيق سياساتها، وضمان الملفات المشار اليها، عبر وكلاء اقليميين، يظهرون كمستقلين و”ديمقراطيين” على الملأ، بينما هم في الحقيقة مجرد وكلاء يعملون لتنفيذ مخططات وبرامج استراتيجية كبرى لمصلحة القوى الغربية المتحكمة والمحتكرة للمشهد الدولي برمته.

وتظهر سطوة القوى الغربية في (مجلس الأمن الدولي) الذي هو عبارة عن ناد يضم المنتصرين في الحرب العالمية الثانية. وهذا النادي وعبر حق النقض يُشكل خرقاً لحقوق الشعوب وتطلعاتها المشروعة في الحرية والديمقراطية والانعتاق من الانظمة “الوطنية” الفاسدة، ومن احتكار المصير الذي تفرضه القوى الغربية.

لقد جاءت الثورات في الشرق الأوسط على خلاف ماخططت له الولايات المتحدة الأمريكية وشركاؤها، والذين كانوا معتمدين بشكل أساسي على انظمة وأشخاص معروفين تاريخيا بولائهم للغرب ووقوفهم ضد كل تطور قد يُشكل خطراً على مصالحه الحيوية. وكانت المتابعة الغربية للتطورات في منطقة الشرق الأوسط على مدار الساعة، خوفا من خروج الأمور من تحت السيطرة وتهديد الملفات الاستراتيجية الكبرى للقوى الغربية. ولما عرفت الولايات المتحدة وحلفائها بان التغيير بدأ، واستحالة ارجاع الأمور الى ماكانت عليه، وانقاذ الانظمة الفاسدة المهترئة التي باتت تسقط واحدة تلو الأخرى، هذا بالاضافة الى ان أي دفاع عن هذه الأنظمة سيكون تحدياً للشعوب وفضيحة امام الرأي العام الدولي المتعاطف معها، بدأت في طرح سيناريوهات متسارعة للتعامل مع الواقع الجديد، بحيث تصادر فيه روح هذه الثورات وتفرض وجوها وقيادات “جديدة/قديمة” تكون بديلاً عن الطموح الشعبي، وواجهة اخرى للأنظمة الخادمة للسياسات الأمبريالية المعولمة.

وعليه فقد بدأت خطط افشال الثورات في الشرق الأوسط واحدة تلو الأخرى. فالثورة التونسية ( وهي بالمناسبة، أكثر الثورات نجاحا وتحقيقا لأهدافها، بالمقارنة مع الثورات الأخرى) بدأت تتعرج في طريقها الى اهداف الشعب، لتنتهي في أيدي الاسلام السياسي وبعض وجوه العلمانيين، من الذين لايملكون أي سبب من أسباب القوى والمنعة. وكان هناك تطعيم بسيط للمشهد ببعض وجوه “شباب الفايسبوك” وذلك رضوخا للرأي العام التونسي وللمنظمات المدنية الأهلية التي تمتلك قدرة لابأس بها على تثوير وتحريك الشارع.

وأثمرت العملية الانتخابية عن انتصار “حركة النهضة” الاسلامية التي كانت مطاردة في عهد الرئيس السابق الديكتاتور زين العابدين بن علي، حيث بدأت هذه الحركة بالاتصال مع الغرب ضماناً لبقائها أطول فترة ممكنة في السلطة، ولمعرفتها بأن أي خروج عن النسق الأميركي/الغربي يعني حصارا اقتصاديا وسياسيا وعزلة ستؤدي بها لامحال. وكانت الاتصالات سريعة وفروض تقديم الطاعة أسرع. فقد كشفت مجلة “ويكي ستاندارد” التابعة للمحافظين الامريكيين أن راشد الغنوشي مستشار “حركة النهضة”، وخلال جلسة مع باحثي (معهد سياسات الشرق الأدنى) في العاصمة الأميركية، المعروف بأنه “المعقل الفكري” للمحافظين الأميركيين المساندين لإسرائيل والحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، أكد أن الدستور التونسي “لن يتضمن إشارات معادية لإسرائيل أو الصهيونية”، وأنه ” لم يعد يتفق مع مقولة إيران وآية الله الخميني عن أن الولايات المتحدة هي الشيطان الأكبر”. وفي إشارة منه لإمكانية الاستعانة بقوى خارجية لإطاحة الحكومات المحلية، قال الغنوشي إنه لا يزال يعتقد أن الأنظمة العربية “لا يمكن تغييرها من الداخل”!. وبحسب الباحث في المعهد المشار اليه “مارتن كريمر” ، فإن الغنوشي وحركته أصبحا اليوم، بعد ثلاثة عقود من تبني الإسلام الجهادي المعادي للغرب، جزءاً مما بات يسمى اليوم بـ”الإسلام التركي ـ الأطلسي”.

وفي تونس الآن صراع بين قوى الشارع الثوري وبين انصار “الاسلام السياسي” التوّاق للحكم والراغب في أسلمة كل الشارع العلماني التونسي وخلق بيئة دائمة له، على أن يكون في السياسة الخارجية تابعا للقوى الغربية و”حليفا” لها ضمانا للمساعدات الاقتصادية والرضى السياسي. أي بكلمة أخرى: اقتباس حرفي لنموذج حزب العدالة والتنمية التركي!

أما الأوضاع في مصر فهي ليست بأفضل حالاً. فحركة “الاخوان المسلمين” اختطفت الثورة بدورها، وباتت الآن تقدم نفسها بوصفها حركة “تراثية تقدمية تؤيد الانفتاح” بالمقارنة مع “الحركة السلفية” التي تطرح شعارات تطالب باعادة مصر الى قرون الظلام والانحطاط. وظهرت “برغماتية” حركة “الاخوان المسلمين”، او “ولائها للغرب” في التوصيف الحقيقي، في ملفات شتى منها الموقف المهادن من اسرائيل، ولجم حركة “حماس” الفلسطينية المتشددة، والتعهد بالتمسك باتفاقية “كامب ديفيد” بنداً بنداً، ومواصلة سياسة “لبرلة الاقتصاد”، وهي السياسة التي كان نظام حسني مبارك قد وضعها وسار فيها أشواطا كثيرة.

النظام المصري الحالي هو نسخة مشوهة عن النظام السابق، فهو عبارة عن “حركة الاخوان المسلمين” التي تحاول عقد اتفاق مع أميركا والغرب يقضي: باستلام الحركة للداخل وسماح الغرب لها بأسلمة المجتمع ( سن دستور اسلامي، السيطرة على المحكمة العليا، مطاردة الصحفيين والاحزاب المنافسة…الخ)، شرط التبعية التامة في الملفات الخارجية: السياسية والاقتصادية. أي هي محاولة أخرى لاقتباس نموذج حزب العدالة والتنمية التركي. وهنا ايضا لايمكن الحديث عن انتصار الثورة الشعبية التي انطلقت في 25 يناير 2011 لأن هذه الثورة ببساطة لم تحقق أهدافها في تسلم الشباب السلطة ومحاربة مراكز الفساد والاستبداد العسكرتاري والديني المرهونان للخارج. ولذلك نشهد استمرارية الثورة في المظاهرات المناهضة لمنهج حركة “الاخوان المسلمين” في اسلمة المجتمع والاجهاز على الثورة. أي منع “الحركة” من ابتلاع “الدولة” برمتها.

أما ليبيا فقد جرى تدميرها في الحرب السابقة، والآن تتبارى الشركات الغربية في ابرام عقود النفط من أجل “اعادة الاعمار”. وهناك تجتهد القوى الغربية على ان يبقى هذا البلد في أيدي نخبة سياسية قادرة على منع “الاسلام الجهادي” المعادي لها من التمدد في المناطق الساحلية والصحراوية وتشكيل مناطق نفوذ وادارة، كما هو الحال في “مالي” الافريقية.

وفي سوريا تتمحور السياسة الغربية على تفجير الصراع وادامة الأزمة لأكبر فترة ممكنة للنيل من مقدرات هذا البلد واخراجه من مواجهة اسرائيل وابعاده عن ايران و”حزب الله” اللبناني، وابقاءه ضعيفا هزيلا. لذلك كان قرار تسليح مجموعات المعارضة، بمنح التوكيل في ذلك لدول الخليج وتركيا، والسماح للنظام في الوقت نفسه بالتسلح والاجهاز على مناوئيه بكل قوة ووحشية. وضمانا للمطالب والأوامر الأميركية، بدأت الدولة التركية هي الأخرى في التمدد في الجسد السوري، عبر تخريب محافظة حلب ونهبها اقتصاديا، لكي تحرم سوريا من عجلتها الاقتصادية، وبذلك يبقى السوق السوري كله مفتوحا امام المنتجات التركية. فالحكومة التركية تريد ان تعوض خسائرها الحالية (حوالي 7 مليار حتى الآن) بكسب سوق كبيرة فيها 24 مليون مستهلك لبضائعها. هذا ناهيك عن دعم الميليشات الطائفية (السنيّة) والقومية (التركمانية) ومحاربة الشعب الكردي عبر بث الفتن، وارسال المجموعات العنصرية والطائفية لمحاربة الكرد وحراكهم السياسي. وهناك الآن تحالف ظاهر بين حزب العدالة والتنمية وتنظيم “القاعدة” متمثلا بـ “جبهة النصرة” في سوريا. والغرب يعرف تفاصيل هذا التحالف، وهو ساكت لأن ذلك يضمن مزيدا من التخريب في الوطن السوري ومزيدا من الأحقاد بين الاطياف السورية المختلفة.

الاستراتيجية الغربية الحالية في دول الثورات الشرق اوسطية تقوم على دعم قوى الاسلام السياسي “المعتدلة” المقبولة داخليا عبر خطابها العاطفي المخادع، ومحاربة الحركات الديمقراطية الحرة المستقلة. ونظرة الى دول الثورات سنكتشف بأن كل الانظمة الحالية هي قريبة من الغرب وهناك رضى كبير على عملها وخطابها ودعم مالي كبير يصب في خزائنها. أما القوى الديمقراطية واليسارية التقدمية فهي مهمشة ومُحاربة بأكثر من اسلوب. وطبعا الماكينة الاعلامية التي يمتلكها وكلاء أميركا والغرب في الشرق الأوسط قادرة على تسعير الصراع الطائفي والترويج للأحلاف الاقليمية “المعتدلة”، أي تلك التي تنفذ الأجندة الاستراتيجية الغربية بحذافيرها، مقابل بث الشحن الطائفي والتحريض على العنف المذهبي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى